الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العدد 9
- بتاريخ: 01 - 03 - 1912
السيد صالح القزويني
تمهيد
شعراء العراق في القرن الثالث عشر للهجرة، أو القرن الثامن عشر للميلاد، كثيرون واغلبهم من المكثرين. ومع توفر عددهم لا تكاد ترى لهم تراجم مدونة. وما ذلك إلا لضعف همم رجال ذلك العصر، أو لاشتهار أولئك الشعراء في عهد معاصريهم، فظنوا أن شهرتهم تنتقل خلفاً عن سلف. وما خالوا أن ما لا يدون في بطون الكتب والأسفار، لا يصبر على تتالى الإعصار. وممن برز
في حلبة الشعر السيد صالح ابن السيد مهدي ابن السيد رضى ابن السيد محمد علي الحسيني الشهير بالقزويني، من مقدمي شعراء العراق الامامية، واحد نوابغ دار السلام في القرن الماضي
2 -
نسبه وولادته وأول نشأته
ولد في النجف نهار الخميس في اليوم 17 من شهر رجب من سنة 1208 (19 شباط سنة 1793) وما كاد يترعرع إلا ومال إلى الشعر كل الميل وكانت نفسه كبيرة نتوق إلى الأعالي وتميل إلى الأمور الدينية السامية. ولما كان مسقط رأسه مدينة العلم والدين معاً ساعده منشأه على إنماء شواغره وتوجيهها احسن متجه ولهذا اصبح وهو صغير السن متقد الخاطر قوي الحافظة بعيد الهمة صادق اللهجة متضلعاً من العلوم الدينية والدنيوية معاً.
ولما راهق اخذ يتلقن مبادئ العلوم من بعض مشايخ أهل بلدته حتى بلغ اشده فأخذ الفقه والتفسير والمعاني والبيان والمنطق وغيرها من العلوم العقلية والنقلية عن الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر (في الفقه) وكان هذا من مشاهير عصره في قطر العراق ولاسيما في النجف إلا أن السيد صالحاً اشتهر بشعره الرائق الرقيق المترقرق حتى اقر بالسباق أئمة عصره من قاص ودان.
3 -
(خلقه وخلقه)
كان السيد صالح حسن الصورة ابيض اللون مشرب حمرة بهي الطلعة طويل الرقبة ممتلئها أزج الحاجبين أفنى الأنف صغير الأذنين
أنجل العينين أزرقها واسع الجبهة بارزها اسود الشعر في صباه بين الوجنتين طويل الحية كثها خفيف الشاربين متوسط الفم رقيق
الشفتين العسهما طويل الذراعين خثن الكفين لطيف البنان طويل النجاد خشن العظام ريان الأعضاء لاسمينا بدينا ولا ضعيفا نحيفاً.
وأما خلقه فكان كثير الأدب حسن السلوك ومما كان يشاهد فيه وهو أمر نادر في أبناء الإمامة البشاشة فانه كان طليق المحيا يهش بمن يلاقيه وكان مع ذلك على جانب عظيم من التؤدة والوقار لا تكاد تنظر إليه إلا ويجذب قلبك بمحاسن سمته لما طبع عليه من كرم الخصال والمزايا الشريفة وكان من عادته أن لا يرد سائلا أبداً أن استجداه أن في الطريق وان في المجالس العامة.
وكان مضيافا يحب إكرام زائريه في أقصى الغاية فان داره كانت تقسم إلى قسمين البهو وهو (الدوة خانة أو الديوان خانة) وكان يستقبل فيه الضيوف ويعدون بالعشرات كل يوم والحرم وهو البيت المعد للسكنى. وكان ينتاب مجلسه الشعراء والعلماء والأدباء والفضلاء على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم وإذا جرى الحديث بحضوره لم يجسر أحد أن يخلط به ما يخالف أصول الآداب أو الدين أو يشتم منه رائحة العداوات لأنه كان يضع له حداً لا يتعداه أحد كما أنه كان يزع الحضور وزعاً فت منتهى الأدب والرقة واللطافة إذا احتاج الأمر إلى ذلك ولما كان عمله هذا بارزاً بأحسن صورة من المجاملة
فما كنت ترى أحداً يمتعض منه البتة.
3 -
(شعره)
قال الشعر منذ حداثته ونظم القصائد الطويلة النفس العامرة الإثبات وقد أبدع في الوصف حتى يصح أن يقال فيه إنه كان شاعراً ساحراً وقد وضع ديواناً قائماً برأسه اسمه الدرر الغروية في العترة المصطفوية. موضوعه مديح نبي المسلمين والأئمة الأثني العشر والديوان يشتمل على أربع عشرة قصيدة في مدح كل من نسبت إليه. وأبيات كل قصيدة تزيد على المائتين والقصائد كلها تشتمل على ما يناهز ثلاثة آلاف بيت.
وله ديوان ثانٍ كبير الحجم موضوع نظمه يختلف بين مديح وثناء ووصفٍ وردٍ وحكمٍ وعلمٍ ونسب وغزل ورثاء إلى آخر ما هناك لأنه طرق جميع أبواب الشعر وقد انشد اغلب قصائده في أيام غضاضة أهابه ومقتبل شبابه ثم مازال يقال من النظم ويجرد المواضيع من كل ما لا يناسب تقدم العمر حتى انقطع عنه بتة عند تجاوز سن الكهولة لأنه كان يعتبر
الشعر منقصة وشأن الإنسان في كماله أن لا يتجنب الآثام فقط بل أن يتحاشى النقائص أيضاً ولهذا فطم نفسه عما تحن إليه. حتى تفرغ للعلم كل التفرغ والمراد بالعلم علم الدين بفروعه وكان لا يمدح في شعرهِ إلا أهل البيت والأحباب والجلساء والعلماء ومن يحق له أن يمدح. . .
4 -
(انتقالهِ إلى بغداد وزواجه وأولاده ووفاته)
إن السيد صالح لم يقم طول عمرهِ في النجف يل صعد إلى بغداد في سنة 1259هـ (1843م) وكان قد تزوج في النجف ابنة أستاذه ومعلمه الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر المذكور ولما جاء بغداد تزوج ابنة الحاج محمد علي الشهير بالصفار.
وولد له ستة بنين وست بنات. أما البنون فهم 1: السيد مهدي وكان عالماً فاضلاً 2: السيد راضي وكان شاعراً مجيداً ماهراً بالتخميس كان إذا خمس قصيدة زاد الأصل حسناً ورونقاً وبهاءً بما يحيطه من درر نظمه ولفظه الرائع وقد أعقب أبناؤهم السيد محمود والسيد جواد والسيد أحمد وقد توفوا هم وأبوهم 3: السيد باقر وقد توفي 4: السيد حسون 5: السيد علي وهما حيان يرزقان.
وقد توفي السيد صالح القزويني في بغداد نهار الجمعة بعد الظهر 5 ربيع الأول من سنة 1301هـ (4 كانون الثاني 1883م) وكان عمره زهاء 93 سنة ثم نقلت جثته ودفنت في النجف.
قصر بخت نصر
(تلو)
وفي وسط هذه الجادة بين القصرين قصر الشمال الشرقي وقصر الجنوب الشرقي رتاج (باب عظيم واسع) مزدوج يرى إلى
يومنا هذا وهو محفوظ احسن الحفظ. على أن الذي يستوقف طائر بصر الناظر الحائر وخاطر المتجول الزائر ويثير فيه عواطف العجب العجاب هو نقشان بارزان منقوشان في الآجر نقشاً دقيقاً محكماً متقناً بديعاً رائعاً يأخذ بمجامع القلوب ويسحر الألباب ويفتنها فتناً يرى في كل نقش من هذين النقشين الرائعين ثور أو حيوان خرافي كالثور، لسانه لسان حية نضناض، ومخالبه مخالب يبر هزبر، وذنبه
ذنب عقرب شائل، وعنقه عنق تمساح مراوغ. ومن ينظر هذين الحيوانين الغريبين العجيبين البارزي النقش لا يتمالك عن أن يحكم حكماً صائباً: أن الأقدمين كانوا قد أمعنوا كل الإمعان في هذه الصناعة، وقد بلغوا منها أقصى الغاية وابعد المرمى.
وأما الحيطان الخارجة عن هذه الجادة، فالظاهر من كلام المؤرخين إنها كانت مزينة بأسد من آجر مطلية بطلاء اصفر كالميناء (أي القيشاني أو الكاشاني) على ارض بيضاء.
وقبل أن ننزع في قوس البحث ونتعهد القسم الأخير من هذا الصرح الممرد وهو اجمل قسم فيه. نغادر هنيهةً هذه الأطلال الناطقة بلسانها الأعجم افصح نطق لنعبر الجادة العظمى ونزور دوارس هيكل الزهرة، وهذا الهيكل يشتمل على فناءٍ صغير ومقدس ومشكاة (روزنة اورشن) كان يضع فيها تمثال هذه المعبودة، وكان التمثال من الذهب الإبريز، وكان قد عقد عليها قبة من الذهب الخالص أيضاً إلا إنها لم تكن عالية. هذا ما نقله إلينا الرواة وثقات المؤرخين ووجد مسطرا في الرقم المكتشفة في تلك الأنحاء. فإذا علمت هذا تصور الآن تألق تلك القبب المتلألئة حينما تشرق عليها الشمس أو تفيض عليها صيب أنوارهما عند تكبدها السماء في بلاد كبلاد الشرق الرائقة الهواء الشفافة الأثير، الناعمة الأديم. وفي قصر طوله من أربعمائة إلى ستمائة مثر في عرض ثلاثمائة متر، وقد تدفقت فيه جميع أعاجيب الكون والطبيعة، وغرائب الصناعة البديعة ومحاسن الزهو الرائعة السنيعة.
وأما مجدل الجنوب الغربي متصل بمجدل الجنوب الشرقي بأبنية فخمة ضخمة، قوراء غراء، مقسومة إلى ردهات وغرف متعددة، وفي هذا الصرح الممرد، وجدت الردهة الكبيرة، ردهة العرش، التي لو كان يجمع فيها هذا الطاغية مجلسه العظيم، ويعقد فيه تلك المقاصد بل المطامع، التي كان غرض مرماها إخضاع الدنيا كلها
إلى صولجان، فهذه الردهة هي والفناء الداخلي الذي بين يديها محفوظان احسن الحفظ حتى أن الرائي يستطيع أن يشاهد مشاهدة صادقة الطوابيق (الآجر) المفروشة فيهما فوقفنا في هذا المعهد وقوفاً طويلاً لسرح فيه طائر النظر، ونطلقه على القرون الماضية الخالية المنقرضة فيذهب ويحلق في عالم الخيال، ويستحضر تلك الأمم البائدة، من حاضرة وبادية، ويحييها بلمح البصر، ويبعث فيها دبيب الحياة ومظاهرها، ومحاسنها ومساوئها ويشاهد ما كان يصدر من
أصحابها. ثم نعيده إلى الأيام الحاضرة وهو حاسر نقض، فينبئنا بلسان فصيح عن أمور لا يسع إيرادها القلم، لان ذلك اللسان لسان الفكر، لا لسان الفم. ومما صوره لنا هذا الطائر الخيالي مشهد الوليمة الشهيرة التي أولمها بلعشصر آخر ملوك بابل ويرويها لنا التنزيل العزيز بتفاصيل تريك الأمور بصورتها وحقيقتها، بل تجعلك كأنك واحد من أولئك المدعوين إليها. ولقد نشر لنا الخيال تلك الحقائق التاريخية من دفائنها أي نشور، حتى إننا رفعنا لننظر إلى الحائط الذي كتبت عليه تلك الألفاظ العجيبة، أو الغريبة، أو السرية، والسحرية، أو المطلسمة، بل الأولى والأصح الإلهية إذ خطتها أنامل يهوه، فلم نرها، فتأكدنا إننا من أهل الغفلة، لا من أهل اليقظة، ومن أهل الذهول، لا من منتبهي العقول. وإننا في عالم الخيال، لا في عالم المثال.
فيالها من الألفاظ، وما هي إلا ثلاثة! (منا، ثقل، فرس) هـ لكنها
من أهول ما كتب في الكتب، ومن اعجب ما دون في الصحف، ومن اذهل ما تحقق تأويله، كيف لا ومؤوله دانيال النبي الكبير. فإذا زدت على هذا كله أن الموقف هو الموطن الذي أولمت فيه تلك الوليمة المشوومة التي عقبها بعد قليل فتح كورش لبابل تحققت أن ما تولانا من الحرس واعتقال اللسان والدله مالا مزيد عليه وان كان الفاصل بيننا وبين أولئك الأقوام البائدة أعوام مديدة بل عصور عديدة.
ولم نجسر أن نزور في هذا النهار اكثر مما زرنا، خوفاً من أن يكل غرب نشاطنا وتخور قوانا. ولذا رجعنا إلى مضيفنا نمشي الهوينا ونحن نفكر في تلك الممالك الضخمة التي أبادها ربك لكبريائها وغطرستها.
وأما منزل القرى فانه مبنى كسائر أبنية هذه البلاد أي انه عبارة عن دار فيها فناء تطل عليه جميع الغرف والعلالي. وهي واسعة ذات رفاهة جديرة بساكنيها المهندسين والمنقبين الألمانيين. ومن حسنات هذه الدار إنها مبنية على عدوة الفرات، وقد تحول قليلاً عن عقيقه الأول الذي كان عليه في عهد غضارة بابل. هذا ووجود الأشجار، وتدفق الأنهار، وتجاوب الاطيار، في تلك المواطن الساحرة للأنظار وللأفكار، ذكرينا منفى اليهود إلى هذه الديار، فأخذنا كتاب صلواتنا، وجلسنا على شط هذا النهر الجليل، وأخذنا نتلو ذاك المزمور الذي مستهله:(على انهار بابل) والذي انشأ في هذه الأرجاء الغناء.
وفي تلك الأثناء كانت الشمس تنحدر في الأفق كل الانحدار، حتى غابت عن الأبصار، وراء رمال تلك القفار، فأجبرتنا جنود الظلام، على العودة إلى دار أولئك الكرام، وفي خلال تناولنا الطعام، أخذنا نتجاذب أطراف الكلام، ولم تخرج مواضيعها كلها عن أمور الخفر والتاريخ ووقائع الأيام.
ولما اقبل وقت النوم شعرنا بحاجة عظيمة إليه استجماعاً لقوانا، لأننا كنا قد عزمنا على أن نسير على دوابنا ست ساعات لنزور ما هو واقع على طف الفرات، وهو ما يظنه البعض (وظنهم فائل) انه:(برج بابل)، وتسميه كتب التاريخ:(برج نمروذ) وتسميه العرب منذ سابق العهد إلى زمننا هذا: (برس) أو (برس نمروذ) وقد ورد ذكره في كتب الفتوحات كما سنذكره بعيد هذا. والرأي الراجح اليوم هو أن هذه الأنقاض هي بقايا (هيكل نيو) الذي يتكلم عنه اشعياء والذي كانت تفتخر به بابل.
ومهما يكن من حقيقة الأمر فان الليلة كانت طيبة، وما كاد جبين الصباح الاغربيين إلا وسمعنا في جوارنا دويا مهماً هو جعجعة الجواريش وكانت النساء في أثناء الطحن يغنين غناء شجياً على نغم واحدٍ. وما سمعنا ذلك إلا وتذكرنا كلام