المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٢٤

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌أولا: تعريف الرهن لغة وشرعا والمناسبة بين المعنيين:

- ‌رابعا: الخلاف في أن قبض الرهن شرط في لزومه أو ليس بشرط

- ‌خامسا: الخلاف في اشتراط استدامة القبض، مع الأدلة والمناقشة

- ‌سادسا: ما يعتبر قبضا للرهن مع الأدلة والمناقشة:

- ‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض:

- ‌الفتاوى

- ‌ كان مرة يتوضأ فلفت نظره أحد الناس إلى لمعة في قدمه

- ‌ اغتسال الجنب في الماء الدائم

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌رجل غاب عن زوجته أربع سنوات ثم ولدت بعد المدة المذكورة فهل يلحقه الولد

- ‌ كتابة بعض الآيات من القرآن لتعلق

- ‌رجل صائم في رمضان واشتد به العطش فشرب

- ‌ حكم الطريقة التيجانية

- ‌البدعة وأثرهافي الانحراف في الاعتقاد

- ‌أولا: ما نسبه إلى شيخ الإسلام ابن تيمية:

- ‌ثانيا: ما نسبه إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌الأسس المنهجية لموقف أهل السنةمن قضية الصفات وضوابطها

- ‌قضية الصفات وأهميتها:

- ‌توحيد الأسماء والصفات:

- ‌أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطه:

- ‌الخلاف حول صفات الحركة:

- ‌صفات الحركة في الآخرة:

- ‌منهج وتطبيقه:

- ‌اعتراض وجوابه:

- ‌خاتمة:

- ‌شيخ الإسلام ابن تيميةحامل راية الكتاب والسنة

- ‌حياته ونشأته:

- ‌كبار مشايخه:

- ‌براعته في تفسير القرآن الكريم:

- ‌براعته في علوم السنة:

- ‌دعوته للرجوع إلى الكتاب والسنة:

- ‌تجديده لمعالم الدين:

- ‌محاربته للعقائد والأفكار المضادة للكتاب والسنة:

- ‌محاربته للتصوف الزائف:

- ‌استقلاله في أخذ الفقه من الكتاب والسنة:

- ‌المحن التي ابتلي بها:

- ‌زهده في الدنيا ومكارم أخلاقه:

- ‌وفاته - رحمة الله عليه

- ‌أسس اختيار الزوجة

- ‌اجتناب المحرمات:

- ‌رضا المخطوبة

- ‌موافقة الولي

- ‌النظر إليها

- ‌عمرو بن حزم الأنصاري الخزرجيالصحابي السفير

- ‌نسبه وأيامه الأولى

- ‌عمرو بن حزم في التاريخ

- ‌رؤية فكرية وتاريخيةلرعاية الحرمين الشريفين

- ‌أولا: المكانة التاريخية والفكرية للحرمين الشريفين

- ‌ثانيا: مواجهة الحرمين الشريفين للحركات المعادية قديما:

- ‌ثالثا: مواجهة الحرمين الشريفين للتحديات المعاصرة

- ‌صلاة الجماعة:

- ‌إفشاء السلام:

- ‌أوقات الصلاة:

- ‌الإمام والصفوف:

- ‌الإمام والمؤتمون:

- ‌متى ثبتت رؤية الهلال ثبوتا شرعيا وجب العمل بها

- ‌تعقيب على فضيلة الشيخعبد الله كنون

- ‌قرار هيئة كبار العلماءرقم 148 وتاريخ 12/ 1 / 1409ه

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض:

ثانيا: قال صاحب مجمع الأنهر: إن التخلية في البيع قبض فكذلك في الرهن. وأجاب ابن الهمام عن ذلك بما نقله عن بعض الحنفية بأنه منقوض بصورة الصرف فإنه لا بد فيها من القبض بالبراجم ولا يكتفى بالتخلية مع جريان الدليل.

ورد على ذلك: بأن لزوم النقض بالصرف إنما يثبت بالنص؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «يدا بيد (1)» كما هو مقرر في موضعه، والقياس يترك بالنص على ما عرف، بخلاف ما نحن فيه فإنه لم يرد فيه نص يقتضي حقيقة القبض وعدم كفاية التخلية فعملنا بموجب القياس

(1) صحيح البخاري البيوع (2061)، صحيح مسلم كتاب المساقاة (1589)، سنن النسائي كتاب البيوع (4575)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 372).

ص: 35

‌سابعا: حكم الرهن بعد القبض:

للمرهون أحكام بعد قبضه تتعلق بمؤنته والانتفاع به ونمائه والتصرف فيه واستيفاء الحق منه وضمانه إذا هلك بنفسه، وفيما يلي ذكر ما تيسر من الكلام على ذلك:

أ - مؤنة الرهن: اختلف أهل العلم فيمن تكون عليه مؤنة الرهن، هل تكون على الراهن أو على المرتهن؟ وفيما يلي ذكر الخلاف مع الأدلة والمناقشة.

المذهب الأول: أن مؤنة الرهن من طعام وكسوة ومسكن وحافظ وحرز ومخزن وغير ذلك على الراهن، وبهذا قال مالك والشافعي والإمام أحمد والعنبري وإسحاق ومن وافقهم من أهل العلم واستدلوا بالسنة والمعنى.

أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (1)» .

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 35

وجه الدلالة: ما ذكره عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي بعد كلامه على أن النفقة على الراهن وذكره لهذا الحديث قال: وهذا - أي الإنفاق - من غرمه لأنه ملكه فكانت عليه نفقته كالذي في يده، ويلزمه كفنه إن مات كما يلزمه في الذي في يده.

وأما المعنى: فما ذكره الشيرازي بقوله: إن الرقبة والمنفعة على ملكه فكانت النفقة عليه.

المذهب الثاني: أن أجرة بيت حفظه وحافظه على المرتهن وأجرة راعيه ونفقة الرهن والخراج على الراهن، وهذا هو المقدم عند الحنفية، قال الزيلعي: والأصل فيه أن ما يحتاج إليه لمصلحة الرهن بنفسه وتبقيته فهو على الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن العين باقية على ملكه، وكذا منافعه مملوكة فيكون إصلاحه ومؤنته عليه كما أن عليه مؤنة ملكه كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة من مأكله ومشربه وأجرة الراعي مثله لأنه علف البهائم. ومن هذا الجنس: كسوة الرقيق، وأجرة ظئر ولد الراهن، وكري النهر، وسقي البستان، وتلقيح نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن، أو لرد جزء منه: كمداواة الجرح فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك حق له والحفظ واجب عليه، فتكون مؤنته عليه، وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن. انتهى.

ب - الانتفاع بالمرهون: هل ينتفع الراهن بالمرهون أو لا؟ وكذلك المرتهن. وفيما يلي كلام أهل العلم في انتفاع الراهن أو لا، ثم كلامهم في انتفاع المرتهن مع الأدلة والمناقشة:

أولا: انتفاع الراهن بالمرهون: اختلف أهل العلم في ذلك على قولين:

القول الأول: أنه ينتفع به، وممن قال بذلك: الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم، واستدلوا بالسنة والمعنى.

ص: 36

أما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن مركوب ومحلوب» قال الشافعي: ومعنى هذا القول أن من رهن ذات در وظهر لم يمنع من درها وظهرها، وأصل المعرفة في هذا الباب أن للمرتهن حقا في رقبة الرهن دون غيره ومما يحدث مما يتميز منه غيره وكذلك سكنى الدار وزرع الأرضين وغيرها فللراهن أن يستخدم في الرهن عبده، ويركب دوابه، ويؤجرها ويحلب درها ويجز صوفها وتأوي بالليل إلى مرتهنها أو إلى يد الموضوعة على يده. انتهى.

وقد قيد الغزالي والشيرازي والنووي كلام الشافعي رحمه الله بأن انتفاع الراهن بالرهن مشروط بأن لا يضر على المرتهن في رهنه. انتهى.

أما المعنى فما ذكره الشيرازي بقوله: إنه لم يدخل في العقد ولا يضر بالمعقود له فبقي على ملكه وتصرفه كخدمة الأمة المتزوجة ووطء الأمة المستأجرة انتهى.

القول الثاني: أن الراهن لا ينتفع بالمرهون، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري ومن وافقهما من أهل العلم، قال ابن رشد: وعمدة هذا المذهب إذا انتفع بالرهن كما إذا أجره بإذن المرتهن كان إخراجا من الرهن؛ لأن الرهن يقتضي حبسه عند المرتهن أو نائبه على الدوام، فمتى وجد عقد يستحق به زوال الحبس زال الرهن.

ويمكن أن يناقش ذلك: أولا بأنا لا نسلم أن مقتضى الرهن الحبس، وإنما مقتضاه تعلق الحق به على وجه تحصل به الوثيقة، وذلك غير مناف للانتفاع به.

وثانيا: سلمنا أن مقتضاه الحبس لكن ذلك لا يمنع من أن يكون المستأجر نائبا عنه في إمساكه وحبسه ومستوفيا لمنفعته لنفسه.

انتفاع المرتهن بالرهن: الرهن إما أن يكون مما لا يحتاج إلى مؤنته كالدور أو يكون مما يحتاج إلى مؤنته. وإذا كان مما لا يحتاج إلى مؤنته: فقد يكون

ص: 37

دين الرهن قرضا وقد يكون غير قرض، وإذا كان دين الرهن غير قرض فقد يأذن الراهن للمرتهن وقد لا يأذن. وفي كل ذلك قد يكون بعوض وقد يكون بغير عوض، وإذا كان بعوض: فقد يكون فيه محاباة وقد لا يكون فيه محاباة. وإذا استأجر المرتهن الرهن - مثلا - فهل يؤثر على عقد الرهن أو لا؟ وإذ اشترط الانتفاع عند عقد الرهن فما حكم الشرط؟ وإن كان المرهون مما يحتاج إلى مؤنة فقد ينتفع به بعوض أو بغير عوض؛ بإذن الراهن أو بغير إذنه، وإذا أذن له: فقد يكون الرهن مركوبا ومحلوبا أو غيرهما. وإذا كان غير محلوب ولا مركوب: فقد يكون حيوانا أو غير حيوان. وإذا كان حيوانا: فأنفق عليه بغير نية الرجوع أو بنية الرجوع. وأذن المالك أو لم يأذن: أمكنه أن يستأذنه أو لا، وإذا انتفع المرتهن: فهل يحسب من دينه؟

هذه المسائل التي سبقت تكلم عليها ابن قدامة رحمه الله كلاما مفصلا أحببنا ذكر كلامه بدون تصرف.

قال رحمه الله على قول الخرقي: " ولا ينتفع المرتهن من الرهن بشيء إلا ما كان مركوبا أو محلوبا فيركب ويحلب بقدر العلف ". قال: الكلام في هذه المسألة في حالين:

أحدهما: ما لا يحتاج إلى مؤنة كالدار والمتاع ونحوه فلا يجوز للمرتهن الانتفاع به بغير إذن الراهن بحال لا نعلم في هذا خلافا.

لأن الرهن ملك الراهن فكذلك منافعه فليس لغيره أخذها بغير إذنه.

فإن أذن الراهن للمرتهن في الانتفاع بغير عوض وكان دين الرهن من قرض لم يجز؛ لأنه يحصل قرضا يجر منفعة وذلك حرام، قال أحمد: أكره قرض الدور وهو الربا المحض؛ يعني إذا كانت الدار رهنا في قرض ينتفع بها المرتهن. وإن كان الرهن بثمن مبيع أو أجر دار أو دين غير القرض فأذن له الراهن في الانتفاع جاز ذلك. روي ذلك عن الحسن وابن سيرين وبه قال إسحاق.

ص: 38

فأما إن كان الانتفاع بعوض مثل أن يستأجر المرتهن الدار من الراهن بأجرة مثلها من غير محاباة جاز في القرض وغيره؛ لكونه ما انتفع بالقرض بل بالإجارة.

وإن حاباه في ذلك فحكمه حكم الانتفاع بغير عوض لا يجوز في القرض، ويجوز في غيره، ومتى استأجرها المرتهن أو استعارها فظاهر كلام أحمد أنها تخرج عن كونها رهنا، فمتى انقضت الإجارة أو العارية عاد الرهن بحاله. قال أحمد في رواية الحسن بن ثواب عن أحمد: إذا كان الرهن دارا فقال المرتهن اسكنها بكرائها وهي وثيقة بحقي ينتقل فيصير دينا ويتحول عن الرهن، وكذلك إن أكراها للراهن قال أحمد: في رواية ابن منصور إذا ارتهن دارا ثم أكراها لصاحبها خرجت من الرهن فإذا رجعت إليه صارت رهنا، والأولى أنها لا تخرج عن الرهن إذا استأجرها المرتهن أو استعارها؛ لأن القبض مستدام، ولا تنافي بين العقدين. وكلام أحمد في رواية الحسن بن ثواب محمول على أنه أذن للراهن في سكناها كما في رواية ابن منصور؛ لأنها خرجت عن يد المرتهن فزال اللزوم لزوال اليد، بخلاف ما إذا سكنها المرتهن، ومتى استعار المرتهن الرهن صار مضمونا عليه، وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه، ومبنى ذلك على العارية فإنها عندنا مضمونة وعنده غير مضمونة.

فصل: فإن شرط في الرهن أن ينتفع به المرتهن فالشرط فاسد؛ لأنه ينافي مقتضى الرهن. وعن أحمد: أنه يجوز في البيع، قال القاضي: معناه أن يقول: بعتك هذا الثوب بدينار بشرط أن ترهنني عبدك يخدمني شهرا فيكون بيعا وإجارة فهو صحيح، وإن أطلق فالشرط باطل لجهالة ثمنه، وقال مالك: لا بأس أن يشترط في البيع منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين، وكرهه في الحيوان والثياب، وكرهه في القرض. ولنا أنه شرط في الرهن ما ينافيه فلم يصح كما لو شرط في القرض.

ص: 39

فصل: الحال الثاني. ما يحتاج فيه إلى مؤنة فحكم المرتهن في الانتفاع به بعوض أو بغير عوض بإذن الراهن كالقسم الذي قبله، وإن أذن له في الإنفاق والانتفاع بقدره جاز؛ لأنه نوع معاوضة.

وأما مع عدم الإذن فإن الرهن ينقسم قسمين: محلوبا ومركوبا وغيرهما. فأما المحلوب والمركوب فللمرتهن أن ينفق عليه ويركب ويحلب بقدر نفقته متحريا للعدل في ذلك. نص عليه أحمد في رواية محمد بن الحكم وأحمد بن القاسم، واختاره الخرقي وهو قول إسحاق، وسواء أنفق مع تعذر النفقة من الراهن لغيبته أو امتناعه من الإنفاق أو مع القدرة على أخذ النفقة من الراهن واستئذانه. وعن أحمد رواية أخرى: لا يحتسب له بما أنفق وهو متطوع بها ولا ينتفع من الرهن بشيء، وهذا قول أبي حنيفة ومالك والشافعي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم:«الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (1)» ولأنه ملك غيره لم يأذن له في الانتفاع به ولا الإنفاق عليه فلم يكن له ذلك كغير الرهن، ولنا ما روى البخاري وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (2)» فجعل منفعته بنفقته، وهذا محل النزاع. فإن قيل: المراد به أن الراهن ينفق وينتفع، قلنا: لا يصح؛ لوجهين: أحدهما: أنه قد روي في بعض الألفاظ: «إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب ويركب النفقة (3)» فجعل المنفق المرتهن فيكون هو المنتفع. والثاني: أن قوله: (بنفقته) يشير إلى أن الانتفاع عوض النفقة وإنما ذلك حق المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه لا بطريق المعاوضة لأحدهما بالآخر. ولأن نفقة الحيوان واجبة، وللمرتهن فيه حق وقد أمكنه استيفاء حقه من نماء الرهن والنيابة عن المالك فيما وجب عليه، واستيفاء ذلك من منافعه فجاز ذلك كما يجوز للمرأة أخذ مؤنتها من مال زوجها عند امتناعه بغير إذنه والنيابة عنه في

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(2)

صحيح البخاري الرهن (2512)، سنن الترمذي البيوع (1254)، سنن أبو داود البيوع (3526)، سنن ابن ماجه الأحكام (2440)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 472).

(3)

صحيح البخاري الرهن (2512)، سنن الترمذي البيوع (1254)، سنن أبو داود البيوع (3526)، سنن ابن ماجه الأحكام (2440)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 228).

ص: 40

الإنفاق عليها، والحديث نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن ولاية صرفها إلى نفقته لثبوت يده عليه وولايته، وهذا فيمن أنفق محتسبا بالرجوع. فأما إن أنفق متبرعا بغير نية الرجوع لم ينتفع به رواية واحدة.

فصل: وأما غير المحلوب والمركوب فيتنوع إلى نوعين: حيوان وغيره.

أما الحيوان: كالعبد والأمة ونحوهما، فهل للمرتهن أن ينفق عليه ويستخدمه بقدر نفقته، ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ذكره الخرقي، ونص عليه أحمد في رواية الأثرم، قال: سمعت أبا عبد الله يسأل عن الرجل يرهن العبد فيستخدمه، فقال: الرهن لا ينتفع منه بشيء إلا حديث أبي هريرة خاصة في الذي يركب ويحلب ويعلف.

قلت له: فإن كان اللبن والركوب أكثر؟ قال: لا؛ إلا بقدر، ونقل حنبل عن أحمد أن له استخدام العبد أيضا، وبه قال أبو ثور إذا امتنع المالك من الإنفاق عليه، قال أبو بكر: خالف حنبل الجماعة والعمل على أنه لا ينتفع من الرهن بشيء إلا ما خصه الشرع به، فإن القياس يقتضي أن لا ينتفع بشيء منه تركناه في المركوب والمحلوب للأثر، ففيما عداه يبقى على مقتضى القياس.

النوع الثاني: غير الحيوان؛ كدار استهدمت؛ فعمرها المرتهن، لم يرجع بشيء رواية واحدة، وليس له الانتفاع بها بقدر نفقته، فإن عمارتها غير واجبة على الراهن، فليس لغيره أن ينوب عنه فيما لا يلزمه، فإن فعل كان متبرعا، بخلاف الحيوان فإنه يجب على مالكه الإنفاق عليه لحرمته في نفسه.

فصل: فأما الحيوان إذا أنفق عليه متبرعا لم يرجع بشيء؛ لأنه تصدق به فلم يرجع بعوضه كما لو تصدق على مسكين. وإن نوى الرجوع على مالكه وكان ذلك بإذن المالك رجع عليه؛ لأنه ناب عنه في الإنفاق بإذنه، فكانت النفقة على المالك، كما لو وكله في ذلك.

ص: 41

وإن كان بغير إذنه فهل يرجع عليه؟ يخرج على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه لأنه ناب عنه فيما يلزمه.

وقال أبو الخطاب: إن قدر على استئذانه فلم يستأذنه فهو متبرع لا يرجع بشيء، وإن عجز عن استئذانه فعلى روايتين، وكذلك الحكم فيما إذا مات العبد المرهون فكفنه. والأول أقيس في المذهب؛ إذ لا يعتبر في قضاء الدين العجز عن استئذان الغريم.

فصل: وإذا انتفع المرتهن باستخدام أو ركوب أو لبس أو استرضاع أو استغلال أو سكنى أو غيره حسب من دينه بقدر ذلك. قال أحمد: يوضع عن الراهن بقدر ذلك؛ لأن المنافع ملك الراهن فإذا استوفاها فعليه قيمتها في ذمته للراهن فيتقاص القيمة وقدرها من الدين ويتساقطان.

ج - نماء الرهن:

نماء الرهن بعدما كان رهنا: إما أن يكون متصلا أو منفصلا، فإن كان متصلا كالسمن فإنه يدخل في الرهن بلا خلاف بين العلماء، وإن كان منفصلا: فمن أهل العلم من قال إنه يكون تابعا للرهن، ومنهم من قال إنه لا يتبعه، ومنهم من فصل، وفيما يلي ذكر المذاهب مع الأدلة والمناقشة.

المذهب الأول: أن نماء الرهن المنفصل الحادث بعدما كان الرهن بيد المرتهن يكون تابعا للرهن، وممن قال بهذا: أبو حنيفة والإمام أحمد ومن وافقهم من أهل العلم، وعمدتهم أن الفروع تابعة للأصول، فوجب لها حكم الأصل، ولذلك حكم الولد تابع لحكم أمه في التدبير والكتابة.

المذهب الثاني: أنه ليس بتابع للرهن بل هو للراهن، وبهذا قال الإمام الشافعي وابن حزم ومن وافقهما من أهل العلم؛ إلا أن ابن حزم لم يوافق

ص: 42

الشافعي على التعميم في المركوب والمحلوب فهو يرى أن الركوب والحلب لمن ينفق، واستدلوا بالكتاب والسنة والمعنى.

أما الكتاب فقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1).

وجاء في معنى هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام (2)» وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه (3)»

وجه الدلالة: أن ملك الشيء المرتهن باق لراهنه بيقين، وحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن لم ينقل ملك الراهن عن الشيء المرهون فلا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء أن ينتفع به من ماله بغير نص بذلك.

وأما السنة فقد استدلوا بأدلة:

الأول: قوله صلى الله عليه وسلم: «الرهن مركوب ومحلوب» رواه الدارقطني والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.

وجه الدلالة: ما ذكره الشيرازي بقوله: ومعلوم أنه لم يرد أنه محلوب ومركوب للمرتهن، فدل على أنه أراد به محلوب ومركوب للراهن.

ونوقش هذا الدليل من جهتين: من جهة سنده ومن جهة دلالته:

أما سنده: فإنه موقوف، والموقوف لا تقوم به حجة. وأما دلالته: فليس في الحديث ما يدل على الذي يحلب ويركب فهو دائر بين الراهن والمرتهن والعدل الذي يكون بيده الرهن، وحمله على واحد منها بدون دليل تحكم.

وأجيب عن الأول: بما قاله ابن أبي حاتم قال: قال أبي: " رفعه مرة ثم ترك الرفع " انتهى كلامه، ومن المقرر في علم المصطلح أن الحديث إذا

(1) سورة البقرة الآية 188

(2)

رواه البخاري ومسلم.

(3)

ذكره صاحب المغني لابن قدامة ج 5/ 278.

ص: 43

دار بين الرفع والوقف فالرفع فيه زيادة علم إذا كان الرافع ثقة فيكون الحديث حجة.

ورد ذلك بأن الدارقطني والبيهقي رجحا رواية من وقفه على من رفعه، وهي رواية الشافعي عن سفيان عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة.

وأما الجواب عن الحديث من جهة دلالته فيقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق إباحة الركوب وشرب اللبن على الإنفاق، فمن تولى الإنفاق فله الركوب وشرب اللبن، يدل على ذلك ما أخرجه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهونا وعلى الذي يركب ويشرب النفقة (1)» .

ورد على ذلك بأن إباحته للمرتهن على خلاف القياس.

وأجاب عن ذلك شيخ الإسلام بقوله: ليس كذلك؛ فإن الرهن إذا كان حيوانا فهو محترم في نفسه، ولمالكه فيه حق وللمرتهن فيه حق، وإذا كان بيد المرتهن فلم يركب ولم يحلب ذهبت منفعته باطلة، وقد قدمنا أن اللبن يجري مجرى المنفعة، فإذا استوفى المرتهن منفعته وعوض عنها نفقته كان في هذا جمع بين المصلحتين وبين الحقين، فإن نفقته واجبة على صاحبه، والمرتهن إذا أنفق عليه أدى عنه واجبا وله فيه حق، فله أن يرجع ببدله، والمنفعة تصلح أن تكون بدلا فأخذها خير من أن تذهب على صاحبها وتذهب باطلا.

وقد تنازع الفقهاء فيمن أدى عن غيره واجبا بغير إذنه كالدين فمذهب مالك وأحمد في المشهور عنه له أن يرجع به عليه، ومذهب أبي حنيفة والشافعي ليس له ذلك، وإذا أنفق نفقة تجب عليه مثل أن ينفق على ولده الصغير أو عبده فبعض أصحاب أحمد قال: لا يرجع، وفرقوا بين النفقة والدين. والمحققون من أصحابه سووا بينهما، وقالوا: الجميع واجب، ولو افتداه من الأسر كان له مطالبته بالفداء وليست دينا، والقرآن يدل على هذا القول فإن الله تعالى قال:

(1) صحيح البخاري الرهن (2512)، سنن الترمذي البيوع (1254)، سنن أبو داود البيوع (3526)، سنن ابن ماجه الأحكام (2440)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 472).

ص: 44

{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (1).

فأمر بإيتاء الأجر بمجرد الإرضاع ولم يشترط عقدا ولا إذن الأب، وكذلك قال:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (2) فأوجب ذلك عليه ولم يشترط عقدا ولا إذنا ونفقة الحيوان واجبة على ربه، والمرتهن والمستأجر له فيه حق، فإذا أنفق عليه النفقة الواجبة على ربه كان أحق بالرجوع من الإنفاق على ولده، فإذا قدر أن الراهن قال: لم آذن لك في النفقة، قال: هي واجبة عليك وأنا أستحق أن أطالبك بها لحفظ المرهون والمستأجر، وإذا كان المنفق قد رضي بأن يعتاض بمنفعة الرهن التي لا يطالبه بنظير النفقة (3) كان قد أحسن إلى صاحبه، فهذا خير محض مع الراهن، وكذلك لو قدر أن المؤتمن على حيوان الغير كالمودع والشريك والوكيل أنفق من مال نفسه واعتاض بمنفعة المال لأن هذا إحسان إلى صاحبه إذا لم ينفق عليه صاحبه.

الدليل الثاني: حديث «لا يغلق الرهن من راهنه له غنمه وعليه غرمه (4)» أخرجه ابن حبان في صحيحه والدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق زياد بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة مرفوعا: «لا يغلق الرهن وله غنمه وعليه غرمه (5)» وأخرجه ابن ماجه من طريق إسحاق بن راشد عن الزهري، وأخرجه الحاكم من طرق عن الزهري عن سعيد مرسلا، ورواه الشافعي عن ابن أبي فديك وابن أبي شيبة عن وكيع وعبد الرزاق عن الثوري كلهم عن ابن أبي ذئب كذلك، ولفظه:«لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه (6)» .

قال الشافعي: غنمه زيادته وغرمه هلاكه. وصحح أبو داود والبزار

(1) سورة الطلاق الآية 6

(2)

سورة البقرة الآية 233

(3)

في أعلام الموقعين ج 1/ 370: بمنفعة الرهن وكان نظير النفقة.

(4)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(5)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(6)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 45

والدارقطني وابن القطان إرساله، وله طرق في الدارقطني والبيهقي كلها ضعيفة، وصحح ابن عبد البر وعبد الحق وصله، ونوقش الاستدلال بهذا الحديث بأن قوله:«له غنمه وعليه غرمه (1)» مدرجة من كلام سعيد ابن المسيب. قال ابن عبد البر هذه اللفظة اختلف الرواة في رفعها ووقفها، فرفعها ابن أبي ذئب ومعمر وغيرها مع كونهم أرسلوا الحديث على اختلاف علي ابن أبي ذئب، ووقفها غيرهم، وروى ابن وهب هذا الحديث فجوده وقال: إن هذه اللفظة من كلام سعيد بن المسيب، نقله عنه الزهري.

وقال عبد الرزاق: أنبأنا معمر عن الزهري عن ابن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يغلق الرهن ممن رهنه (2)» قلت للزهري: أرأيت قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن (3)» أهو الرجل يقول إن لم آتك بمالك فالرهن لك. قال: نعم، قال معمر: ثم بلغني عنه أنه قال: إن هلك لم يذهب حق هذا، إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه.

وأجيب عن ذلك: بأنه رواه ابن حزم من طريق قاسم بن أصبغ حدثني محمد بن إبراهيم حدثني يحيى ابن أبي طالب الأنطاكي وغيره من أهل الثقة حدثني نصر بن عاصم الأنطاكي نا شبابة عن ورقاء عن ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه (4)» . قال ابن حزم هذا سند حسن.

وأجيب عن ذلك: بأنه أخرجه الدارقطني من طريق عبد الله بن نصر الأصم الأنطاكي عن شبابة به وصححها عبد الحق، وعبد الله بن نصر له أحاديث منكرة ذكرها ابن عدي، وظهر أن قوله في رواية ابن حزم: نصر بن عاصم تصحيف، وإنما هو عبد الله بن نصر الأصم، وسقط عبد الله وحرف الأصم بعاصم.

وأما المعنى: فإن النماء زائد على ما رضيه رهنا فوجب أن لا يكون للمرتهن إلا بشرط زائد.

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(2)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(3)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(4)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 46

المذهب الثالث: ما كان من نماء الراهن المنفصل على خلقته وصورته فإنه داخل في الرهن كولد الجارية مع الجارية، وأما ما لم يكن على خلقته وصورته فإنه لا يدخل في الرهن ما كان متولدا عنه كثمر النخل أو غير متولد ككراء الدار وخراج الغلام، وبهذا القول قال مالك ومن وافقه من أهل العلم.

وعمدة هذا المذهب: أن الولد حكمه حكم أمه في البيع أي هو تابع له، وفرق بين الثمر والولد في ذلك بالسنة المفرقة في ذلك، وذلك أن الثمر لا يتبع بيع الأصل إلا بشرط وولد الجارية يتبع بغير شرط.

د - التصرف في الرهن قبل حلول أجل الدين: التصرف إما أن يكون من الراهن أو من المرتهن بإذن كل منهما لصاحبه أو لا. فإذا تصرف كل منهم بإذن الآخر صح التصرف؛ لأنه أسقط حقه، وهذا لا خلاف فيه. أما تصرف الراهن فقد قال فيه ابن قدامة: إذا تصرف الراهن في الرهن بغير رضا المرتهن بغير العتق كالبيع والهبة والوقف والرهن ونحوه فتصرفه باطل؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية، فلم يصح بغير إذن المرتهن كفسخ الرهن. وفي الوقف وجه آخر: أنه يصح لأنه يلزم لحق الله أشبه العتق، والصحيح الأول لأنه تصرف لا يسري إلى ملك الغير فلم يصح كالهبة، فإن أذن فيه صح وبطل الرهن إلا أن يأذن في البيع ففيه تفصيل، انتهى المقصود.

وقال الغزالي: هو ممنوع من كل تصرف قولي يزيل الملك كالبيع والهبة، أو يزاحم حقه كالرهن من غيره، أو ينقص كالتزويج أو يقلل الرغبة كالإجارة التي لا تنقضي مدتها قبل حلول الدين، وبهذا قال الشيرازي والنووي. وأما تصرف المرتهن بالرهن بغير إذن الراهن فهو غير صحيح، وهذا لا خلاف فيه لأنه تصرف في ملك غيره. هـ - استيفاء المرتهن حقه من الرهن: الرهن وثيقة لحق المرتهن بمقتضاه يطمئن المرتهن على رجوع حقه إليه، وقد سبق الكلام على اشتراط

ص: 47

استدامة القبض هل هو شرط في لزومه أو ليس بشرط، ولكن خلافهم هناك لا أثر له بالنسبة لكون المرتهن يبيع الرهن بعد تمام الأجل ويستوفي حقه.

وفيما يلي تفصيل كلام أهل العلم في ذلك مع بيان أدلتهم:

قال السمرقندي: فعندنا ملك العين في حق الحبس حتى يكون المرتهن أحق بإمساكه إلى وقت إيفاء الدين، وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء فيستوفي منه دينه، فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة.

وقال ابن رشد: أما حق المرتهن في الرهن فهو أن يمسكه حتى يؤدي الرهن ما عليه فإن لم يأت به عند الأجل كان له أن يرفعه إلى السلطان فيبيع عليه الرهن وينصفه منه إن لم يجبه الراهن إلى البيع وكذلك إن كان غائبا.

وقال الشافعي: المرتهن أحق ببيع المرهون وأخذ حقه من ثمنه والحبس ليس بلازم.

وقال النووي: المرتهن مستحق لليد بعد لزوم الرهن ولا تزال يده إلا للانتفاع. وقال أيضا: المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة ويتقدم بثمنه على سائر الغرماء. وذكر أيضا أن الراهن إذا أصر على عدم البيع باعه الحاكم.

وقال الخرقي: والمرتهن أحق بثمن الرهن من جميع الغرماء حتى يستوفي حقه حيا كان الراهن أو ميتا. ويدل لذلك الكتاب والسنة والمعنى.

أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (1)

استدل بهذا الحنفية والمالكية والحنابلة. وتقرير الاستدلال من ثلاثة أوجه: الأول: أن الله تعالى أخبر بكون الرهن مقبوضا، وإخباره سبحانه وتعالى لا يحتمل الخلل فاقتضى أن يكون المرهون مقبوضا ما دام مرهونا. الثاني: أن الرهن في اللغة عبارة عن الحبس، قال الله عز وجل:

{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (2).

أي حبيس فيقتضي أن يكون المرهون محبوسا ما دام مرهونا، ولو لم يثبت

(1) سورة البقرة الآية 283

(2)

سورة الطور الآية 21

ص: 48

ملك الحبس لم يكن محبوسا على الدوام فلم يكن مرهونا.

الثالث: أن الله تعالى لما سمى العين التي ورد العقد عليها رهنا، وأنه نهى عن الحبس لغة كان ما دل عليه اللفظ لغة حكما لا شرعا؛ لأن للأسماء الشرعية دلالات على أحكامها كلفظ الطلاق والعتاق والحوالة والكفالة ونحوها.

وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه (1)» الحديث وجه الدلالة أن قوله: «لا يغلق (2)» معناه لا يملك بالدين، كذا قال أهل اللغة؛ غلق الرهن: أي ملك بالدين، وهذا كان حكما جاهليا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وأما المعنى: فإن الرهن شرع وثيقة بالدين فيلزم أن يكون حكمه ما يقع به التوثيق للدين كالكفالة، وإنما يحصل التوثيق إذا كان يملك حبسه على الدوام؛ لأنه يمنعه عن الانتفاع فيحمله ذلك على قضاء الدين في أسرع الأوقات. وـ ضمان الرهن إذا هلك بنفسه: إذا هلك الرهن بنفسه بيد المرتهن فعليه الضمان عند قوم وعدمه عند آخرين، والتفرقة بين ما يغاب عليه وما لا يغاب عليه. وفيما يلي تفصيل الكلام على ذلك مع الأدلة والمناقشة.

المذهب الأول: أن الرهن إذا هلك بنفسه فلا يضمنه المرتهن، وبهذا قال الشافعي والإمام أحمد ومن وافقهما من أهل العلم، واستدل لهذا القول بالسنة والمعنى.

أما السنة: فحديث سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (3)» وجه الدلالة أن المراد بقوله: «له غنمه» - أي له غلته وخراجه - «وعليه غرمه» - أي فكاكه ومصيبته منه - فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم غرم الرهن على الراهن وإنما يكون غرمه عليه إذا هلك أمانة لأن عليه قضاء دين المرتهن، فإذا هلك مضمونا كان غرمه على المرتهن وسقط حقه لا على

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(2)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

(3)

سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 49

الراهن، وهذا خلاف النص.

وقد نوقش الاستدلال بهذا الحديث بأمور: الأول أنه أخرجه أبو وداود في المراسيل، وقال قوله:«له غنمه وعليه غرمه» من كلام سعيد نقله عنه الزهري، وقد سبق الكلام في ذلك.

الثاني: يحتمل أن يكون معنى قوله عليه السلام: «لا يغلق الرهن (1)» أي لا يهلك؛ إذ الغلق يستعمل في الهلاك، كذا قال بعض أهل اللغة، وعلى هذا كان الحديث حجة على أهل هذا القول؛ لأنه يذهب بالدين فلا يكون هالكا معنى.

الثالث: وقيل معناه أي لا يستحقه المرتهن ولا يملكه عند امتناع الراهن عن قضاء الدين، وهذا كان حكما جاهليا جاء الإسلام فأبطله.

وأما المعنى: فإن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، ولو سقط الدين بهلاك المرهون لكان توهينا لا توثيقا؛ لأنه يقع تعريض الحق للتلف على تقدير هلاك الرهن فكان توهينا للحق لا توثيقا له.

ونوقش: بالتسليم بأن عقد الرهن شرع وثيقة بالدين، لكن معنى التوثيق في الرهن هو التوصل إليه في أقرب الأوقات؛ لأنه كان للمرتهن ولاية مطالبة الراهن بقضاء الدين من مطلق ماله، وبعد الرهن حدثت له ولاية المطالبة بالقضاء ومن ماله المعين وهو الرهن بواسطة البيع، فازداد طريق الوصول إلى حقه فحصل معنى التوثيق.

المذهب الثاني: أن الرهن إذا هلك بنفسه فهو من ضمان المرتهن، والذين قالوا بهذا القول انقسموا إلى قسمين:

القسم الأول: ومنهم أبو حنيفة أنه مضمون بالأقل من قيمته وقيمة الدين.

والقسم الثاني: أنه مضمون بقيمته قلت أو كثرت، وممن قال به علي بن أبي طالب وعطاء وإسحاق.

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 50

أما القسم الأول فمعناه أن الرهن لو هلك وقيمته مثل دينه صار مستوفيا دينه، وإن كانت أكثر من دينه فالفضل أمانة، وإن كانت أقل صار مستوفيا بقدره ورجع المرتهن بالفضل.

واستدل الأحناف لمذهبهم بالسنة والإجماع والأثر والمعنى.

أما السنة: فإنهم استدلوا بدليلين:

الأول: قوله عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعدما نفق الفرس الرهن عنده: «ذهب حقك» وهذا نص في الدلالة على المطلوب.

ونوقش: بأنه أخرجه أبو داود في المراسيل من طريق عطاء: «أن رجلا رهن رجلا فرسا فنفق في يده فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرتهن: ذهب حقك» وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا مرسلا، وفي الاحتجاج بالمرسل خلاف.

ونوقش أيضا: بأن المراد به ذهاب الحق في الحبس. وأجيب عنه بمنع ذلك لأنه لا يتصور حبسه فلا يحتاج فيه إلى البيان؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بعث لبيان الأحكام لا لبيان الحقائق، ولأن الرهن ذكر معرفا بالإضافة فيعود إلى المذكور.

الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا عمي الرهن فهو بما فيه» .

وهذا نص أيضا في محل الخلاف.

ونوقش: بأن الدارقطني رواه عن أنس وقال: لا يثبت ومن بينه وبين شيخنا ضعفاء. وأخرجه من وجه آخر وقال إنه باطل.

وأجيب عنه: بأنه أخرجه أبو داود في المراسيل عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله ورجاله ثقات، قاله ابن حجر، وأخرجه أيضا عن طاوس مرفوعا نحوه.

ونوقش أيضا بما أخرجه أبو داود في المراسيل عن أبي الزناد وقال: إن ناسا يوهمون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الرهن بما فيه» إذا كان هلك وإنما

ص: 51

قال ذلك فيما أخبرنا الثقة من الفقهاء إذا هلك وعميت قيمته. وأخرجه الطحاوي عن أبي الزناد نحوه، وأسند ذلك إلى الفقهاء السبعة وغيرهم أنهم قالوا: الرهن بما فيه، ويرفع ذلك منهم الثقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال:«الرهن بما فيه» .

وأما الإجماع: فهو أن الصحابة والتابعين أجمعوا على أن الرهن مضمون مع اختلافهم في كيفية الضمان على ثلاثة أقوال فإحداث قول رابع خروج عن الإجماع فلا يجوز.

ويمكن أن يناقش بالمطالبة بثبوت الإجماع. قال ابن حجر: لم أجد ذلك.

وأما الأثر: فما أخرجه البيهقي عن عمر في الرجل يرتهن الرهن فيضيع قال: " إن كان أقل مما فيه رد عليه تمام حقه، وإن كان أكثر فهو أمين " وأخرجه ابن أبي شيبة والطحاوي نحوه.

وأما المعنى فمن وجوه:

أحدهما: أن الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد والحبس؛ لأن لفظه ينبئ عن الحبس، والأحكام الشرعية تثبت على وفق معانيها اللغوية.

الثاني: أن الرهن وثيقة لجانب الاستيفاء، وهو أن يكون موصلا إليه، ويثبت ذلك بملك اليد والحبس ليقع الأمن من الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون عاجزا عن الانتفاع فيتسارع إلى قضاء الدين أو الضجره، فإذا ثبت هذا المعنى ثبت الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك، فلو استوفي الدين بعده يؤدي إلى الربا لأنه يكون استيفاء ثانيا، ولا يلزم ذلك حال قيام الرهن لأن الاستيفاء الأول ينقضي بالرد على الراهن فلا يتكرر.

ونوقش: هذان الدليلان بأن المرتهن إنما صار مستوفيا بملك اليد لا بملك الرقبة، وقد بقي حقه في ملك الرقبة فكان له أن يستوفيه ليأخذ حقه

ص: 52

كاملا وصار مستوفيا بالمالية دون العين فيكون له الاستيفاء ثانيا ليأخذ حقه في العين كاملا.

وأجيب عن ذلك: بأنه لا وجه إلى استيفاء الباقي وهو ملك الرقبة بدون ملك اليد أو ملك العين بدون ملك المالية؛ إذ لا يتصور ذلك فيسقط للضرورة كما إذا استوفي زيوفا مكان الجياد فإن حقه في الجودة يبطل لعدم استيفاء الجودة وحدها بدون العين، فإذا لم يملك العين بقي ملك الراهن أمانة في يده فتكون نفقته حيا وكفنه ميتا عليه لأنهما مؤونة الملك، ولو اشتراه المرتهن لا ينوب قبض الرهن عن قبض الشراء؛ لأن عينه أمانة فلا ينوب قبضه عن قبض المضمون.

وأما القسم الثاني، فمعناه أن الرهن إن كانت قيمته أقل من الدين رجع المرتهن إلى الراهن فيأخذ منه ما بقي من دينه، وإن كانت قيمة الرهن تساوي الدين لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء، وإن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين فإن الزائد يسلمه المرتهن إلى الراهن.

واستدل لهذا بالسنة والأثر والمعنى.

أما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه (1)» وجه الدلالة أن معنى قوله: «له غنمه» أي ما زاد من قيمة الرهن على قيمة الدين، «وعليه غرمه» أي ما نقص من قيمة الدين عن قيمة الرهن.

وأجيب عنها بجوابين:

الأول: وقد سبق: أنها مدرجة من كلام سعيد بن المسيب.

الثاني: أن المقصود بالغنم الغلة والخراج، والمراد بالغرم الفكاك والمصيبة.

وأما الأثر: فما روي عن علي رضي الله عنه: أنهما يترادان الفضل، أخرجه عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة في المصنف من

(1) سنن ابن ماجه الأحكام (2441)، موطأ مالك كتاب الأقضية (1437).

ص: 53

طريق الحكم، وفسر التراد هنا بأنه يكون من الجانبين فيرجع واحد منهما على صاحبه بالفضل عند الهلاك.

ونوقش بأمرين:

الأول: أن المقصود بالتراد حالة البيع فإنه روي عنه أنه قال: المرتهن أمين في الفضل.

الثاني: ما أخرجه البيهقي من رواية خلاس عن علي: " إذا كان في الرهن فضل فإن أصابته جائحة فالرهن بما فيه وإن لم تصبه جائحة فإنه يرد الفضل ".

ونوقش هذان الأمران: بأننا لا نسلم أنه في حالة البيع ولا أنه في حالة السلامة لما أخرجه البيهقي من رواية الحارث عن علي رضي الله عنه: إذا كان الرهن أفضل من القرض والقرض أفضل من الرهن فإنهما يترادان الفضل.

وأما المعنى: فإن الزيادة على الدين مرهونة بكونها محبوسة به، فتكون مضمونة كما في قدر الدين.

ونوقش بأن يد المرتهن يد استيفاء فلا توجب الضمان إلا بقدر المستوفى كما في حقيقة الاستيفاء بأن أوفاه دراهم في كيس أكثر من حقه يكون مضمونا عليه، بقدر الدين والفضل أمانة والزيادة مرهونة ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ولا ضرورة في حق الضمان.

المذهب الثالث: التفرقة بين ما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه:

فإن كان مما يغاب عليه من العروض فهو ضامن، وإن كان مما لا يغاب عليه كالحيوان والعقار فليس بضامن. وممن قال بهذا: مالك والأوزاعي وعثمان البتي، بل يضمن على كل حال قامت البينة أو لم تقم، وبقول مالك قال ابن القاسم، وبقول عثمان والأوزاعي قال أشهب، ومستند هذا المذهب الاستحسان،

ص: 54

ومعناه أن التهمة تلحق فيما يغاب عليه ولا تلحق فيما لا يغاب عليه.

ونوقش بأن الاستحسان الذي يذهب إليه مالك استحسان بغير دليل فلا حجة فيه. وأجيب عنه بأن معنى الاستحسان عند مالك هو جمع بين الأدلة المتعارضة وإذا كان ذلك فليس هو قول بلا دليل.

هذا ما تيسر، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء

عضو

عضو

نائب الرئيس

الرئيس

عبد الله بن سليمان بن منيع

عبد الله بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

المراجع في المذهب الحنفي:

المصادر:

تحفة الفقهاء 3 وبدائع الصنائع 6/ 145 - 370 وكنز الدقائق وشرحه تبيين الحقائق 6/ 63 - 68 وفتح القدير 8/ 194 - 202 وحاشية ابن عابدين 5/ 318 - 325 وملتقى الأبحر وشرحه مجمع الأنهر 2/ 586 - 591 والدراية 2/ 257 - 258 ونصب الراية 4/ 319 وشرح معاني الآثار 4/ 98.

وفي المذهب المالكي: المنتقى 5/ 253 - 255 وبداية المجتهد 2/ 228 - 230 وشرح الرسالة 2/ 205 - 210.

وفي المذهب الشافعي: مختصر المزني على هامش الأم 3/ 126 - 128 والمهذب 1/ 310 - 316 والوجيز 1/ 18 - 101 وروضة الطالبين 4 - 111.

ص: 55

وفي المذهب الحنبلي: الشرح الكبير 4/ 409 وما بعدها والمغني 4/ 490، 494، 499، 503، 513. والمقنع وحاشيته 2/ 104 - 106 وعمدة الفقه وشرحها 247 - 250 والمجد 1/ 336 والتوضيح في الجمع بين المقنع والتنقيح والقياس في الشرع الإسلامي 33 وكتاب الرهن من المحلى 8/ 87 وما بعدها.

ص: 56