الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: (ولكن كثيرا من أهل العبادة والزهادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ، وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة، وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة، فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف، وهكذا طريق العبادة عامة ما يقع فيه من الاختلاف، إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع، فيقعون في البدع؛ فيقع فيهم الخلاف، وهكذا الفقه، إنما وقع فيه الاختلاف لما خفي عليهم بيان صاحب الشرع)(1).
وقال ابن رجب في طبقاته: (وبلغني من طريق صحيح عن ابن الزملكاني أنه سئل عن الشيخ - يعني ابن تيمية - فقال: لم ير من خمسمائة سنة - أو قال أربعمائة سنة، والشك من الناقل، وغالب ظنه أنه قال: من خمسمائة - أحفظ منه)(2).
وقال ابن فضل الله العمري: (أخمل من القرناء كل عظيم، وأخمد من أهل البدع كل حديث وقديم، ولم يكن منهم إلا من يجفل عنه إجفال الظليم، ويتضاءل لديه تضاؤل الغريم)(3).
وقال الحسن بن حبيب: (ابن تيمية بحر زاخر في النقليات، وحبر ماهر في حفظ عقائل العقليات، وإمام في معرفة الكتاب والسنة)(4).
(1) انظر مجموعة الرسائل الكمالية، " فصل في التقليد " لشيخ الإسلام ابن تيمية.
(2)
الرد الوافر، ص / 56.
(3)
الرد الوافر، ص / 96.
(4)
الرد الوافر، ص / 96.
تجديده لمعالم الدين:
ذكر علماء الإسلام أن أهل الإيمان يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أنواع حسب مدارج الإيمان، ومراتب العلم والعمل الصالح: السابقون الأولون، ثم المقتصدون، ثم ضعفاء الطريق، وهذا الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه عبد الله بن مسعود قال: قال الرسول
فقد أشير في هذا الحديث إلى الدرجات الإيمانية الثلاث، والحديث صريح في الدرجات الثلاث بالنسبة للذين يحاربون البدعة ويجاهدون ضد الذين يحاربون الدين وشريعته، ولكن الأمر ليس محصورا في الرد على المبتدعة فقط، بل هو سار في جميع ميادين العلم والعمل، ولكن المجال الأكبر والأوسع لهذا هو الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله، وتبليغ دين الله إلى البشرية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواجهة أعداء الله وأصحاب البدع.
والطبقة المثلى من الطبقات الثلاث والدرجة العليا من درجات الإيمان هم الذين اختارهم الله لإصلاح البشرية، ودعوة الشعوب والأقوام إلى الحق الذي لا مرية فيه، وهم الذين يستنيرون بنور النبوة، وينهجون منهج الأنبياء، ويسلكون السبيل الذي هو سبيل الحق والرشاد، وهم ورثة الأنبياء بكل ما تعني الكلمة من المعاني السامية.
ولكن هؤلاء العظماء لا يأتون في كل زمان، ولا يأتون إلا في عدد قليل، إنهم لا يأتون إلا ليصلحوا ما أفسده الناس في عصرهم، وما لم يستطع أن يصلحه كبار ذلك العصر وعلماؤه ومصلحوه ودعاته، إنهم لا يبالون بالعراقيل التي تواجههم في الطريق، ولا يخافون في الله لومة لائم، ولا يخضعون للمصائب والبلايا التي تريد أن تسد عليهم الطريق إلى الأمام، وهم لا يقفلون أبواب بيوتهم على أنفسهم خوفا من الشدائد وحفاظا على أنفسهم، زاعمين أن الفتن ادلهمت، والشرور
(1) رواه مسلم، الإيمان، حديث رقم / 80 والترمذي: الزهد، باب / 39 والنسائي: البيعة، باب / 33.
واستولت على الأمور، فلا عليهم إلا أن يحموا أنفسهم من الشرور والفتن، إنهم يأتون في العصر المليء بالفتن والبدع والخرافات، العصر الذي يزعم فيه كبار العلماء أن الحق والدعوة إليه أن لا تتزلزل أقدامهم، وأن لا يقعوا فيما وقع فيه الناس، فيأتي ذلك المجدد الذي لا يبالي بأي شيء في سبيل الإصلاح، ويستقي من نور النبوة، ويتقدم لإصلاح معالم الدين التي أفسدها المفسدون من المبتدعة والملاحدة والمنطقيين والفلاسفة وأهل الأهواء والفرق الضالة، ويصعد في الدرجات العلى حتى يصل إلى المكان الذي لا يمكن أن يتصور الوصول إليه عظماء ذلك العصر.
ولقد كانت نهاية القرن السابع وبداية القرن الثامن الهجري عصرا مليئا بالأحداث السياسية والدينية والفكرية، الأمر الذي هز كيان الأمة الإسلامية، وأبعدها من المنابع الصافية للإسلام، وأشغلها بعقائد وأفكار لم تكن تمت إلى الإسلام بشيء.
دخلت الفلسفة والمنطق إلى حياة الأمة، وجعلت أفكار اليونان تأخذ مكان العقائد الإسلامية، وانعكست القضية حيث أصبح المسلمون في معزل عن الكتاب والسنة، فأخذ المسلمون يستنبطون عقائدهم من الفلسفة والمنطق، كما أخذوا يتغلغلون في القائق والتفريعات الفقهية، بعيدين عن الكتاب والسنة، وأصبح كل صاحب مذهب فقهي يفرح بما لديه من الآراء والأقيسة، ويشنع على الآخرين، واستولي الفكر المذهبي على أذهان الناس، حتى بات الحديث عن الكتاب والسنة حديثا غريبا، وصارت دعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة دعوة شاذة، يؤذى صاحبها، ويبتر لسان المنادي بها، وهكذا تغيرت معالم الدين، وكاد أن ينطفئ - لا قدر الله - مشعل القرآن والسنة، لولا أن تداركت رحمة ربنا، فجاء الإمام الرباني شيخ الإسلام والمسلمين تقي الدين أحمد بن تيمية، وقد كانت البلاد الإسلامية بها آلاف من العلماء البارزين والدعاة والمصلحين، ولكن مرتبة العزيمة التي كانت تتطلب نفسا عالية، لم
يتأصل لها غير شيخ الإسلام، فقد ذكر القاضي أبو البركات المخزومي أن بلاد الشام فقط كان بها سبعون مجتهدا، والتاريخ يشهد أن الأئمة والحفاظ والنقاد الذين وجدوا في ذلك العصر لم يوجدوا مجتمعين في عصر آخر، منهم: أبو الفتح بن سيد الناس الأشبيلي، وشمس الدين المقدسي، وأبو العلى الأنصاري السبكي، والقاضي الزملكاني، وأبو العباس بن عمر الواسطي، وأبو الفداء عماد الدين، والحافظ ابن قدامة المقدسي، والإمام برهان الدين الفزاري، والحافظ صلاح الدين البعلبكي، والشيخ صفي الدين البغدادي، والحافظ البرزالي الأشبيلي، وتقي الدين السبكي، والحافظ جمال الدين المزي، والإمام تقي الدين ابن دقيق العيد، والحافظ أبو عبد الله الذهبي، وغيرهم كثيرون من الذين ذكر حياتهم وسيرهم الحافظ الذهبي والحافظ ابن حجر العسقلاني في كتبهما.
وأخص منهم بالذكر الحافظ المزي، والحافظ البرزالي، وابن دقيق العيد والحافظ الذهبي، فقد كان كل منهم إماما في الحديث وعلومه، وخاصة الإمام الذهبي فإن أياديه على الأمة عظيمة، ولا يشاركه في هذه الأفضال إلا الحافظ ابن حجر العسقلاني، فقد حفظا على الأمة الإسلامية سنة رسولها، وضبطا ودونا ونقدا وجمعا أحوال الرواة وأخبارهم، وكشفا الصحيح والضعيف، وميزا بين المقبول والمردود، حتى أصبح العمل بالسنة سهلا ميسورا للمسلمين.
فإنه لا يخفى على من لديه إلمام بتاريخ السنة، أنها مرت بعهدين، العهد الأول عهد التدوين، والثاني عهد التنقيح والتمييز، وهما من فرسان العهد الأول بل من رواده، حتى أصبحت السنة وعلومها مدونة ومنقحة وسهلة ميسورة للعمل بها لكل من أراد التمسك بالكتاب والسنة.
ولكن هل تجد أحدا من هؤلاء العظماء استطاع أن يدرك غبار شيخ الإسلام - رحمة الله عليه -؟ الجواب: لا، فإن شيخ الإسلام فاق أقرانه وأهل عصره في جميع العلوم والفنون، ومع ذلك نال درجة لم ينلها غيره،
وهي درجة العزيمة في الدعوة إلى الله، ورتبة تجديد معالم الدين، وإعادة الأمة إلى حظيرة الكتاب والسنة، حتى أجمع أهل عصره على القول بأنهم ما رأوا مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه، وقد مرت أقوال الأئمة في عصره للاعتراف بهذا (1).
ولا بأس أن أذكر هاهنا ملخص ما ذكره الحافظ ابن كثير عما جرى للشيخ عماد الدين الواسطي، فقد ذكر، أن الواسطي هذا كان في أول الأمر من الفقهاء المتكلمين، وكان يغلب عليه الجدل والكلام والرأي، فلما انتقل من مصر إلى بغداد والتقى بأهلها وعلمائها، وتوسعت مداركه، وحاسب نفسه وجدها فارغة عن الطمأنينة؛ فترك سبيل الفقهاء والمتكلمين واتجه إلى التصوف واقترب من المتصوفة، فلما رأى ما رأى عندهم من الغرائب، تكدر طبعه وقرر السفر إلى دمشق، وحضر مجلس شيخ الإسلام ابن تيمية، وكان الدرس الأول عن المتكلمين والفلاسفة وعن فقدهم طمأنينة القلب، وأن مشاهيرهم اعترفوا بهذا، وشهدوا على أنفسهم بالاضطراب والحيرة اللذين سببهما الكلام والفلاسفة في قلوبهم، فقالوا:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها
…
وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعا كف حائر
…
على ذقن أو قارعا سن نادم
أو قالوا:
نهاية أرباب العقول عقال
…
وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
…
سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
يقول الشيخ عماد الدين ما معناه: إن شيخ الإسلام استمر في كلامه وأوضح أن الدواء الناجع لأمراض القلب، والسبب الوحيد لنيل طمأنينته، هو التمسك بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فانقشع الظلام، وزالت الحيرة، ووجدت نور الحقيقة الذي كنت حيران من أجله.
(1) انظر بحث الشيخ محمد داود الغزنوي بالأردية.
قال: فلما اطلع شيخ الإسلام على أحوالي أوصاني بقراءة السيرة النبوية؛ فإنها الوصفة الكافية الشافية من جميع أمراض القلوب (1).
أقول: وهل تعني السيرة النبوية إلا سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وهل السنة إلا تفسير لكتاب الله؟ فتبين بذلك أن شيخ الإسلام أوضح للواسطي ولغيره أنه لا نجاة للأمة الإسلامية من جميع أمراضها إلا في اتباع كتاب الله وسنة رسوله، وهذا عين تجديد معالم الدين ودعوة الرجوع إلى الكتاب والسنة (2) وقد اعترف الشيخ ولي الله الدهلوي لشيخ الإسلام بجميع تلك المزايا والأوصاف التي أهلته ليكون مجددا لمعالم الدين ومحييا للكتاب والسنة.
فقد قال رحمه الله:
(وعلى هذا الأصل اعتقدنا في شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - فإنا قد تحققنا من حاله أنه عالم بكتاب الله ومعانيه اللغوية والشرعية، وحافظ لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف، عارف لمعانيهما اللغوية والشرعية، أستاذ في النحو واللغة، محرر لمذهب الحنابلة وفروعه وأصوله، فائق في الذكاء، ذو لسان وبلاغة في الذب عن عقيدة أهل السنة، لم يؤثر عنه فسق ولا بدعة، اللهم إلا هذه الأمور التي ضيق عليه لأجلها، وليس شيء منها إلا ومعه دليله من الكتاب والسنة، فمثل هذا الشيخ عزيز الوجود في العلم، أو من يطيق أن يلحق شأوه في تحريره وحديثه، والذين ضيقوا عليه ما بلغوا معشار ما آتاه الله تعالى، وإن كان تضييقه ذلك ناشئا عن اجتهاد، ومشاجرة العلماء في مثل ذلك ما هي إلا كمشاجرة الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم، والواجب في ذلك كف اللسان إلا بخير (3).
(1) انظر بحث الشيخ محمد داود الغزنوي بالأردية، ص 233 - 235.
(2)
انظر العقود الدرية، ص / 311، 312.
(3)
انظر جلاء العينين في محاكمة الأحمدين، ص 46.