المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أهل النزهة والأنس. وكان في جوارها من سابق العهد أي قبل - مجلة لغة العرب العراقية - جـ ١

[أنستاس الكرملي]

فهرس الكتاب

- ‌العدد 1

- ‌التقريظ والمشارفة والانتقاد

- ‌أسفنا

- ‌شكرنا

- ‌فضل أهل العراق

- ‌بغية الأنام في لغة دار السلام

- ‌منافع تدوين اللغات واللغيات واللثغات

- ‌نجد

- ‌التأسل والتأسن

- ‌المتكهفة والمكتهفة

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌(ملخص عن الرياض 73)

- ‌ينبوع الشفاء

-

- ‌العدد 2

- ‌المنتفق

- ‌الكلدانيون

- ‌كتاب الفرق بين الصالح وغير الصالح

- ‌حكاية انوشروان والصبية الحكيمة

- ‌أخلاق أهل نجد

- ‌نظرة عامة في لغة بغداد العامية

- ‌ينبوع الشفاء

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 3

- ‌آثار سامراء الخالية وسامراء الحالية

- ‌لغة العرب

- ‌يقظة العلم في ديار العراق

- ‌مؤسس الصهيونية

- ‌سؤال إلى مجلة العلم

- ‌سفرة إلى كربلاء والحلة ونواحيها

- ‌باب التقريط

- ‌باب المشارفة

- ‌تاريخ وقائع العراق وما جاوره

- ‌العدد 4

- ‌البريم أو عبادان الحديثة

- ‌كتاب الصبوح والغبوق

- ‌فصل في دير القائم الأقصى

- ‌ماذا يرى اليوم في سامراء

- ‌(للبحث صلة)

- ‌إفادة لمجلتي المشرق والعلم

- ‌أول مجلة في العراق

- ‌كتاب طبقات الأمم

- ‌هل الحي قرية أم مدينة

- ‌نظرة عامة في لغة بغداد العامية

- ‌معنى انكورلي

- ‌سفرة إلى كربلاء والحلة ونواحيهما

- ‌العدد 5

- ‌وصف أطلال سامراء

- ‌البعبع والوعوع والضبغطري

- ‌المباني الحديثة في البريم

- ‌سؤال إلى العلماء ولا سيما المتصوفة منهم

- ‌كتاب في لغة الحديث

- ‌نقد طبع كتاب طبقات الأمم

- ‌اقتراح على علماء الشرق وأدبائه

- ‌مذنب بروكس

- ‌الفانوس والمنوار

- ‌باب المشارفة

- ‌ البيان

- ‌تحريم نقل الجنائز

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 6

- ‌وصف القطار

- ‌بعض الأعراب غير المنسوبة

- ‌لغة العرب

- ‌حول المنتفق

- ‌بلاد المنتفق على الغراف

- ‌ثابت الدين الألوسي

- ‌هو الموت

- ‌نقد طبع كتاب طبقات الأمم

- ‌(تلو)

- ‌الشق والشقة والشقيقة

- ‌أتجوز الكتابة باللغة العامية

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 7

- ‌هيت ومعادنها

- ‌4 - ذكرها في التاريخ القديم

- ‌المنحوت العامي واللفظ الدخيل في لغة بغداد

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌مريم

- ‌العدد 8

- ‌الحفر والتنقيب في أطلال بابل

- ‌إعراب الشرارات

- ‌الكسوف والخسوف في سنة 1916

- ‌نهر فسقس

- ‌أصل لفظة الرزق

- ‌التنهس

- ‌خبايا الزوايا في الرجال من البقايا

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌كيش وهس اليوم تل الاحيمر

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌المعاجم العامية في اللغة العربية

- ‌العدد 9

- ‌السيد صالح القزويني

- ‌بقايا قصور الخلفاء في مدينة سامراء

- ‌غنى هيت وذكر معادنها

- ‌هل كان أعشى قيس نصرانياً

- ‌كأني محاربه

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌القسطاس

- ‌الحياة

- ‌نفكر

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌الأمير أحمد بك السعود

- ‌الأمراض في البلدة

- ‌أشغال السكة الحديدية البغدادية

- ‌إعراب العبارة

- ‌مدارس في البحرين

- ‌تبرع في سبيل كلية الكويت

- ‌التنقيبات في الاحيمر

- ‌العدد 10

- ‌بلد روز

- ‌أنواع الأرز المعروفة في العراق

- ‌الأمثال العامية في ديار العراق

- ‌مختارات من شعر السيد صالح القزويني

- ‌اسم بغداد

- ‌نقد كتاب تاريخ آداب اللغة العربية

- ‌الخستاوي والزهدي

- ‌الجكير

- ‌بغية الأنام في لغة دار الإسلام

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 11

- ‌نظر

- ‌إلى حضرات المشتركين الكرام

- ‌نقد كتاب تاريخ آداب اللغة العربية

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌العدد 12

- ‌وضع اللغات وخضوعها للطبيعة

- ‌أمثال عوام العراق

- ‌مغاصات اللؤلؤ

- ‌باب المشارفة والانتقاد

- ‌تاريخ وقائع الشهر في العراق وما جاوره

- ‌مفردات عوام العراق

الفصل: أهل النزهة والأنس. وكان في جوارها من سابق العهد أي قبل

أهل النزهة والأنس.

وكان في جوارها من سابق العهد أي قبل الإسلام عدة أديرة لنصارى كلها شهيرة، منها:(قلاية العمر أو عمر نصر)، وكان من متنزهات آل المنذر بالحيرة، (ودير مار سرجيس)، (ودير العذارى)، ودير السوسي، وغيرها.

أما اسمها فقد اختلفت الروايات فيه وفي معانيها. وكلها لا نصيب لها من الحقيقة، واصدق لغة رويت في اسمها هو سامراء (بفتح السين بعدها ألف يليها ميم مفتوحة وبجانبها راء مثقلة مفتوحة ثم ألف ممدودة وفي الآخر همزة). وأما قولهم أن الرواية الصحيحة هي سر من رأى أو سام راء فهذه وغيرها من مخترعات المخيلة، ومن التأويل التي أنتجها قرائح بعضهم إجابة للعقل الذي يحب الوقوف على أسرار الكون والاكتفاء بما يرضيه. ولو فكروا قليلاً لأقروا أن تأويلهم بعيد لقدم ورود الاسم، ولعله من وضع البابليين أو الآشوريين أو الكلدانيين أو غيرهم من الأقوام الخالية. فكيف يطلب له معنىً في ال‌

‌لغة العرب

ية.

وقد ذهب مدير هذه المجلة إلى مشاهدة ما يجري في هذه المدينة من التنقيب والحفر عن آثارها القديمة فكتب النبذة الآتية.

وقد اعتمد في اغلب ما أثبته هنا على كتاب (سامراء) للدكتور هرتسفلد المطبوع في برلين سنة 1907 وعلى ما سمعه من المعمرين وشاهده هو بنفسه:

(لغة العرب)

ص: 82

نظرة عامة في سامراء وفي التنقيب الجاري فيها.

منذ غرة هذه السنة أي 1911 م أخذت بعثة ألمانية بالشروع تنقيبا عن آثار سامراء. وقد نال الامتيازبالحفر حضرة العلامة المشهور الأستاذ فريدريك صارة البرليني الرحالة، الذي يعرفه أهل المشرق والغرب برحله المتعددة إلى بلاد فارس وتركستان والأناضول

(بلاد الروم) وبيت النهريين (الجزيرة) وعهد إلى اللوذعي الجهبذ الدكتور هرتسفلد من أساتذة جامعة برلين للأخذ بهذه الأشغال المهمة. وأهل بغداد يعرفون الأستاذ المذكور حق المعرفة. لاسيما الذين واجهوه وشافهوه. إذ عهدوا فيه سعة العلم والمعرفة بكل ما يتعلق بالشرق وآثاره. وبالأخص بكل ما يتعلق بالمسلمين وسابق حضارتهم. وهاهو الآن يواصل التنقيب والتنقير منذ أول قدومه حتى هذا اليوم بدون ملل أو ضجر أو قطع في الأشغال.

وسامراء جليلة القدر والشان لأنك تجد بين أسوارها مشهد الإمامين العاشر والحادي عشر (علي الهادي وحسن العسكري) وسرداب غيبة صاحب الزمان وهي من المشاهد العزيزة على أبناء الشيعة. وإلا لما كان لهذه المدينة منزلة وقدر عند أهل العصر.

أما موقع هذه البليدة فهو في سهل تموج فيه الاخربة الشواخص موج المياه في البحور الزواخر. وهي كلها من بقايا ذلك العمران الشهير الزاهر النضر المثبت ذكره في تاريخ صدر الإسلام. وتمتد هذه الأطلال على طول ضفتي دجلة الناشزتين وعلى مسافة 30 كيلو متراً وفي قراب

ص: 83

كيلو مترين عرضاً. ومما يشاهد هناك أيضاً إطلال قصور ذات بال ممتدة على الضفة اليمنى من دجلة.

ومنذ بضع سنوات أخذت سامراء بان تستوقف أطيار الأفكار على جنباتها. ولا سيما أفكار أهل العلم والبحث من مسافرين ومؤرخين ومنقبين. وكان في مقدمتهم الأستاذ الدكتور هرتسفلد. فانه هو ومن جاء بعده زاروا هذه الآثار الطامسة، والأطلال الدارسة، والمبثوثة بث الجراد على أديم الأرض، ووصفوها قليلاً أو كثيراً. كل بموجب علمه ونظره.

على أن الأنقاض ليست بشيء يذكر بجانب ما تحت تلك التلول المتراكمة من بقايا الأبنية وهي تغشى وجه المدينة القديمة كلها. حتى انك تخال إنها أمواج بحر هائج صادقته عوامل الجمود فجأة فوقفت ماثلة لا حراك لها ولا هبوط على نفسها.

كيف لا ويرى في سامراء آثار جليلة وقد كانت في سابق الزمن مقاماً للعباسيين خلفاء هارون الرشيد. وبقيت نصف قرن عرشا لهم وذلك من سنة 221 - 262هـ (836 - 876 م) بل ومرجع دولة الخلافة العظمى، وان شئت فقل بدون غلو ومبالغته (سرة العالم المتمدن) في ذلك الأوان، ولذا تراكمت فيها كنوز لا يفي تعدادها اللسان، وثروة تخالها من نتاج عالم الخيال. لا من نتاج عالم المثال. وبعبارة أخرى: كانت سامراء تحقيق حكايات

ألف ليلة وليلة.

التي تخال أنها من أوضاع الوهم والتصور الفارغ.

ص: 84

على أن تاريخ سامراء ليس من الأمور المجهولة. فان ما أثبته مؤرخو العرب ووصافوا بلدانهم المعاصرون لزهوها وغضارتها كالطبري والبلاذري واليعقوبي وغيرهم لا يبقى ريباً في صدر المستريب. لا بل قد كتب اليعقوبي فصلاً نفيساً مفيداً للمسافر فائدة تشبه فائدة كتاب (بيدكر) اليوم ليطلع على ما يعثر عليه في تطوافه في سر من رأى وقد عقد هذا الفصل في مؤلفه الجليل (كتاب البلدان).

أما الأسباب التي حملت المعتصم بالله بن هارون الرشيد على بناء هذه المدينة الطائرة الشهرة فكانت سياسية ودينية معاً. فان الخليفة المذكور كان ينتصر للمعتزلة وأي انتصار حتى أن مسلمي بغداد لم يعودوا ينظرون إليه بالعين التي كانوا يرمقونه بها سابقاً. هذا فضلاً عن انه كان أول من انشأ جيشاً من الترك يتقوم من موالٍ (مماليك) اشتراهم النخاسون من أسواق تركستان وتخوم بلاد الصين حتى أوصل عددهم إلى 70000 رجل. وذلك بعد أن خلف أخاه المأمون على عرش العباسين في حاضرتهم.

على أن وجود مثل هذا الجيش في موطن لا يخلو من خطر ومن مناوشات بين أفراده وبين أهل البلدة. ولذا كانت تكثر الأحداث في الزوراء حتى تجري الدماء بين القبيلين. وكانت بغداد تمتد يومئذ من الكاظمية إلى مقبرة الشيخ معروف الكرخي. فلما رأى الخليفة أن لا سلام في دار السلام عقد نيته على بناء مدينة في الموضع الذي ترى اليوم سامراء. وفي هذه الحاضرة اخذ ظل الدولة العباسية يتقلص

ص: 85

أي منذ عهد هذا الخليفة ومن جاء بعده وسببه تكاثر الموالي وتداخلهم في شؤون الدولة وشؤون قادة أعنتها الأمراء العباسيين.

وبعد أن مضى أربعون سنة على أعمال هؤلاء الموالي هي أعمال كلها منكرات خلدتها دواوين التاريخ وبطون الأوراق. أفضى بهم الأمر إلى إنشاء رتبة (منصب) أمير الأمراء وكان عبارة عن سيد مطلق اليد في ما يأتيه من الأوامر والزواجر. وقد وقع ذلك عند أفول شمس هذه الدولة في مدة الأربعين سنة. وهذا أمير الأمراء هو الذي انفق مع الموالي على إكراه المعتمد على الرجوع إلى بغداد وقضاء ثمالة أيامه في قصره الذي أصبح له بمنزلة سجن ذهبي الظواهر.

وعلى اثر هذه الحوادث اخذ سكان سر من رأى بمزايلتها، الجماعة بعد الجماعة، منتجعين مرابع بغداد وجنباتها الخضرة النضرة، ولم تمض أيام كثيرة إلا وهدمت سامرا بالسرعة التي فنشئت بها. وكل من جاء بعد هذا العهد من كتبه العرب كابن حوقل وابن جبير وياقوت الحموي وابن بطوطة. لم يجدوا لوصفها إلا ما يفتت الأكباد ويلين الجماد إذ لم يعثروا فيها إلا على أنقاض وأطلال لمدينة كانت أزهى مدن الدنيا وأبدعها وأعجبها وأتقنها بناء وهندسة.

وأذ لم تخرب هذه المدينة لا بالحرب ولا بالحرق ولا بالاكتساح ولا بزلزلة الأرض ولا بمرض من الأمراض الوافدة الجارفة بل بمهاجرة أصحابها لها، مهاجرة متصلة الأوائل بالأواخر، فلا يأمل الناقب العثور على الكنوز المذكورة في كتاب ألف ليلة وليلة لان سكانها اخذوا معهم

ص: 86

عند انحدارهم إلى بغداد على دجلة كل ما يحمل وينقل ويفيدهم ولو فائدة زهيدة. حتى انهم اخذوا معهم مرادي السقوف وحراديها وأبواب الدور. وكل ما ضاهى هذه الأمور. على أن العلماء من المنقبين، أهل البحث والتحقيق، لا يطلبون اليوم الركائز والدفائن. ولا الإغلاق ونفائس المعادن. إنما همهم تنوير الأفكار في ما يتعلق بأمر تاريخ عمران ابن آدم في سابق العهد. فالعراق العربي هو من البلاد التي يحق للعلماء أن يتباهوا ويتفاخروا بأرضه، لما فيه من الآثار العادية، لكل عصر من العصور الخالية، ومع ذلك لا ترى إلا أناسا يعدون على الأصابع عرفوا مكانه هذه الديار الرفيعة القدر، وأنزلوها حق منزلتها.

وعلى كل حال فان التنقيب الحديث الطريقة العلمية يرى لأول مرة في سامراء، وهي الطريقة التي اتبعت في البحث عن آثار الجزيرة (بين النهرين) وبلاد الروم (بر الأناضول) وبلاد اليونان منذ 70 سنة. وذلك نشداً لضالة العمران الإسلامي في الديار المذكورة، ومن ثم فالتنقيب الجاري اليوم في سامراء هو جليل القدر والخطر ووحيد المثال، لان الدكتور العلامة هرتسفلد يتوخى الطريقة القربى للبلوغ إلى تحقيق ما في الأمنية.

هذا فضلا عن أن البحث عن حضارة الإسلام اخذ مأخذاً عجيباً في ديار الإفرنج منذ عشرين عاماً، لاسيما بعدما أثبته وقرره علماء أذكياء نجباء لا يشق لهم غبار، يعدون من

الطبقة الأولى في التدقيق والتحقيق،

ص: 87

مثل تيودور نولدكه في استراسبورغ. وانياز غولدزهير في بودابست وككبار المستشرقين الهولنديين مثل ده غوية واسنوك هوغرنية وغيرهما الذين غاصوا على دور الحقائق في بحار المشكلات والمعضلات المتعلقة بالإسلام، على وجه لم يسبقهم إليه سابق.

ومما ساعد أيضاً في توسيع نطاق العلوم العربية (ديوان الرقم العربية) للدكتور مكس ون برحم وكتاب تاريخ الإسلام للبرنس ليونه كائتاني وكتاب الموسوعات الإسلامية الذي يولف بمراقبة الأستاذ هوتسما في ليدن وبنظارة مجامع العلم الدولية الأوربية ففي هذا الكتاب بل البحر المحيط تجد جميع المباحث المتعلقة بديار الإسلام كلها قاطبة وذلك من بلاد الأندلس إلى الصين، مع ذكر جميع الألفاظ التي وردت على السنة المسلمين، أوعنت على بالهم، أو خطرت في خيالهم، أو أبرزته مخيلتهم وقريحتهم، أو اتصلت إليه حضارتهم الخاصة بهم. أما الكتبة الذين يشتركون في إنشاء هذا الديوان الواسع المباحث والأكناف فهم عبارة عن جيش لهام، أسلحته الأقلام، وميدانه مطالب العلماء الأعلام، وقد جمعت أبطاله الصناديد المغاوير، من جميع الديار والأصقاع، وهم يدأبون

ص: 88

في التحقيق والتدقيق بدون أن يأخذهم ملل أو سأم.

ومما يحق لنا أن ندونه بأحرف من ذهب هو أننا وجدنا بعض الأخوان المسلمين من أبناء هذه اللغة الشريفة يملئون الإفرنج في سعيهم هذا كعلماء تونس ومصر والهند. وأما في ديار دولة آل عثمان فلا نرى فيهم ممن اهتم لهذا المشروع العميم الفائدة، وعضده بما في طاقته ووسعه إلا الدكتور خليل ادهم بك الرئيس العام لدور التحف الشاهانية.

ومما يجب أن يعرفه مطالع هذه السطور، أن الدكتور الأستاذ صارة يهتم منذ مدة مديدة بتاريخ الصناعة الإسلامية الفنية، ولقد ضرب في الأرض متجولا ليبحث في أسفاره عما يحقق أمنيته في هذه الغاية فجمع مجموعة كلها غرر بل دور من نتائج الصناعة الإسلامية، وهي اليوم في بابها يتيمة الدهر، وخريدة العصر، لا يضاهيها أو يدانيها عاق مهما كان نفسياً، والخلاصة أن الكلام يطول لذكر كل ما ينشر ويبرز من المطبوعات لترقية هذا الفرع من علوم المسلمين وعمرانهم وتمدنهم فرع، هو كما تراه، في المنزلة القصوى من القدر والخطر.

ولتحقيق هذه الغاية على احسن وجه، وأدق أسلوب، بعث الدكتور صارة المذكور، دكتورنا العلامة هرتسفلد للبحث عن آثار سامراء والكشف عن دفائنها ووصفها.

فقد ثبت لديك بعد هذا كله أن لا غاية لهؤلاء العلماء الإعلام إلا الهيام بالصناعة الإسلامية الفنية ولا سيما الهيام بفن الأبنية، والأسلوب المتخذة لتزيينه وتزويقه وتحسينه، أساليب متحدة به اتحاداً لا محيد عنه.

ص: 89

ولقد كانت الصنائع الفنية الإسلامية في القرن الثالث للهجرة، تكون مجهولة إلى عهدنا. ولهذا أصبحت نتائج التنقيبات في الغابة القصوى من الخطر والشان العلمي، وأول ما شرع به في سامراء كان رفع كل ما يغشى أخربة الجامع الأعظم الذي بناه المتوكل على الله، والمنارة الغريبة البناء الموجودة فيه، وهي المنارة المعروفة باسم (الملوية) وقد بنيت على غرار برج بابل أو الزقورة أو الذكورة البابلية.

وبعد أن ظهر للعيان صحن الجامع بانت كل البيان البناية الداخلية وعمد الرخام وما يزينه في الداخل من نقوش مطبوعة وتصاوير ملونة وفسيفساء. ولقد دقق الدكتور هرتسفلد نظره في بعض دور الخاصة المجاورة للمدينة الحديثة فإذا هو أمام مدينة مدفونة في الشرق دفن بمبائي في الغرب. ووجد غرفاً وحجراً وردهاتٍ قد زينت جدرانها وغشيت حيطانها بتصاوير شرقية منقوشة نقشاً بارزاً وغائراً في الجص وهي في غاية البهاء والجمال، وكلها محفوظة احسن الحفظ، كان البناة قد غادروها قبل أن يدخلها أهل البحث. هذا ولا ترى النقش على الجص فقط بل انك تشاهد تصاوير ملونة في مواضع الجص الفارغة من النقوش، وهناك أيضاً تصاوير مختلفة الألوان بل وصور أناس كلها ملونة على أبدع مثال وهو أمر في غاية الندرة في تاريخ الصناعة الإسلامية أن فنية وان بنائية.

وخلاصة القول انك تجد في سامراء كنوز فن ودفائن صناعة لم تسمع يمثلها من أفواه الناس والمسافرين، كما لم تشاهد العينان

ص: 90

نظيرها.

ولقد سبر الدكتور بعض السير قصراً واقعاً على عدوة دجلة اليمنى يعرف (بقصر العاشق) ورأى انه يتابع السير بعد ذلك.

أما الآن فانه يجري التنقيب في قصر مبنى قد افترش من الأرض فسحة عظيمة تناهز كيلو مترين مربعين ونصفا. وهو واقع في جنوبي سامراء واسمه (المنقور) وهو ولاشك

القصر المعروف سابقاً باسم (بلكوارا) الذي بناه وسكنه المعتز بالله بن المتوكل على الله وذلك قبل ارتقائه عرش الخلافة.

إلى هنا نوقف جواد القلم عن الجري في ميدان التنقيب ونلفت عنانه إلى ما يجب أن تحوم عليه أطيار الأفكار والأنظار وهو: انه ليس من ينكر اليوم المنافع الجزيلة التي انتفع منها الناس اثر التنقيبات التي أجراها أهل البحث، وممن انتفع منها بوجه أخص محبو تاريخ بلادنا ومجد السلف أجدادنا، مجد من شانه أن يفاخر به أبناء هذا العصر ليندفعوا إلى التشبه واللحاق بهم، ويعيدوا سابق عز هذه البلاد، ويستعيدوا ما سلب منهم أو يسلب ليحافظوا على ما لديهم من وسائط الغنى والثراء والنماء في مستقبل الأيام.

وفي هذا الصدد لا يمكننا السكوت عن إبراز ما يكنه صدرنا من الأسف واللهف. فان هذه التحف التي أزيح عنها الستار، ذاك الستار الذي سدله عليها الزمان مع بواثقه، والجو مع تقلباته، إذا بقيت مكشوفة الوجه والظاهر، فإنها تكون عرضة للتلف

ص: 91

العاجل. ومما يساعد على ذلك قانون الآثار والعاديات نفسه ذاك القانون الذي يمنع كل المنع نقل الآثار القديمة بأي وجهٍ كان. ومع ذلك فان المتاجرين بها يتخذون أدق الوسائل وأوفاها بالمطلوب لتحقيق أمانيهم، أي انهم يتوصلون إلى مشترى ما يريدون بدون أن يقعوا في شرك التبعة المشؤومة، لأنهم يتخذون من الظواهر ما ينيلهم مرغوبهم وينجيهم من البلايا التي يقع في مهاويها من لا يحسن مزاولة هذه التجارة وإذا أنعمت النظر في ما يباع ويشتري في أسواق باريس من الآثار العادية تجد ثلاثة أرباعها قادمة من البلاد العثمانية، وقد بعث بها إلى فرنسة خفيةً وتهريباً، فتباع هناك بأثمان باهضة ينتفع بها من يشتريها فتخسرها الدولة خسارة لا مقابل لها، بل ويخسرها أصحاب تلك الديار التي كانت فيها، لا بل ويفقد منافعها أصحاب دور التحف الإفرنجية والعثمانية كما يفقد منافعها من قد الهج بجمعها ليستفيد منها فائدة علمية، ومن يفقدها العلم وأصحابه كل الفقد لأنها تقع بيد جهلة لا يعرفون قدرها. أذلاهم لهم إلا هم جمع المال بأي واسطة كانت وعلى أي وجه يكون، أريد بهم تجار الآثار العادية في باريس.

فمما تقدم ذكره وتقريره ترى النتائج المشؤومة التي تتولد من قانون حصر الآثار المثبت في قوانيين الدولة، وكيف انه مضر بالعلم. فإذا لابد من اتخاذ ما يبعد هذا الخطر ويفيد

الدولة والأمة ولهذا اعرض هذا الفكر:

ص: 92

إن قانون حصر الآثار القديمة لا يتكفل لنا أبداً بحفظها في محلها ولا في محل آخر خاص بها. وهي طامة كبرى لا يعرف عقباها الوخيمة إلا من يقدر التحف حق قدرها. وإننا لا نظن مثلاً أن المتحفة الشاهانية تعنى باتخاذ الوسائط اللازمة والناس المهرة لنزع ما على جدران وحيطان سامراء من المزينات والمزوقات والمحسنات البنائية وجعلها في صناديق ونقلها إلى الآستانة، لأنه قبل أن يخطر لها هذا الخاطر تسبقهم الأمطار والأرياح وسائر عوامل الجو إلى إيقاع الأضرار بهذه الكنوز الصناعية فضلاً عن وصول أيدي تجار العاديات إليها فتبعث بها ولا تبقى ولا تذر، وتنزع ما هنالك من عجب التصاوير والنقوش حتى لا تبقى لها أدنى اثر.

نعم قد عني محبو الآثار في ديار مصر بحفظ ما يجدونه فيها وقد اخذوا جميع الوسائط اللازمة للانتفاع بما يكتشفونه. وربما كانت تلك الوسائط تضاهي الوسائط المتخذة في بلاد الافرنج، بل ولعلها تفوقها بكثير لحداثتها ووفائها بالغرض على احسن وجه، لكن أين بلادنا من ديار مصر. ومع هذا فان القانون هناك يبيح مقاسمة الآثار بين الحكومة وبين الناقب، كما تحبير له نقل الآثار العاديات إلى بلاده. فهذا أيضاً مثال يحتذي عليه ويتبع لحفظ هذه الآثار من التلف والفساد والاضمحلال أو أن أحسنت ظناً: من الضياع والانتشار فرادى مبثوثة على غير جدوى. ونحن نستحسن هذه الطريقة، ولا سيما إذا كانت تلك العاديات مزدوجة المثال، فان الناقب يحرص عليها اكثر من حرصه

ص: 93