الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محاربته للعقائد والأفكار المضادة للكتاب والسنة:
لا يخفى على كل من لديه معرفة بالكتاب والسنة أنهما شملا بيان العقائد والشرائع وجميع ما يحتاج إليه الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية، ولكن جدت في الإسلام فتن وأحداث سياسية كبرى ووجدت مذاهب وأفكار اصطبغت بصبغة الدين، كما ظهرت فرق جديدة مثل الخوارج والشيعة والمرجئة وغيرت معالم الدين، واشتدت هذه الفتن ونشطت الفرق الضالة في عصر شيخ الإسلام، وكادت أن تغطي على حقائق الإسلام وصدقه وبهائه، فجاء شيخ الإسلام ليرد إلى الإسلام نضارته، ويدحض الباطل، ويكشف زيغ الفرق الباطلة التي أرادت أن تشوه العقائد الأساسية للإسلام وشريعته السمحاء، وهاجم جميع الفرق والمذاهب المنحرفة عن الكتاب والسنة القائمة في عصره.
واختص الأشعرية من ذلك بالنصيب الأوفر، كما أنه ناقش مناهج الفلاسفة والمتكلمين في بحث الشئون الإلهية ونقدها، وبين أن المناهج التي سلكها هؤلاء وأولئك، كانت بعيدة كل البعد عن الصواب، وأنهم أبعد الناس عن معرفة الأمور الإلهية، وأن أكثر كلامهم فيها خبط وتخليط؛ لأنهم لم يستضيئوا بنور النبوة، فمزجوا الحق الذي أخذوه من الدين بالباطل الذي بنوه على أصولهم الفلسفية الفاسدة، وحاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة على حساب الدين، فعمدوا إلى النصوص فأولوها بتأويلات بعيدة ومتكلفة حتى تتلاءم مع قواعدهم الفلسفية.
وهكذا الأشاعرة المتأخرون لجأوا إلى التأويل في الصفات الخبرية كغيرهم من الفلاسفة والمعتزلة، وخلاصة القول عن الفرق الثلاث - أعني الفلاسفة والمعتزلة والأشعرية عند ابن تيمية - أن مناهجهم في العقيدة بعيدة عن الحق؛ لأنهم جميعا سلموا بقضية عامة، وهي أنه إذا تعارض العقل والنقل، وجب تقديم العقل، فحكموا عقولهم في مسائل العقيدة
وتلاعبوا بالنصوص، فإذا كانت ثابتة بحيث لا يمكن ردها جعلوها من التشابه، وإلا بادروا إلى إنكارها.
ولكن الأشاعرة في نظره خير من المعتزلة ومن عداهم من سائر الفرق الأخرى؛ لأنهم يوافقون السلف في كثير من المسائل، كما أنهم ردوا على بدع المعتزلة والجهمية والرافضة، وبينوا كثيرا من تناقضاتهم وعظموا الحديث والسنة ومذهب الجماعة (1).
وقد تصدى لبيان اتجاهه المبني على الكتاب والسنة في العقيدة والأسماء والصفات والتمسك بالكتاب والسنة في مقدمة كتابه الحموية، وأوضح فكرته بكل تفصيل، ومما قال فيها:(من المحال أيضا أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة، وقال: «تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك (2)»، وقال فيما صح عنه أيضا، «ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم (3)» . .
وقال أبو ذر: «لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما (4)» .
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه (5)» . رواه البخاري، محال مع هذا ومع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دق، أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدون بقلوبهم في ربهم ومعبودهم، رب العالمين) إلى أن قال: (إن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة، ومن حذا حذوهم على طريق السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد
(1) انظر منهاج السنة 1/ 123.
(2)
سنن ابن ماجه المقدمة (44).
(3)
صحيح مسلم الإمارة (1844)، سنن النسائي البيعة (4191)، سنن ابن ماجه الفتن (3956)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 191).
(4)
مسند أحمد بن حنبل (5/ 153).
(5)
صحيح البخاري بدء الخلق (3192)، سنن الترمذي المناقب (3951)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 426).
الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (1).
ومن أحسن ما قرأت في بيان قوة شيخ الإسلام في هذا الجانب، هو ما كتبه تلميذه أبو حفص البزار، فقد قال - رحمة الله عليه -:(وأما ما خصه الله تعالى به من معارضة أهل البدع في بدعتهم، وأهل الأهواء في أهوائهم، وما ألفه في ذلك من دحض أقوالهم، وتزييف أمثالهم وأشكالهم، وإظهار عوارهم وانتحالهم وتبديد شملهم، وقطع أوصالهم، وأجوبته عن شبههم الشيطانية، ومعارضتهم النفسانية للشريعة الحنيفية المحمدية، بما منحه الله تعالى من البصائر الرحمانية والدلائل النقلية، والتوضيحات العقلية، حتى انكشف قناع الحق، وبان فيما جمعه في ذلك وألفه الكذب من الصدق، حتى لو أن أصحابها أحياء ووفقوا لغير الشقاء، لأذعنوا له بالتصديق ودخلوا في الدين العتيق).
ثم قال: (حدثني غير واحد من العلماء الفضلاء النبلاء الممعنين بالخوض في أقاويل المتكلمين لإصابة الصواب وتمييز القشر من اللباب، أن كلا منهم لم يزل حائرا في تجاذب أقوال الأصوليين ومعقولاتهم، وأنه لم يستقر في قلبه منه قول، ولم يبين له من مضمونها حق، بل رآها كلها موقعة في الحيرة والتضليل، وجلها مذعن بتكافؤ الأدلة والتعليل، وأنه كان خائفا على نفسه، حتى من الله تعالى عليه بمطالعته مؤلفات هذا الإمام أحمد بن تيمية شيخ الإسلام مما أورده من النقليات والعقليات في هذا النظام، فما هو إلا أن وقف عليها وفحصها فرآها موافقة للعقل السليم وعلمها، حتى انجلى ما كان قد غشيه من أحوال المتكلمين من الظلام، وزال عنه ما خاف أن يقع فيه من الشك وظفر بالمرام)(2).
(1) سورة البقرة الآية 78
(2)
الأعلام العلية، ص / 32 - 33.