الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودون نفي له أو تأويل، وقد وقف الصحابة ومن تبعهم هذا الموقف؛ لأنهم أدركوا أن تكييف الصفات أو الأسماء ومحاولة تحديد حقيقتها إنما يعني الوقوع في محظور لا يمكن أن يقبل أو يتجاوز عنه، وهو الاعتراف الضمني بمشابهة الله للمخلوقات التي يجري عليها كلها قوانين التكييف والتحديد، ومن ثم فلم يتجهوا إلى التكييف أو التحديد في هذا الجانب، فأثبتوا الصفات والأسماء الإلهية دون تكييف.
ومن ناحية أخرى فإنهم أدركوا كذلك أن نفي التشبيه كلية بين الخالق والمخلوق لا يتطلب نفي هذه الصفات أو الأسماء عن الله سبحانه أو تأويل معناها بما يتفق مع فكرة تنزيه الله سبحانه عن مشابهة المخلوقين؛ ذلك أن النفي أو التأويل إنما يعني تعطيل البارئ سبحانه مما وصف به نفسه، ومما سمى به نفسه من صفات وأسماء، ومما جاء كذلك على ألسنة رسله إلى العالمين، وهذا هو باختصار موقف أهل السنة والجماعة أيضا من قضية الصفات، وهو الموقف الذي تابعوا فيه منهج الصحابة رضي الله عنهم، وبعد هذا الإيضاح المبدئي لموقف أهل السنة من هذه القضية فإننا قد نتساءل عن أسس منهجهم وعن ضوابطه حتى نتمكن من فهم أعمق لدوافع الموقف الذي وقفوه.
أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات وضوابطه:
إننا إذا حاولنا الوقوف على بعض المبررات التي ارتكز عليها أهل السنة في معالجتهم لهذه القضية فسوف نجد أن الفهم الذي فهموه منها، والذي أشرنا إليه كان في الواقع مرتكزا على قاعدتين أو على حقيقتين واضحتين وضوح الشمس في رابعة النهار، الأولى: أن لله تعالى صفات وأسماء قد أخبرنا به القرآن الكريم، وأخبرتنا به أيضا السنة النبوية الصحيحة الموثقة، وقد قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (1).
(1) سورة الأعراف الآية 180
وقال سبحانه:
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (1).
ولهذا فلا مفر من الالتزام بما ورد في الكتاب والسنة على أساس أنها حقائق موضوعية لا يجسر أحد على نكرانها، وذلك لثباتها؛ ولأنها موجودة وقائمة بالفعل، ولأن الرسل جميعا عليهم السلام قد كلفوا بحمل أمانة تبليغها إلى العالمين، ومن ثم فإنها تعد جزءا بالغ الأهمية من الرسالة التي قاموا بإبلاغها.
وفي هذا الصدد يقول ابن قيم الجوزية: والعلم بمجيء الرسول بذلك يقصد الصفات والأسماء التي وصف الله بها نفسه، ووصفه به رسوله، وإخباره عن ربه إن لم يكن فوق العلم بوجوب الصلاة والصيام، والحج والزكاة، وتحريم الظلم والفواحش والكذب، فليس يقصر عنه، فالعلم الضروري حاصل بأن الرسول أخبر عن الله بذلك وفرض على الأمة تصديقه فيه، فرضا لا يتم أصل الإيمان إلا به. .
ومعنى هذا: أن ابن القيم يقرر أن إثبات الصفات للخالق قضية مفروغ منها، وهي قائمة على أساس علمي ضروري، لا يحتمل الشك فيه، أو الجدل حوله، أو حتى قبول بعضه، وترك بعضه الآخر، أما ذلك الأساس اليقيني فقد بين ابن القيم فيما سبق أنه مبني على الحقائق أو القواعد الآتية:
أولا: إننا نعلم علم اليقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء مخبرا عن هذه الصفات الإلهية تماما مثل علمنا اليقيني بما جاء به من أحكام، وأوصاف تتعلق بالصلاة والزكاة والصيام والحج، هذا إن لم يزد عليها.
(1) سورة الحشر الآية 7
ثانيا: أن الله سبحانه قد فرض على الأمة تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به، بل أمر باتباعه وجعله لنا الأسوة الحسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.
ثالثا: أن الله سبحانه وتعالى قد جعل اتباع الرسول من أصول الإيمان التي لا يعد الإيمان كاملا أو تاما إلا بها كما قال سبحانه:
وإذا كان الأمر كذلك فلا مناص من التصديق بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار موثقة، تعلمنا بما وصف الله سبحانه به نفسه، وبما وصفه به رسوله، وإلا لكنا واقعين في دائرة البعد عن الإيمان.
وثمة جانب آخر ينبغي أن نضعه نصب أعيننا، هو: أن هذه النصوص التي جاءت بها هذه الصفات لا تحتمل تأويلا، ومن ثم فهي محكمة غاية الإحكام، ومبينة كما يقول ابن القيم: بأقصى غاية البيان، أن الله موصوف بصفات الكمال: من العلم والقدرة والإرادة والحياة والكلام والسمع والبصر والوجه واليدين والغضب والرضا والفرح والضحك والرحمة والحكمة، وبالأفعال: كالمجيء والإتيان والنزول إلى السماء الدنيا ونحو ذلك (2).
القاعدة الثانية:
أن الله سبحانه وتعالى كما أخبرنا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (3) وهذا ينفي أي شكل أو أية صورة من صور المشابهة بينه وبين خلقه، لا في الذات ولا في الصفات؛ لأنه سبحانه لا يجري عليه ما يجري على البشر، ولا يتعلق به ما يتعلق بعالم الخلق؛ لأنه سبحانه فوق العالم ولا تدركه العقول
(1) سورة النساء الآية 65
(2)
إعلام الموقعين ج / 2 ص294.
(3)
سورة الشورى الآية 11
والأفكار والتصورات والمقاييس البشرية والكونية؛ لأنه خالقها ومبدعها.
ومن ثم فقد كان منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - ومن تبعهم هو فهم النصوص التي قد يظن منها التشابه في ضوء النصوص المحكمة؛ ولهذا فلا يوجد لديهم ما يدعيه بعضهم من تناقض بين النصوص المحكمة والمتشابهة، أو كما يقول ابن القيم:
(وأما طريقة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث كالشافعي والإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والبخاري وإسحاق فعكس هذا الطريق - يقصد أولئك الذين يعارضون المحكم بالمتشابه ويردون المحكم بالمتشابه، أو يستخرجون من المحكم أوصافا متشابهة ليردوا بها المحكم، وهي أنهم يردون المتشابه إلى المحكم، ويأخذون من المحكم ما يفسر لهم المتشابه ويبينه لهم، فتتفق دلالته مع دلالة المحكم، وتوافق النصوص بعضها بعضا، ويصدق بعضها بعضا، فإنها كلها من عند الله، وما كان من عند الله فلا اختلاف فيه ولا تناقض، وإنما الاختلاف والتناقض فيما كان من عند غيره)(1).
ويتفرع على هاتين القاعدتين ما يأتي:
- أن البحث عن تجريد الصفات الإلهية أو فهم كيفياتها ليس عملا مفيدا أو مجديا؛ لأن هذا الفهم - أو بعبارة أخرى هذا المسلك - يعد غير داخل في نطاق القدرة البشرية؛ نظرا لما أشرنا إليه من أن ثمة حدودا قاطعة فاصلة بين الله وبين البشر؛ لأن الله ليس كمثله شيء.
- وكذلك فإن البحث عن مخرج لما ورد من ألفاظ وعبارات موهمة للتشبيه عن طريق التأويل يعد بحثا لا مبرر له إذن، وليس ثمة أي داع يدعو إليه، طالما أننا وثقنا بما جاء في هذه النصوص وآمنا به،
(1) إعلام الموقعين ج / 2 ص294.
وصدقناه، وطالما كان المخبر به هو الله الخالق، وسواء أكان هذا الإخبار عن طريق كلام الله المباشر، الذي تنزل وحيا على الأنبياء أم كان إلهاما، وتعليما بطريقة ما، كما نراه في الأحاديث الصحيحة الموثقة التي جاءت على لسان النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينطق عن الهوى، كما جاء في سنن الدارمي أن السنة كان ينزل بها جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: أخبرنا محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن حسان قال:«كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما كان ينزل عليه بالقرآن (1)» . التأويل لا جدوى منه:
ومما يزيد هذه الفكرة وضوحا أن تلقي مثل هذه الصفات والإخبار بها عن طريق موثق يجعل من العبث البحث عن مخرج لفهم ما تشابه منها؛ لأننا هنا نسأل أنفسنا فنقول: لماذا التأويل؟
فهل نحن مطالبون بأن نصل إلى حقيقة معناها؟.
وهل تحقيق هذا المطلب أو الوصول إلى هذه الغاية يعد أمرا ممكنا؟
وهل ما يوجد في أرجاء الكون المادي وما يمكن أن يتخيل فيه، هو ما يوجد في الملأ الأعلى، أو فيما يتصل بالذات العلية، إذا علمنا علم اليقين أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته؟!
ولعل الإجابة على هذه الأسئلة تبدوا لنا واضحة وضوحا بينا؛ ذلك أننا لسنا مطالبين بأن نكيف هذه الصفات المتشابهة وغير المتشابهة.
(1) سنن الدارمي الجزء الأول، نشر دار إحياء السنة النبوية، ص / 145 (باب: السنة قاضية على الكتاب).
ولسنا قادرين أبدا - مهما أوتينا من قوة ذهنية، أو عقلية، أو خيالية فذة - على أن نصل إلى علم حقيقة هذه الصفات. ولعلنا نفهم هذه الحقيقة، بل نعلمها علم اليقين، من قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} (1).
وواضح أنه ليس ثمة سلطان يمكن أيا من الجن والإنس على أن ينفذوا من أقطار السماوات والأرض وهذا يعني عجز كل من الإنس والجن،
(1) سورة الرحمن الآية 33
عن تخطي آفاق السماوات والأرض، حقيقة، وتخيلا، ومن أجل هذا، فإن من طبيعة العقل البشري أن يقف عاجزا تماما عن تبين حقائق ما في الملأ الأعلى من المخلوقات التي خلقها الله في السماوات، كما أن علمه بها يتوقف على ما يتلقاه من حقائق العلم الإلهي الذي يلقيه سبحانه على من يصطفيه من عباده ليكون رسوله إلى من أمر بإبلاغهم رسالة ربهم من الجن والإنس.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هي الحاجة الحقيقية أو الضرورية إلى الجري وراء تأويل ما ورد من النصوص، وفيه تشابه لفظي في التعبير عن صفات الخالق، وصفات بعض المخلوقات، أو في التعبير عن أسماء الخالق - سبحانه - والتعبير عن أسماء بعض المخلوقين؟!
وهل هناك مجال للوقوع في تصور التشبيه بين الخالق سبحانه - وبين المخلوق؟!
إن تصور وقوع فكرة " التشابه " بين الخالق والمخلوق - بسبب الاستعمال اللغوي - يبدو أمرا بعيد الحدوث لدى أولئك الذين ينظرون إلى هذه القضية من تلك الزاوية التي نظرنا منها بل أنه يبدو أمرا غير منطقي تماما. ذلك أننا هنا نتساءل قائلين:
- أين التشبيه - إذن - إذا كانت ذات البارئ سبحانه ليست مثل ذوات البشر؟!
- وأين التشبيه إذا كانت صفات الله مغايرة تماما لما يصدر عن المخلوقين؟!
- وأين التشبيه إذا كانت قدرة الله العظيم، ومجالاتها، وإمكانياتها، وسلطانها؛ لا حدود لها ولا قيود عليها، على النقيض مما هو حاصل وواقع لدى البشر؟!
وفي هذا الصدد فإنه يكفي أن نشير - على سبيل المثال - إلى ما تدل عليه بعض نصوص العلم الإلهي، وذلك في مجال تصوير بعض جوانب قدرة الله العظيم سبحانه - قال تعالى:{قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} (1) وقال سبحانه:
قال ابن كثير في تفسير آية الكهف (109): (يقول: لو كان البحر مدادا، والشجر كله أقلام، لانكسرت الأقلام، وفني ماء البحر، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء؛ لأن أحدا لا يستطيع أن يقدر قدره،
(1) سورة الكهف الآية 109
(2)
سورة لقمان الآية 27
ولا يثني عليه كما ينبغي، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه. إن ربنا كما يقول، وفوق ما نقول).
فهل مع تأمل هذا الإبلاغ العلمي يمكننا أن نتصور وقوع عاقل في توهم التشابه بين الخالق - سبحانه - وبين المخلوق، بسبب الاستعمال اللغوي؟!
ومما يزيد هذه الفكرة - في تصورنا - وضوحا، أن اللغة التي يفهمنا بها خالقنا ما يتصف به - سبحانه - من صفات، وما يتعلق به - سبحانه - من الأسماء والأفعال لا بد أن تكون لغة بشرية، من شأنها أن تقرب إلينا الدلالات، وتفتح أمامنا آفاق التصورات، دون أن تحدد أو تكيف حقائق ما تدل عليه؛ لأن تحديد أو تكييف هذه الحقائق فضلا عن استحالته كما أشرنا، فإنه لا يتعدى كونه وهما من الأوهام، وخيالا من الخيالات التي لا تليق خلقيا بالإله الخالق جل وعلا.
ومن ناحية أخرى، فإننا نرى أن إعلام الناس بما يتصف به سبحانه، وبما يجوز أن يسمى به، لا ينبغي أن يترك إلى ما تجود به قرائح المفكرين، ولا إلى ما تجيزه عقول ثقاة الباحثين، ذلك أن هؤلاء وهؤلاء قد يقعون في تصورات وخيالات، تجيزها عقولهم، وتستحسنها أذواقهم، وتتقبلها معاييرهم، بينما هي في الواقع مناقضة لحقيقة ما يتعلق به سبحانه، بل لا تليق بذاته سبحانه وتعالى، وحينئذ يكون قبولها، والتلفظ بها عن إيمان، وتصديق بها يعد كفرا، ومخالفة صريحة لأهم ركائز أو قواعد العقيدة الدينية الصحيحة.
صفحة فارغة
عرض لآراء بعض علماء المسلمين في فهم صفات الله:
1 -
ابن الوزير (775 - 840 هـ):
ولذلك فقد كانت تلك الحقيقة التي أشرنا إليها، واضحة لدى علماء المسلمين الملتزمين بمنهج القرآن والسنة، يقول " ابن الوزير اليمني " (775 - 840 هـ):
(وأيضا فقد ثبت أن الرحمن مختص بالله تعالى وحده، ويحرم إطلاقه على غيره، ولو كانت الرحمة له مجازا، ولغيره حقيقة، كان العكس أوجب وأولى. وما المانع للمسلم من إثباتها صفة حمد ومدح وثناء، كما علمنا ربنا مع نفي صفات النقص المتعلقة برحمة المخلوقين عنه تعالى، كما أثبتنا له اسم " الحي، العليم، الخبير، المريد " مع نفي نقائص المخلوقين في حياتهم المستمرة؛ لجواز التألم بأنواع الآلام وكذلك ينزه سبحانه عما في عملهم الناقص بدخول الكسب والنظر في مباديه، والاستدلال والاضطرار في منتهاه الذي يستلزم الجسمية، والبنية المخصوصة، والحدوث، ويعرض له التغير والنسيان، والخطأ، والشغل ببعض المعلومات عن بعض).
والأمر كذلك فيما يتعلق بإرادته، بل في (كل صفة يوصف بها الرب سبحانه، ويوصف بها العبد، وأن الرب يوصف بها على أتم الوصف مجردة عن جميع النقائص، والعبد يوصف بها محفوظة بالنقص. وبهذا فسر أهل السنة نفي التشبيه ولم يفسروه بنفي الصفات كما صنعت الباطنية الملاحدة).
ومن هذا النص السابق ندرك بوضوح أن فكرة المشابهة بين صفات الله، وصفات المخلوقين فكرة مستبعدة تماما لدى أي إنسان مميز عاقل، فضلا عن أن يكون من المفكرين، أو الباحثين، ولذلك فإن " ابن الوزير اليمني " هنا يشير إلى أن النصوص قد تضافرت على وصف الله سبحانه بعديد من الصفات، وعلى تسميته بعديد من الأسماء. ومثال ذلك، أنه سبحانه قد وصف نفسه " بالرحمة " وتسمى " بالرحمن الرحيم " في عديد من الآيات القرآنية، وفي العديد من الأحاديث النبوية الصحيحة. أو كما يقول " ابن الوزير ":
" وعظم الله هذا الاسم الشريف، وبالغ في تعظيمه، حيث قال:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (1).
وقال حاكيا عن خيار عباده:
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} (2).
وجاءت الصوادع القرآنية مادحة الله تعالى بأعظم صيغ المبالغات في هذه الصفة الشريفة، الحميدة، بأن الله عز وجل، " أرحم الراحمين " و" خير الراحمين " وكرر هذه المبالغة في مواضع من كتابه الكريم ".
ثم يقول: " وكرر الله التمدح بالرحمة مرارا جمة أكثر من خمسمائة مرة من كتابه الكريم، منها باسمه " الرحمن " أكثر من مائة وستين مرة. وباسمه" الرحيم" أكثر من مائتي مرة. وجمعها للتأكيد مائة وست عشرة مرة، وأكد " الرحيم " فجمعه مرارا مع " التواب "، ومرارا مع " الرؤوف ". والرأفة أشد الرحمة، ومرارا مع " الغفور " وهي أكثر وأخبر أنه كتب على نفسه الرحمة مرتين. وأنه " لا عاصم من أمره إلا من رحم " وأن من لم يرحمه يكن من الخاسرين ". إلى غير ذلك من صيغ المبالغات القاضية بأن
(1) سورة الإسراء الآية 110
(2)
سورة الملك الآية 29
ذلك من أحب الثناء والممادح، والمحامد إليه عز وجل " فالله جل جلاله، يتصف " بالرحمة " ويختص باسم " الرحمن "، ويسمى " بالرحيم ". وكذلك فإننا نصف بعض بني البشر بصفة " الرحمة " كما نقول عن إنسان ما بأنه " رحيم " فهل هذا يعني أن ثمة تشابها بين الخالق والمخلوق؛ لأننا وصفنا الإنسان " بالرحمة " وقلنا عنه - أحيانا - إنه " رحيم "؟!
إن من الأمور البدهية أن تكون " الرحمة الإلهية " مخالفة تمام المخالفة للرحمة البشرية من كل الوجوه، ونؤكد على قولنا من كل الوجوه، فرحمة الله لا تحد، ولا تكيف، ولا يدرك حدودها إلخ على العكس من رحمة بني البشر.
وما قلناه في الرحمة، يقال كذلك في كل الصفات والأسماء التي وصف الله بها - سبحانه - نفسه، أو التي تسمى بها. وقد أقر بهذه الحقيقة كذلك بعض الفلاسفة، كما أشار إلى ذلك ابن رشد " - رغم ما في آرائه الأخرى من مآخذ - وذلك أنه في معرض إثبات الصفات، التي أثبتها لله سبحانه، يشير إلى قاعدة عامة في هذا الصدد، وهي أن صفات الله ينبغي أن تكون مغايرة لما يوصف به الحوادث. ففي صفة " العلم " - مثلا - وهي من أولى الصفات التي عرض لها، يرى أنه (ينبغي أن ينسب إليه - سبحانه - علم أسمى من علم الإنسان، ومن نوع آخر مخالف له كل المخالفة. فعلم الإنسان ليس إلا علما نسبيا؛ لأنه يكتسب على مراحل. فيبدأ بالإحساسات، ثم ينتقل إلى الإدراكات الحسية، ومنها إلى التصور والخيال، ومن الصور الخيالية الجزئية تنتزع أو تجرد المعاني الكلية.
وقد تستخدم هذه المعاني الكلية بدورها في استنباط بعض المعاني الجزئية، غير أنها تؤدي مع ذلك إلى نتائج ناقصة أو خاطئة) " فابن رشد "
(520 - 595هـ) يعترف بقصور العلم الإنساني، وبأنه نسبي، وبأن نتائجه يلحقها النقص والخطأ. ويعلل أستاذنا المرحوم الدكتور " محمود قاسم " هذه الفكرة أو يوضحها فيقول:" وليست هذه القضية الأخيرة في حاجة إلى برهان؛ لأننا نرى أن العلم يتقدم مع الزمن، وأن بعض الآراء التي كان يظن أنها صادقة، قد بدت خاطئة، مناقضة لما يقضي به العقل الذي شب عن الطوق ".
2 -
إسحاق بن إبراهيم: ومن الأمثلة التي تؤيد ما فهمناه من موقف السلف الواضح في إثباتهم لجميع ما ورد من نصوص صحيحة، فيها نسبة صفة إلى الله، أو نسبة اسم إليه سبحانه، ما ذكره " حرب بن إسماعيل " حيث قال: " سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: ليس في النزول وصف. قال: وقال إسحاق: لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين؛ لقوله تعالى: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} (1).
ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله، بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين، وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفا بالنزول كل ليلة - إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء، ولا يسأل كيف نزوله؟ لأن الخالق يصنع ما شاء كيف شاء " ومعنى هذا: أن دلالة أو مفهوم كلمة " النزول " التي جاءت في الحديث الصحيح لا يمكن، ولا يجوز أن ننظر إليها من خلال حركات، أو مدلول هذه الكلمة في العالم الإنساني، أو من خلال التجارب البشرية.
(1) سورة الأنبياء الآية 23
فالله سبحانه - إذا - ينزل إلى سماء الدنيا، كل ليلة، إذا مضى ثلثها، هذه حقيقة، ولكن هل ثمة حدود لسماء الدنيا؟ وهل يستطيع علماء الفلك - بما أوتوا من علم، وبما توفر لديهم من أجهزة متقدمة وفائقة الحساسية، هل يستطيعون أن يكشفوا لنا عن حدود كل سماء من السماوات السبع التي ذكرها القرآن الكريم، خبرا علميا كونيا صادرا عن الله الخالق؟ وهل يمكن تحديد أو تكييف النزول الإلهي؟ وهل قوانين هذا النزول الإلهي هي بعينها قوانين ومعايير الحركة، أو الكيفية التي تحدث من قبل البشر أو غيرهم من الحوادث؟ وإذا عجزنا عن التكييف، وإذا عجزنا عجزا تاما - كذلك - حتى عن مطلق التخييل، أو التصور للهيئة أو للكيفية التي يكون عليها النزول الإلهي، فهل يكون هذا العجز الطبيعي، ذريعة إلى إنكار ما ثبت في الإخبار العلمي عن الخالق؟ وهل يكون في إثبات هذه الصفة، أو هذا الفعل " الإلهي شيء من التمثيل أو من التشبيه لله تعالى عن ذلك؟! إنني أعتقد أن ما قاله:" إسحاق بن إبراهيم " في النص السابق كان ذا دلالة بالغة، تكشف عن دوافع أو لنقل ركائز، أو أسس موقف أهل السنة من قضية الصفات، وكيف أنهم أثبتوا ما وردت به النصوص، كما ذكرنا؛ ذلك أنهم كانوا يعلمون علم اليقين - كما قال إسحاق -: أنه (لا يجوز الخوض في أمر الله، كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين، ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وفعاله، بفهم ما يجوز التفكر والنظر فيه من أمر المخلوقين ".
وهذا الموقف يتطلب منا أن نتلقى بالقبول، والرضا، واليقين، والمهابة، والإجلال، كل الأخبار العلمية، بما يتصف به سبحانه من صفات، وما يتسمى به جل جلاله من أسماء، طالما أنها جاءت عن طريق المصدرين الموثقين، وهما الكتاب والسنة. فليصف الله سبحانه نفسه بما شاء، وليسم نفسه - سبحانه - بما شاء، وعلينا أن نؤمن بهذا كله إيمانا صادقا، بل علينا أن نعلمه علم اليقين، في حدود قدراتنا،
وإمكانياتنا، ولكن دون أن نقوم بما يمكن أن نسميه عملية " النقل " أو " الإسقاط " من قبلنا، بمعنى أننا نجعل من " الله " سبحانه وتعالى عن ذلك، كائنا ماديا أو بشريا، فنفهم صفاته، وأسماءه في ضوء المفاهيم أو الدلالات للأسماء أو الصفات البشرية، وبالتالي فإننا ننفي ما ننفيه منها تحت ستار التنزيه.
فإذا كان الله سبحانه، منزها أساسا، عن مشابهة المخلوقين، وإذا كان قد وصف نفسه ببعض الصفات، أو سمى نفسه ببعض الأسماء التي تتشابه من حيث " اللفظ اللغوي " مع ما يحدث من الحوادث، فهل نسارع إلى نفي هذه الصفات أو الأسماء، حتى لا نقع في التشبيه، أو حتى لا نخالف مفهوم التوحيد؟!
إننا نفهم أن التنزيه قائم فعلا - حتى مع إثبات هذه الصفات، وتلك الأسماء، التي يظن فيها التشابه، ذلك أن ما ينسب إلى الله مغاير في كيفيته، ومخالف لما ينسب إلى البشر؛ لأنه أخبرنا بذلك. وكما أشرنا إليه من قبل. ومن أجل هذا كان " إسحاق بن راهويه " على درجة من الحذق والفهم في نقاشه لبعض قواد الأمير عبد الله بن طاهر " (ت: 230 هـ) حول هذه القضية. حيث (سئل عن حديث النزول. صحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال كيف ينزل؟ قال له إسحاق: أثبته حتى أصف لك النزول. فقال له الرجل: أثبته. قال له إسحاق: قال الله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} (1)" فقال الأمير عبد الله بن طاهر " يا أبا يعقوب! هذا يوم القيامة. فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة، من يمنعه اليوم؟ ".
(1) سورة الفجر الآية 22