الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلقه كيف شاء) وقال " الفضيل بن عياض، ت: 187 هـ ": (إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أؤمن برب يفعل ما يشاء).
صفات الحركة في الآخرة:
وبناء على ما أوضحناه من مذهب السلف، وبناء على ما فهمناه من الأسس والقواعد التي بنوا عليها موقفهم في هذه القضية الكبرى - أقول بناء على ذلك، فإنني أرى أنه ليس ثمة داع إلى وقوع خلاف حول " صفات الحركة " التي جاءت بها النصوص الموثقة صفة الله تعالى، طالما أن هذه الصفات خاصة به سبحانه، لا يشركه في تكييفها غيره، ونحن - أيضا - لا ندري ولا نعلم عن كنهها شيئا. فإذا قال الله سبحانه:
{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} (1).
فإن هذا الإتيان نفهمه دون تكييف، ودون تمثيل، تماما كما نفهم قوله تعالى:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (2){وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (3).
ذلك لأن كل شيء في الكون يومئذ سوف يتغير، وكل المعايير المادية التي نحتكم إليها سوف تتغير كذلك، ومن ثم فإن أوضاع الآخرة وحوادثها، وما يجري فيها سوف يكون مختلفا تمام الاختلاف عما نشهده في عالم اليوم من أحداث، وما يجري فيه من ألوان الحركات، والعلاقات، كل العلاقات التي تنتظم كل الأشياء.
ودليل ذلك ما أخبرنا به الله في القرآن العظيم، بما سوف يحدث في الآخرة لكل الظواهر والأشياء المادية، وغير المادية لا بد أن تكون تبعا لها.
(1) سورة البقرة الآية 210
(2)
سورة الفجر الآية 22
(3)
سورة الفجر الآية 23
ومعنى هذا: أن جميع أخبار الله المتعلقة بما سوف يحدث يوم القيامة لا بد أن تفهم فهما مغايرا - في حقيقته - لما هو واقع بيننا الآن، حتى بالنسبة للأحداث المتعلقة بالبشر، وبالظواهر الكونية، وبالعلاقات الإنسانية، أي ما يتعلق بكل أحداث يوم القيامة، وما يسبقه من وقائع، وظواهر ممهدة.
ودليل ذلك، أن الرب تعالى يخبرنا عن النبأ العظيم إخبارات علمية موثقة وأكيدة وصادقة بما سوف يحدث للأرض وللسماء، وللكون كله. قال تعالى:{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (1).
أما الأرض، فإن الله تعالى يدلنا في القرآن، ويخبرنا بأن ما فيها من جبال سوف تتغير طبيعتها الصامدة الجامدة الراسية الشامخة {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا} (2){وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} (3).
وتصير كالعهن المنفوش ثم إن الأرض سوف ترجف هي والجبال. وتسير سيرا.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} (4).
(1) سورة إبراهيم الآية 48
(2)
سورة النازعات الآية 32
(3)
سورة النبأ الآية 20
(4)
سورة المزمل الآية 14
ويقول سبحانه:
بل إن هذه الجبال التي نضرب بها المثل في الثبات والرسوخ والقوة الصماء، سوف تحمل حملا، وتدك دكا:
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (2){وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} (3){فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} (4) وهكذا نجد أن الرب تعالى يطلعنا في القرآن العظيم على بعض الظواهر المادية التي سوف تحدث في يوم القيامة، للأرض وما عليها من جبال، وأنهار، وأودية، وخلجان، وبحار.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} (5){فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} (6){لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} (7).
وهكذا فالأرض سوف تبدل غير الأرض، ومفهوم هذا التبدل يعني بكل وضوح وتأكيد، أن كل ما يجري فيها من شتى الوقائع والأحداث والعلاقات لن يكون له وجود آنئذ، والتغير سوف يلحق بكل شيء، ويحدث في كل شيء.
وما يحدث للأرض، فسيكون حادثا للسماء أيضا وما فيها، فالسماء سوف تنفطر، والكواكب ستندثر، والسماء سوف تمور أي تضطرب
(1) سورة الكهف الآية 47
(2)
سورة الحاقة الآية 13
(3)
سورة الحاقة الآية 14
(4)
سورة الحاقة الآية 15
(5)
سورة طه الآية 105
(6)
سورة طه الآية 106
(7)
سورة طه الآية 107
وتدور، ويحل بها ما شاء الله، وأخبر عنه في محكم علمه، حيث قال:
{وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} (1){وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} (2).
وحيث أخبرنا قائلا:
{وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} (3){وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} (4){وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} (5){وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} (6){يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} (7){فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} (8){يَغْشَى النَّاسَ} (9).
ومعنى هذا أيضا: أن القوانين والأحكام التي نعتمد عليها في تسيير دفة حياتنا، وفي تنظيم وترتيب أمور معاشنا، والتي نعتمد عليها في إصدار أحكامنا، وفي الكشف عن مزيد من أسرار الكون، ودقائق نظمه، والتي نتخذها أساسا للحديث عن القوانين والنظريات العلمية، ونعدها سندا للبحوث والتجارب في ميادين العلوم المختلفة - كل هذا سوف يزول، وسوف ينفرط عقد نظامه، وتتلاشى مظاهر الوحدة والنظام فيه بمشيئة الله وفعله.
ظواهر جديدة ستحدث يوم القيامة:
وبناء على هذا التغير والتبدل الذي يلف كل أرجاء هذا الكون - كما ذكرنا - فإن ظواهر جديدة تماما سوف تحدث، لم تكن متيسرة في عالم الحياة الدنيا.
ومن هذه الظواهر الجديدة:
(1) سورة الحاقة الآية 16
(2)
سورة الحاقة الآية 17
(3)
سورة المرسلات الآية 9
(4)
سورة النبأ الآية 19
(5)
سورة التكوير الآية 11
(6)
سورة الفرقان الآية 25
(7)
سورة الأنبياء الآية 104
(8)
سورة الدخان الآية 10
(9)
سورة الدخان الآية 11
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (1).
{يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} (2).
{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} (3).
وهنا قد يقول بعضهم إن أمثال هذه المشاهد والأحداث يقع نظيره في عالم اليوم، بيد أن هذا الاعتراض، يمكن الرد عليه، بأن مشاهد القيامة وأحداثها مختلفة كما قلنا كيفا وحقيقة، ومظهرا عما هو قائم بيننا اليوم في الحياة الدنيا، ويضاف إلى هذا: أن الحديث هنا عن مشاهد يوم القيامة يمثل الظواهر والأحداث العامة التي لا استثناء فيها إلا بإرادة الله الخالق، الحاكم سبحانه. بينما نجد في عالم اليوم مظاهر لا تحصى من انفراط عقد أحكام العدل والنظام، ودليل هذا، أن آلافا مؤلفة من المجرمين في شتى بقاع العالم يسرحون ويمرحون، بل قد يلقون من آيات التقدير والعرفان، وظواهر الإكبار والثناء، ما لا يجده المخلصون الحقيقيون. أما في يوم القيامة فالأمر مختلف، والعادل الرحيم سوف ينصب الميزان القسط ولن يقع فيها جور ولا حيف بأي حال من الأحوال؛ لأن ربنا العظيم الرحيم، قد أعلمنا، وأخبرنا بأنه:
{لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (4).
وأخبرنا قائلا:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} (5).
وقائلا:
{فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (6).
والآيات في هذا كثيرة ووفيرة.
(1) سورة إبراهيم الآية 49
(2)
سورة طه الآية 109
(3)
سورة المؤمنون الآية 101
(4)
سورة غافر الآية 17
(5)
سورة الأنبياء الآية 47
(6)
سورة يس الآية 54
ومن مظاهر هذا التغيير، أيضا: أن ما كان مخفيا عنا في الحياة الدنيا سوف يتكشف في الآخرة، فالملائكة سوف يراهم الناس، كل الناس سواء في الجنة أم في النار، وآيات القرآن في هذا صريحة كل الصراحة:
{يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} (1)[الفرقان: 22].
وفي غير هذا من آيات القرآن الكريم. ونخلص مما سبق من عرض، أن محاولة " تأويل " الآيات التي يخبرنا فيها الله سبحانه، أنه سوف يجيء ومعه الملائكة، أو غيرها من الآيات التي تنسب إليه سبحانه أفعالا تدل على الحركة يوم القيامة، أقول: إن محاولة تأويل هذه الآيات بدافع " التنزيه " ليس له ما يبرره؛ لأن التنزيه قائم وموجود، مع إثبات المعاني الخاصة بكل هذه الأفعال والصفات وهي معان خاصة به سبحانه، لا يشاركه في حقيقتها أو في كيفيتها أحد غيره سبحانه، فالله سبحانه - منزه - في كل الأحوال والصفات والأفعال عن مشابهة خلقه.
(1) سورة الفرقان الآية 22
وفضلا عن هذا فإن حكمنا بالتأويل على حوادث الآخرة يعد حكما لا مبرر له أيضا، اللهم إلا إذا كنا على علم تام بحقيقة، وكيفية، وتفاصيل، ودقائق ما سوف يحدث في الآخرة، ومن ثم فقد تكون هناك شبهة في ضرورة صرف ألفاظ، أو صفات " المجيء " أو " الإتيان " التي يوصف بها الله سبحانه.
وسبب ذلك، أنه بات واضحا لدينا أن أحكام الآخرة، وحوادثها وتفاصيلها، وكيفياتها، وعلاقاتها، سوف تكون مغايرة، ومخالفة تماما لما هو قائم بيننا الآن، فعلى أي أساس يكون - إذا - حكمنا على الصفات الإلهية؟!
- فهل يكون على أساس المعايير الدنيوية، والمفاهيم والكيفيات التي تحدث فيها؟ ولكن الأمر - كما اتضح لنا اتضاحا كاملا - مخالف لذلك؛ لأن الله سبحانه خارج الحدود والإمكانات البشرية، الزمانية والمكانية، فكيف إذن يحق لنا تفسير كيفياتها، أو يجوز لنا أن نخوض فيها، وهل إذا خضنا فيها يمكننا أن نصل إلى الحقيقة؟!
- أو يكون حكمنا على أساس معايير الحياة الآخرة وموازينها، وفهم أو معرفة كيفياتها، وحقائق ما يجري فيها، ونحن لا نستطيع أن نتخيل أو نتصور أي شيء يتعلق بأي حادث من الحوادث التي
ستقع فيها؛ لأن ما نحن فيه الآن، وما نسميه بأسمائه من أرض وسماء، وما بينهما، وما فيهما سوف تتغير طبيعته، وتتلاشى قوانينه وأنماط تكوينه. وبعبارة أخرى، فهل ما نحتكم إليه اليوم من قوانين الطاقة والحركة والثبات، وما يرتبط بها من مجالات التطبيق في حياتنا، وتسيير أمور معاشنا، وتدبير شؤون حاجاتنا، من القيم والمبادئ، والمعايير وغيرها، هل هذا سيظل ثابتا على ما كان عليه دون تبدل، ومن ثم فإنه يكون ممكنا أن نحكم على أحداث الآخرة بما يحدث في حياتنا الدنيوية رفضا أو قبولا، أو تفسيرا وتأويلا.
لا مفر إذن من التسليم بكل ما أخبر به الله سبحانه عن نفسه، وبما أخبر به الرسل إخبارا صحيحا موثقا عن الله سبحانه، ولا بد من التصديق به، والإيمان به، دون أن نركب شططا في التفسير أو في التأويل الذي لا يقدر أعظم العباقرة في الدنيا على مثله، كما سبق أن أشرنا إليه، وضربنا له من أمثلة.
ولقد كان الشيخ " محمد عبده " مصيبا كبد الحقيقة حين قال في معرض الحديث عن صفات الله، وأسمائه:
(فالذي يوجبه الإيمان، هو أن نعلم أنه موجود لا يشبه الكائنات، أزلي أبدي، حي، عالم، مريد، قادر، متفرد في وجوب وجوده، وفي كمال صفاته، وفي صنع خلقه، وأنه متكلم، سميع، بصير، وما يتبع ذلك من الصفات التي جاء الشرع بإطلاق أسمائها عليه، أما كون الصفات زائدة على الذات، وكون الكلام صفة غير ما اشتمل عليه العلم من معاني الكتب السماوية، وكون السمع والبصر غير العلم بالمسموعات والمبصرات، ونحو ذلك من الشؤون التي اختلف عليها النظار، وتفرقت فيها المذاهب، فمما لا يجوز الخوض فيه؛ إذ لا يمكن لعقول البشر أن تصل إليه. والاستدلال على شيء منه بالألفاظ الواردة، ضعف في العقل، وتغرير بالشرع؛ لأن استعمال اللغة لا ينحصر
في الحقيقة. ولئن انحصر فيها فوضع اللغة لا تراعي الموجودات بكنهها الحقيقي. وإنما تلك مذاهب فلسفة إن لم يضل فيها أمثلهم، فلم يهتد فيها فريق إلى مقنع. فما علينا إلا الوقوف عندما تبلغه عقولنا) (1).
ثم يقول: (ولهذا لم يأت الكتاب العزيز، وما سبقه من الكتب إلا بتوجيه النظر إلى المصنوع، لينفذ منه إلى معرفة وجود الصانع، وصفاته الكمالية، أما كيفية الاتصاف فليس من شأننا أن نبحث فيها)(2).
وهكذا يتبين لنا أن الخلاف حول " صفات الحركة " وحول غيرها من الصفات، والأسماء الإلهية، خلاف قائم على غير أساس علمي أو عقلي، فليس ثمة شواهد علمية تحتم علينا أن نسلك تجاه الأسماء أو الصفات الإلهية أو مسلك أولئك الذين لم يجروها على ظاهرها بدون تكييف أو تشبيه، ودون نفي أو تعطيل، وإنما اتجهوا تارة إلى النفي، وتارة إلى التأويل بحجة التنزيه.
- أقول ليس ثمة شواهد أو ضرورة تحوج إلى اتباع مثل هذا المنهج؛ لأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أسمائه.
وفضلا عن هذا: فإن المنهج العقلي المعتدل، البعيد عن الأهواء والمتخلص من الشبهات، يحتم بضرورة الإيمان بهذه الصفات، أو الأسماء دون لجوء إلى التكييف، أو التشبيه، أو التأويل. وقد مر بنا فيما تقدم أن علماء المسلمين المتبحرين في العلم، قاطبة قد وقفوا هذا الموقف، وتابعوا الصحابة والتابعين في الاتجاه إليه.
يقول ابن تيمية: (مذهب أهل الحديث، وهم السلف من القرون الثلاثة، ومن سلك سبيلهم، من الخلف أن هذه الأحاديث تمر كما جاءت، ويؤمن بها، وتصدق، وتصان عن تأويل يفضي إلى تعطيل، وتكييف يفضي إلى تمثيل. وقد أطلق غير واحد ممن حكى إجماع السلف، منهم " الخطابي ": مذهب السلف أنها تجرى على ظاهرها مع نفي الكيفية، والتشبيه عنها،
(1) الإمام محمد عبده، رسالة التوحيد، ص / 56 - 57.
(2)
الإمام محمد عبده، رسالة التوحيد، ص / 56 - 57.
وذلك أن الكلام في " الصفات " فرع عن الكلام في " الذات "، يحتذى حذوه، ويتبع فيه مثاله، فإذا كان إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات، إثبات وجود لا إثبات كيفية، فنقول: إن له يدا، وسمعا، ولا نقول: إن معنى اليد: " القدرة "، ومعنى السمع:" العلم ".
وما يقال عن اليد والسمع، يقال كذلك عن: النفس، والوجه، والعلم، والكلام، والخلق، وغير ذلك مما وردت به النصوص الصحيحة ومن ذلك على سبيل المثال: في النفس:
- قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} (1)
- قال تعالى: {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (2){وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (3)
ومن الأحاديث الصحيحة التي وردت في كتب السنة:
- جاء في صحيح البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم (4)» .
(1) سورة الأنعام الآية 54
(2)
سورة طه الآية 40
(3)
سورة طه الآية 41
(4)
أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: (223 - 311 هـ)، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. مصر، دار الكتب السلفية، ط / 2 سنة 1403 هـ، ص 4 - 5، والحديث رواه مسلم، والترمذي، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس. انظر تخريج الحديث في تعليق (1) ص / 5 من المصدر نفسه.
- وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للسيدة جويرية رضي الله عنها:«قد قلت بعدك أربع كلمات، ولو وزنت بهن لوزنتهن، سبحان الله العظيم وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه (1)» .
وقد علق ابن خزيمة على هذه النصوص وأمثالها، فأشار إلى أن هذا الإثبات الإلهي الذي جاء في القرآن، والبيان النبوي الذي جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم، يقطع في يقين بإثبات هذه الصفات لله تعالى، كما ذكر أن محاولة تأويلها لا تتفق، لا مع السياق، ولا مع العقل، كما بين أن هؤلاء الذين يتأولون " النفس " كما جاءت هنا، بأن إضافة النفس إليه سبحانه، مثل إضافة الخلق إليه، وذلك لأن " النفس " غير الله، كما أن خلقه غيره، بين أن هذا المنهج بعيد عن العقل؛ لأن الله (قد أعلم في محكم تنزيله، أنه كتب على نفسه الرحمة، أفيتوهم مسلم - كما يقول ابن خزيمة - أن الله كتب على غيره الرحمة؟! وحذر العباد نفسه؟! أفيحل لمسلم أن يقول: إن الله حذر العباد غيره، أو يتأول قوله لكليمه " موسى ":
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} (2) طه: 41. فيقول: معناه: واصطنعتك لغيري من المخلوق؟! أو يقول: أراد روح الله - وهو عيسي ابن مريم - بقوله: {وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} (3)
أراد ولا أعلم ما في غيرك؟! هذا ما لا يتوهمه مسلم) ومعنى هذا: أن " ابن خزيمة " ومعه علماء المسلمين قاطبة قد أجمعوا على أن الإيمان بالصفات الإلهية كما جاءت في النصوص الشرعية الموثقة، هو
(1) أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: (223 - 311 هـ)، كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل. مصر، دار الكتب السلفية، ط / 2 سنة 1403 هـ، ص / 5، وانظر ص / 6 أيضا حيث يذكر ابن خزيمة عددا من الأحاديث التي يذكر فيها النفس صفة لله سبحانه.
(2)
سورة طه الآية 41
(3)
سورة المائدة الآية 116
اتجاه، يتطابق مع الغاية من إخبارنا بهذه النصوص. ويتطابق مع ما تقضي به الأحكام العقلية الصحيحة، البعيدة عن الأهواء وعن مسارب الشبهات.
وفي إقرار هذه الحقيقة، يقول " ابن خزيمة " أيضا، في معرض الحديث عن الآيات التي تثبت الوجه لله سبحانه، مثل قوله:
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (1)
- يقول:
(فأثبت الله لنفسه وجها، وصفه بالجلال والإكرام، وحكم لوجهه بالبقاء، ونفى الهلاك عنه، فنحن وجميع علمائنا، من أهل الحجاز، وتهامة، واليمن، والعراق، والشام، ومصر مذهبنا: أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق بذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، وعز عن أن يكون عدما كما قاله المبطلون).
ومعنى ذكره " ابن خزيمة " أن علماء الأمصار الإسلامية، كانوا مجمعين على هذه القضية، وأن الخلاف الذي دار حولها بين بعض الدوائر في البيئة الإسلامية، ما بين مؤول، وناف لها، إنما حدث بسبب آت من خارج الفكر الإسلامي، وبسبب التأثر بتيارات فكرية وفدت من ثقافات بعيدة عن الإسلام، ومن ثم فإن هذه الثقافات لا يمكن أن تعد - لا من قريب، ولا من بعيد - ممثلة للفكر الإسلامي، أو معبرة عن الثقافة الإسلامية.
بين السلف والخلف:
وبعد؛ فقد بات واضحا أن تلك المقولة التي رددت من قبل بل لا تزال تردد بين كثيرين في مجال الفكر الإسلامي وفي غيره، وهي أن " موقف
(1) سورة البقرة الآية 115