الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قدر عليهم وأصبحوا في قبضة يده الحانية، قال لهم: لا تثريب عليكم يغفر الله لي ولكم.
ومن أحسن ما ورد في هذا، هو الحوار الذي دار بين شيخ الإسلام والسلطان الناصر، فقد أعطى السلطان الخيار الكامل لشيخ الإسلام ليفعل ما يريد في أعدائه الذين آذوه وتسببوا في سجنه وحبسه فعفا عنهم جميعا، وقد ألح عليه السلطان أن يأخذ ثأره من أعدائه، فأصر شيخ الإسلام على العفو.
وقد ذكر القصة الحافظ ابن كثير والحافظ ابن عبد الهادي، وجدير لكل من أراد أن يعرف مدى سمو النفس عند شيخ الإسلام أن يقرأ القصة بكل تفاصيلها عند المؤرخين المذكورين (1).
(1) البداية والنهاية 14/ 53 - 55، والعقود الدرية، ص278.
وفاته - رحمة الله عليه
-:
ذكر المؤرخون: أن الشيخ لما سجن في مصر بحبس القضاة بحارة الديلم، صار الحبس بالاشتغال بالعلم والدين خيرا من كثير من الزوايا والربط والخوانق والمدراس، وصار خلق من المحابيس إذا أطلقوا يختارون الإقامة عنده، وكثر المترددون إليه حتى صار السجن يمتلئ منهم (1).
وقد ذكر ابن الدردي وغيره: (أنه ورد مرسوم السلطان بسجنه بقلعة دمشق، فأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، وأقبل في هذه المدة على العبادة والتلاوة وتصنيف الكتب والرد على المخالفين، وكتب على تفسير القرآن الكريم جملة كبيرة، وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا داوة ولا قلما ولا ورقة، وكتب عقيب ذلك بفحم يقول: إن إخراج الكتب من عنده من أعظم النعم، وبقي أشهرا على ذلك، وأقبل على التلاوة والعبادة والتهجد.
(1) انظر حياة شيخ الإسلام للبيطار، ص / 26.
ومما قال وهو في حبسه: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقال: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه (1) وقال ابن القيم وهو يصف حالته في السجن: وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشا، وأشرحهم صدرا، وأقواهم قلبا، وأسرهم نفسا، تلوح نضرة النعيم على وجهه (2).
مرض رحمه الله أياما يسيرة، وتوفي في ليلة الاثنين والعشرين من ذي القعدة، وغسل وكفن وأخرج وصلي عليه أولا بالقلعة، ثم صلي عليه بجامع دمشق عقيب صلاة الظهر، لم يتخلف أحد من الناس فيما قالوا غير أنفس كانوا قد اشتهروا بمعاندته، فاختفوا من الناس خوفا على أنفسهم، ولم ير لجنازة أحد ما رئي لجنازته من الوقار والهيبة والعظمة والجلالة، وتعظيم الناس لها، وتوقيرهم إياها.
ودفن في ذلك اليوم، رثاه كثير من الفضلاء بقصائد متعددة، وتناوب الناس قبره للصلاة عليه من القرى والأطراف والأماكن والبلاد، وصلي عليه في أرض مصر والشام والعراق وتبريز والبصرة وقراها وغيرها (3).
جزاه الله خيرا عن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء، ورزقنا وكافة المسلمين الحياة والموت على الكتاب والسنة حتى نلقاه، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
محمد لقمان السلفي
(1) ذيل طبقات الحنابلة 4/ 402.
(2)
ذيل طبقات الحنابلة 4/ 402 - 403.
(3)
تذكرة الحفاظ، ص / 1496، 1497 والعقود الدرية، ص / 361، 362، 370، 371.
صفحة فارغة