الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفوق هذه الضوابط هناك وقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى، وسؤال عما يقوله الإنسان ويكتبه في حق غيره من اتهام وكذب، قال تعالى:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1).
إلا أن الشيخ أبا زهرة تجاهل ذلك كله، ونسب إلى الشيخين الإمامين الجليلين: الشيخ تقي الدين ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب ما لا يليق بمقامهما، وما يتنزهان عنه من التهم الباطلة والتهجم السخيف، اعتمادا على ما يقوله عنهما خصومهما، وما يروجه المخرفون ضدهما، غير متقيد بضوابط البحث العلمي، ولا خائف من الوعيد الذي توعد الله به من أقدم على مثل هذا العمل، وإليك بيان هذه التهم مع الرد عليها، سائلين الله تعالى أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
(1) سورة الإسراء الآية 36
(2)
سورة الحجرات الآية 6
أولا: ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية:
1 -
في صفحة 187 قال: إنه أضاف إلى مذهب السلف أمورا أخرى قد بعثت إلى التفكير فيها.
أقول هذا من الافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية أنه قد أحدث أمورا من عند نفسه، وزادها على مذهب السلف، وهو اتهام خطير قد برأ الله منه شيخ الإسلام، فإنه لم يزد شيئا ولم يخترع شيئا من عند نفسه، وإنما دعا إلى مذهب السلف، وبينه ودافع عنه بأمانة
وإخلاص، يشهد لذلك أن ما في كتبه ورسائله يتطابق تمام التطابق مع ما ذكره الأئمة قبله في كتبهم، وهو إنما ينقل كلامهم ويعزوه إلى مصادره المعروفة من غير زيادة ولا نقصان، وأبو زهرة لم يذكر مثالا واحدا يدل على صدق ما يقول.
2 -
في صفحة 193 قال: وعلى ذلك يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية واستواء على العرش، ووجه ويد ومحبة وبغض، وما جاء في السنة من ذلك أيضا من غير تأويل وبالظاهر الحرفي، فهل هذا هو مذهب السلف حقا، ونقول في الإجابة عن ذلك:
ولقد سبقه بهذا الحنابلة في القرن الرابع الهجري كما بينا وادعوا أن ذلك مذهب السلف.
وناقشهم العلماء في ذلك الوقت وأثبتوا أنه يؤدي إلى التشبيه والجسمية لا محالة، وكيف لا يؤدي إليها والإشارة الحسية إليه جائزة، لهذا تصدى لهم الإمام الفقيه الحنبلي الخطيب ابن الجوزي، ونفى أن يكون ذلك مذهب السلف، ونفى أيضا أن يكون ذلك رأي الإمام أحمد. انتهى كلامه، وفيه من الخلط والكذب ما لا يخفى، وبيان ذلك كما يلي:
(أ) اتهم شيخ الإسلام ابن تيمية واتهم معه الحنابلة بأنهم نسبوا إلى السلف ما لم يقولوه ولم يعتقدوه في صفات الله تعالى، وهذا اتهام ظاهر البطلان فإن ما قاله الحنابلة وقاله شيخ الإسلام موجود في كلام الأئمة الأربعة وغيرهم في كتبهم، وقد نقل ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية وعزاه إلى مصادره من كتبهم التي يوجد غالبها في أيدي الناس اليوم، انظر على سبيل المثال ما ذكره عنهم في الرسالة الحموية.
(ب) اتهم الشيخ بأنه ينسب إلى السلف وصف الله بالتحتية حيث قال: يقرر ابن تيمية أن مذهب السلف هو إثبات كل ما جاء في القرآن الكريم من فوقية وتحتية، وهذا كذب على القرآن الكريم وعلى الشيخ؛ فإنه لم يرد في القرآن ذكر التحتية في حق الله - تعالى الله عن ذلك - لأنها لا تليق به، ولم يقل الشيخ ذلك ولم ينسبه إلى السلف، لكنه التخبط الأعمى والتخليط العجيب من أبي زهرة.
(ج) اتهم القرآن بأنه جاء بالتشبيه والتجسيم وما لا يليق بالله تعالى، واتهم السلف الصالح بأنهم لا يعتقدون ما جاء القرآن الكريم والسنة النبوية من وصف الله بالفوقية والاستواء على العرش، وأنه له يد ووجه، وأنه يحب ويبغض؛ لأن ذلك بزعمه يؤدي إلى التشبيه والجسمية، وهذا معناه أن القرآن جاء بالباطل، وأن السلف يخالفون الكتاب والسنة في أهم الأمور وهي العقيدة، فماذا بقي بعد ذلك؟!
ما الذي يوافقون فيه الكتاب والسنة، ولم يذكر دليلا على ذلك إلا ما نقله من كلام ابن الجوزي، وكلام ابن الجوزي لا يحتج به من ناحيتين:
- إنه معروف باتجاهه المخالف لعقيدة السلف في الصفات وكلام المخالف لا يحتج به على خصمه.
- إن كلام أئمة السلف ومنهم الإمام أحمد يبطل ما قاله ابن الجوزي، وكلامهم موجود - بحمد الله - في كتبهم المتداولة المعروفة التي نقل منها شيخ الإسلام ابن تيمية.
(د) قال أبو زهرة: وكيف لا يؤدي إليهما والإشارة الحسية إليه جائزة - يعني كيف لا يؤدي إثبات ما دل عليه الكتاب والسنة من صفات الله إلى التشبيه والتجسيم، وقد جاء في الحديث أن الله يشار إليه بالإصبع في جهة العلو، كما أشار إليه أعظم الخلق به صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع، - وهذا بزعم أبي زهرة يؤدي إلى التشبيه
والتجسيم فهو باطل -، وهذا مصادمة للحديث الصحيح بسبب توهم باطل، فإن الإشارة إلى الله سبحانه في جهة العلو ووصفه بما ثبت في الكتاب والسنة من صفات الكمال لا يؤديان إلى التشبيه؛ لأن الله ليس كمثله شيء، فله صفات تخصه لا يشاركه فيه أحد، وأما لفظ التجسيم فهو لفظ محدث لم يرد نفيه ولا إثباته في حق الله تعالى، ولم يتكلم فيه السلف، وإنما ورد في الكتاب والسنة تنزيه الله عن التشبيه والتمثيل، وهو الذي ينفيه السلف عن الله تعالى.
- ينسب التفويض إلى شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في صفحة 195: إن هذا يؤدي عند ابن تيمية إلى أن الأسلم هو التفويض الذي يدعيه وينسبه إلى السلف الصالح فيأخذ الألفاظ بظواهرها الحرفية، ويطلقها على معانيها الظاهرة في أصل الدلالة، ولكنه يقرر أنه ليست كالحوادث ويفوض فيما بعد ذلك ولا يفسر، ويقول: إن محاولة التفسير زيغ، فابن تيمية يعتقد أنه بهذا يجمع بين التفسير والتفويض، فهو يفسر بالمعنى الظاهر وينزه عن الحوادث ويفوض في الكيف والوصف، انتهى المقصود من كلامه، وهو كما ترى فيه من الخلط والركاكة والكذب على الشيخ الشيء الكثير، وهو بين أمرين: إما أنه لم يفهم كلام الشيخ، وإما أنه يفهمه لكنه يحاول الالتواء والتلبيس، فإن الشيخ رحمه الله يقرر في سائر كتبه أن مذهب السلف وهو المذهب الذي يعتقده ويدين لله به، وكل مريد للحق يعتقده ويدين به: أن نصوص الصفات تجري على ظواهرها وتفسر بمعناها الذي تدل عليه ألفاظها من غير تأويل ولا تحريف، أما كيفيتها فيجب تفويضها إلى الله سبحانه؛ لأنه لا يعلمها إلا هو، وهذا هو الذي يقرره علماء السلف في كتبهم، وفيما يروى عنهم بالأسانيد الصحيحة أن المعنى معلوم، والكيف مجهول في كل الصفات.
فالتفويض إنما هو للكيفية، وأما المعاني فهي معلومة مفسرة لا تفويض فيها ولا غموض، ولا يلزم من إثبات صفات الله بالمعاني التي دلت عليها النصوص تشبيه الله بخلقه؛ لأن لله صفات تخصه وتليق به، وللمخلوقين صفات تخصهم وتليق بهم، ولا يلزم من الاشتراك في المعنى الكلي الموجود في الأذهان بين صفات الله وصفات خلقه الاشتراك في الحقيقة والكيفية الخارجية، وقد أثبت الله لنفسه تلك الصفات، ونفى عن نفسه المماثلة والمشابهة للمخلوقات، فقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).
فأثبت له السمع والبصر، ونفى عن أن يماثله شيء، وهكذا سائر الصفات، فدل على أن إثبات الصفات لا يلزم من التشبيه كما يقول أبو زهرة وأضرابه، ومن العجب أن يحتج على بطلان ما ذكره شيخ الإسلام من إثبات صفات الله على ما يليق به سبحانه بمخالفة الغزالي والماتريدي وابن الجوزي له، ويرجح مذهبهم فيقول: ولذلك فنحن نرجح منهاج الماتريدي ومنهاج ابن الجوزي ومنهاج الغزالي.
هكذا يرغب أبو زهرة عن مذهب السلف إلى مذهب هؤلاء، - وللناس فيما يعشقون مذاهب -، لكنه استبدل الباطل بالحق.
واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} (2).
- ينسب القول بالمجاز إلى الصحابة فيقول: إن الصحابة كانوا يفسرون بالمجاز إن تعذر إطلاق الحقيقة، كما يفسرون بالحقيقة في ذاتها، هكذا قال في حق الصحابة، ينسب إليهم القول بالمجاز في تفسير
(1) سورة الشورى الآية 11
(2)
سورة الكهف الآية 50
كلام الله، وأنهم يتركون الحقيقة وكأنه بهذا يريد أن ينسب إلى الصحابة نفي الصفات وحمل نصوصها على خلاف الحقيقة، وكفى بهذا تقولا على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون دليل ولا برهان، لكنه الهوى والانتصار للباطل.
وهذا تجاوز من اتهام ابن تيمية إلى اتهام الصحابة بما هم بريئون منه، فإنه لم يعرف المجاز إلا متأخرا أحدثه الأعاجم الذين ليسوا حجة في اللغة والتفسير.
- في صفحة 199 نسب إلى الشيخ القول بأن الله لا ييسر الإنسان لفعل الشر، حيث قال: وبهذا يقرر ابن تيمية ثلاثة أمور، ثالثها: أن الله تعالى ييسر فعل الخير ويرضاه ويحبه، ولا ييسر فعل الشر ولا يحبه، وهو في هذا يفترق عن المعتزلة كذا قال.
وهذا كذب على الشيخ؛ لأنه كغيره من أئمة الهدى يرون أن الله قدر الخير والشر، وأنه لا يجري في ملكه ما لا يريد، فالشر يجري على العبد بسبب تصرفاته السيئة، وهو من قبل الله تعالى قدرا وبإرادته الكونية، قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (1){وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (2){فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (3).
- في صفحة 199 - 200 يقول: أما ابن تيمية فيرى أنه لا تلازم بين الأمر والإرادة، فالله سبحانه وتعالى يريد الطاعات ويأمر بها، ولا يريد المعاصي التي تقع من بني آدم وينهى عنها، وإرادته للمعاصي من ناحية إرادة أسبابها. انتهى.
وأقول: في هذا الذي نسبه إلى الشيخ إجمال ينبغي تفصيله، فقوله: لا تلازم بين الأمر والإرادة.
(1) سورة الليل الآية 8
(2)
سورة الليل الآية 9
(3)
سورة الليل الآية 10
الصواب: أن يقال: لا تلازم بين الأمر الشرعي والإرادة الكونية. فقد يأمر شرعا بما لا يريده كونا، مثل الإيمان من الكافر، وقد يريد كونا ما لا يأمر به شرعا مثل الكفر والمعاصي؛ وذلك لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية، وإرادة شرعية، والأمر ينقسم إلى قسمين: أمر كوني، وأمر شرعي، فالإرادة الكونية والأمر الكوني ليس من لازمهما المحبة والرضا، وأما الإرادة الشرعية والأمر الشرعي فمن لازمهما المحبة والرضا، وهذا التقسيم هو الذي يتمشى مع منهج الشيخ الذي هو منهج السلف المبني على أدلة الكتاب والسنة، فالله لا يأمر بالمعاصي ولا يريدها ولا يرضاها شرعا، لكنه أرادها وأمر بها كونا وقدرا؛ لأنه لا يقع في ملكه ما لا يريد، قال تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (1).
أي أمرناهم بذلك كونا وقدرا، وقال تعالى:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} (2).
{إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (3).
- في صفحة 201 يختم أبو زهرة مباحثه حول القدر بقوله: هذه نظرات ابن تيمية في مسائل الجبر والاختيار، وتعليل أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو يسند دائما ما يراه إلى السلف الصالح من الصحابة والتابعين انتهى.
وكأنه بهذا التعبير يتهم الشيخ في أنه ينسب إلى السلف بمجرد رأيه ما ليس من مذهبهم، وهذه التهمة يبطلها الواقع فإن الشيخ - رحمه لله - لم ينسب إلى السلف إلا ما هو موجود في كتبهم، وما ثبتت روايته عنهم، والشيخ أتقى لله من
(1) سورة الإسراء الآية 16
(2)
سورة المائدة الآية 41
(3)
سورة هود الآية 34
أن يتقول على السلف ما لم يقولوه، لكن أبا زهرة لم يراجع كبت الشيخ، أو أنه يتعمد التلبيس.
- في الصفحات 202 - 206 لما ذكر كلام الشيخ في منع التوسل بالأموات والاستغاثة بهم، ومنع زيارة القبور لقصد التبرك بها وطلب الحاجات من الموتى، ومنع السفر لزيارتها، قال بعد ذلك: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا جمهور المسلمين، بل تحداهم في عنف بالنسبة لزيارة قبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر لها، ولكن نخالفه مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة؛ وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها، إذ هو تقديس للمعاني التي بعث بها. . . إلى أن قال: وإن الحديث الذي رواه ابن تيمية وغيره وهو: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى (1)» يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره، وقد دفن ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد كالبقيع، ثم قال: وبعد: فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستحسن، وليس التقرب الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
انتهى المقصود من كلامه، وهو يدل على ما عنده من جهل وتخليط وتخبط، وأقول في بيان ذلك ما يلي:
(أ) قوله: ولقد خالف ابن تيمية بقوله هذا - يعني منع التوسل بالموتى والتبرك بالقبور والاستغاثة بالموتى - خالف جمهور المسلمين.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1189)، صحيح مسلم الحج (1397)، سنن النسائي المساجد (700)، سنن أبو داود المناسك (2033)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 234)، سنن الدارمي الصلاة (1421).
والجواب: إن الشيخ رحمه الله قد وافق في قوله هذا إجماع المسلمين فلم يخالفه واحد منهم، ونعني بالمسلمين أهل السنة والجماعة من الصحابة والتابعين والقرون المفضلة ومن تبعهم بإحسان، وإنما خالفه بعض من جاء بعدهم من المخرفين والقبوريين، وهؤلاء لا يعتد بخلافهم، وليسوا جمهور المسلمين وإن سماهم هو بذلك، فالعبرة بالحقائق لا بالتسميات، وإنما هم من الشواذ المنتسبين إلى الإسلام.
(ب) قوله: ونحن نوافق إلى حد ما على قوله في زيارة قبور الصالحين والنذر له، معناه أنه لا يوافق موافقة تامة على منع زيارة قبور الصالحين للتبرك بها والاستغاثة بأصحابها والنذر لها، وهذا يدل على أنه يسمح بشيء من ذلك مع أنه عبادة لغير الله وشرك أكبر، ولا يخفى ما في هذا من التساهل في شأن الشرك، وعدم اهتمامه بالعقيدة.
(ج) وقوله: ولكن نخالف مخالفة تامة في زيارة الروضة الشريفة؛ وذلك لأن الأساس الذي بني عليه منع زيارة الروضة الشريفة بقصد التبرك والتيمن هو خشية الوثنية، وأن ذلك خوف من غير مخاف، فإنه إذا كان في ذلك تقديس لمحمد فهو تقديس لنبي الوحدانية، وتقديس نبي الوحدانية إحياء لها.
والجواب عن ذلك نقول:
أولا: الشيخ رحمه الله لا يمنع زيارة الروضة الشريفة بقصد الصلاة فيها، فنسبة المنع إليه غير صحيحة، بل هو يرى استحباب ذلك كغيره من علماء المسلمين عملا بالسنة الصحيحة.
ثانيا: زيارة الروضة الشريفة إنما القصد منها شرعا هو الصلاة فيها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة (1)» ، وليس القصد من زيارتها التبرك والتيمن بها، وتقديس محمد صلى الله عليه وسلم كما يزعم أبو زهرة؛ لأن هذا مقصد شركي أو بدعي.
(1) صحيح البخاري الجمعة (1195)، صحيح مسلم الحج (1390)، سنن النسائي المساجد (695)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 39)، موطأ مالك النداء للصلاة (463).
ثالثا: التقديس قد يكون غلوا ممنوعا، ومحمد صلى الله عليه وسلم حقه علينا المحبة والمتابعة والعمل بشرعه وترك ما نهى عنه، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن إطرائه، وهو المبالغة في مدحه، ولما «قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: أجعلتني ندا لله، قل: ما شاء الله وحده (1)»، وليس تقديس المخلوق تقديسا لله كما يقول: بل قد يكون شركا بالله عز وجل إذا تجاوز الحد.
(د) وقوله: إن حديث: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (2)» يدل على شرف المسجد الذي دفن بجواره. . .، الجواب عنه: إن شرف المسجد النبوي ليس من أجل كون قبر النبي صلى الله عليه وسلم بجواره، فإن فضله ثابت قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم بجواره؛ لأنه أول مسجد أسس على التقوى، ولأنه مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم:«صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة (3)» ، ولم يقل بعد موتي، والمساجد الثلاثة فضلت على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء لا من أجل القبور أو مجاورة القبور، بل لأنها أسست على التوحيد والطاعة، لا على الشرك والخرافة.
(هـ) قوله: وقد دفن - يعني النبي صلى الله عليه وسلم ببيت عائشة الذي كان أقرب بيوت أزواجه إليه - يعني المسجد -، وقد كان متصلا بالمسجد، وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع.
والجواب عنه:
أولا: أن هذا كلام من لا يعرف ما جاء في السنة من الأحاديث الموضحة لملابسات دفنه صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة رضي الله عنها وما هو القصد من ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لما مرض استأذن أزواجه أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لمحبته لها، ومحبة قربها منه وتمريضها له، فأذن له في ذلك، ولما توفي صلى الله عليه وسلم دفن في المكان الذي توفي فيه؛ لأن الأنبياء يدفنون حيث يموتون كما جاء في
(1) سنن ابن ماجه الكفارات (2117)، مسند أحمد بن حنبل (1/ 347).
(2)
صحيح البخاري الجمعة (1189)، صحيح مسلم الحج (1397)، سنن النسائي المساجد (700)، سنن أبو داود المناسك (2033)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1409)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 234)، سنن الدارمي الصلاة (1421).
(3)
صحيح البخاري الجمعة (1190)، صحيح مسلم الحج (1394)، سنن الترمذي الصلاة (325)، سنن النسائي المساجد (694)، سنن ابن ماجه إقامة الصلاة والسنة فيها (1404)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 485)، موطأ مالك النداء للصلاة (461).
الحديث، والقصد من ذلك خشية أن يفتتن بقبره صلى الله عليه وسلم لو دفن في مكان بارز فيتخذ مسجدا وعيدا مكانيا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يحذر من ذلك فيقول:«لا تتخذوا قبري عيدا (1)» ، ويقول:«اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد (2)» ، وقدر روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت:«لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، فقال وهو كذلك: لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا (3)» .
هذا هو القصد من دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة، وهو حماية التوحيد وحماية قبره أن يتخذ مسجدا، وليس القصد ما توهمه الخرافيون أنه دفن في بيت عائشة لأجل القرب من المسجد والتبرك بقبره صلى الله عليه وسلم، فقد كان يحذر من اتخاذ القبور مساجد والتبرك بها، ومن بناء المساجد على القبور؛ لأن هذا من وسائل الشرك؛ فدفنه صلى الله عليه وسلم في بيته لمنع هذه الأشياء أن تمارس عند قبره.
ثانيا: زيارة قبره صلى الله عليه وسلم الزيارة الشرعية ليست ممنوعة، بل هي مستحبة كزيارة قبر غيره إذا كان ذلك بدون سفر، وكان القصد السلام عليه، والدعاء له صلى الله عليه وسلم.
ثالثا: قوله: وأنه لو أريد منع زيارة قبره لدفن في مكان بعيد عن المسجد كالبقيع، أقول معنى هذا الكلام أنه صلى الله عليه وسلم دفن في حجرة عائشة لأجل أن يزار ويتبرك بقبره على حد قوله.
وهذا فهم يخالف ما جاء في الحديث الصحيح الذي تقدم ذكره، وهو أنه دفن في بيته لمنع أن يتخذ قبره مسجدا، ثم إن دفنه في البقيع أمكن لزيارة قبره والتبرك به من دفنه في بيته، عكس ما يقوله أبو زهرة، فلو كان ما يقوله مشروعا لدفن في البقيع لتمكين الناس من هذه المقاصد التي قالها.
(1) سنن أبو داود المناسك (2042)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 367).
(2)
موطأ مالك النداء للصلاة (416).
(3)
صحيح البخاري الصلاة (436)، صحيح مسلم المساجد ومواضع الصلاة (531)، سنن النسائي المساجد (703)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 146)، سنن الدارمي الصلاة (1403).
(و) قوله: وإنا لنعجب من استنكاره لزيارة الروضة للتيمن والاستئناس مع ما رواه عن الأئمة الأعلام من تسليمهم على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مروا بقبره الشريف، وكانوا يذهبون إليه كلما هموا بسفر، أو أقبلوا من سفر.
الجواب عنه أن نقول:
أولا: لا عجب فيما ذكرت؛ لأن استنكار ذلك هو الحق، فإن زيارة الروضة للتبرك والتيمن مقصد شركي بدعي، لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما شرع زيارتها للصلاة فيها وعبادة الله فيها.
ثانيا: وأما قوله: إن الأئمة الأعلام يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم كلما مروا بقبره أو هموا بسفر، فهو قول لا أصل له ولا دليل عليه، ولم يروه الشيخ عنهم، وإنما روي عنهم خلافه، وهو أنهم لم يكونوا يترددون على قبر النبي صلى الله عليه وسلم كلما دخلوا المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك فقال:«لا تتخذوا قبري عيدا (1)» أي لا تترددوا عليه وتجتمعوا حوله، وإنما كانوا يسلمون عليه إذا قدموا من سفر، كما كان ابن عمر يفعل ذلك إذا قدم من سفر، ولا يزيد على قوله: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبي، ثم ينصرف، ثم ما علاقة التسليم على الرسول بالروضة؟ لأن الروضة في المسجد، وقبر الرسول كان خارج مسجده في عهد الصحابة رضي الله عنهم.
(ز) وقوله: وبعد: فإننا نقرر أن التبرك بزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم مستحسن، وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
والجواب عن ذلك أن نقول: أولا التبرك بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من البقاع والأشجار والأحجار أمر مستقبح وليس مستحسنا إلا عند الجهال والقبوريين، وهو شرك بالله لكونه تعلقا على غير الله،
(1) سنن أبو داود المناسك (2042)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 367).
وطلبا من غيره، ولما رأى بعض الصحابة وكانوا حدثاء عهد بالإسلام أن المشركين يتبركون بشجرة، وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها استنكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك استنكارا شديدا، وقال:«قلتم والذي نفسي بيده، كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (2)» ، الأعراف / 138.
فدل هذا الحديث على أن من يتبرك بشجرة أو حجر أو قبر أو بقعة فقد أشرك بالله واتخذ المتبرك به إلها.
ثاينا: وأما قوله: وليس التبرك الذي نقصده عبادة أو قريبا منها، إنما التبرك هو التذكر والاعتبار والاستبصار.
فالجواب عنه: أن هذا من جهله بمعنى العبادة، وعدم تفريقه بين التبرك وبين التذكر والاعتبار، أو يتجاهل ذلك من أجل التلبيس على الناس، فالعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأعمال والأقوال، ومنها الرغبة والرهبة والرجاء، ومنها التبرك وهو طلب البركة، يكون بأسمائه سبحانه، فالتبرك بغير الله شرك، إلا التبرك بشعر النبي صلى الله عليه وسلم ووضوئه، فهذا خاص به صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جعله مباركا، ولا يمكن ذلك إلا في حال حياته ووجوده، ولم يكن الصحابة يتبركون بمنبره ولا بقبره ولا حجرته، وهم خير القرون وأعلم الأمة بما يحل وما يحرم، فلو كان جائزا لفعلوه، وبعد أن انتهينا من رد ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ننتقل إلى رد ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب فنقول:
(1) سنن الترمذي الفتن (2180)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 218).
(2)
سورة الأعراف الآية 138 (1){اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}