الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كفيلا، فيأتي إلى شخص يطلب منه مالا بثمن في الذمة يتفقان عليه، أو يطلب منه قرضا على أن يجعل عنده مقابل ذلك رهنا يحفظه عنده حتى يرد عليه حقه، فشرع الله الرهن لمصالح الراهن والمرتهن والمجتمع: أما الراهن فيقضي حاجته وفي ذلك تنفيس لكربته، وإزالة ما في نفسه من الغم، وقد يبيع فيه ويشتري ويكون سببا لغناه. وأما المرتهن فيطمئن على حقه، ويحصل له ربح مشروع، وإذا حسنت نيته حصل له الأجر عند الله. وأما المصالح العائدة إلى المجتمع فتوسيع التعامل التجاري، وتبادل المحبة والمودة بين الناس، فهو تعاون على البر والتقوى، وفيه تنفيس للكروب، وتقليل للخصومات، وراحة لولاة الأمور من القضاة والأمراء (1)
(1) رد المختار 5/ 317 ومواهب البديع في حكمة التشريع 28 وحكمة التشريع وفلسفته 2/ 221.
رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط
بل يلزم بمجرد العقد مع الأدلة والمناقشة.
اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين: فمنهم من قال: إن قبض الرهن شرط في لزومه، ومنهم من قال: إنه ليس بشرط؛ بل يلزم بمجرد العقد. وفيما يلي ذكر القولين، وما بني عليه كل قول، وما أورد على مدارك كل منهما في المناقشة.
القول الأول: أن قبض الرهن شرط في لزومه، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وأصحابه، وهو المقدم عند الحنابلة ومذهب الظاهرية، قال المرغيناني: والقبض شرط اللزوم. وقال الكرخي: قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والحسن: لا يجوز إلا مقبوضا. وقال: المزني نقلا عن الشافعي: ولا معنى للرهن حتى يكون مقبوضا من جائز الأمر حين رهن وحين قبض. . . ولو مات المرتهن قبل القبض فللراهن تسليم الرهن إلى وارثه ومنعه، وقال ابن قدامة:
ولا يلزم الرهن إلا بالقبض. واستدل لهذا القول بالكتاب والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وتقرير الاستدلال بالآية من وجهين: الوجه الأول ما ذكره الشافعي رحمه الله بعد الاستدلال بهذه الآية قال: فلما كان معقولا أن الرهن غير مملوك الرقبة للمرتهن ملك البيع، ولا مملوك المنفعة ملك الإجارة، لم يجز أن يكون رهنا إلا بما أجازه الله عز وجل به من أن يكون مقبوضا، ولما لم يجز فللراهن ما لم يقبضه المرتهن منعه منه، وكذلك لو أذن في قبضه فلم يقبض المرتهن حتى رجع الراهن في الرهن كان له ذلك؛ لما وصفت من أنه لا يكون رهنا إلا بأن يكون مقبوضا.
وكذلك كل ما لم يقع إلا بأمرين فليس يتم بأحدهما دون الآخر؛ مثل الهبات التي لا تجوز إلا مقبوضة، وما في معناها.
الوجه الثاني: ما ذكره الجصاص بقوله: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2) عطف على ما تقدم من قوله:
فلما كان استيفاء العدد المذكور والصفة المشروطة للشهود واجبا وجب أن يكون كذلك حكم الرهن فيما شرط من الصفة، فلا يصح إلا عليها كما لا تصح شهادة الشهود إلا على الأوصاف المذكورة إذا كان ابتداء الخطاب توجه إليهم بصيغة الأمر المقتضي للإيجاب.
ويمكن أن يناقش ما ذكره الإمام الشافعي في بيان الاستدلال بالآية بأنا وإن سلمنا أنه لا يكون رهنا بالفعل إلا بما ذكر الله من القبض لكن ليس هذا موضوع النزاع بيننا وبين المستدل، إنما موضوعه أنه يلزم المدين
(1) سورة البقرة الآية 283
(2)
سورة البقرة الآية 283
(3)
سورة البقرة الآية 282
بمقتضى العقد أن يسلم ما اتفق عليه أن يكون رهنا إلى الدائن؛ ليكون وثيقة بالدين، وهذا هو المفهوم من كون الآية خبرا بمعنى الأمر؛ إذ التقدير: إذا اتفق المستدين مع الدائن على رهن في الدين لزمه أن يقبضه إياه. وقولكم: كل ما لا يقع إلا بأمرين لا يتم بأحدهما صحيح، ولكن عقد البيع لأجل مثلا بشرط الرهن يتضمن أمرين: الأول: إلزام المدين بدفع الرهن وهذا مبني على الشرط، والثاني: صحة الرهن وهي متوقفة على قبض الدائن، فتبين بهذا أن ليس معنا أمر واحد متوقف وقوعه على أمرين بل أمران، الأول: ويتعلق بالمدين وهو إلزامه بالدفع بناء على الشرط. الثاني: الصحة وهي متوقفة على أمر يتعلق بالدائن وهو القبض.
وأما القياس على الهبة ونحوها فغير صحيح؛ لأن الهبة محض تبرع؛ والرهن حق لازم لا تبرع؛ لكونه تابعا لعقد مفاوضة مشروطا فيه فكان قياسا مع الفارق. ويمكن أن يناقش ما ذكره الجصاص بتسليم عطف الآية على الأمر باستشهاد شاهدين، ووجوب تنفيذ الرهن على الصفة المذكورة في الآية وهي القبض، لكن هذا يقتضي إلزام المدين بإقباضه للدائن وفاء بالشرط وهذا محل النزاع، ولا يلزم الدائن قبضه؛ بدليل قوله تعالى:{فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (1) ولأنه حق له شرع للإرفاق به فمن حقه أن يتنازل عنه؛ بل من حقه أن يتنازل عن أصل الدين، لكن إن قبضه صح واستوفى منه، وإن لم يقبضه بعد عرضه عليه أو تمكينه منه لم يصح واعتبر متنازلا عن حقه في الإرفاق.
وأما المعنى فمن وجهين: الأول: أن الرهن عقد تبرع فيتم بالتبرع كالهبة والصدقة، والقبض شرط اللزوم، الثاني: أنه رهن لم يقبض فلا يلزم إقباضه كما لو مات الراهن.
ويجاب عن الاستدلال بالمعنى: أولا بمنع كون الرهن تبرعا أو كالتبرع، فلا يصح قياسه على عقود التبرع من الهبة ونحوها - وثانيا بأنه إن كان عدم القبض بالفعل لتفريط من الدائن أو تنازل عن الرهن بطل
(1) سورة البقرة الآية 283
ولم يلزم الراهن بإقباضه، سواء كان الدائن حيا أو ميتا، وإن كان بغير تفريط من الدائن وإنما كان لمماطلة المدين مثلا، ألزمه بإقباضه إن كان حيا. وألزم ورثته إن كان ميتا. ثم إن الدليل فيه مصادرة لما فيه من الاستدلال بالدعوى على نفسها.
القول الثاني: أن الرهن يلزم بمجرد العقد ولو لم يقبض المرهون وهو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد رحمه الله في الرهن إذا كان متعينا.
واستدل لهذا القول بالكتاب والسنة والمعنى.
أما الكتاب فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)
وجه الدلالة: ما ذكره الباجي بقوله: فلنا من الآية دليلان: أحدهما: أنه قال عز من قائل:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (2)
فأثبتها رهنا قبل القبض. والآخر: قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (3) أمر؛ لأنه لو كان خبرا لم يصح أن يوجد رهن غير مقبوض، ومن قولهم أن الراهن لو جن أو أغمي عليه ثم أفاق فسلم فيصح، فيثبت أنه أمر.
ويمكن أن يجاب عن الوجه الأول بأن إثباتها رهانا قبل القبض لا يلزم منه أن يكون الرهن لازما بالعقد؛ إذ يمكن أن يضاف إليها هذا الوصف مع القول بالصحة.
وعن الوجه الثاني: بالتسليم أن الخبر بمعنى الأمر لكن لم يعمل بموجب الأمر الذي هو الوجوب واللزوم في حق نفس الرهن؛ حيث لم يجب الرهن على المديون بالإجماع، فوجب أن يعمل به في شرطه وهو القبض. ونظير ذلك قوله عليه السلام:«الحنطة بالحنطة مثلا بمثل (4)» بالنصب. أي
(1) سورة البقرة الآية 283
(2)
سورة البقرة الآية 283
(3)
سورة البقرة الآية 283
(4)
رواه مسلم في المساقاة، والترمذي والنسائي في البيوع وغيرهم.
بيعوا، فلم يعمل الأمر في نفس البيع؛ لأن البيع مباح غير واجب فصرف إلى شرطه وهو المماثلة فيما يجري فيه الربا.
ونوقش هذا الجواب بأوجه: أحدهما: يجوز أن يكون الأمر للإباحة بقرينة الإجماع، فينصرف إلى الرهن لا إلى القبض.
وأجيب عنه: أن الأمر في الوجوب حقيقة كما هو معروف، والإجماع لا يصلح قرينة للمجاز؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، والإجماع لم يكن حال استعمل هذا اللفظ وإعمال الحقيقة في الرهن غير ممكن فصرف إلى القبض.
الثاني: أن القبض إن كان شرطا للجواز واللزوم وسلم ذلك فقد ارتفع النزاع ولا حاجة إلى الدليل.
وأجيب عنه: بأن الدليل لإلزام مالك رحمه الله حيث لا يجعله شرط اللزوم ولا الجواز، وذلك أن الله تعالى وصف الرهن بالقبض كما وصف التجارة بالتراضي، والتراضي وصف لازم في التجارة، فكذا القبض في الرهن، ولا يقال: هذا استدلال بمفهوم الصفة، وهو ليس بصحيح عند من يقول به؛ إما لأنه مذهب الجمهور من الحنفية ومن وافقهم، وإما لأن عدم الصحة إنما يكون إذا لم تكن الصفة مقصودة، وقد سبق أن الوجوب منصرف إليها.
الثالث: أن الآية متروكة الظاهر؛ لأن ظاهرها يدل على أن الرهن إنما يكون في السفر كما قال به مجاهد والضحاك وداود، وقد ترك، ومتروك الظاهر لا يصلح حجة.
وأجيب عنه بعدم التسليم أن متروك الظاهر بدليل ليس بحجة؛ لأن النصوص المؤولة متروكة الظاهر وهي عامة الدلائل.
الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (1).
وجه الدلالة: أن هذا عقد مأمور بالوفاء به، والأمر يقتضي الوجوب.
(1) سورة المائدة الآية 1