المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(10) باب صفة الصلاة ‌ ‌{الفصل الأول} 796- (1) عن أبي هريرة: ((أن - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(10) باب صفة الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(11) باب ما يقرأ بعد التكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(12) باب القراءة في الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(13) باب الركوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(14) باب السجود وفضله

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(15) باب التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(17) باب الدعاء في التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(18) باب الذكر بعد الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(20) باب السهو

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(21) باب سجود القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(22) باب أوقات النهي

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(23) باب الجماعة وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌(10) باب صفة الصلاة ‌ ‌{الفصل الأول} 796- (1) عن أبي هريرة: ((أن

(10) باب صفة الصلاة

{الفصل الأول}

796-

(1) عن أبي هريرة: ((أن رجلاً دخل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد، فصلى، ثم جاء فسلم عليه. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل.

ــ

(باب صفة الصلاة) المراد بها جنس صفتها الشاملة للأركان والفرائض والواجبات والسنن والمستحبات. قال ابن الهمام: قيل الصفة والوصف في اللغة واحد، وفي عرف المتكلمين بخلافه، والتحرير أن الوصف ذكر ما في الموصوف من الصفة، والصفة هي ما فيه. ثم المراد هنا بصفة الصلاة الأوصاف النفسية لها، وهي الأجزاء الفعلية الصادقة على الخارجية التي هي أجزاء الهوية من القيام الجزئي والركوع والسجود، كذا في المرقاة.

796-

قوله: (إن رجلاً) هو خلاد بن رافع كما بينه ابن أبي شيبة، وهو المشهور بالمسيء في صلاته عند الشراح. (فصلى) أى ركعتين كما للنسائي في حديث رفاعة بن رافع في هذه القصة، وهل كانتا نفلاً أو فرضاً؟ الظاهر الأول، والأقرب أنهما ركعتا تحية المسجد. ووقع عند ابن أبي شيبة في حديث رفاعة هذا: دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها. (فسلم عليه) قال القاري: قدم حق الله على حق رسوله عليه السلام _ كما هو أدب الزيارة، لأمره عليه السلام بذلك لمن سلم عليه قبل صلاة التحية فقال له: ارجع فصل ثم ائت فسلم عليّ. (ارجع فصل) وفي حديث رفاعة الآتي: أعد صلاتك. (فإنك لم تصل) نفي لصحة الصلاة؛ لأنها أقرب لنفي الحقيقة من نفي الكمال، فهو أولى المجازين وأيضاً فلما تعذرت الحقيقة - وهي نفي الذات - وجب صرف النفي إلى سائر صفاتها. قال عياض: فيه أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزئ. قال الحافظ: وهو مبني على أن المراد بالنفي نفي الإجزاء، وهو الظاهر. ومن حمله

ص: 1

على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بالإعادة بعد التعليم، فدل على إجزائها وصحتها، وإلا لزم تأخير البيان، كذا قاله بعض المالكية. وفيه نظر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة، فسأله التعليم فعلمه، فكأنه قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية - انتهى. وقال القاري: تقريره على صلاته كرات يؤيد كونه نفي الكمال لا الصحة، فإنه يلزم منه أيضاً الأمر بعبادة فاسدة مرات. قلت: أراد القاري أنه لو حمل على نفي الصحة يلزم أنه صلى الله عليه وسلم قرره مراراً على أن يصلي صلاة فاسدة، ويلزم منه أيضاً أنه أمر بعبادة فاسدة مرات، بخلاف ما إذا أريد بالنفي نفي الكمال. وفيه نظر؛ لأنه لم يؤذن له في صلاة فاسدة، ولا علم من حاله أنه يأتي بها في المرة الثانية والثالثة فاسدة، بل هو محتمل أن يأتي بها صحيحة، وإنما لم يعلمه أولاً ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة الصحيحة المجزئة، وسيأتي مزيد توضيح لذلك. وقد احتج بعضهم لتوجه النفي إلى الكمال بما وقع عند الترمذي في هذه القصة من حديث رفاعة بلفظ: فعاف الناس وكبر عليهم أن يكون من أخف صلاته لم يصل، حتى قال صلى الله عليه وسلم: إذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك. وكان هذا أهون عليهم من الأول أنه من انتقص من ذلك شيئاً انتقص من صلاته، ولم تذهب كلها. قالوا: والنقص لا يستلزم الفساد، وإلا لزم في ترك المندوبات؛ لأنها تنتقص بها الصلاة. وأيضاً كون هذه المقالة كانت أهون عليهم يدل على أن المراد بالنفي نفي الكمال؛ لأن قوله أولاً:"لم تصل" يوهم نفى الصلاة برأسها، وقوله ثانياً:"إن انتقصت منه شيئا" الخ. يدل على النقصان، وعدم ذهاب الصلاة كلها، ولذا كان أهون عليهم من الأول، لكنهم علموا وفهموا حينما سمعوا قوله الثاني أنه إنما أراد بنفي الصلاة في قوله الأول:"لم تصل" نفي الكمال لا نفي الذات والحقيقة أو الصحة. وأجيب بأن الانتقاص يستلزم الفساد وعدم الصحة؛ لأنا متعبدون بصلاة لا نقصان فيها، فالناقصة فاسدة غير صحيحة، ومن ادعى صحتها وعدم فسادها فعليه البيان. ولا نسلم أن ترك مندوبات الصلاة ومسنوناتها انتقاص منها؛ لأنها أمور خارجة عن ماهية الصلاة، فلا يراد الإلزام بها، وكونها تزيد في الثواب لا يستلزم أنها منها، كما أن الثياب الحسنة تزيد في جمال الذات وليست منها. والحجة في الذي جاءنا عن الشارع من قوله، وفعله، وتقريره، لا في فهم بعض الصحابة. سلمنا أن فهمهم حجة لكونهم أعرف بمقاصد الشرع، لكن لا دليل هنا على أنهم فهموا حين سمعوا قوله الثاني نفي الكمال، وإنما كان قوله الثاني أهون عليهم من جهة أن من أتى ببعض واجبات الصلاة فقد فعل خيراً من قيام وذكر وتلاوة، وإنما يؤمر بالإعادة لدفع عقوبة ما ترك، وترك الواجب سبب للعقاب، فإذا كان يعاقب بسبب ترك البعض يلزمه أن يفعله إن أمكن فعله وحده، وإلا فعله مع غيره، والصلاة لا يمكن فعل المتروك منها إلا بفعل جميعها. وقال ابن تيمية: من قال: إن هذا لنفي الكمال قيل: إن أردت الكمال المستحب، فهذا باطل لوجهين: أحدهما: أن هذا لا يوجد قط في لفظ الشارع أنه ينفي عملاً فعله العبد على الوجه الذي وجب عليه، ثم ينفيه لترك المستحبات، بل الشارع لا ينفي عملاً إلا إذا لم يفعله العبد كما وجب عليه. والثاني: لو نفى لترك مستحب لكان عامة الناس لا صلاة لهم ولا صيام، فإن الكمال المستحب متفاوت، إذ كل من لم يكملها كتكميل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال: لا صلاة له- انتهى. واستدل بقوله: "صل فإنك

ص: 2

لم تصل" للشافعي وأبي يوسف والجمهور على أن تعديل الأركان والطمأنينة فيها فرض. قالوا: إن قوله هذا صريح في كون التعديل من الأركان بحيث أن فوته يفوت الصلاة، وإلا لم يقل: "لم تصل" فإن من المعلوم أن خلاد بن رافع لم يكن ترك ركناً من الأركان المشهورة، إنما ترك التعديل والاطمئنان كما يدل عليه رواية ابن أبي شيبة، فعلم أن تركه مبطل للصلاة. قلت: الحديث فيه رد صريح على أبي حنيفة ومحمد، فإن المشهور من مذهبهما أن تعديل الأركان ليس بفرض بل هو واجب، واستدل لهما بقوله تعالى: {اركعوا واسجدوا} [77: 22] بأن الركوع والسجود لفظ خاص معناه معلوم، فالركوع هو الانحناء، والسجود هو وضع الجبهة على الأرض، فمطلق الميلان عن الاستواء، ووضع الجبهة على الأرض فرض بالآية المذكورة، وفرضية التعديل الثابتة بقوله عليه السلام: "لم تصل" لا يجوز إلحاقها بالقرآن لا على سبيل البيان، ولا على سبيل تغيير إطلاق القرآن. أما الأول فلأن البيان لا يكون إلا للمجمل، ولا إجمال في الركوع والسجود، وأما الثاني فلأن تغير إطلاق القرآن نسخ، وهو لا يجوز بالخبر الواحد، ولما لم يجز إلحاق ما ثبت بهذا الحديث بالثابت بالقرآن في مرتبته ولم يمكن ترك خبر الواحد بالكلية أيضاً فقلنا: ما ثبت بالكتاب- وهو مطلق الركوع والسجود- يكون فرضاً؛ لأنه قطعي، وما ثبت بهذا الخبر الظني الثبوت يكون واجباً مراعاة لمنزلة كل من الكتاب والسنة. ورد هذا الاستدلال بأن النص ليس بمطلق بل مجمل، فإن المراد بالركوع والسجود في الآية المذكورة معناهما الشرعي؛ لأنه قد تقرر أن أمثال هذه الألفاظ في النصوص يجب حملها على معانيها الشرعية إلا أن يمنع مانع، ولا مانع ههنا، ولأن من وضع الجبهة إلى غير القبلة أو على غير الوضوء فهو ساجد لغة، وليست هذه السجدة معتبرة في الشرع. ومعنى الركوع والسجود الشرعي غير معلوم، فهو محتاج إلى البيان، فحديث أبي هريرة وما وافقه بيان لذلك النص المجمل، وبيان الفرض المجمل يجوز بخبر الواحد، أي يكون فرضاً في مرتبة المجمل. قال الشيخ عبد الحليم اللكنوي الحنفي في حاشية نور الأنوار بعد ذكر نحو ما قدمنا من تقرير استدلال الحنفية: ولو سلمنا أن النص مطلق فنقول إن هذا الحديث ليس بخبر الواحد، بل هو حديث مشهور، تلقاه الأمة بالقبول، ورواه أئمة الحديث بأسانيد كثيرة، والزيادة على الكتاب بالخبر المشهور جائزة- انتهى. وقال بعد ذكر حديث أبي هريرة: هذا الحديث دال على أن تعديل الركوع والسجود فرض، والقومة والجلسة ركنان، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفى الصلاة بفواتها. وإن زللت بما قال بعض السابقين، من أن في آخر الحديث المذكور- يعني حديث رفاعة- زيادة تدل على توقف صحة الصلاة عليها، وهو قوله عليه السلام: فإذا فعلت ذلك فقد تمت صلاتك، وإن انتقصت منه شيئاً انتقصت من صلاتك، فسماها- عليه السلام -صلاة، والباطلة ليست بصلاة، وأيضاً وصفها بالنقص، والباطلة إنما توصف بالانعدام، فعلم أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعادة إنما كان لتقع الصلاة على غير كراهة لا لفساد صلاة ذلك الرجل، ثبتك أن معنى هذه الزيادة: إن فعلت ما بينت من التعديل على الكمال فقد صليت صلاة تامة، وإن نقصت من التعديل شيئاً من النقصان مع بقاء أصل التعديل- كما يدل عليه لفظ نقصت- فقد نقصت من صلاتك بقدر نقصان التعديل. فالإخلال بالتعديل رأساً يوجب الفساد. فإن غلب عليك جنود الوهم بأن القومة والجلسة

ص: 3

فرجع فصلى، ثم جاء، فسلم. فقال: وعليك السلام، ارجع فصل فإنك لم تصل. فقال في الثالثة- أو في التي بعدها- علمني يا رسول الله!

ــ

ليستا بمقصودتين، وإنما شرعتا للفصل بين الركوع والسجود، وبين السجدتين، فلا يكونان ركنين، بل الركن هو المقصود وهو الركوع والسجود، فعارضها بعسكر الفكر بأن هذا رأي في مقابلة النص المذكور فلا يسمع. كذا أفاد بحر العلوم أنار الله برهانه- انتهى كلام الشيخ عبد الحليم اللكنوي. وما نقله عن بعض السابقين قد رده أيضاً العيني بأن للخصم أن يقول: إنما سماه صلاته بحسب زعم المصلي، كما تدل عليه الإضافة، على أنه ورد في بعض الروايات:"وما نقصت شيئاً من ذلك" أي مما ذكر سابقاً، ومنه الركوع والسجود أيضًا، فيلزم أن تسمى ما لا ركوع فيه أو لا سجود فيه أيضاً صلاة بعين التقرير المذكور وإذ ليس فليس- انتهى. وقال بعض الحنفية في الجواب عن حديث أبي هريرة: إن هذا الحديث لا يدل على فرضية التعديل، بل يدل على عدم فرضيته؛ لأنه- عليه السلام ترك الأعرابي حتى فرغ عن صلاته، ولو كان ما تركه ركناً لفسدت صلاته، فكان المضي يعد ذلك من الأعرابي عبثاً، فلا يحل له صلى الله عليه وسلم أن يتركه، فكان تركه دلالة منه أن صلاته جائزة إلا أنه ترك الإكمال فأمره بالإعادة زجراً عن هذه العادة. ورده العيني في البناية بأن للخصم أن يقول: كانت صلاته فاسدة ولذا أمر بالإعادة، وقال له:"لم تصل" وإنما تركه عليه لأنه ربما يهتدي إلى الصلاة الصحيحة، ولم ينكر عليه لأنه كان من أهل البادية كما شهدت به رواية الترمذي بلفظ:"إذ جاء رجل كالبدوي"، ومن المعلوم أن أهل البادية لهم جفاء وغلظ، فلو أمره ابتداء لكان يقع في خاطره شيء، وكان المقام مقام التعليم، وبالجملة لا دلالة لعدم إنكاره عليه الصلاة والسلام على صلاته ابتداء، وأمره بالإعادة، على ما ادعوه- انتهى. فإذا عرفت هذا كله ظهر لك أن ما ذهب إليه الجمهور هو الحق. وما ذهب إليه الحنفية ليس لهم عليه دليل صحيح، بل حديث أبي هريرة حجة صريحة عليهم. (فقال في الثالثة أو في التي بعدها) أي في المرتبة الرابعة. وفي رواية فقال في الثانية أو الثالثة، وفي أخرى ثلاثاً أي ثلاث مرات. وهذه الرواية أرجح لعدم الشك فيها. (علمني يا رسول الله) وفي رواية: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني. وتوقف صلى الله عليه وسلم في التعليم إلى أن يسأل هو ليكون أوقع عنده، بخلاف ما لو بدأ به، وقيل: أعرض عنه أولاً لأنه أعرض عن السؤال، فكأنه عد نفسه عالماً فعامله زجراً وتأديباً له، وإرشاد إلى أنه كان اللائق به الرجوع إلى السؤال واستكشاف ما استبهم عليه، ولذا لما سأل وقال: لا أحسن، علمه، وبالجملة فليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة بل تأخيره إلى وقت إظهار الحاجة ليكون أنفع. واستشكل تقريره- عليه السلام على صلاته وهي فاسدة ثلاث مرات على القول بأن النفي للصحة، وأجيب بأنه أراد استدراجه بفعل ما جهله مرات لاحتمال أن يكون فعله ناسياً أو غافلاً، فيتذكر فيفعله من غير تعليم، فليس من باب التقرير على الخطأ بل من باب تحقق الخطأ، ويحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته فرأى إيقاظ الفطنة للمتروك. وقال ابن دقيق العيد: التقرير

ص: 4

فقال: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبر، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن

ــ

ليس بدليل على الجواز مطلقاً، بل لا بد من انتفاء الموانع وزيادة قبول المتعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعليم لا سيما مع عدم خوف الفوت، إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص. (ثم استقبل القبلة) فيه دليل على وجوب استقبال القبلة، وهو إجماع المسلمين إلا في حالة العجز، أو في الخوف عند التحام القتال، أو في صلاة التطوع، وقد دل على وجوبه القرآن والسنة المتواترة. (فكبر) أي تكبيرة الإحرام. وفي رواية الطبراني لحديث رفاعة: ثم يقول"الله أكبر". وهي تبين أن المراد من التكبير خصوص هذا اللفظ، فلا يصح افتتاح الصلاة إلا بلفظ الله أكبر دون غيره من الأذكار، خلافاً لأبي حنيفة فإنه يقول: يجزئ بكل لفظ يدل على التعظيم، وهذا نظر منه إلى المعنى، وأن المقصود التعظيم فيحصل بكل ما دل عليه. والحق ما ذهب إليه مالك وأحمد من تعيين التكبير وتخصيص لفظ الله أكبر. قال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث يعين التكبير، ويتأيد ذلك بأن العبادات محل التعبدات، ويكثر ذلك فيها، فالاحتياط فيها إتباع اللفظ. وأيضاً فالخصوص قد يكون مطلوبا أعني خصوص التعظيم بلفظ الله أكبر، وهذا لأن رتب هذه الأذكار مختلفة كما تدل عليه الأحاديث فقد لا يتأدى برتبة ما يقصد من أخرى، ونظيره الركوع، فإنا نفهم أن المقصود منه التعظيم بالخضوع، ولو أقام مقامه خضوعاً آخر لم يكتف به، ويتأيد هذا باستمرار العمل من الأمة على الدخول في الصلاة بهذه اللفظة أعني الله أكبر. (ثم اقرأ بما تيسر) أي لك حال كونه (معك) وقال الأبهرى: الباء للاستعانة أي أوجد القراءة مستعيناً بما تيسر، أو زائدة، ويؤيده رواية البخاري "ما تيسر" بدون الباء (من القرآن) استدل بالحديث على عدم فرضية الفاتحة إذ لو كانت فرضاً لأمره، لأن المقام مقام التعليم فلا يجوز تأخير البيان. وأجيب عنه بأنه قد أمره صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة، ففي حديث رفاعة عند أبي داود: ثم اقرأ بأم القرآن وبما شاء الله أن تقرأ. وعند أحمد وابن حبان: "اقرأ بأم القران ثم اقرأ بما شئت". وقد تقرر أنه يؤخذ بالزائد إذا جمعت طرق الحديث، ويقال: إن الراوي حيث قال ما تيسر ولم يذكر الفاتحة ذهل عنها، لكنه يلزم حينئذٍ إخراج صيغة الأمر عن ظاهرها؛ لأنه لا يجب قراءة ما زاد على الفاتحة. وقيل: قوله: "ما تيسر" عام يخصص بقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، ولا يخفى بعده لأن سياق الكلام يقتضى تيسير الأمر عليه، وإنما يقرب هذا إذا جعلت ما بمعنى الذي، وأريد بها شيء معين، وهو الفاتحة لكثرة حفظ المسلمين لها فهي المتيسرة. وقيل: هو محمول على أنه عرف من حال الرجل أنه لا يحفظ الفاتحة، ومن كان كذلك كان الواجب عليه قراءة ما تيسر، ولا يخفى ضعفه لكنه محتمل، ومع الاحتمال لا يترك الصريح، وهو قوله:"لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب". وقيل: الحديث لا يصرف ما ورد في غيره من الأدلة المقتضية لفرضية الفاتحة؛ لأنه يؤخذ بالزائد فالزائد من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الخطابي:

ص: 5

ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً)) .

ــ

ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها بدليل قوله:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب"، وهذا في الإطلاق كقوله تعالى:{فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي} [2: 196] ثم كان أقل ما يجزئ من الهدي معيناً معلوم المقدار ببيان السنة وهو الشاة - انتهى. وقال صاحب فيض الباري (ج2: ص299) : تمسك الحنفية به على عدم ركنية الفاتحة ليس بصحيح، لأن الفاتحة وإن لم تكن ركناً لكنها واجبة عندنا أيضاً، والسياق سياق التعليم، فلو فرضنا أنه لم يعلمه الفاتحة يلزم درج كراهية التحريم في سياق التعليم، ولا يجوز أصلاً مع أنها مذكورة في حديث رفاعة صراحة، وإن كانت مجملة في حديث أبي هريرة. ثم أقول: إن قوله هذا كان لكون الرجل بدوياً أعرابياً لا يدري أنه كان عنده شيء من القرآن أم لا، وحينئذٍ ينبغي أن يكون التعبير هكذا، ولذا قال: وإلا فاحمد الله وكبره، فدل على أنه كان ممن لا يستبعد منه أن لا يكون عنده قرآن أصلاً. وإذا لا يلائمه أن يأمره بالفاتحة والسورة تفصيلاً، وإنما أليق بحالة الإجمال فيقرأ بما يقدر. (ثم اركع حتى تطمئن راكعاً) حال مؤكدة، وقيل مقيدة. وفيه دليل على ما ذهب إليه الشافعي وأبويوسف من افتراض الطمأنينية في الركوع وهو الحق. (ثم ارفع) أي رأسك (حتى تستوي) أى تعتدل (قائماً) في رواية ابن ماجه: حتى تطمئن قائماً. وهي على شرط مسلم، وقد أخرجها السراج أيضاً بإسناد على شرط البخاري، فهي على شرط الشيخين، وهذه الروايات تدل على افتراض رفع الرأس من الركوع، وعلى افتراض الاستواء أي الاعتدال في الرفع، وعلى افتراض الاطمئنان في القومة، أي عند الاعتدال من الركوع، وإليه ذهب الشافعي وأبويوسف، وهو الصواب (ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً) فيه دليل على فرضية الطمأنينة في السجود، وقد فصلتها رواية النسائي من حديث رفاعة بلفظ: ثم يكبر ويسجد حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي. (ثم ارفع) أي رأسك من السجود (حتى تطمئن جالساً) أي بعد السجدة الأولى، وهي حال مؤسسة. وفيه دليل على افتراض القعود بين السجدتين. وفي رواية النسائي المذكورة:"ثم يكبر فيرفع رأسه حتى يستوي قاعداً على مقعدته ويقيم صلبه". (ثم اسجد) أي الثانية (حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تطمئن جالساً) أي للاستراحة. قال الطيبي: كلمة حتى في هذه القرائن لغاية ما يتم به الركن، فدلت على أن الطمأنينة داخلة فيه، والمنصوب حال مؤكدة -انتهى. والحديث يدل آخره على إيجاب جلسة الاستراحة، ولكنه لم يقل به أحد على أنه قد أشار البخاري إلى أنه – أى قوله الأخير حتى تطمئن جالساً – وهم، فإنه عقبه بأن قال: قال أبوأسامة (حماد بن أسامة مما وصله في كتاب الأيمان والنذور) في (اللفظ) الأخير (وهو حتى تطمئن جالساً) حتى تستوي قائماً. وقال القسطلاني: أراد البخاري بهذه الإشارة إلى أن راوي الأولى- وهو ابن نمير – خولف، وأن الثانية عنده أرجح. وقال الحافظ: كلام البخاري

ص: 6

وفي رواية: ثم ارفع حتى تستوي قائماً، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)) متفق عليه.

797-

(2) وعن عائشة، قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله

رب العالمين.

ــ

ظاهر في أن أبا أسامة خالف ابن نمير، لكن رواه إسحاق بن راهوية في مسنده عن أبي أسامة، كما قال ابن نمير. وأخرجه البيهقي من طريقه، وقال: كذا قال إسحاق بن راهوية عن أبي أسامة. والصحيح رواية عبيد الله بن سعيد بن أبي قدامة، ويوسف بن موسى عن أبي أسامة بلفظ:"حتى تستوي قائما" –انتهى. وقال بعضهم: يمكن أن يحمل إن كان محفوظاً عل الجلوس للتشهد، ويؤيده رواية رفاعة عند أبي داود: فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن جالساً، ثم افرش فخذك اليسرى ثم تشهد. قال الحافظ: المعتمد الترجيح كما أشار إليه البخاري، وصرح به البيهقي. (وفي رواية) أي للبخاري بدل قوله الأخير "ثم ارفع حتى تطمئن جالساً"(ثم ارفع حتى تستوي قائماً) قد تقدم آنفاً أن البخاري أشار إلى ترجيح هذه الرواية الثانية، والبيهقي صرح به. وسيأتي الكلام على جلسة الاستراحة. (ثم افعل ذلك) أي جميع ما ذكر من الأقوال والأفعال إلا تكبيرة الإحرام، فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعاً من عدم تكرارها. وقيل: التقدير "ثم افعل ذلك" أي ما ذكر مما يمكن تكريره، فخرج نحو تكبيرة الإحرام. (في صلاتك) أي في ركعات صلاتك (كلها) فرضاً ونفلاً على اختلاف أوقاتها وأسمائها. وإنما لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بقية الواجبات في الصلاة كالنية والقعود في التشهد الأخير؛ لأنه كان معلوماً عنده، أو لعل الراوي اختصر ذلك. وفيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة في الأخريين أيضاً، وإليه ذهب ابن الهمام من الحنفية. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي وجوب القراءة في جميع الركعات، وإذا ثبت أن الذي أمر به الأعرابي هو قراءة الفاتحة دل على وجوب قراءتها في كل الركعات-انتهى. واعلم أن هذا الحديث جليل يعرف بحديث المسيء صلاته، يشتمل على فوائد كثيرة. قال ابن العربي في شرح الترمذي: فيه أربعون مسألة، ثم سردها. وقد أطال غيره من الشراح أيضاً الكلام في شرحه كالشوكاني في النيل (ج2: ص157-161) والحافظ في الفتح (ج3: ص432-434) وابن دقيق العيد في إحكام الأحكام (ج2: ص2-12) والعيني في عمدة القاري (ج6: ص15-20) . (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الاستئذان. وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه بألفاظ متقاربة.

797-

قوله: (يستفتح الصلاة) أي يفتتحها (بالتكبير) أي يقول: الله أكبر، كما ورد بهذا اللفظ في الحلية لأبي نعيم. والمراد تكبيرة الإحرام. (والقراءة) بالنصب عطفاً على الصلاة (بالحمد) بالرفع على الحكاية وإظهار ألف الوصل، ويجوز حذف همزة الوصل، وكذا جر الدال على الإعراب، ذكره القاري (رب العالمين) أي يبتدئ القراءة بسورة الفاتحة

ص: 7

وكان إذا ركع لم يشخص رأسه، ولم يصوبه، ولكن بين ذلك. وكان إذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائماً. وكان إذا رفع رأسه من السجدة لم يسجد حتى يستوي جالساً. وكان يقول في كل ركعتين التحية. وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى.

ــ

ثم يقرأ السورة، وذلك لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح، فإنه لا يسمى في العرف قراءة، ولا يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن المراد أنه يبدأ بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ ما بعدها، لا أنه يبدأ في القراءة بلفظ "الحمد لله"، وبهذا ظهر الرد على من تمسك بالحديث على مشروعية ترك الجهر بالبسملة في الصلاة، فإن المراد بذلك كما قلنا اسم السورة، لكن نوقش ذلك بأنه لو كان المراد اسم السورة لقالت عائشة: بالحمد؛ لأنه وحده هو الاسم. ورد بما ثبت عند أبي داود من حديث أبي هريرة مرفوعاً: الحمد لله رب العالمين، أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني. وبما عند البخاري من حديث سعيد بن المعلى: الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني. فهو ظاهر أو نص في أن الفاتحة تسمى بهذا المجموع الذي هو "الحمد لله رب العالمين"، ويمكن الجواب عن ذلك التمسك أيضاً بأنها ذكرت أول آية من الآيات التي تخص السورة وتركت البسملة؛ لأنها مشتركة بينها وبين غيرها من السور، وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث أنس في باب القراءة في الصلاة. (لم يشخص) من باب الإفعال أو التفعيل أي لم يرفع (ولم يصوبه) أي لم ينكسه من التصويب وهو الإنزال من أعلى إلى أسفل، ومنه الصيب المطر، صاب يصوب إذا نزل. أي لم يخفضه خفضاً بليغاً بل بين الخفض والرفع، وهو التسوية. (ولكن بين ذلك) أي بين المذكور من الإشخاص والتصويب، بحيث يستوي ظهره وعنقه كالصفحة الواحدة. (وكان إذا رفع رأسه من السجدة) أي الأولى، وفي بعض النسخ من السجود (لم يسجد) الثانية (حتى يستوي) أي يعتدل بين السجدتين (جالساً) تقدم الكلام على الجلوس بين السجدتين وكذا القومة. (وكان يقول في كل ركعتين) أي بعدهما (التحية) بالنصب. وقيل بالرفع، والمراد بها الثناء المعروف بالتحيات لله الآتي لفظه في حديث ابن مسعود، وسمى هذا الذكر تحية وتشهداً لاشتماله عليهما، أي على التحية وهو الثناء الحسن وعلى التشهد لاشتماله على الشهادتين، فهو من باب إطلاق اسم الجزء على الكل، وفيه مشروعية التشهد الأوسط والأخير، ولا يدل على الوجوب؛ لأنه فعل، إلا أن يقال: إنه بيان لإجمال الصلاة في القرآن المأمور بها وجوباً، والأفعال لبيان الواجب واجبة. أو يقال بإيجاب أفعال الصلاة لقوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وفي الاستدلالين بحث بسطه ابن دقيق العيد فارجع إليه. واستدل على الوجوب أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله-الحديث. والأمر للوجوب. (وكان يفرش) بكسر الراء وضمها (وينصب) بفتح الياء وكسر الصاد (رجله اليمنى) أي يضع أصابعها على الأرض ويرفع عقبها. واستدل به من قال بمشروعية النصب والفرش في التشهدين جميعاً. ووجهه الإطلاق وعدم التقييد في مقام التصدي لوصف صلاته صلى الله عليه وسلم لا سيما بعد وصفها للذكر المشروع في كل ركعتين، وتعقيب ذلك بذكر هيئة الجلوس، لكن حديث أبي حميد التالي قد فرق بين الجلوسين فجعل هذا صفة الجلوس بعد

ص: 8

وكان ينهى عن عقبة الشيطان، وينهى أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع. وكان يختم الصلاة بالتسليم)) رواه مسلم.

ــ

الركعتين الأوليين، وجعل صفة الجلوس الأخير تقديم رجله اليسرى ونصب اليمنى، والقعود على مقعدته. وللعلماء خلاف في ذلك سيأتي بيانه مع تحقيق الحق فيه. (عن عقبة الشيطان) بضم العين المهملة وسكون القاف فموحدة، فسرها أبوعبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه، وهو أن يلصق إليتيه بالأرض، وينصب ساقيه، ويضع يديه على الأرض كإقعاء الكلب. وتفسيرها بافتراش القدمين، والجلوس بالإليتين على العقبين غلط؛ لأنه سنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما رواه مسلم. وقد اختاره العبادلة في القعود في غير الأخير. وسيأتي مزيد الكلام عليه إن شاء الله. (وينهى أن يفترش الرجل) أي في السجود. قال الطيبي: التقيد بالرجل يدل على أن المرأة تفترش (ذراعيه افتراش السبع) أي كافتراشه. فسر السبع بالكلب، وقد ورد في رواية بلفظه، وافتراش الكلب هو أن يضع ذراعيه على الأرض في السجود، ويفضي بمرفقه وكفه إلى الأرض، والسنة أن يرفع ذراعيه، ويكون الموضوع على الأرض كفيه فقط. نعم إن طول السجود فشق عليه اعتماد كفيه فله وضع ساعديه على الركبتين لخبر: شكا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم، فقال: استعينوا بالركب. (وكان يختم الصلاة بالتسليم) أي تسليم الخروج. واستدل به على تعين التسليم للخروج من الصلاة اتباعاً للفعل المواظب عليه، واستدل على ذلك أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"تحليلها التسليم"، فإن الإضافة تقتضي الحصر، فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم. أي انحصرت صحة تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره، كقولهم: مال فلان الإبل، وعلم فلان النحو. وقال ابن العربي ما معناه: قوله: "تحليلها التسليم" يقتضي حصر الخروج عن الصلاة على التسليم دون غيره من سائر الأفعال والأقوال المناقضة للصلاة؛ لأنه ذكره بالألف واللام الذي هو باب شأنه التعريف كالإضافة، وحقيقة الألف واللام إيجاب الحكم لما ذكر، ونفيه عما لم يذكر، وسلبه عنه، وعبر عنه بعضهم بأنه الحصر، وأبوحنيفة يخالف فيه حيث يرى الخروج منها بكل فعل وقول يضاد كالحدث ونحوه حملاً على السلام وقياساً عليه، وهذا يقتضي إبطال الحصر-انتهى (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود. والحديث له علة، وهي أنه أخرج مسلم من رواية أبي الجوزاء-بالجيم والزاي- عن عائشة، قال ابن عبد البر: لم يسمع منها، وحديثه عنها مرسل- انتهى. وأبو الجوزاء هذا اسمه أوس بن عبد الله الربعي البصري، وهو قد عاصر عائشة فأخرج مسلم حديثه في صحيحه بناء على مذهبه من أن المعنعن محمول على الاتصال والسماع إذا أمكن لقاء من أضيفت إليه العنعنة. قال الحافظ في تهذيب التهذيب (ج1: ص384) : قال البخاري: في إسناده نظر، يريد أنه لم يسمع من مثل ابن مسعود وعائشة وغيرهما، لا أنه ضعيف عنده وأحاديثه مستقيمة، قال: حديثه عن عائشة في الافتتاح بالتكبير عند مسلم، وذكر ابن عبد البر في التمهيد أيضاً أنه لم يسمع منها. وقال جعفر الفريابي في كتاب الصلاة: ثنا مزاحم بن سعيد: ثنا ابن المبارك: ثنا إبراهيم بن طهمان: ثنا بديل العقيلي، عن أبي الجوزاء، قال: أرسلت رسولاً إلى عائشة يسألها_

ص: 9

798-

(3) وعن أبي حميد الساعدي، قال في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأيته إذا كبر جعل يديه

ــ

فذكر الحديث. فهذا ظاهر أنه لم يشافهها، لكن لا مانع من جواز كونه توجه إليها بعد ذلك فشافهها على مذهب مسلم في إمكان اللقاء. والله أعلم – انتهى. وقال في جامع الأصول: أبوالجوزاء سمع من عائشة، فارتفعت العلة رأساً.

798-

قوله: (وعن أبي حميد) بضم الحاء وفتح الميم، قيل: اسمه عبد الرحمن، وقيل: عمرو. وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر. وقيل: اسم جده مالك، الأنصاري الخزرجي المدني، غلبت عليه كنيته، صحابي مشهور، شهد أحداً وما بعدها، وعاش إلى خلافة يزيد سنة (60)، قال الواقدي: توفي في آخر خلافة معاوية أو أول خلافة يزيد. له ستة وعشرون حديثاً، اتفقا على ثلاثة، وانفرد كل منهما بحديث، روى عنه جماعة. (الساعدي) منسوب إلى ساعدة، وهو أبوالخزرج. (قال في نفر) أي وهو في جماعة، والنفر-بفتحتين-اسم جمع يقع على الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. وكانوا عشرة كما يدل عليه الرواية الآتية. (من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) كلمة من في محل الحال من نفر، أي حال كونهم من أصحابه، منهم أبوقتادة بن ربعي، وأبو أسيد الساعدي، وسهل بن سعد، ومحمد بن مسلمة، وأبوهريرة. (أنا أحفظكم) أي أكثركم حفظاً (لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) كأنه أخذ ذلك من شدة رقوبه، وكثرة إتباعه، ومزيد اعتنائه، إذا المعتني قد يحفظ أكثر من غير المعتني وإن كان في الصحبة سواء. (إذا كبر) أي أراد أن يكبر، فيدل على تقديم الرفع على التكبير، أو إذا شرع في التكبير، وهو الموافق لحديث ابن عمر الآتي: كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، فإن المتبادر منه مقارنة الرفع للتكبير، ويؤيده أيضاً ما في رواية أخرى له:"يرفع يديه حين يكبر". (جعل يديه) أي رفع. كما صرحت به بقية الروايات. أي شرع في رفع يديه، فيدل على أن رفع اليدين مقارن للتكبير. وقد ورد تقديم الرفع على التكبير وعكسه، أخرجهما مسلم، ففي رواية له من حديث ابن عمر الآتي بلفظ:"رفع يديه ثم كبر"، وفي حديث مالك بن الحويرث عنده:"كبر ثم رفع يديه"، وفي ترجيح المقارنة وتقديم الرفع على التكبير خلاف بين العلماء، والمرجح عندي المقارنة، وهو الأصح عند الشافعية والمالكية والحنابلة لحديث وائل بن حجر عند أبي داود بلفظ:"رفع يديه مع التكبير"، وقضية المعية أن ينتهي بانتهائه، ولم يقل أحد بتقديم التكبير على الرفع، والمرجح عند الحنفية تقديم الرفع لحديث ابن عمر عند مسلم، ولحديث أبي حميد الآتي، ولأن الرفع نفي صفة الكبرياء عن غير الله، والتكبير إثبات ذلك، والنفي سابق على الإثبات كما في كلمة الشهادة، وهذا مبني على أن الحكمة في الرفع ما ذكر، وقد قال فريق من العلماء: الحكمة في اقترانهما أن يراه الأصم، ويسمع التكبير الأعمى، فيعلمان دخوله في الصلاة، وقد ذكرت للرفع مناسبات أخرى: فقيل الإشارة إلى طرح الدنيا والإقبال بكليته على العبادة. وقيل: إلى الاستسلام والانقياد، وليناسب فعله قوله:"الله أكبر". وقيل:

ص: 10

حذاء منكبيه، وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه، ثم هصر ظهره،

ــ

إلى رفع الحجاب بين العبد والمعبود. وقيل غير ذلك. ثم إن الرفع عند تكبيرة الإحرام سنة عند الجمهور، وليس بواجب لعدم ذكره في حديث المسيء، وفرض عند ابن حزم، لا تجزئ الصلاة إلا به. وروي ذلك عن الأوزاعي. وقال الزرقاني: روي الوجوب عن الحميدى، وابن خزيمة، وداود، وبعض المالكية والشافعية. (حذاء منكبيه) بكسر الحاء، أي مقابلهما. والمنكب- بفتح الميم وكسر الكاف- مجمع رأس عظم الكتف والعضد، وبهذا أخذ الشافعي والجمهور خلافاً للحنفية حيث أخذوا بحديث مالك بن الحويرث الآتي بعد حديثين، وهو من إفراد مسلم، وبحديث وائل ابن حجر عند أبي داود بلفظ:"حتى حاذتا أذنيه". ورجح الأول لكون إسناده أصح وأثبت؛ لأنه متفق عليه. وروي عن الشافعي أنه جمع بينهما، فقال: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه فروع أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وراحتاه منكبيه. ويؤيده الرواية الآتية في الفصل الثاني عن وائل. واختاره ابن الهمام حيث قال: لا تعارض بين الروايتين، فإن محاذاة الشحمتين بالإبهامين تسوغ حكاية محاذاة اليدين بالمنكبين؛ لأن طرف الكف مع الرسغ يحاذى المنكب أو يقاربه، فالذي نص على محاذاة الإبهامين بالشحمتين وفق في التحقيق بين الروايتين فوجب اعتباره - انتهى. قلت: وقد استحب الحنفية شيئاً من المبالغة في الرفع حتى قيدوا مس الإبهامين بشحمتي الأذنين لتحقيق المحاذاة، ولا دليل عليه لا من سنة، ولا من قول صحابي، ولا من قياس. وجمع بعض العلماء بأن حديث المنكبين محمول على الشتاء، وعليهم الأكسية والبرانس كما أخرجه أبوداود من حديث وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حين افتتح الصلاة رفع يديه حيال أذنيه قال: ثم أتيتهم فرأيتهم يرفعون أيديهم إلى صدورهم في افتتاح الصلاة وعليهم برانس وأكسية. وعليه حمله الطحاوي في شرح معاني الآثار. قلت: في الاستدلال بهذا الحديث على الجمع المذكور كلام، فإن مداره على شريك القاضي وقد تغير حفظه لما ولى القضاء، وقد تفرد هو بذكر لفظ "إلى صدورهم"، وخالف الثقات الحفاظ كزائدة وسفيان، ولم يرض العيني بهذا الجمع، وعده من التكلفات كما صرح به في البناية. وقيل: لا اختلاف بينهما لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل كلا الأمرين في أوقات مختلفة، فالرجل مخير بينهما. قال السندي: لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات متعددة، فيكون الكل مستنداً إلا إذا دل الدليل على نسخ البعض، فلا منافاة بين الرفع إلى المنكبين، أو إلى شحمتي الأذنين، أو إلى فروع الأذنين أي أعاليهما. وقد ذكر بعض العلماء في التوفيق بسطاً لا حاجة إليه لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً- انتهى. (أمكن يديه من ركبتيه) في المغرّب يقال: مكنه من الشيء وأمكنه فيه أقدره عليه، والمعنى مكنهما من أخذها والقبض عليهما (ثم هصر ظهره) بالهاء والصاد المهملتين المفتوحتين، أي أماله وثناه في استواء من رقبته ومتن ظهره من غير تقويس. وأصل الهصر أن تأخذ برأس العود فتثنيه إليك وتعطفه. قال الخطابي في المعالم (ج1:

ص: 11

فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه، فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما، واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة، فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى، وقعد على مقعدته))

ــ

ص195) : معناه ثنى ظهره وخفضه. وأصل الهصر أن يأخذ بطرف الشيء ثم يجذبه إليه كالغصن من الشجرة ونحوه فينهصر أي ينكسر من غير بينونة- انتهى. زاد في رواية أبي داود: "غير مقنع رأسه ولا صافح بخده" أي غير مبرز صفحة خده مائلاً إلى أحد الشقين. (فإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) أي قائماً معتدلاً (حتى يعود كل فقار مكانه) بفتح الفاء والقاف آخره راء جمع فقارة، واستعمل الفقار للواحد تجوزاً وهي عظام الظهر، وهي العظام المنظمة التي يقال لها خرز الظهر، قاله القزاز. وفي المحكم: هي ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب. والمراد بذلك كمال الاعتدال. (فإذا سجد وضع يديه) حذاء منكبيه أي قبل وضع ركبتيه (غير مفترش) أي ساعديه أو ذراعيه كافتراش السبع، وغير حامل بطنه على شيء من فخذيه. وهو منصوب على الحال، يعني غير واضع مرفقيه على الأرض. (ولا قابضهما) بالجر أي ولا قابض يديه. أراد أن لا يضم الذراعين والعضدين إلى الجنبين بل يجافيهما معتمداً على راحتيه. (واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة) قال النووي: ولا يحصل توجيهاً للقبلة إلا أن يكون معتمداً على بطونها، ووضعها من غير تحامل عليها مخالف للحديث. (فإذا جلس) للتشهد (في الركعتين) أي عقب الأوليين (جلس على رجله اليسرى، ونصب اليمنى) هذا هو الافتراش. (فإذا جلس في الركعة الآخرة) للتشهد الأخير (قدم رجله اليسرى) أي أخرجها من تحت وركه إلى جانب الأيمن. (ونصب الأخرى) أي اليمنى (وقعد على مقعدته) اليسرى، وهذا هو التورك وفي ذكره كيفية الجلوسين- الجلوس الأوسط والأخير- دليل على تغايرهما، وأنه في الجلسة الأخيرة يتورك، أي يفضي بوركه اليسرى إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى. وبهذا الحديث عمل الشافعي ومن وافقه، وألحق هو بالتشهد الأول الجلسات الفاصلة بين السجدات؛ لأنه يعقبها انتقالات، والانتقال من المفترش أيسر. وقد قيل في الحكمة في التغاير بين الجلوسين- الأوسط والأخير- أنه أقرب إلى عدم اشتباه عدد الركعات، فإن المخالفة في الهيئة قد تكون سبباً للتذكر عند الشك في كونه في التشهد الأول أو في التشهد الأخير، ولأن الأول تعقبه الحركات بخلاف الثاني، يعني أن الافتراش هيئة استيفاز فناسب أن تكون في التشهد الأول؛ لأن المصلي مستوفز للقيام للركعة الثالثة، والتورك هيئة اطمينان فناسب الأخير، ولأن المسبوق إذا رآه علم قدر ما سبق به. وعند الحنفية يفترش في الكل. وعند المالكية يتورك في الكل. والمشهور عن أحمد اختصاص التورك بالصلاة التي فيها تشهدان. واستدل الحنفية بحديث عائشة السابق. والجواب أنه محمول على التشهد الأول جمعاً بين الأحاديث، وأما قول ابن التركماني: بأن إطلاقه يدل على أن ذلك كان في التشهدين بل هو في قوة قولها "وكان يفعل ذلك في التشهدين" إذ قولها أولاً: "وكان يقول في كل ركعتين التحية" يدل على هذا التقدير.

ص: 12

رواه البخاري.

798-

(4) وعن ابن عمر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع

ــ

ففيه أن إطلاقه وإن كان يدل على ما قال، لكن حمله على التشهد الأول متعين جمعاً بين الأحاديث. على أن حديث أبي حميد نص صريح في ثبوت التورك في التشهد الأخير، وحديث عائشة ليست بنص في نفيه بل غاية ما يقال فيه: أنه يدل بظاهره على نفي التورك. وقد تقرر في مقره أن النص يقدم على الظاهر عند التعارض. واستدلوا أيضاً بأحاديث ذكرها الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي في تعليقه على موطأ الإمام محمد. وقال بعد ذكرها: لا يخفى على الفطن أن هذه الأخبار وأمثالها لا تدل على مذهبنا صريحاً، بل تحتمله وغيره. وما كان منها دالاً صريحاً لا يدل على كونه في جميع القعدات على ما هو المدعى. والإنصاف أنه لم يوجد حديث يدل صريحاً على استنان الجلوس على الرجل اليسرى في القعدة الأخيرة. وحديث أبي حميد مفصل فليحمل لمبهم على المفصل- انتهى. واستدل لما ذهب إليه مالك بما رواه هو في موطأه عن يحيى بن سعيد، أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى وثنى رجله اليسرى، وجلس على وركه الأيسر، ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك. والجواب أن هذا معارض بما رواه النسائي من طريق عمرو بن الحارث، عن يحيى بن سعيد، أن القاسم حدثه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن أبيه قال:"من سنة الصلاة أن ينصب اليمنى، ويجلس على اليسرى"، فيحمل ما رواه مالك على التشهد الأخير، وما رواه النسائي على التشهد الأول دفعاً للتعارض بين قول ابن عمر وفعله. والتربع غير التورك، وكان ابن عمر يتربع في بعض الأحيان للعذر، وكان ينكر على ابنه عبد الله التربع؛ لأنه لم يكن معذوراً، ولم يثبت عن ابن عمر إنكار التورك أبداً. والحاصل أنه ليس نص صريح فيما ذهب إليه أبوحنيفة ومالك، فالقول الراجح هو ما ذهب إليه الشافعي. واعلم أنه أجاب الحنفية عن حديث أبي حميد بأنه ضعفه الطحاوي، أو يحمل على الكبر. وقد رده الحافظ في الدراية، قال: أما تضعيف الطحاوي فمذكور في شرحه بما لا يلتفت إليه، وأما الحمل فلا يصح، لأن أبا حميد وصف صلاته التي واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووافقه عشرة من الصحابة، ولم يخصوا ذلك بحال الكبر، والعبرة بعموم اللفظ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي" انتهى. وقال الشيخ عبد الحي في التعليق الممجد: حمل أصحابنا هذا على العذر، وعلى بيان الجواز، وهو حمل يحتاج إلى دليل. ومال الطحاوي إلى تضعيفه، وتعقبه البيهقي وغيره في ذلك بما لا مزيد عليه- انتهى. (رواه البخاري) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه بلفظ أبسط من هذا كما سيأتي.

799-

قوله: (كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة، وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع

ص: 13

رفعهما كذلك،

ــ

رفعهما كذلك) أي حذو منكبيه. وهذا دليل صريح على أن رفع اليدين في هذه المواضع سنة، وهو الحق والصواب، ونقل البخاري في صحيحه عقب ابن عمر هذا عن شيخه على بن المديني أنه قال: حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه؛ لحديث ابن عمر هذا. وهذا في رواية ابن العساكر وقد ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، وزاد:"وكان أعلم أهل زمانه"-انتهى. قلت: وإليه ذهب عامة أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وغيرهم. قال محمد بن نصر المروزي: أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. وقال البخاري في جزء رفع اليدين: قال الحسن وحميد بن هلال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الصلاة. وروى ابن عبد البر بسنده عن الحسن البصري، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أيديهم في الصلاة إذا ركعوا وإذا رفعوا كأنها المراوح. وروى البخاري عن حميد بن هلال، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما أيديهم المراوح، يرفعونها إذا ركعوا وإذا رفعوا رؤوسهم. قال البخاري: ولم يستثن الحسن أحداً منهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دون أحد، ولم يثبت عند أهل العلم عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يرفع يديه. ثم ذكر البخاري عن عدة من علماء أهل مكة، وأهل الحجاز وأهل العراق والشام والبصرة واليمن وعدة من أهل الخرسان، وعامة أصحاب ابن المبارك ومحدثي أهل بخارى، وغيرهم ممن لا يحصى أنهم كانوا يرفعون أيدهم عند الركوع والرفع منه، لا اختلاف بينهم في ذلك. قلت: قول الحسن، وحميد بن هلال يدل على أن الصحابة أجمعوا على رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع منه، كيف لا وقد صح الرفع فيهما عن أبي بكر وعمر وعلي من الخلفاء الراشدين، ثم عن غيرهم من الصحابة، ثم عن التابعين، وهو أيضاً مذهب الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد. قال الترمذي في جامعه: وبه يقول: مالك ومعمر والأوزاعي وابن عيينة وعبد الله بن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق- انتهى. وقال الشعراني في ميزانه (ج1: ص129) : ومن ذلك قول مالك والشافعي وأحمد باستحباب رفع اليدين في التكبيرات والرفع منه- انتهى. وقال ابن عبد البر: لم يرو أحد عن مالك ترك الرفع فيهما- يعني في الركوع والرفع منه- إلا ابن القاسم، والذي نأخذ به الرفع حديث ابن عمر، وهو الذي رواه ابن وهب وغيره عن مالك، ولم يحك الترمذي عن مالك غيره، ونقل الخطابي وتبعه القرطبي في المفهم: أنه آخر قولي مالك وأصحهما. وقال العراقي في طرح التثريب (ج2: ص253) : وقد حكاه عن مالك أيضاً أبومصعب وأشهب والوليد بن مسلم، وسعيد بن أبي مريم، وجزم به الترمذي عن مالك- انتهى. واعلم أن البيهقي روى في سننه حديث ابن عمر هذا بزيادة في آخره بلفظ:"فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله تعالى"، ذكره الحافظ في التلخيص (ص81) والزيلعي في نصب الراية (ج1: ص409) وسكتا عليه ولم يتكلما، لكن في سنده عبد الرحمن بن قريش، قال الذهبي في الميزان (ج2: ص114) : اتهمه السليماني بوضع الحديث. وقال الخطيب في تاريخه (ج10: ص283) : في حديثه

ص: 14

غرائب وأفراد، ولم أسمع فيه إلا خيراً. وفيه أيضاً عصمة بن محمد الأنصاري. قال أبوالحسن الدارقطني: عصمة بن محمد بن فضالة الأنصاري متروك ذكره الخطيب في تاريخه (ج12: ص286) وقال ابن عدي: كل حديثه غير محفوظ، ذكره الذهبي في ميزانه. ويظهر من صنيع النيموي في آثار السنن أن هذه الزيادة هي دليل القائلين بمواظبته صلى الله عليه وسلم على رفع اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه، والأمر ليس كما توهم النيموي، فإن أصل الاستدلال على هذا المطلوب ليس بهذا الحديث بل بحديث مالك بن الحويرث وحديث وائل بن حجر الآتيين، وبالأحاديث التي استدل بها الحنفية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح. قال شيخنا في أبكار المنن (ص195) : اعلم أن العلماء الحنفية ادعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح ما دام حياً، واستدلوا عليه بالأحاديث التي فيها ذكر رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه، فكما ثبت مواظبته صلى الله عليه وسلم على رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح، كذلك تثبت مواظبته صلى الله عليه وسلم على رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه أيضاً. قال صاحب الهداية: ويرفع يديه مع التكبير، وهو سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واظب عليه. قال الزيلعي في نصب الراية: هذا معروف في أحاديث صفة صلاته عليه السلام، منها حديث ابن عمر أخرجه الأئمة الستة. - ثم ذكره بنحو حديث الباب - وحديث أبي حميد الساعدي - ثم ذكره بنحو أول أحاديث الفصل الثاني - ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك رفع اليدين عند الركوع، وعند رفع الرأس منه بحديث صحيح البتة، وما جاء فيه فهو ضعيف، غير قابل للاحتجاج، كما يأتي بيانه- انتهى كلام الشيخ. وقد عرفت مما تقدم أنه ليس رفع يد في غير التحريمة عند جماعة من أهل الكوفة، وإليه ذهبت الحنفية. ثم إنه اختلفت أقوال الحنفية، واضطربت آراؤهم في دفع هذه السنة الصحيحة الثابتة المتواترة سنداً وعملاً - أي رفع اليدين في المواضع الثلاثة-، فذهب بعضهم إلى عدم جواز الرفع في غير التحريمة، بناء على أن رفع اليدين في غير الافتتاح كان جائزاً ومباحاً في أول الأمر، ثم ترك ونسخ جوازه، فصار الرفع منهياً عنه، وترك الرفع مأموراً به، فيكره الرفع تحريماً عندهم، كما في الكبيري شرح المنية والبدائع. وبالغ بعضهم كأمير كاتب الإتقاني صاحب غاية البيان شرح الهداية فقال بفساد الصلاة بالرفع في غير التحريمة؛ لأنه عمل كثير، واعتمد في ذلك على ما روى مكحول النسفي عن أبي حنيفة من فساد الصلاة برفع اليد في غير التحريمة. وقد رد عليه تقي الدين السبكي الشافعي في عصره أحسن رد، ورد عليه الحنفية أيضاً وصرحوا بشذوذ هذه الرواية، وذهبوا إلى عدم الفساد من رفع اليدين في غير الافتتاح. وهذا القول يدلك على أن النزاع بين التاركين للرفع وبين القائلين به في الجواز وعدمه، لا في الأفضلية والأولوية. وذهب بعضهم إلى جواز الرفع في غير التحريمة، لكن الأولى والأرجح والمستحب عندهم ترك الرفع، فالمنسوخ عندهم إنما هو استحباب الرفع لا جوازه وإباحته، والنزاع عندهم إنما هو في الاختيار لا الجواز، قال صاحب الكوكب الدري (ج1: ص129) : لا خلاف بيننا وبين الشافعي في جواز الصلاة بالرفع وعدم الرفع، إنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع؟ فاخترنا الأول واختاروا الثاني، وقال صاحب فيض الباري (ج1: ص257) :

ص: 15

قد ثبت الأمران (الرفع والترك) عندي ثبوتاً لا مرد له ولا خلاف إلا في الاختيار، وليس في الجواز، فما في الكبيري شرح المنية والبدائع "أنه مكروه تحريماً" متروك عندي، نعم إن كان عندهما نقل من صاحب المذهب فهما معذوران، وإلا فالقول بالكراهة في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. قال: وقد اشتهر في متأخري الحنفية القول بالنسخ، وإنما تعلموه من الشيخ ابن الهمام، والشيخ اختاره تبعاً للطحاوي، قال: إذا ثبت عندي القول بالجواز ممن هو أقدم في الحنفية - يعني به أبابكر الجصاص الرازي صاحب أحكام القرآن - وساعدته الأحاديث أيضاً فلا محيد إلا بالقول به، وخلافه لا يسمع، فمن شاء فليسمع. وقال صاحب البدر الساري (ج1: ص255) : إن الرفع متواتر إسناداً وعملاً ولم ينسخ منه ولا حرف. وإنما بقي الكلام في الأفضلية كما صرح به أبوبكر الجصاص في أحكام القرآن. وقال أيضاً: دع عنك حديث النسخ إذ قد شهد العمل بالجانبين، فإنه أقوى دليل على عدم النسخ. وذهب بعضهم إلى عدم النسخ مطلقاً، وقالوا: باستنان الأمرين، لكن الرفع عندهم أكثر وأرجح وأحب من ترك الرفع. قال الشاه ولي الله الدهلوي- الذي يزعم الحنفية أنه كان مقلداً لأبي حنيفة- في حجة الله البالغة (ج2: ص8) : والحق عندي أن الكل سنة، والذي يرفع أحب إلي ممن لا يرفع، فإن أحاديث الرفع أكثر وأثبت- انتهى. وقال السندي في حاشية ابن ماجه (ج1: ص282) : أما قول من قال: إن ذلك الحديث - أي حديث ابن مسعود في ترك الرفع - ناسخ رفع غير تكبيرة الافتتاح فهو قول بلا دليل، بل لو فرض الباب نسخ فيكون الأمر بعكس ما قالوا، فإن مالك بن الحويرث ووائل بن حجر من رواة الرفع ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على تأخر الرفع، وبطلان دعوى نسخه، فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم قصداً فلا تكون سنة. وهذا يقتضى أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك وأصحابه: صلوا كما رأيتموني أصلي. فالأقرب القول باستنان الأمرين، والرفع أقوى وأكثر انتهى. وقال في حاشيته على النسائي (ج1: ص140) : ومن لا يقول به يراه منسوخاً بما لا يدل عليه، فإن عدم الرفع إن ثبت فلا يدل على عدم سنيه الرفع، إذ شأن السنة تركها أحياناً. ويجوز استنان الأمرين جميعاً، فلا وجه لدعوى النسخ، والقول بالكراهة- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه (ص89) على موطأ محمد: القدر المتحقق في هذا الباب هو ثبوت الرفع وتركه كليهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رواة الرفع من الصحابة جم غفير، ورواة الترك جماعة قليلة مع عدم صحة الطرق عنهم إلا عن ابن مسعود، وكذلك ثبت الترك عن ابن مسعود وأصحابه بأسانيد محتجة بها، فإذن نختار أن الرفع ليس بسنة مؤكدة يلام تاركها إلا أن ثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر وأرجح. وأما دعوى نسخه كما صدر عن الطحاوي مغتراً بحسن الظن بالصحابة

ص: 16

التاركين، وابن الهمام، والعيني وغيرهم من أصحابنا فليس بمبرهن عليها بما يشفى العليل ويروى الغليل. وقال أيضا: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه ودعوى عدم ثبوت الرفع. ولا إلى رد روايات الترك بالكلية، ودعوى عدم ثبوته، بل يوفى كل من الأمرين حظه، ويقال: كل منهما ثابت، وفعل الصحابة والتابعين مختلف، وليس أحدهما بلازم يلام تاركه مع القول برجحان ثبوت الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وذهب بعضهم إلى كون الأمرين ثابتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدم الجزم برجحان أحد من الطرفين. قال صاحب البدر الساري (ج1: ص261) : لعلك علمت أن العمل في هذا الباب بالنحوين ونفي الترك باطل. بقي أن الرفع أكثر أو الترك؟ فلم يجزم الشيخ - يعني شيخه الشاه محمد أنور الكشميري - فيه بشيء، ولو تبين له لم يحكم به لسراية الاجتهاد في هذا الباب، الخ. وإنما أطلنا الكلام في تفصيل آرائهم، وذكر أقوالهم لتقف على تخبطهم في هذه المسألة وتباين آرائهم، وتناقض أقوالهم فيها. وهذا هو شأنهم في أكثر المسائل الشرعية كما لا يخفى على من طالع كتب الفقه للحنفية، ولم يكن حاجة إلى رد القول بالنسخ بعد هذا التناقض الذي رأيته في أقوالهم، فإنهم قد كفونا بأنفسهم رداً لهذا القول الباطل لكن لما اشتهر في متأخريهم القول بالنسخ والاستدلال عليه نذكر دلائلهم مع بيان ما فيها من الخلل والخطل، فاعلم أن الذين قالوا بكراهة الرفع، وذهبوا إلى نسخ جوازه قد استدلوا على ذلك بحديث جابر بن سمرة، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن يعني رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما بالهم رافعين أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس؟ اسكنوا في الصلاة. أخرجه أحمد، ومسلم وأبوداود والنسائي من طريق تميم بن طرفة، عن جابر. وأجيب عنه بأنه لا دليل فيه على منه الرفع على الهيئة المخصوصة في المواضع المخصوصة وهو الركوع، والرفع منه؛ لأنه مختصر من حديث طويل كما سنبينه. قال النووي: المراد بالرفع المنهى ههنا رفع أيديهم عند السلام مشيرين إلى السلام من الجانبين، كما صرح به في الرواية الأخرى- انتهى. وقال الشوكاني: الحديث ورد على سبب خاص، فإن مسلماً رواه أيضاً من حديث جابر بن سمرة - من طريق عبيد الله بن القبطية - قال: إذا كنا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، وأشار بيديه إلى الجانبين فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: علام تؤمون بأيديكم كأنها أذناب خيل شمس؟ إنما يكفي أحدكم أن يضع يديه على فخذيه، ثم يسلم على أخيه من يمينه وشماله. وفي رواية: إذا سلم أحدكم فليلتفت إلى صاحبه ولا يومئ بيده. وقال ابن حبان: ذكر الخبر المتقصي للقصة المختصرة المتقدمة بأن القوم إنما أمروا بالسكون في الصلاة عند الإشارة بالتسليم دون رفع الثابت عند الركوع، ثم رواه كنحو رواية مسلم، وفي رواية النسائي: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنسلم بأيدينا. قال الشيخ أبوالحسن محمد بن عبد الهادي السندي الحنفي: أي في الصلاة، وبهذه الرواية تبين أن الحديث مسوق للنهي عن رفع الأيدي عند السلام إشارة إلى الجانبين، ولا دلالة فيه على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه، ولذا قال النووي:

ص: 17

الاستدلال به على النهي عن الرفع عند الركوع وعند الرفع منه جهل قبيح. وقد يقال: العبرة لعموم اللفظ، ولفظ:"ما بالهم رافعي أيديهم في الصلاة" إلى قوله: "اسكنوا في الصلاة" عام، فصح بناء الاستدلال عليه، وخصوص المورد لا عبرة به إلا أن يقال: ذلك إذا لم يعارضه عن العموم عارض، وإلا يحمل على خصوص المورد، وههنا قد صح وثبت الرفع عند الركوع وعند الرفع منه ثبوتاً لا مرد له، فيجب حمل هذا اللفظ على خصوص المورد توفيقاً ودفعاً للتعارض- انتهى كلام السندي. وقال الشوكاني: ورد هذا الجواب - أي بأن الحديث ورد على سبب خاص - بأنه قصر للعام على السبب، وهو مذهب مرجوح، وهذا الرد متجه لولا أن الرفع قد ثبت من فعله صلى الله عليه وسلم ثبوتاً متواتراً - أي إسناداً وعملاً، وقد اعترف به بعض الحنفية كما سيأتي -، وأقل أحوال هذه السنة المتواترة أن تصلح لجعلها قرينة لقصر ذلك العام على السبب، أو لتخصيص ذلك العموم على تسليم عدم القصر. قال: وأيضاً المتقرر في الأصول بأن العام والخاص إذا جهل تاريخهما وجب البناء- انتهى. وقال البخاري: أما احتجاج بعض من لا يعلم بحديث جابر بن سمرة، قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن رافعوا أيدينا- الحديث. فإنما كان هذا في التشهد لا في القيام، كان يسلم بعضهم على بعض، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأيدي في التشهد، ولا يحتج بهذا - أي على منع الرفع عند الركوع والرفع منه - من له حظ من العلم، هذا معروف مشهور لا اختلاف فيه- انتهى. وقال الشيخ عابد بن أحمد السندي الحنفي في المواهب اللطيفة: أما حديث "ما لي أراكم رافعي أيديكم

الخ". فلا يليق الاستدلال بهذا الحديث في نفي الرفع فافهم- انتهى. وقد ظهر بما ذكرنا أن أهل العلم اتفقوا على حمل حديث جابر المختصر على حديثه الطويل، وجعلهما قضية واحدة وقعت في وقت واحد، والقول بأن الحديث المختصر في رفع الأيدي، والإيماء والإشارة بها عند السلام بناء على أن أحدهما تفسير للآخر، وعليه يدل تبويب أبي داود والنسائي وعلى المتقي الحنفي صاحب كنز العمال، وصنيع مسلم في صحيحه. ولله در العلامة الشيخ أمير علي الحنفي فقد اعترف بوقوع إجماع المحدثين على ذلك حيث قال في حاشية صحيح مسلم (ج1: ص182) - طبعة نولكشور لكنؤ -: أجمع المحدثون على هذا التأويل، والسلام من تتمة الصلاة ونازع بعض الناس فيه فقال: بل هذا النهي عن رفع اليدين في الصلاة عند الركوع والرفع منه، فعلى هذا يكون تقبيحاً بعد تشريع بلا تقديم النهي- انتهى. ومما يدل على اتحاد القضية وكون أحد الحديثين تفسيراً للآخر أنه بعيد من الصحابة أن يرفعوا أيديهم عند السلام بعد ما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم النهي عن الرفع في الصلاة مطلقاً، فإن المنع عن الرفع في الصلاة مطلقاً يستلزم المنع عن الرفع عند السلام أيضاً، وكذا يستبعد أن يرفعوا أيديهم عند الركوع والرفع منه بعد ما سمعوا منه النهي عن رفع الأيدي، والإيماء بها عند السلام، فإنه لما نهى عن الرفع عند السلام يكون الرفع عند الركوع والرفع منه قبل السلام منهياً عنه بطريق الأولى، وهذا ظاهر- ففي ادعاء التغاير بين الحديثين نسبة سوء الفهم إلى الصحابة، وفيه من إساءة الأدب في شأن الصحابة ما لا يخفى، وفي حمل الروايتين على التغاير مفاسد أخر لا تخفى على المتأمل المنصف غير

ص: 18

المتعسف المتعصب. وقال بعض الحنفية: سياق الحديثين ظاهر في أن أحدهما ورد في غير ما ورد فيه الآخر، ولا يمكن أن يكون أحدهما تفسيراً للآخر، وذلك من وجوه، الأول أن الحديث الأول وهو قوله- عليه السلام:"اسكنوا في الصلاة" ورد في رفعهم في الصلاة. روى النسائي، عن جابر بن سمرة: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن رافعوا أيدينا في الصلاة، بخلاف الحديث الثاني: إذا سلم أحدكم فلا يلتفت إلى صاحبه، ولا يومئ بيده؛ لأن رفعهم كان عند السلام، وهي حالة الخروج من الصلاة-انتهى. قلت: حاصل كلامه أن الذي يرفع يديه حال التسليم لا يقال له: "اسكن في الصلاة"؛ لأنه ليس في أثناء الصلاة، بل هو في حالة الخروج من الصلاة، فلا يصح إطلاق لفظ "في الصلاة" عليه، وإنما يقال: ذلك لمن يرفع يديه في أثناء الصلاة وهو حالة الركوع والسجود ونحو ذلك. وفيه أن الذي يرفع يديه قبل الفراغ والانصراف من الصلاة وإن كان حال التسليم الثاني يقال له أيضاً: اسكن في الصلاة، فإن الفراغ والانصراف منها إنما يكون بالفراغ من التسليم الثاني، فما لم يفرغ من التسليم الثاني هو في الصلاة. كيف لا! وقد أطلق النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة لفظ "في الصلاة" وأمرهم بالسكون، ففي رواية لأحمد (ج5: ص102) من حديث جابر الطويل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس. وفي أخرى له أيضاً (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم، الخ. ويؤيد ذلك أيضاً ما عند الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة. وما عند البزار: قال سمرة: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسلم على أئمتنا، وأن يسلم بعضنا على بعض في الصلاة. فالذين كانوا يومئون بأيديهم، ويرفعونها عند السلام يصدق عليهم أنهم رفعوا أيديهم في الصلاة. والحاصل أن الرفع عند السلام هو الرفع في أثناء الصلاة، فصح أن يقال له "اسكن في الصلاة". قال: والثاني أن في الحديث الأول كان خروجه صلى الله عليه وسلم من البيت، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم في تلك الصلاة. روى أحمد في مسنده (ج5: ص93) من حديث جابر: أنه- عليه السلام -دخل المسجد فأبصر قوماً قد رفعوا أيديهم-الحديث. بخلاف الحديث الثاني، فإن رفعهم فيه كان خلف النبي صلى الله عليه وسلم لقوله:"كنا إذا صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا السلام عليكم". وفيه أن هذا الاختلاف من تصرف الرواة، ذكر بعضهم ما لم يذكره الآخر، وكان الأصل أنه صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فصلى بنا، وكنا إذا سلمنا قلنا بأيدينا: السلام عليكم، فنظر إلينا، فقال: ما شأنكم، الخ. وكثيراً ما يقع مثل هذا التصرف بل أكثر منه من الرواة كما لا يخفى على من له أدنى خبرة على مختلف الروايات، فدعوى التعدد والتغاير بمثل هذا الاختلاف ليس مما يلتفت إليه. والحديث الأول ليس بنص في أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم في تلك الصلاة. قال: والثالث أن الحديث الأول يدل على أن الرفع كان فعل قوم مخصوصين، وهم الذين كانوا إذ ذاك يتنفلون في المسجد سواء فعل جميع المصلين أو بعضهم، سوى الذين لم يكونوا

ص: 19

إذ ذاك في الصلاة بخلاف الحديث الثاني، فإن الرفع الذي نهي عنه في هذا الحديث كان فعل جميعهم. وفيه أنه الحديث الأول رواه النسائي بلفظ: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن يعني رافعوا أيدينا في الصلاة، فقال ما بالهم-الحديث. وفي رواية لأحمد (ج5: ص107) : دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن رافعي أيدينا في الصلاة، فقال: ما لي أراكم

-الحديث. وهاتان الروايتان كما ترى تدلان على أن الرفع كان فعل جميعهم لا فعل قوم مخصوصين، وليس في طريق من طرق الحديث الأول أنهم كانوا متنفلين، ولا أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن معهم في تلك الصلاة. وروى أحمد (ج5: ص107) الحديث الثاني بلفظ. كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أشار أحدنا إلى أخيه من عن يمينه ومن عن شماله، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما بال أحدكم يفعل هذا كأنها أذناب خيل شمس، إنما يكفي أحدكم

الخ. وفي رواية له: كنا نقول خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلمنا: السلام عليكم، السلام عليكم، يشير أحدنا بيده عن يمينه وعن شماله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بال الذين يرمون بأيديهم في الصلاة كأنها أذناب الخيل الشمس؟ ألا يكفي أحدكم

الخ. وفي أخرى (ج5: ص86) له أيضاً: ما بال أقوام يرمون بأيديهم. وهذه الروايات تدل على أن الرفع الذي نهى عنه في هذا الحديث لم يكن فعل جميعهم خلاف ما ادعى هذا البعض. قال: والرابع أن الحديث الثاني يدل على أن رفعهم كان كرفع المصافح عند السلام، ولا يمكن أن يكون هذا هو الرفع في الحديث الأول؛ لأنهم كانوا فرادى. وفيه أنه لا دليل في الحديث الأول على أنهم كانوا فرادى، بل كانوا يصلون خلف النبي صلى الله عليه وسلم، كما هو مصرح في الطريق الثاني لحديث جابر، وعلى هذا فالرفع المذكور في الطريق الثاني الطويل هو الرفع في الطريق المختصر، يدل على ذلك أنه ورد التقبيح على الرفعين في الحديثين بلفظ واحد وهو قوله:"كأنه أذناب الخيل الشمس". ولا يفهم كونهم فرادى من الحديث الأول إلا من ليس له اطلاع على تصرف الرواة واختلافهم في الروايات، وعلى من رسخ في قلبه كونهما حديثين متغايرين تمشية لمذهبه وإبطالاً للسنة الصحيحة الثابتة المتواترة تواتر إسناد وعمل، وهذا من ثمرات التقليد. قال: والخامس أن الحديث الأول ورد على الرفع، ونهى عنه بلفظ عام، أي اسكنوا في الصلاة، بخلاف الثاني فإنه ورد في الإشارة والإيماء، ونهى عنه بلفظ يختص بحالة السلام- انتهى. وحاصله أن الرفع لا يطلق على الإيماء. وفيه أن الحديث الثاني وإن لم يذكر فيه لفظ الرفع نصاً لكنه ورد على ما هو في معنى الرفع، ففي رواية لأحمد (ج5: ص86) : ما بال أقوام يرمون بأيديهم، والرمي بالأيدي هو الرفع، ونهى فيه أيضاً بلفظ عام، أي السكون، وورد التقبيح بلفظ واحد، ففي الرواية المذكورة:"كأنها أذناب الخيل الشمس، ألا يسكن أحدكم". على أن الإشارة يكون فيها أيضاً الرفع وبالعكس، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر، ففي حديث ابن عمر عند مسلم في صفة صلاته صلى الله عليه وسلم:"رفع إصبعه اليمنى" وفي رواية: "أشار بالسبابة"، قال الطيبي: أي رفعها. وروى أبوداود عن وائل: "رفع إصبعه" وعن ابن الزبير: "كان يشير بإصبعه إذا دعا"، وهذا كما ترى قد أطلق فيهما الرفع

ص: 20

على الإشارة وبالعكس. وروى الترمذي مرفوعاً في حديث تسليم النصارى الإشارة بالأكف، والسلام بإشارة الكف أو اليد لا بد وأن يكون فيه الرفع كما هو مشاهد، ولذلك أطلق أحدهما على الآخر في روايتي حديث جابر المختصرة والطويلة، ومثل هذه الإطلاقات واختلاف ألفاظ الروايات في الأحاديث بسبب تعدد الرواة وتصرفهم كثير لا يخفى على من له وقوف بهذا الشأن. فادعاء التغاير بين الحديثين بمثل هذه الاختلافات بعيد من شأن أهل العلم. ولو سلم التغاير بينهما وكونهما قضيتين مختلفتين لم يكن في الحديث الأول أي المختصر دليل على منع الرفع عند الركوع والرفع منه على الهيئة المخصوصة، فإن النهي ورد فيه على الرفع الذي يكون كأذناب الخيل الشمس، وينافي السكون في الصلاة وهو الرفع الذي يكون بالإشارة إلى الجانبين، وأما الرفع المتنازع فيه أي الذي يكون عند الركوع والرفع منه فليس كأذناب الخيل الشمس، ولا منافياً للسكون في الصلاة، وإلا لكان رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح أيضاً منهياً عنه؛ لأنه لا فرق بين الرفعين، ولا يتصور أن يمنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر ويقبحه ويحرمه في أثناء الصلاة ثم يأذن فيه عند افتتاحها، بل يواظب على افتتاح الصلاة به. وكيف يعقل هذا وقد نهى عن التشبيك في الذهاب إلى المسجد قبل الدخول في الصلاة، وأمر بالسكينة والوقار في الإتيان إلى المسجد. وأيضاً لو كان الأمر كما زعمت الحنفية لكان الرفع في تكبير القنوت وتكبيرات العيدين أيضاً ممنوعاً؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع، ولا صلاة دون صلاة، بل أطلق، فما هو جوابهم عن الرفع عند تكبير القنوت وتكبيرات العيد فهو جوابنا عن الرفع عند الركوع والرفع منه. قال البخاري: ولو كان كما ذهبوا إليه لكان رفع الأيدي في أول التكبير، وأيضاً تكبيرات العيد منهياً عنه؛ لأنه لم يستثن رفعاً دون رفع-انتهى. والحق عندي أن القول بالمنع من أمر هو كأذناب الخيل الشمس، ومناف للخشوع والسكون في الصلاة الخمس والنوافل، ثم القول بجوازه وإباحته في صلاة الوتر وصلاتي العيد جهل قبيح، مع أنه لم يثبت بحديث مرفوع صحيح صريح التكبير في قنوت الوتر، ولا رفع اليدين فيه وفي تكبيرات العيد. ثم أبين دليل على أن الرفع عند الركوع والرفع منه ليس بمراد في حديث جابر، وعلى أنه ليس من أفراد الرفع المنهي عنه المذكور في حديثه، أنه صلى الله عليه وسلم قد واظب عليه حتى فارق الدنيا ثم أجمع عليه الصحابة بعده والتابعون وغيرهم إلا جماعة من أهل الكوفة، فإيراد حديث جابر هذا في معرض الاستدلال به على فسخ الرفع عند الركوع والرفع منه باطل. وقد تقدم الإشارة إلى ذلك في كلام الشوكاني والسندي فتذكر. وأما الذين ذهبوا إلى جواز الأمرين، وقالوا بنسخ استحباب الرفع، واختاروا ترك الرفع، فاستدلوا على ذلك بحديث ابن مسعود الآتي في الفصل الثالث، وبحديث البراء عند أبي داود وغيره. وأجيب عن ذلك بأنهما حديثان ضعيفان غير صالحين للاستدلال كما ستعرف، ولو سلم صلوحهما للاستدلال فغاية ما فيهما أنه ترك الرفع في غير الافتتاح أحياناً، وهذا إنما يدل على أن الرفع في غير الافتتاح ليس بسنة لازمة يلام تاركها، لا على أنه منسوخ؛ لأن مجرد الترك لا يدل على

ص: 21

النسخ. قال الشوكاني: قال ابن حزم في الكلام على حديث البراء ما لفظه: إن صح دل على أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان الجواز، فلا تعارض بينه وبين حديث ابن عمر وغيره- انتهى. وقد سبق عن الشيخ عبد الحي والسندي أن الاستدلال بحديث ابن مسعود على نسخ الرفع ليس بصحيح، فلله درهما قد اعترفا بالصواب وباحا بالحق. واستدلوا أيضاً بما رواه البيهقي في الخلافيات عن عبد الله بن عون الخراز، عن مالك، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة ثم لا يعود- انتهى. قال صاحب العرف الشذي: قال الحاكم: إنه حديث موضوع، ولم اطلع على أول إسناده - إلى قوله -:"فلعل إسناده قوي"-انتهى. وقال صاحب المواهب اللطيفة بعد نقله عن الحاكم والبيهقي حكم الوضع على حديث ابن عمر هذا ما لفظه: تضعيف الحديث لا يثبت بمجرد الحكم، وإنما يثبت ببيان وجوه الطعن، وحديث ابن عمر الذي رواه البيهقي في خلافياته: رجاله رجال الصحيح، فما أرى له ضعفاً بعد ذلك إلا أن يكون الراوي عن مالك مطعوناً، لكن الأصل العدم، فهذا الحديث عندي صحيح لا محالة – انتهى. قلت: الاستدلال بحديث ابن عمر هذا على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه كتشبث الغريق بالحشيش، فإنه حديث باطل موضوع. قال الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص404) بعد نقل هذا الحديث من الخلافيات: قال البيهقي: قال الحاكم: هذا باطل موضوع، ولا يجوز أن يذكر إلا على سبيل القدح، فقد روينا بالأسانيد الصحيحة عن مالك. بخلاف هذا – انتهى. وقال الحافظ في الدراية: نقل البيهقي عن الحاكم أنه موضوع، وهو كما قال-انتهى. وقال في التلخيص: هو مقلوب موضوع-انتهى. فالعجب من هؤلاء المقلدين الذي يستدلون بحديث ابن عمر الذي حكم الحاكم والبيهقي والحافظ بأنه باطل موضوع على ترك الرفع في غير الافتتاح، ويجعلونه ناسخاً لحديثه الصحيح المتفق عليه، لا سيما من هذين المقلدين الذين مع عدم اطلاعهما على أول إسناد هذا الحديث - أى من دون عبد الله بن عون الراوي، عن مالك إلى البيهقي المخرج له؛ لأن بينهما مفاوز تنقطع دونهما الأعناق، ووسائط لا يدري من هم وكيف حالهم - ومع علمهما بأن الحاكم والبيهقي حكم عليه بأنه موضوع يرجو واحد منهما أن إسناده قوي، ويقول الآخر بملء شدقه: إن رجاله رجال الصحيح، ويحكم بأنه صحيح لا محالة بمجرد قوله: إن الأصل عدم الطعن. البيهقي هو مخرج هذا الحديث، والحاكم والحافظ كانا مطلعين على سنده من أوله إلى آخره، وقد اتفقوا على كونه باطلاً موضوعاً، ونقل الزيلعي كلام الحاكم، وسكت عنه وأقره، ثم أتى من المقلدين من ليس له خبرة ووقوف على أول سنده فرد أقوال هؤلاء الأئمة الحفاظ، وادعى عدم ضعفه، بل جزم بصحته. أليس هذا تحكماً محضاً ارتكبه تمشية للمذهب؟ هداهم الله تعالى إلى صراط المستقيم، وأخلصهم من ورطة التقليد الذي هذا من ثمراته. واستدلوا أيضاً بحديث رواه البيهقي في الخلافيات أيضاً عن عبادة بن الزبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه في أول الصلاة، ثم لم يرفعهما في شيء حتى يفرغ. كذا في نصب الراية

ص: 22

(ج1: ص404) قلت: قال الزيلعي بعد ذكره: عباد هذا تابعي، فهو مرسل- انتهى. والمرسل على القول الصحيح ليس بحجة. قال ابن الصلاح في مقدمته (ص21) : اعلم أن حكم المرسل حكم الحديث الضعيف إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر، وما ذكرنا من سقوط الاحتجاج بالمرسل والحكم بضعفه هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ الحديث ونقاد الأثر، وقد تداولوه في تصانيفهم. وفي صدر صحيح مسلم: المرسل في أصل قولهم وقول أهل العلم بالأخبار ليس بحجة-انتهى. وقال العراقي في ألفيته (ص.

...

ورده جماهر النقاد

للجهل بالساقط في الإسناد

وقال الحافظ في الدراية بعد ذكر حديث عباد هذا: وهذا مرسل، وفي إسناده أيضاً من ينظر فيه-انتهى. وهذا يدل على أن في سنده مع كونه مرسلاً من هو منظور فيه. ولو تنزلنا وسلمنا أن سنده سالم من الكلام، وأن المرسل حجة لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع عند الركوع والرفع منه؛ لأن أحاديث الرفع مثبتة، وهذا ناف، والمثبت مقدم على النافي، ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك، فمجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز. ولأنه يمكن التوفيق بينه وبين أحاديث الرفع بأن المعنى لم يرفعها رفعاً بالغاً فيه، فليس المراد نفي الرفع مطلقاً، بل المراد نفي الرفع المبالغ فيه. واستدلوا أيضاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن، تكبيرة الافتتاح- الحديث. أخرجه الطبراني عن ابن عباس مرفوعاً، وابن أبي شيبة موقوفاً عليه، وذكره البخاري في جزء رفع اليدين معلقاً عنه، وأخرجه البزار والبيهقي عن ابن عباس وابن عمر مرفوعاً وموقوفاً، وأخرجه الحاكم عنهما مرفوعاً. قلت: هو حديث ضعيف غير قابل للاحتجاج، وقد بسط الزيلعي طرقه في نصب الراية (ج1: ص 390-392) وقال بعد نقله من رواية البيهقي والحاكم: قال الشيخ في الإمام: اعترض على هذا بوجوه: أحدها: تفرد ابن أبي ليلى، وترك الاحتجاج به - لكونه سيء الحفظ -. وثانيها: رواية وكيع عنه بالوقف على ابن عباس وابن عمر. قال الحاكم: ووكيع أثبت من كل من روى هذا الحديث عن ابن أبي ليلى. وثالثها: رواية جماعة من التابعين بالأسانيد الصحيحة المأثورة عن عبد الله بن عمرو وعبد الله ابن عباس أنهما كانا يرفعان أيديهما عند الركوع وبعد رفع الرأس من الركوع، وقد أسنداه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ورابعها: أن شعبة قال: لم يسمع الحكم من مقسم إلا أربعة أحاديث، وليس هذا الحديث منها - فهو منقطع غير محفوظ -. وخامسها: عن الحكم قال: إن جميع الروايات "ترفع الأيدي في سبعة مواطن" وليس في شيء منها "لا ترفع الأيدي إلا فيها" ويستحيل أن يكون "لا ترفع الأيدي إلا في سبعة مواطن" صحيحاً، وقد تواترت الأخبار بالرفع في غيرها كثيراً، منها الاستسقاء ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ورفعه عليه الصلاة والسلام يديه في الدعاء في الصلوات، وأمره به، ورفع اليدين، والقنوت في صلاة الصبح والوتر- انتهى. وقال البخاري في جزء رفع اليدين بعد ذكر كلام شعبة المتقدم: فهو مرسل وغير محفوظ؛ لأن

ص: 23

أصحاب نافع خالفوا. وأيضاً فهم قد خالفوا الحديث، ولم يعتمدوا عليه في تكبيرات العيدين وتكبير القنوت. وفي رواية وكيع:"ترفع الأيدي" لا يمنع رفعه فيما سوى هذه السبعة- انتهى كلامه. ولو سلم كون هذا الحديث صالحاً للاحتجاج لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه لما تقدم فتأمل. واستدلوا أيضاً بما رواه الدارقطني والبيهقي في سننهما، وابن عدي في الكامل عن عبد الله بن مسعود، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر فلم يرفعوا أيديهم إلا عند استفتاح الصلاة. قلت: فيه محمد بن جابر وقد تفرد به، وهو ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين وعمرو بن علي وأبوزرعة والبخاري وأبوحاتم وأبوداود والنسائي ويعقوب بن سفيان والعجلى وابن حبان والدارقطني والحاكم. قال أحمد: كان محمد بن جابر ربما ألحق أو يلحق في كتابه يعني الحديث. وقال أيضاً: لا يحدث عنه إلا شر منه. وقال ابن معين: كان أعمى، واختلط عليه حديثه، وهو ضعيف. وقال: عمرو بن علي: صدوق، كثير الوهم، متروك الحديث. وقال أبوزرعة: محمد بن جابر ساقط الحديث عند أهل العلم. وقال البخاري: ليس بالقوى، يتكلمون فيه، روى مناكير. وقال أبوحاتم: ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن، وكان ابن مهدي يحدث عنه، ثم تركه بعد، وكان يروي أحاديث مناكير، وهو معروف بالسماع، جيد اللقاء، رأوا في كتبه لحقاً. وحديثه عن حماد فيه اضطراب. وقال أبوداود: ليس بشيء. وقال النسائي وابن سفيان والعجلى: ضعيف. وقال ابن حبان: كان أعمى يلحق في كتبه ما ليس من حديثه يسرق، وما ذكر به فيحدث به. قال إسحاق بن عيسى بن الطباع: ذاكرت محمد بن جابر ذات يوم بحديث لشريك عن أبي إسحاق فرأيت في كتابه قد ألحقه بين السطرين كتاباً طرياً. وقال الدارقطني في سننه: تفرد به محمد بن جابر- وكان ضعيفاً- عن حماد، عن إبراهيم. وغير حماد يرويه عن إبراهيم مرسلاً، عن عبد الله من فعله، وهو الصواب. وقال الحاكم: هذا - أي ما روى عن إبراهيم، عن عبد الله بن مسعود من فعله - هو الصحيح، وإبراهيم لم ير ابن مسعود، والحديث منقطع، ومحمد بن جابر تكلم فيه أئمة الحديث. وأحسن ما قيل فيه: أنه يسرق الحديث من كل من يذاكره، حتى كثرت المناكير والموضوعات في حديثه. وقال الحافظ في التقريب: صدوق - أي حينما كتب عنه باليمامة وبمكة كما في التهذيب، لا مطلقاً - ذهبت كتبه فساء حفظه، وخلط كثيراً، وعمى فصار يلقن. وهذه كما ترى جروح مفسرة من جماعة من أئمة الحديث النقاد الحفاظ، وأئمة الجرح والتعديل الكبار، وقد حسن بعضهم أمره: ففي تهذيب التهذيب قال ابن أبي حاتم عن محمد بن يحيى: سمعت أبا الوليد يقول: نحن نظلم محمد بن جابر بامتناعنا من التحديث عنه. قال: وسئل أبي عن محمد بن جابر وابن لهيعة فقال: محلهما الصدق، ومحمد بن جابر أحب إلي من ابن لهيعة. وقال الذهلي: لا بأس به. وفي التقريب رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة- انتهى. وقال ابن عدي: كان إسحاق بن أبي إسرائيل يفضل محمد بن جابر على جماعة الشيوخ هم أفضل منه وأوثق- انتهى. قلت: قد تقرر في موضعه أن الجرح

ص: 24

المفسر مقدم على التعديل، ولو كان عدد المعدلين أكثر، فكيف إذا كان عدد الجارحين أكثر، وههنا كذلك. قال ابن الصلاح في مقدمته: إذا اجتمع في شخص جرح وتعديل فالجرح مقدم؛ لأن المعدل يخبر عما ظهر من حاله، والجارح يخبر عن باطن خفي المعدل، فإن كان عدد المعدلين أكثر فقد قيل: التعديل أولى. والصحيح الذي عليه الجمهور أن الجرح أولى لما ذكرناه، والله أعلم. وقال السيوطي في التدريب: إذا اجتمع فيه جرح مفسر والتعديل، فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدل، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين- انتهى. فلا يلتفت إلى قول من حسن أمر محمد بن جابر في جنب تضعيف هؤلاء الحفاظ النقاد، فما تفوه به بعض الحنفية من أن الأرجح فيه التوثيق والتعديل، بل كأنه من رجال الصحيحين أو من رجال مسلم، مردود عليه. وأما ما قال الحافظ في التقريب: أنه رجحه أبوحاتم على ابن لهيعة فالمراد رجحه في الصدق، يدل على ذلك قول أبي حاتم:"محلمها الصدق، ومحمد بن جابر أحب إليّ من ابن لهيعة"، فإن الظاهر أنه أراد به كونه أحب إليه أي أرجح في الصدق، ويدل على ذلك أيضاً قول أبي حاتم فيه:"ذهبت كتبه في آخر عمره، وساء حفظه، وكان يلقن". وقوله: "رأوا في كتبه لحقاً، وحديثه عن حماد فيه اضطراب"، وقوله:"إن في أحاديثه تخاليط، وأما أصوله فهي صحاح". ومن المعلوم أنه لا منافاة بين كون الرجل صدوقاً وبين كونه سيء الحفظ، كثير الاختلاط، مضطرب الحديث، كثير الوهم. على أنه قد تفرد أبوحاتم في قوله:"هو أحب إليّ من ابن لهيعة" ولم يوافقه أحد في ذلك. والظاهر أن ابن لهيعة أحسن حالاً من محمد بن جابر كما يظهر من تهذيب التهذيب، وميزان الاعتدال. وأما ما قال ابن عدي: إنه روى عنه أي عن محمد بن جابر الكبار: أيوب وابن عون وهشام بن حسان والثوري وشعبة وابن عيينة وغيرهم، ولولا أنه في ذلك المحل لم يرو عنه هؤلاء الذين هو دونهم- انتهى. ففيه أنه لا يلزم من ذلك كونه ثقة ضابطاً حافظاً غير مختلط وغير واهم، كما تقرر في موضعه. وارجع لذلك إلى كتاب العلل للترمذي وغيره من كتب الأصول، فالحق أن محمد بن جابر ضعيف لسوء حفظه، وكثرة اختلاطه، وقبوله التلقين، وقد تفرد هو برواية هذا الحديث فالاستدلال به على نسخ الرفع في الركوع والرفع منه باطل جداً. واستدلوا أيضاً بآثار الصحابة، منها أثر عمر بن الخطاب، روى الطحاوي والبيهقي وأبوبكر بن أبي شيبة عن الحسن بن عياش، عن عبد الملك بن أبجر، عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم النخعي عن الأسود، قال: رأيت عمر بن الخطاب يرفع يديه في أول تكبيرة ثم لا يعود. قال النيموي تبعاً للطحاوي وابن التركماني، هو أثر صحيح، وقال: لا يخفي على أحد من أهل العلم أن عمر بن الخطاب كان أعلم بالسنة من ابنه عبد الله وممن كان مثله أو دونه، ولذلك جعل الطحاوي فعل عمر دليلاً على النسخ- انتهى. قلت: فيه كلام من وجوه: الأول: أن في سنده إبراهيم النخعي وهو مدلس، ورواه عن الأسود بالعنعنة فكيف يكون هذا الأثر صحيحاً؟. والثاني: أن في كون هذا الأثر بهذا اللفظ محفوظاً نظراً، روى الحاكم، وعنه البيهقي بسنده، عن سفيان الثوري، عن الزبير بن عدي بلفظ: "كان

ص: 25

يرفع يديه في التكبير"، ليس فيه: "ثم لا يعود"، والظاهر أن ما رواه الحسن بن عياش عن ابن أبجر عن ابن عدي، وما رواه الثوري عن ابن عدي كليهما في محل الرفع. وقد قال الحافظ في الدراية (ص85) بعد ذكر الروايتين: وقد رواه الثوري وهو المحفوظ. والثالث: أن هذا الأثر معارض بما رواه طاووس عن ابن عمر أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. قال الزيلعي في نصب الراية: اعترضه الحاكم بأن هذه رواية شاذة لا يقوم بها حجة، ولا تعارض بها الأخبار الصحيحة عن طاووس بن كيسان عن ابن عمر، أن عمر كان يرفع يديه في الركوع وعند الرفع منه. والرابع: أنه لو سلم أن أثر عمر هذا صحيح فلا يدل على النسخ، بل غاية ما يدل عليه هو أن الرفع فيهما لم يكن سنة لازمة عند عمر، بل كان مستحباً عنده. قال الشاه ولي الله الدهلوي في إزالة الخفاء: أبوبكر عن الأسود: صليت مع عمر، فلم يرفع يديه في شيء من صلاته إلا حين افتتح الصلاة. قلت تكلم الشافعية والحنفية في ترجيح الروايات، كل على حسب مذهبه، والأوجه عندي أن عمر رأى رفع اليدين عند الركوع والقومة منه مستحباً، فكان يفعل تارة ويترك أخرى، كما بين هو بنفسه في سجود التلاوة- انتهى. ومنها أثر علي، روى الطحاوي وابن أبي شيبة والبيهقي عن عاصم بن كليب، عن أبيه: أن علياً كان يرفع يديه في أول تكبيرة من الصلاة، ثم لا يرفع بعد. قال الزيلعي: هو أثر صحيح، وقال العيني: إسناده صحيح على شرط مسلم. وقال الطحاوي بعد روايته: لم يكن علي ليرى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع ثم يتركه إلا وقد ثبت عنده نسخه- انتهى. قلت: في كون هذا الأثر صحيحاً نظر؛ لأنه انفرد به عاصم بن كليب، وقال ابن المديني: لا يحتج بما انفرد به. وقال عبد الرحمن بن مهدي: ذكرت للثوري حديث النهشلي عن عاصم بن كليب فأنكره، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين. ولو سلم أن أثر علي هذا صحيح لم يكن فيه دليل على نسخ الرفع. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه على موطأ محمد بعد ذكر قول الطحاوي المتقدم: فيه نظر، فقد يجوز أن يكون ترك علي، وكذا ترك ابن مسعود، وترك غيرهما من الصحابة إن ثبت؛ لأنهم لم يروا الرفع سنة مؤكدة يلزم الأخذ بها، ولا ينحصر ذلك في النسخ، بل لا يجترئ بنسخ أمر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجرد حسن الظن بالصحابي مع إمكان الجمع بين فعل الرسول وفعله- انتهى. ومنها أثر أبي سعيد الخدري، روى البيهقي، عن سوار بن مصعب، عن عطية العوفي، أن أباسعيد الخدري وابن عمر كانا يرفعان أيديهما أول ما يكبران ثم لا يعودان. قلت: قال البيهقي: قال الحاكم: عطية سيء الحال، وسوار أسوأ منه. وقال البخاري: سوار بن مصعب منكر الحديث. وعن ابن معين أنه غير محتج به- كذا في نصب الراية (ج1: ص406) . ثم هذا الأثر يعارضه ما رواه البيهقي عن عطاء، قال: رأيت جابر بن عبد الله وابن عمر، وأباسعيد وابن عباس وابن الزبير وأباهريرة يرفعون أيديهم إذا افتتحوا الصلاة، وإذا ركعوا، وإذا رفعوا. وفيه ليث بن أبي سليم وهو مختلف فيه. ومنها أثر ابن مسعود، روى الطحاوي عن إبراهيم النخعي، قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلوات إلا في الافتتاح. قلت: أثر ابن مسعود

ص: 26

هذا منقطع. إبراهيم لم يلق عبد الله، وكان يأخذ من الثقة وغير الثقة كما صرح به البيهقي في جزء القراءة. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال (ج1: ص35) : استقر الأمر على أن إبراهيم حجة، وأنه إذا أرسل عن ابن مسعود وغيره فليس بحسن- انتهى. وقال الشافعي في كتاب الأم (ج7: ص272، 271) : إن إبراهيم النخعي لو روى عن علي وعبد الله لم يقبل منه؛ لأنه لم يلق واحداً منهما- انتهى. وأما ما روي عن أحمد ويحي بن معين وغيرهما أن مراسيل إبراهيم صحيحة أو مقبولة مطلقاً، ففيه أن الجرح المفسر مقدم على التعديل مطلقاً، ولو سلم أن هذا الأثر جيد فلا يدل على النسخ. قال الشيخ عبد الحي: الانصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله، ولا إلى دعوى النسخ ما لم يثبت بنص عن الشارع- انتهى باختصار يسير بقدر الضرورة، وقد تقدم كلامه بتمامه. ومنها أثر ابن عمر، روى الطحاوي، وأبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي في المعرفة، عن مجاهد، قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة. قال النيموي: سنده صحيح. قلت: بل أثر ابن عمر هذا ضعيف من وجوه، الأول: أن في سنده أبا بكر بن عياش وكان تغير حفظه بآخره، فما لم يثبت أن الراوي عنه- وهو أحمد بن يونس- أخذ منه قديماً قبل التغير لا يحكم بصحته. والثاني: أنه شاذ فإن مجاهداً خالف جميع أصحاب ابن عمر وهم ثقات حفاظ، والعدد الكثير أولى من واحد. وأما ما روي من موافقة عبد العزيز بن حكيم لمجاهد عند محمد في موطأه، ففيه أن في سنده محمد بن أبان بن صالح- وهو ضعيف- ليس ممن يعتمد عليه. قال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بالقوى، يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال البخاري في التاريخ: يتكلمون في حفظه لا يعتمد عليه- كذا ذكره صاحب التعليق الممجد نقلاً عن لسان الميزان (ج5: ص31)، فموافقة عبد العزيز لمجاهد لا تجدي شيئاً. والثالث: أن إمام هذا الشأن يحيى بن معين قال: حديث أبي بكر عن حصين إنما هو توهم لا أصل له، ذكره البخاري في جزء رفع اليدين، ولا شك أن قول يحيى بن معين في هذا الباب حجة؛ لأنه إمام الجرح والتعديل، ومن القائمين بفن معرفة علل الحديث. وقال أحمد بن حنبل: كل حديث لا يعرفه يحيى بن معين فليس بحديث. وقد وافقه البخاري على ذلك ولم يخالفه أحد من مهرة هذا الفن. قال الطحاوي بعد رواية أثر ابن عمر هذا: فلا يكون هذا من ابن عمر إلا وقد ثبت عنده نسخ ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعله. قال: فإن قيل: فقد روى طاووس عن ابن عمر خلاف ما رواه مجاهد. قلنا: كان هذا قبل ظهور الناسخ- انتهى. قلت: وأجاب عنه البيهقي في كتاب المعرفة فقال: حديث أبي بكر بن عياش هذا أخبرناه أبوعبد الله الحافظ، فذكره بسنده ثم أسند عن البخاري أنه قال: أبوبكر بن عياش اختلط بآخره، وقد رواه الربيع وليث وطاووس وسالم ونافع وأبوالزبير ومحارب بن دثار وغيرهم، قالوا: رأينا ابن عمر يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع، وكان يرويه أبوبكر قديماً عن حصين عن إبراهيم عن ابن مسعود مرسلاً موقوفا: أن ابن مسعود كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، ثم

ص: 27

لا يرفعهما بعد. وهذا هو المحفوظ عن أبي بكر بن عياش، والأول خطأ فاحش لمخالفته الثقات من أصحاب ابن عمر. قال الحاكم: كان أبوبكر بن عياش من الحفاظ المتقنين، ثم اختلط حين نسي حفظه فروى ما خولف فيه، فكيف يجوز دعوى نسخ حديث ابن عمر بمثل هذا الحديث الضعيف؟ أو نقول: إنه ترك مرة للجواز إذ لا يقول بوجوبه، ففعله يدل على أنه سنة، وتركه يدل على أنه غير واجب- انتهى. كذا في نصب الراية (ج1: ص409) وقد رد الشيخ عبد الحي أيضاً التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ من وجوه، وأجاب في ضمنه عن كلام الطحاوي المذكور أيضاً قال في التعليق الممجد: المشهور في كتب أصول أصحابنا أن مجاهداً قال: صحبت ابن عمر عشر سنين فلم أر يرفع يديه إلا مرة. وقالوا: قد روى ابن عمر حديث الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركه، والصحابي الراوي إذا ترك مروياً ظاهراً في معناه، غير محتمل للتأويل، يسقط الاحتجاج بالمروي. وقد روى الطحاوي من حديث أبي بكرة بن عياش عن حصين، عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فلم يكن يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة، ثم قال: فهذا ابن عمر قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع، ثم ترك هو الرفع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يكون ذلك إلا وقد ثبت عنده نسخة. وههنا أبحاث: الأول: مطالبة ما نقلوه عن مجاهد أنه صحب ابن عمر عشر سنين ولم يره إلا في التكبيرة الأولى. والثاني: المعارضة بخبر طاووس وغيره من الثقات أنهم رأوا ابن عمر يرفع. والثالث: أن في طريق الطحاوي أبابكر بن عياش، وهو متكلم فيه لا توازي روايته رواية غيره من الثقات. ثم ذكر كلام البيهقي الذي نقلناه عن نصب الراية، ثم قال: فإن قلت آخذاً من شرح معاني الآثار. أنه يجوز أن يكون ابن عمر فعل ما رآه طاووس قبل أن يقوم الحجة بنسخه، ثم لما ثبتت الحجة بنسخة عنده تركه، وفعل ما ذكره عنه مجاهد. قلت: هذا مما لا يقوم به الحجة، فإن لقائل أن يعارض ويقول: يجوز أن يكون فعل ابن عمر ما رواه مجاهد قبل أن تقوم الحجة بلزوم الرفع، ثم لما ثبت عنده التزم الرفع، على أن احتمال النسخ احتمال من غير دليل فلا يسمع. فإن قال قائل: الدليل هو خلاف الراوي مرويه. قلنا: لا يوجب ذلك النسخ كما مر. والرابع: وهو أحسنها أنا سلمنا ثبوت الترك عن ابن عمر، لكن يجوز أن يكون تركه لبيان الجواز، أو لعدم رؤية الرفع سنة لازمة، فلا يقدح ذلك في ثبوت الرفع عنه وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والخامس: أن ترك الراوي مروية إنما يكون مسقطاً للاحتجاج عند الحنفية إذا كان خلافه بيقين كما هو مصرح في كتبهم، وههنا ليس كذلك، لجواز أن يكون الرفع الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمله ابن عمر على العزيمة وتركه أحياناً لبيان الرخصة، فليس تركه خلافاً لروايته بيقين. والسادس: أنه لا شبهة في أن ابن عمر قد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الرفع، بل ورد في بعض الروايات عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة رفع يديه، وإذا ركع، وإذا رفع، وكان لا يفعل ذلك في السجود، فما زالت تلك صلاته حتى لقي الله. أخرجه البيهقي.

ص: 28

ولا شك أيضاً في أنه ثبت عن ابن عمر بروايات الثقات فعل الرفع، وورد عنه برواية مجاهد، وعبد العزيز بن حكيم الترك، فالأولى أن يحمل الترك المروي عنه على وجه يستقم ثبوت الرفع منه. ولا يخالف روايته أيضاً إلا أن يجعل تركه مضاداً لفعله، ومسقطاً للأمر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بروايته ورواية غيره- انتهى كلام الشيخ عبد الحي. وممن رد من الحنفية التمسك بأثر ابن عمر هذا على النسخ: العلامة الشيخ محمد معين السندي أيضاً، وهو من تلامذة الشاه ولي الله الدهلوي فارجع إلى دراسات اللبيب (ص171) . واستدلوا أيضاً بأنه قد ثبت الترك بالاتفاق في جنس ذلك الحكم، وهو الرفع بين السجدتين، وثبوت الترك في الجنس دليل على نسخ الأصل كما قرروا في حديث التسبيع في سؤر الكلب أنه كان في زمن التشديد في أمر الكلاب وكما في مسئلة الرضاعة. قالوا: قد تدرج النسخ فيها من عشر رضعات حتى نسخ رأساً. قلت: دعوى الاتفاق على ثبوت الترك في جنس ذلك الحكم ممنوعة، ولا نسلم أن الرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع كان مشروعاً ثم نسخ وترك، حتى يكون ذلك الترك دليلاً على تدرج النسخ إلى الأصل. ولو تنزلنا وسلمنا أن الرفع بين السجدتين كان ثم نسخ وترك، فلا يدل ذلك على نسخ الرفع عند الركوع، والرفع عند القيام إلى الركعة الثالثة، كما لا يدل على نسخ الرفع عند التكبيرة الأولى، وأما القول بأن حكم تثمين الغسلات والتسبيع والترتيب في سؤر الكلب كان في زمن التشديد في أمر الكلاب ثم وقع فيه النسخ تدريجاً فباطل مردود على قائله، قد رده الحافظ في الفتح، والشيخ عبد الحي في السعاية فارجع إليهما. وكذا دعوى تدرج النسخ في مسألة الرضاعة أيضاً باطلة فإنه لا دليل على نسخ حكم خمس رضعات الذي ذهب إليه الشافعي، ولا على نسخ حكم ثلاث رضعات الذي هو مذهب أحمد، لا من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، ولا يثبت النسخ بالادعاء. واستدلوا أيضاً بأنه وقع في الصلاة تغيرات في أوقات مختلفة كما يدل عليه حديث معاذ بن جبل عند أبي داود:"أحيلت الصلاة ثلاث تحويلات"، وقد كانت أقوال وأفعال من جنس هذا الرفع مباحة في الصلاة، كالكلام، والتطبيق، وعدم استواء الصفوف، والمشي ونحو ذلك، ثم نسخت لكون مبنى الصلاة على السكون والخضوع، فلا يبعد أن يكون الرفع في المواضع الثلاثة أيضاً مشمولا بالنسخ. قلت: سلمنا وقوع التغييرات في الصلاة لكن هذه التغييرات إنما وقعت في الأمور التي هي من العادات، كالكلام، واختلال الصفوف، والمشي، والتطبيق، فنهوا عن الكلام وأمروا بالسكوت قبل وقعة بدر بقوله تعالى:{قوموا لله قانتين} [238: 2] ، وأمروا بتسوية الصفوف في أوائل الهجرة، وأما الأمور التي هي من العبادة فلم يقع النسخ والتغيير فيها. والكلام ههنا فيما هو من صلب الصلاة، وأمر القبلة من شرائط الصلاة لا من صلبها. والرفع بين السجدتين أو عند كل خفض ورفع لم يثبت. وأما الرفع في المواضع الثلاثة الذي هو من أمور العبادة فقد ثبت تواتراً، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما يدل على نسخه، كما صرح به من الحنفية الشيخ عبد الحي، والشيخ أبوالحسن السندي،

ص: 29

والشيخ محمد بن معين السندي وغيرهم. فالقول بكونه مشمولاً بالنسخ بمجرد التخمين تقوّل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وافتراء عليه. أعاذنا الله منه. وههنا أمور ينبغي أن نذكرها ليتضح لك هذا الجواب حق الاتضاح، وهي تنفعك فيما يأتي أيضاً: الأول: أن الأمور العادية هي التي منع منها في الصلاة ما منع؛ لأنها منافية للخشوع، بخلاف الأفعال التي هي من جنس العبادة، فلم يقع النهي عنها، بل أمروا بها لكونها مؤثرة في الباطن، مورثه للخشوع في القلب، والصلاة هي اسم لمجموع الأفعال الظاهرة والخشوع، لا لخشوع القلب فقط. والثاني: أن مطلق الحركة ليست بمنافية للخشوع، كحركة الانتقال من القيام إلى الركوع والسجود، ورفع الرأس منها، ورفع السبابة في التشهد، ورد السلام بالإشارة. وقال تعالى:{وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [45: 2] . والثالث: أن رفع اليدين الذي هو حركة من الحركات، وعمل من أعمال الصلاة ليس من الأمور العادية، بل هو من العبادات؛ لأن اشتغال اليدين بالعبادة مع الأعضاء الظاهرة الأخرى من كمال العبادة، كما قيل في وضع اليمنى على اليسرى في القيام، ووضع اليدين على الركبتين في الركوع، ووضعهما حذاء الأذنين أو المنكبين في السجدة مستقبلاً بأصابعهما القبلة، ورفع المسبحة، والإشارة بها في التشهد، ونصب القدمين في السجدة. ومما يدل على كون رفع اليدين من أمور العبادة ما في شرح البخاري للعيني (ج5: ص272) : قال ابن بطال: رفعهما تعبد، وقيل: إشارة إلى التوحيد، وقيل: انقياد. وقيل: إشارة إلى طرح أمور الدنيا والإقبال بالكلية إلى الصلاة. وقيل: استعظام ما دخل فيه. وقال الشافعي: تعظيم لله، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عمر: هو من زينة الصلاة، وبكل رفع عشر حسنات، بكل إصبع حسنة – انتهى ملخصاً. وقال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص6) : الهيئات المندوبة إليها في الصلاة ترجع إلى معان: منها:

، ومنها: محاكاة ذكر الله، وإيثاره على من سواه بأصابعه ويده حذو ما يعقله بجنانه ويقول بلسانه، كرفع اليدين والإشارة بالمسبحة ليكون بعض الأمر معاضداً لبعض

الخ. والرابع: أن رفع اليدين في المواضع الثلاثة على الهيئة المخصوصة ليس منافياً للخشوع الذي هو للصلاة كالروح للجسد، بل نقول: إن الرفع في هذه المواضع عين الخشوع. قال الشاه ولي الله في حجته (ج2: ص8) : السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً – انتهى. ثم إنهم قد اتفقوا على سنية افتتاح الصلاة برفع اليدين، وهذا دليل واضح على عدم منافاة الرفع للخشوع، وإلا لما جاز اقتران الصلاة به والمواظبة على الإفتتاح به. ولا فرق بين هذه الرفع وبين الرفع في المواضع الثلاثة الباقية. ومن ادعى الفرق فعليه البيان. ومما يؤكد ما قلنا من عدم المنافاة بين الرفع المذكور والخشوع، وعدم الفرق بين الرفعين أن الحنفية قالوا بمشروعيته في وسط الصلاة أيضاً، أي عند تكبير القنوت وتكبيرات العيدين، فالقول باستنان الرفع في أول الصلاة، والذهاب إلى

ص: 30

مشروعيته في وسطها، ثم الحكم بكراهته أو عدم استحبابه في المواضع الثلاثة على توهم أنه نسخ لكونه منافياً للخشوع والسكون صريح تناقض. وقد رد هذا الاستدلال الشيخ محمد معين السندي أيضاً في دراساته (ص169) فارجع إليه. هذا، وقد ذكروا لترجيح ترك الرفع في غير التحريمة، وترجيح روايات الترك على الرفع ورواياته وجوهاً كلها مخدوشة مردودة، فمنها أن الرفع فعل ينبىء عن الترك فلا يناسب كونه في أثناء الصلاة. وفيه أن تجديد التنبه لترك ما سوى الله عند كل فعل أصل من الصلاة مطلوب، وهذا يقتضي استحباب الرفع في أثناء الصلاة لا تركه. ومنها أنه قد ثبت ترك الرفع في غير الافتتاح عن النبي صلى الله عليه وسلم قصداً فلم يكن تركه على طريق العدم الأصلي. وقد علم أن مبنى الصلاة على سكون الأطراف، وهذا يقتضي كون ترك الرفع أرجح. وفيه أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الرفع المتنازع فيه أصلاً كما تقدم، وعلى هذا فالترك عدمي محض، فيترجح عليه الرفع، لكونه عبادة بخلاف الترك فإنه ترك عبادة. وأيضاً الرفع فعل تعظيمي، ولذلك ابتدأ به الصلاة، وهذا أيضاً يقتضي كون الرفع أرجح. ومنها ما قال بعضهم في شرحه للموطأ: أن كل ما اختلف فيه شيء من الروايات أخذت الحنفية منها الأوفق بالقرآن، فلما رأوا أحاديث ترك الرفع أوفق بقوله تعالى:{قوموا لله قانتين} [238: 2] رجحوها به، قال: وهذا أوجه وجوه الترجيح. وفيه أن هذا الوجه ليس بوجيه فضلاً أن يكون أوجه، بل هو باطل جداً لما قد عرفت أن الروايات التي استدلوا بها على ترك الرفع في غير الافتتاح كلها ضعيفة غير قابلة للاحتجاج، بل بعضها باطلة موضوعة، فالتصدي لترجيح مثل هذه الروايات على روايات الرفع الصريحة الصحيحة الثابتة المتواترة إسناداً وعملاً جهل وسفه، لا يأتي ذلك إلا من متعصب معاند للسنة. وأيضاً قد تقدم أن قوله تعالى:{قوموا لله قانتين} نزل قبل وقعة بدر، وقد ثبت الرفع من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعد نزوله كما يدل عليه حديث مالك بن الحويرث، ووائل بن حجر، وابن عمر، وغيرهم، بل قد ثبتت مواظبته صلى الله عليه وسلم، وإجماع الصحابة عليه بعده، فلو كان ترك الرفع أوفق للقرآن، وأقرب إليه، وأشبه به لما واظب الرسول صلى الله عليه وسلم على خلاف مقتضى القرآن، ولا أجمع الصحابة عليه بعده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا أحق وأكثر فهماً للقرآن. وأيضاً مبنى هذا الوجه على أن الرفع مناف للسكون والخشوع، وقد تقدم بطلانه، ولفساد هذا الوجه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن بعض أنواع الرفع الثابتة متروك عند الجميع ومجمع عليه، فهذا قرينة على أنه وقع النسخ فيه، فالأخذ بالمتفق عليه أولى، وهو الرفع عند التحريمة. وفيه نظر من وجوه: الأول أن ترك الرفع بين السجدتين أو في كل خفض ورفع ليس بمجمع عليه كما سيأتي، فدعوى كون بعض أنواع الرفع متروكاً عند الجميع باطلة؛ لكونها خلاف الواقع. الثاني أن من لم يقل بالرفع فيما عدى المواضع الأربعة إنما اختار ذلك لعدم ثبوته عنده بطريق صحيح، لا لأنه كان مشروعاً ثم ترك ونسخ، فلا يكون عدم القول به دليلاً على وقوع النسخ. والثالث أن القائلين بالرفع في المواضع الأربعة ما تركوا المتفق عليه،

ص: 31

بل قد أخذوه، ثم أخذوا أيضاً ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قد أجمع عليه الصحابة بعده، وما هو ثابت بتواتر الإسناد والعمل، بخلاف الحنفية فإنهم تركوا بل طرحوا الثابت، وتمسكوا بما لم يثبت، وليس الأخذ بالضعيف أو غير الثابت من الاحتياط في شيء، إنما الاحتياط في الأخذ بما ثبت لا بما لم يثبت. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الصلاة انتقلت عن الحركات إلى السكون، فإنه كان في أول الأمر المشي وأمثاله مباحة، فلما تعارضت الروايات أخذت الحنفية الأقرب إلى السكون. وفيه أن هذا الوجه يرجع إلى ما ذكره هو أولاً وقد بينا فساده. ثم نقول: إن تلك الحركات كانت من الأمور العادية، ومنع منها لكونها منافية للخشوع والسكون، بخلاف الرفع المتنازع فيه، فإنه من أمور العبادة وليس منافياً للخشوع، بل هو مورث للخشوع أو عينه كما بينا، ولم يثبت التغيير فيه أصلاً كما صرح به غير واحد من علماء الحنفية، وادعاء التعارض بين أحاديث الرفع والترك جهل، فإنه لا بد لتحققه من المساواة في القوة، والضعيف لا يعارض القوي والصحيح. والعجب ممن يفرق بين الرفع في القنوت والعيدين، وبين الرفع في المواضع الثلاثة، مع أن الرفعين من جنس واحد، ومع أن الترك مطلقاً أقرب إلى السكون، ومع أن الرفع في القنوت والعيدين لم يثبت مرفوعاً بسند صحيح، ومع أن الرفع في المواضع الثلاثة ثابت حقاً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن أكثر من روى أحاديث الرفع تشمل رواياتهم الزائد من المواضع الثلاثة، فهو متروك عند من استدل بها أيضاً. وأحاديث الناقلين للترك محكم في موداه ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضاً. وفيه أن الأحاديث في ذلك على ثلاثة أنواع: الأول أحاديث الترك في غير التحريمة. والثاني أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط. والثالث الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة. وقد سبق أن أحاديث الناقلين للترك كلها ضعيفة غير صالحة للاستدلال، بل بعضها باطلة موضوعة، فليست هي مما يؤخذ أصلاً لا كلاً ولا بعضاً، بل هي مما يترك ويطرح رأساً، ومع ضعفها محتملة للتأويل بخلاف النوع الثاني، أي أحاديث الرفع في المواضع الثلاثة فقط، فإنها صحيحة ثابتة محكمة في موادها، فيجب الأخذ بها على كل مسلم. وأما الأحاديث التي فيها الرفع زائداً على المواضع الأربعة فلم تثبت ولم يصح منها شيء، ولذلك لم نقل بالرفع في غير هذه المواضع. وأصل استدلال القائلين بالرفع ليس بهذه الأحاديث بل بالنوع الثاني، وهي محكمة في موادها ليست مما يؤخذ بعضها ويترك بعضها. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن روايات الفعل متعارضة، ورواية القول سالمة من المعارضة، فتبقى حجة. وفيه ما تقدم آنفاً من أن دعوى التعارض باطلة لتوقفه على المساواة في القوة والضعف، وأحاديث الخصوم كلها ضعيفة لا تصلح للمعارضة، ولو تنزلنا وسلمنا قوتها وصحتها فلا تصلح للمعارضة أيضاً، فإن أحاديث الرفع أقوى وأصح وأكثر قد بلغت التواتر، وبعضها متفق عليه، فمعارضتها بأحاديث الترك وجعلها ساقطة بادعاء التعارض بلادة ظاهرة. وأما رواية القول يعني حديث جابر بن سمرة:"مالي أرى رافعي أيديكم" فقد حققنا بما لا مزيد عليه أنه لا ذكر فيها للرفع المتنازع فيه،

ص: 32

وأن الاستدلال بها على ترك الرفع ونسخة جهل قبيح. ومنها ما قال هذا البعض: أن التعارض إذا وقع في الفعل والقول يقدم القول. وفيه أنه لم يرد في الترك حديث قولي، وأما حديث جابر فقد تقدم أنه ورد في الرفع عند السلام لا في الرفع المتنازع فيه. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً ملخصاً لكلام الإمام محمد في موطأه: أن الناقلين للترك أولو الأحلام والنهى فكان موقفهم الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بخلاف مثل عبد الله بن عمر فإنه استصغر يوم أحد، وأول مشاهده الخندق. وفيه أنه لم ينفرد ابن عمر برواية الرفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اشترك معه جمع كثير من الصحابة كأبي بكر عند البيهقي، وعمر عند الدارقطني، وعلي عند أبي داود وغيرهم ممن ذكرهم السيوطي في رسالته. ولا شك أن هؤلاء أولو الأحلام والنهى، ومن أهل بدر، ومن الخلفاء الراشدين، ومن أهل الصف الأول، فهم أعلم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في كبار الصحابة من روى عدم الرفع في غير الافتتاح إلا ابن مسعود مع أنه لم تثبت روايته عند المحدثين، فانعكس الأمر، وترجح الرفع بما لا يدفع. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن الرفع في غير التحريمة يدور بين السنية ونسخها لتعارض الروايات، ومعلوم أن الشيء إذا يدور بين السنة والبدعة يرجح الثاني، ومن المعلوم أيضاً أنه يرجح المحرم على المبيح أبداً. وقال صاحب الكوكب الدري - وهو شيخ مشائخ هذا البعض-: الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام أبوحنيفة؛ لأن رفع اليدين على تقدير نسخه يكون عملاً بالمنسوخ، وعدم الرفع على تقدير استحبابه يكون ترك أدب، وإحداث بدعة أشنع من ترك أدب. وفيه أن مقتضى هذا الوجه أن يكون الرفع في غير التحريمة مكروهاً؛ لأنه إما دائر بين أن يكون سنة على تقدير استحبابه، وبين أن يكون بدعة على تقدير نسخه، أو دائر بين أن يكون مباحاً لأحاديث الرفع، وبين أن يكون محرماً لحديث جابر بن سمرة: مالي أرى رافعي أيديكم. وهذا مخالف لما تقدم من تصريح صاحب الكوكب بأنه لا خلاف في الجواز وعدم الجواز، وإنما النزاع في أن الأولى هل هو عدم الرفع أو الرفع، فاخترنا الأول واختار الشافعية الثاني، فإن كلامه هذا يدل على أن المحقق عنده أن جواز الرفع ليس بمنسوخ،، بل هو باق إلى الآن، وإنما المنسوخ هو استحبابه، فالأولى والمستحب عنده هو ترك الرفع، وهو أيضاً مخالف لتصريحات المحققين من الحنفية كأبي بكر الجصاص الرازي، فإنه صرح بأن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز، وتبعه في ذلك الشيخ محمد أنور الكشميري وقال: القول بكراهة التحريم في مسألة متواترة بين الصحابة شديد عندي. وقال جامع تقاريره: من رفع فهو على حق وسنة. وكالشاه ولي الله الدهلوي فإنه صرح بكون الرفع سنة، وبأن الذي يرفع أحب إليه ممن لا يرفع. وكتلميذه الشيخ محمد معين السندي فإنه رد على الحنفية رداً مشبعاً، وحقق كون الرفع سنة متواترة واظب عليها النبي صلى الله عليه وسلم. وكالشيخ أبي الحسن السندي صاحب

ص: 33

الحواشي على الأصول الستة. والشيخ عبد الحي اللكنوي شيخ النيموي فإنهما صرحا بأن الرفع أرجح من الترك. وقد حققنا بما لا يدفع أن أحاديث الترك ضعيفة لا تصلح لمعارضة أحاديث الرفع لضعفها. ولأنه لا تعارض بين الفعل والترك؛ لأن مجرد الترك لا يدل على نسخ الجواز، ولقد صدق ابن الجوزي حيث حكم بالبلادة على من حاول معارضة أحاديث الرفعات بما روى من الأحاديث في عدم الرفع، فقال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم ليعارض بها الأحاديث الثابتة. وقال البخاري: من زعم أنه بدعة فقد طعن في الصحابة، فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركة- انتهى. وليس في كلام البخاري هذا شيء من المبالغة كما توهم بعض الحنفية. وقد قررنا أيضاً أن حديث جابر بن سمرة ليس بوارد في الرفع المتنازع فيه، فإذن لا احتمال، ولا مجال ههنا للقول بالنسخ والتحريم، فلم يبق حينئذٍ إلا جهة كون الرفع سنة ثابتة مستمرة، وكون خلافه مرجوحاً بل باطلاً، ولا شك أن الاحتياط إنما هو في العمل بالسنة الثابتة لا في ردها وتركها ومخالفتها. والعجب من هذا البعض وأمثاله إنهم يخترعون مثل هذه الوجوه الواهية المضحكة لرد الأحاديث الصحيحة الثابتة المتواترة. هداهم الله تعالى إلى الصراط المستقيم، إلى إتباع سنن نبيه الكريم. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً أن رواة المنع والترك أفقه من رواة المثبتين. وهذا مما لم يقدر على إنكاره الأوزاعي أيضاً فيقدم روايتهم. وفيه أنه ليس في كتب الحديث على اختلاف أنواعها حديث مرفوع صحيح، أو ضعيف صريح في المنع عن الرفع في المواضع الثلاثة. ولا يمكن للحنفية أن يأتوا بحديث صريح في المنع عن الرفع المتنازع فيه ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً. وأما قوله: إن رواة أحاديث الترك أفقه، ثم ترجيحها بذلك على أحاديث الرفع، فهو ادعاء محض وتحكم مجرد، بل الأمر على خلاف ما قال هذا البعض كما سترى. وقد أشار بذلك على ما حكى أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي: ما لكم لا ترفعون عند الركوع والرفع منه؟ فقال: لأجل أنه لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الأوزاعي: كيف لم يصح وقد حدثني الزهري، عن سالم، عن أبيه، ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه إذا افتتح الصلاة، وعند الركوع، وعند الرفع منه. فقال أبوحنيفة: حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يرفع يديه إلا عند الافتتاح ثم لا يعود. فقال الأوزاعي: أحدثك عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، وتقول: حدثني حماد عن إبراهيم؟! فقال أبوحنيفة: كان حماد أفقه من الزهري، وكان إبراهيم أفقه من سالم، وعلقمة ليس بدون ابن عمر أي في الفقة، وإن كان لابن عمر صحبة، وله فضل صحبته، وللأسود فضل كثير، وعبد الله عبد الله. ذكر هذه الحكاية ابن الهمام في فتح القدير، ومنه نقلها على القاري في المرقاة، والشيخ أحمد علي السهارنفوري في حاشية البخاري. قال ابن الهمام بعد ذكرها. فرجح أبوحنيفة بفقة الرواة كما رجح الأوزاعي بعلو الإسناد وهو أي

ص: 34

الترجيح بالفقة المذهب المنصور عندنا-انتهى. والقصة مشهورة بين الحنفية، لكن لا يشك من له أدنى عقل ودراية أنها حكاية مختلقة، وأكذوبة مخترعة. كيف ولم يذكرها أحد من تلاميذه أبي حنيفة وأصحابه، ولا أحد من متقدمي الحنفية، ولو كان لها أصل لذكرها محمد في موطأه أو في غيره من تصانيفه مع أنه لم يشر إليها أدنى إشارة. نعم ذكرها السيد مرتضى الحسيني في عقود الجواهر المنيفة في أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة (ج1: ص43) نقلاً عن مسند أبي محمد عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري المتوفي سنة (340) قال: روى الحارثي في مسنده قال: حدثنا محمد بن إبراهيم بن زياد الرازي: ثنا سليمان بن داود الشاذكوني

الخ. وقال: وسليمان الشاذكوني واهٍ مع حفظه، إلا أن القصة مشهورة. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي (ج2: ص82) : قال الرازي: الشاذكوني ليس بشيء، متروك الحديث. وقال البخاري: هو عندي أضعف من كل ضعيف. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كان يكذب ويضع الحديث-انتهى. قلت: وعبد الله الحارثي جامع مسند أبي حنيفة متهم بوضع الحديث. قال الذهبي في الميزان (ج2: ص74) : عبد الله بن محمد بن يعقوب الحارثي البخاري الفقيه عرف بالأستاذ. قال ابن الجوزي: قال أبوسعيد الرواس: يتهم بوضع الحديث. وقال أحمد السليماني: كان يضع هذا الإسناد على هذا المتن، وهذا المتن على هذا الإسناد، وهذا ضرب من الوضع. وقال حمزة السهمي: سألت أبازرعة أحمد بن الحسن الرازي عنه، فقال: ضعيف. وقال الحاكم: هو صاحب عجائب وأفراد عن الثقات. وقال الخطيب: لا يحتج به. وقال الخليلي: يعرف بالأستاذ، له معرفة بهذا الشأن، وهو لين، ضعفوه. حدثنا عنه الملاحمي وأحمد بن محمد البصير بعجائب. قال الذهبي: وقد جمع مسنداً لأبي حنفية - انتهى. قال الحافظ في اللسان (ج3: ص349) : وبقية كلام الخليلي: كان يدلس، وقال الخطيب: كان صاحب عجائب، ومناكير، وغرائب، وليس بموضع الحجة، وعلى كون هذه الحكاية مختلقة أدلة عقلية أيضاً، فمنها أنه جعل فيها مبنى الترجيح على فقه الراوي، ومرجعه إلى مسألة الرواية بالمعنى؛ لأنه يتعلق بمعرفة مدلولات الألفاظ كما لا يخفى، لكن مسألة الرفع خارجة عنها، فإن الترجيح بالفقه إنما يمكن في أقواله صلى الله عليه وسلم لا في أفعاله وأحواله وتقريراته. ومن المعلوم أن رفع اليدين في الصلاة من الأفعال لا من الأقوال، وإليه أشار الإمام الرازي حيث قال: أي مدخل للتفقه في الأمور الحسية؟ ومنها أن أبا حنيفة قال أولاً: لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وكان مقتضى الحال أن يذكر حديث ابن مسعود، فإن الدليل على ترك الرفع في غير الافتتاح عند أهل الكوفة إنما هو حديث ابن مسعود، لا عدم ورد حديث صحيح في الرفع. ومنها أنه عارض بعد ذلك حديث ابن عمر بحديث ابن مسعود، فكأنه سلم صحة حديث الرفع بعد ما أنكر صحته أولاً، وهذا كما ترى صريح تناقض. ومنها أن المراد بالفقة إن كان هو الفهم والذكاء، وقوة الاستنباط والاستخراج فلا شك أن الزهري أفقه من حماد، وسالماً أفقه من إبراهيم، وابن عمر

ص: 35

مع كونه صحابياً أفقه من علقمة والأسود كما يظهر من كتب أسماء الرجال. وعلى هذا فالترجيح يكون لحديث ابن عمر لعلو سنده ولصحته، ولكون رواته أفقه، ولكونه مثبتاً، لا لحديث ابن مسعود لعدم وجود هذه الأمور فيه. قال الشيخ محمد معين السندي الحنفي تلميذ الشاه ولي الله الدهلوي في دراساته (ص177-184) : ومن الإغراب البديع معارضة حديث الرفعات من أكثر الحنفية بما حكى ابن عينية أنه اجتمع أبوحنيفة مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين، فقال الأوزاعي - فذكر مناظرتهما بمثل ما قدمنا ثم قال -: وذلك الإغراب من وجوه، الأول: أن هذه الحكاية عن ابن عينية معلقة، ولم أر من أسندها. ومن عنده السند فليأت به حتى ننظر رجاله. والمعلقات من أمثالها ليس من الاحتجاج في شيء، ولهذا لم يتعرض لها الحافظ الزيلعي في تخريج الهداية مع استيفائه حجج المسألة من كل قوي وضعيف يعتبر به ويشهد له، وذلك لأن المعلق من غير الجامع الصحيح كما لا يحتج به لا يصلح للاعتبار والشهادة مطلقاً. وليس في ذلك كالضعاف الذي تنقسم إلى ما يعتبر بها وإلى ما لا يعتبر، ولهذا يقول الإمام الدارقطني في تفاوت مراتب الرجال: فلان يعتبر به وفلان لا يعتبر به. ومن هذا سقط ما أشار إليه ابن الهمام من الاعتبار والشهادة بقوله: ويؤيد صحة هذه الزيادة يعني زيادة بعض الرواة في حديث ابن مسعود: "ثم لا يعود" رواية أبي حنيفة من غير الطريق المذكور، وذلك أنه اجتمع مع الأوزاعي بمكة في دار الحناطين كما حكى ابن عينية إلى آخرها، لما عرفت من تعليقها وحكم التعاليق. الثاني: أن قول أبي حنيفة في هذه الحكاية: "لم يصح فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء" مفصح من عدم علمه بحديث ابن عمر على ما هو المتبادر الظاهر من كلامه، والتقييد بأن يقال: أراد عدم صحته بشيء غير معارض، كما ارتكبه القاري في شرح الموطأ من رواية محمد، خلاف الظاهر - قلت: قال القاري في المرقاة: قوله: "لم يصح فيه شيء" أي لم يصح معنى إذ هو معارض، وإلا فإسناده صحيح - فبإخبار الأوزاعي بمجرده من غير تصحيحه على شرائط الملتزمة عنده يجوز أن لا يحصل له الثقة بذلك فجرى الكلام معه على ما جرى. الثالث: فقه الرواة لا أثر له في صحة المروي، وإنما مدارها على العدالة والضبط، وكلما اشترط في صحة الحديث، إذ قلة الفقه لا يوجب الوهن في شرائط التحمل وما يلازمه الوثوق بالرواية، وإذا انتفى ذلك بقي العلو لسند ابن عمر مع ما له من الصحة. والحنفية لا يعتقدون أيضاً أن قلة فقه الراوي مما يتطرق به الوهن إلى مرويه، بل يرون أن رواية قليل الفقه من الصحابة إذا خالفها القياس من كل وجه يقدم القياس عليها من غير أن يتطرق عندهم وهن بعدم فقه الراوي في صحة مروية، أو يحصل زيادة وثوق بفقه الراوي لصحة مروية من مروي من دونه في الفقه. وما ذهبوا إليه من تقديم القياس على رواية مثل أبي هريرة، وأنس بن مالك، وجابر بن سمرة، وهم عندهم ممن يقل فقههم من الصحابة قد وقع عليهم بذلك الطعن الشديد، لا سيما في حكمهم على أبي هريرة بقلة الفقه، حيث نسبوهم بعظم الجسارة بهذا القول، وكما وقع

ص: 36

الطعن من هذا الوجه وقع على أشد من ذلك من حيث استلزام هذا القول منهم تقديم الرأي على السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم التعبد في كلام الشارع المعصوم صلى الله عليه وسلم، فإن السند فيه باب القياس، وتعويلهم على رأي من يجوز عليه الخطأ والرجوع عن رأية في ساعة. وقد جروا على ذلك في حديث المصراة من مسند أبي هريرة، وقد أجبنا عنه في وريقات بما يتبين به وفاق القياس بالحديث من غير خافية، - ثم ذكر ما عللوا به تقديم القياس على السنة وبسط الكلام في الرد عليه ثم قال -: وإذ تبين أنه لا أثر لفقه الراوي في صحة الحديث وقوته على حديث غير الفقية، وأن أصحاب أبي حنيفة - أي المتأخرين - إنما يرون الأثر لكثرة الفقه وقلته من جهة أخرى غير ترجيح المروى- وهي تقديم القياس على فساده- فنسبة القول بترجيح رواية الفقية على غير الفقية إلى أبي حنيفة في هذه الحكاية من أمارات الإختلاق عليها. الرابع: كما دل العقل على أن فقه الراوي لا أثر له في صحة الرواية فلا يستند قول ذلك إلى أبي حنيفة دل النقل من الثقات على أنه قول موضوع مختلق على السلف الصالح، ومستحدث من المتأخرين ممن لا يعبأ بقوله على وضوح فساده. شهد بذلك فخر الإسلام، والشيخ الأجل عبد العزيز صاحب الكشف والتحقيق، وهو شيخ الإمام ابن الهمام. وصرح بذلك في التحقيق. قال: ولم ينقل من أحد من السلف اشتراط الفقه من الراوي، فثبت أنه قول مستحدث انتهى. وإذا اجتمع العقل والنقل قويت الأمارات، وصارت دليلاً قطعياً على كذب الحكاية واختلاقها. الخامس: سلمنا أن لفقه الراوي أثراً على ترجيح مرويه على مروي غير الفقيه- كأبي هريرة وأنس وجابر عند المتجاسرين من بعض الحنفية- فلا نسلم أن رجال حديث ابن عمر غير فقهاء، ترجح على مرويهم حديث ابن مسعود لفقه رواته، وكون رجاله أفقه من رجال ابن عمر إن سلم فلا نسلم حصول الترجيح بحديث ابن مسعود بحيث يترك به رأساً حديث ابن عمر لرجوعه إلى باب خلاف الأضبط مع الضابط، والترجيح الحاصل بكثرة الضبط مع إتقان ضبط المخالف على ما يدفع مخائل الخطأ عنه لا يوجب ترك المرجوح رأساً وعدم العمل به أصلاً حتى يعد من مكروهات الصلاة، بل البدعة الحادثة. على أن حديث ابن عمر في الرفعات قد عرفت فيما سبق أنه قل حديث يوازيه في القوة وأنه من المتواترات، فهو طور موطر لا يزعزعه عاصفات الرياح فضلاً عن غيرها. ولقد صدق ابن الجوزي حيث قال: ما أبلد من يحتج بهذه الأحاديث يعني التي تروى في عدم الرفع إلا مرة في التحريم، ليعارض بها الأحاديث الثابتة، حكاه الحافظ ابن حجر في تخريج مسند الرافعي (ص83) . وحاصل الكلام ههنا أن هذه الحكاية عن أبي حنيفة بعد كونها معلقة غير مقبولة قد قامت الدلائل الواضحة على عللها القادحة فيستغرب الإقدام ممن يقدم على إيرادها في محل الاحتجاج أو الاعتبار انتهى كلام الشيخ محمد معين مختصراً. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن مقتضى القياس ترجيح روايات الترك؛ لأن الشرع جعل لانتقالات الصلاة علامة، وهي التكبير والذكر، وجعل لابتداء الصلاة وانتهائها علامة أخرى أيضاً

ص: 37

مع الذكر، وهي الرفع عند البداية، وتحويل الوجه عند السلام، فينبغي أن يكون حكم الانتقالات واحداً على وفق نظائرها، وحكم الطرفين واحداً. وفيه كلام من وجوه، الأول: أن المصير إلى القياس إنما يكون إذا تعارض النصان، وهو ههنا منتف لما تقدم مراراً من عدم موازاة أحاديث الترك لأحاديث الرفع، ولو سلم التعارض فالرجوع إلى القياس إنما يكون إذا لم يمكن الجمع، وأما إذا أمكن يلزم أن يجمع، وههنا العمل بكلتيهما ممكن كما حققه السندي والشيخ عبد الحي اللكنوي وغيرهم ممن لم يقل بنسخ جواز الرفع، وإذا كان الأمر كذلك فمرجع هذا الوجه ترك السنة الصحيحة الثابتة المتواترة بمجرد القياس، ولا يجتريء عليه إلا مقلد جاهل. أو عالم متعصب لرأي إمامه. والثاني: أن الشرع الذي جعل لابتداء الصلاة علامة الرفع مع الذكر قد جعل لانتقالاتها أيضاً هذه العلامة، وهذا مما لا يمكن إنكاره لأحد كائناً من كان، فالإقرار بشرعية هذه العلامة في موضع وإنكارها في موضع آخر مع أنهما ثابتان بتواتر الإسناد والعمل بعيد من العاقل. والثالث: أن القياس يقتضي ترجيح روايات الرفع في المواضع الثلاثة، أي عند الركوع، وبعد رفع الرأس منه إرادة الهوي للسجود، وعند القيام إلى الركعة الثالثة؛ ليكون حكم جميع الانتقالات واحداً. وإليه أشار الشاة ولي الله حيث قال: السر في ذلك أن رفع اليدين فعل تعظيمي، ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، فشرع ابتداء كل فعل من التعظيمات الثلاث لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً- انتهى. والرابع: أن قوله "فينبغي أن يكون حكم الطرفين واحداً" يقتضي أن يشرع الرفع عند السلام أيضاً ليكون الطرفان متشابهين، ولا إغراب في ذلك؛ لأن هذا من نتائج تحكيم القياس والاعتماد على الرأي مع وجود النص الصريح الصحيح. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الباجي: أن كل تكبير شرع في الصلاة يكون عند عمل قرن به للانتقال من حال إلى حال، فلما لم يكن عند تكبيرة الإحرام عمل من الانتقال عن حال إلى حال قرن به رفع اليدين، كما قرن بالسلام الإشارة بالوجه والرأس لما لم يكن عنده الانتقال من حال إلى حال- انتهى. وحاصله أن مقتضى القياس أن لا يشرع الرفع مع التكبير المقرون بعمل من الانتقال من حال إلى حال لعدم الاحتياج إلى عمل الرفع مع وجود عمل الانتقال، لكون هذا العمل كافياً للدلالة على الانتقال بخلاف التكبير الغير المقرون مع عمل الانتقال، فإن عدم وجود عمل دال على الانتقال هناك يقتضي أن يشرع الرفع منه، ليكون عمل الرفع علامة الانتقال من حال إلى حال، فترك الرفع في غير الافتتاح موافق للقياس من هذه الجهة بخلاف الرفع، فيترجح الترك ورواياته على الرفع ورواياته. وفيه أن القياس الصحيح يرجح الرفع لا الترك لما تقدم أن رفع اليدين فعل تعظيمي ينبه النفس على ترك الأشغال المنافية للصلاة والدخول في حيز المناجاة، ولذلك ابتدأ به في الصلاة فينبغي أن يشرع ابتداء كل فعل من التعظيمين أيضاً به لتنتبه النفس لثمرة ذلك الفعل مستأنفاً، وليكن التعظيمات الثلاث في حكم واحد، وليتقوى العبادة بتوافق القول وعمل الجوارح. ولما تقدم أيضاً أن ترك

ص: 38

الرفع عدمي محض وترك عبادة، بخلاف الرفع فإنه وجودي وعبادة، فيترجح على الترك. وقد ظهر من هذا أن القياس الذي أبداه الباجي ثم نقله هذا البعض عنه لترجيح الترك مردود، لما فيه من إهمال أحاديث الرفع الصحيحة الثابتة المتواترة وطرحها، بخلاف ما ذكرنا من الوجهين لترجح الرفع فإنه موافق لهذه الأحاديث ومؤيد بها، فلا يشك في كونه صحيحاً ومقبولاً. ومنها ما ذكر هذا البعض أيضاً نقلاً عن الطحاوي، وذكره الزيلعي أيضاً في نصب الراية. قال الطحاوي: مذهبنا أيضاً قوي من جهة النظر، فإنهم أجمعوا على أن التكبيرة الأولى معها رفع، وأن التكبيرة بين السجدتين لا رفع بينهما، واختلفوا في تكبيرة الركوع وتكبيرة الرفع منه، فألحقهما قوم بالتكبيرة الأولى، وألحقهما قوم بتكبيرة السجدتين. ثم إنا رأينا تكبيرة الافتتاح من صلب الصلاة، لا تصح بدونها الصلاة، والتكبيرة بين السجدتين ليست بذلك، ورأينا تكبيرة الركوع والنهوض ليستا من صلب الصلاة فألحقناهما بتكبيرة السجدتين-انتهى. وفيه نظر من وجوه، أولها: أن الرفع عند التكبيرة الأولى ليس بمجمع عليه، فإن مالكاً قال في رواية عنه: أنه لا يستحب، نقله صاحب التبصرة، وحكاه الباجي عن كثير من متقدميهم، كذا في الفتح (ج3: ص403) . وفي المنتقى شرح الموطأ لأبي الوليد الباجي: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن رفع اليدين عندها مشروع، وروي عن بعض المتقدمين المنع عن ذلك- انتهى. واستدل لهم بحديث جابر بن سمرة:"مالي أرى رافعي أيديكم"، وبما روى الطحاوي عن الأسود قال: صليت مع عمر فلم يرفع يديه في شيء من صلاته. وبما نقل بعض الحنفية عن الطحاوي أنه روى عن إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود لا يرفع يديه في شيء من الصلاة. ثانيا: أن ترك الرفع بين السجدتين أيضاً ليس بمجمع عليه، فقد ذهب إلى شرعيته أيوب السختياني وطاووس ونافع وعطاء وغيرهم. وقد قال به من الشافعية ابن المنذرو ابن خزيمة وأبوعلي الطبري وغيرهم. وثالثها: أن الذين قالوا بالرفع عند تكبيرة الركوع ورفع الرأس منه إنما اعتمدوا في ذلك على ما ورد فيه من الأحاديث الصحيحة، لا على قياس تكبيرة الركوع والنهوض على التكبيرة الأولى وإلحاقها بها. رابعها: أن تكبيرة الركوع والنهوض، وكذا تكبيرات السجود الظاهر أنها واجبة، ومن صلب الصلاة مثل التكبيرة الأولى، لما روى أبوداود وابن حزم في المحلى (ج3: ص 256) ، وابن الجارود في المنتقى (ص103، 104) وغيرهم حديث المسيء في صلاته بلفظ: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله

" الحديث. وفيه ذكر جميع التكبيرات بسياق واحد، ولما روى أبوداود أيضاً عن أبي موسى الأشعري: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبنا وعلمنا وبين لنا سنتنا، وعلمنا صلاتنا" الحديث. وفيه:"فإذا كبر - أي عند الافتتاح - فكبروا". وفيه أيضاً: "فإذا كبر وركع فكبروا واركعوا". وفيه أيضاً: "وإذا كبر وسجد فكبروا واسجدوا". فقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يفعل كذا وكذا". وقوله: "كبروا". يدلان على وجوب تكبيرات الانتقالات. قال ابن قدامة في المغنى: المشهور عن أحمد أن تكبير الرفع والخفض واجب. وهو قول داود وإسحاق- انتهى. قلت: وهو قول ابن حزم، وهو أيضاً

ص: 39

مؤدى رواية ابن القاسم من المالكية، إذ قال: لو أسقط ثلاث تكبيرات سجد للسهو، وإلا بطلت الصلاة- انتهى. ومنها ما يفهم من كلام بعض الحنفية في رسالته في مسألة رفع اليدين: أن الرفع والترك كلاهما ثابتان في الخارج لاتصال العمل بهما من لدن عصر النبوة إلى يومنا هذا، لكن من استقصى صفة الصلاة من الصحابة لم يذكر كثير منهم الرفع، وسكوتهم عن ذكره في حكم ذكر الترك، وحينئذٍ يزيد عدد روايات الترك على روايات الرفع، ومن المعلوم أن الكثرة من المرجحات عند الاختلاف كما صرح به الحازمي والعيني وغيرهما. وفيه أنه لم يثبت ترك الرفع في الخارج عن أحد إلا عن جماعة من أهل الكوفة كما تقدم، وعلى هذا فالروايات التي ليس فيها ذكر الرفع مع بيان صفات الصلاة الأخرى تحمل على أن الرواة اختصروا فيها ذكر الرفع لشهرته، فربما يذكر الراوي ما يحتاج إليه السائل، ويحذف ما كان معلوماً ومشهوراً، فسكوت من سكت عن ذكر الرفع لا يكون في حكم ذكر العدم والترك، فإيراد الحنفية هذه الأحاديث المختصرة الساكتة عن ذكر الرفع لإثبات الترك إيراد في غير محلها. وأما ما قال هذا البعض: أن كثيراً ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكروا الرفع، فهو ادعاء محض، ولو سلم ذلك كله فلا يزيد بذلك عدد روايات الترك؛ لأن رواة الرفع قد بلغوا خمسين، بل قد صح فيه أربعمائة خبر وأثر، ورواه العشرة المبشرة على ما قاله المجد الفيروز آبادي في سفر السعادة. ولا وجه لحمل قوله على المبالغة كما توهم بعض الحنفية. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أنه جاء في التحريمة وغيرها من بعض أفعال الصلاة وأحوالها وأذكارها أحاديث قولية وفعلية، وفي بعضها أحاديث قولية فقط، ولم يرو حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح أصلاً، وكثير ممن استقصى صفة الصلاة لم يذكره، وهذا يدل على أن الرفع ليس مقصوداً أصلياً. وفيه أن بت الحكم بعدم ورود حديث قولي في الرفع في غير الافتتاح متعذر بل هو غير صحيح، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وأصحابه بعد ما صلى بهم مع عمل الرفع: صلوا كما رأيتموني أصلي. فقوله هذا متضمن للأمر بالرفع في غير الافتتاح أيضاً. ولو سلم عدم ورود حديث قولي صريح فيه فلا يدل ذلك على أن الرفع ليس بمقصود أصلي؛ لأن مواظبته صلى الله عليه وسلم عليه ثم إجماع الصحابة عليه بعده وتواتر العمل به إلى يومنا هذا أهم وأعظم من ورود حديث قولي فيه. فهو أكبر دليل على كون الرفع مقصوداً ومطلوباً في الصلاة. وكيف لا يكون الرفع كذلك وهو فعل تعظيمي، وهو أيضاً فعل ينبىء عن ترك ما سوى الله، وتجديد التنبه لترك ما سوى الله أصل من الصلاة مطلوب. ومنها ما يفهم من كلام هذا البعض أيضاً أن استغراب الرواة الرفع وترددهم فيه وتساؤلهم عنه يرجح الترك، فعند أبي داود أن ميمون المكي رأى عبد الله بن الزبير وصلى بهم يشير بكفيه حين يقوم وحين يركع وحين يسجد وحين ينهض للقيام، فيقوم فيشير بيديه، فانطلقت إلى ابن عباس، فقلت: إني رأيت ابن الزبير صلى صلاة لم أر أحداً يصليها، فوصف له هذه الإشارة، فقال: إن أحببت أن تنظر إلى صلاة رسول الله

ص: 40

- صلى الله عليه وسلم فاقتد بصلاة ابن الزبير. وعند أحمد في مسنده (ج2: ص145) : قال محارب بن دثار: رأيت ابن عمر يرفع يديه كلما ركع، وكلما رفع رأسه من الركوع. قال: فقلت له: ما هذا؟ قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه. وعنده أيضاً في (ج2: ص45) عن سالم بن عبد الله بن عمر، أنه رأى أباه يرفع يديه إذا كبر وإذا رفع رأسه من الركوع، فسألته عن ذلك، فزعم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه. فتردد الرواة وتساؤلهم عنه يدل على خمول الرفع فيهم، وكونه متروكاً عندهم، وإلا لما استغربوه، وهذا يقتضي كون الترك أرجح. وفيه أن هذه الأحاديث الثلاثة تدل على أن الرفع سنة مستمرة غير منسوخة؛ لأنه لو كان جواز الرفع أو استحبابه منسوخاً لما أمر ابن عباس ميموناً المكي باقتداء صلاة ابن الزبير، ولما كان عمل ابن عباس وابن عمر بالرفع بعده صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا يجوز العمل بالمنسوخ، والاستمرار على غير المستحب والأولى. وكون الرفع سنة مستمرة غير منسوخة يقتضي أن الرفع أرجح من الترك. وأما قول ميمون: لم أر أحداً يصليها، فيمكن أن يكون المراد "لم أر أحداً أي في الكوفة"، فقد تقدم قول محمد بن نصر: أنه أجمع علماء الأمصار على مشروعية ذلك إلا أهل الكوفة. على أن ميموناً المكي هذا مجهول، وفيه أيضاً ابن لهيعة، وفيه مقال معروف، والسائل في الحديث الثاني محارب بن دثار، وهو كوفي، وقد علمت آنفاً أن ترك هذه السنة لم يكن إلا في الكوفة، فالظاهر أن محارباً لما رأى من ابن عمر خلاف ما عهده بالكوفة من عدم الرفع تعجب وسأل ابن عمر عن ذلك وهذا لعدم علمه بهذه السنة، وهذا لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً عندهم، وعلى فقدان العمل به فيهم. على أن استغراب محارب وتعجبه إنما كان من الرفع عند النهوض للركعة الثالثة، لا من الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، يدل على ذلك قول ابن عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه، ولو لم يكن تعجب محارب من هذا الرفع لما سكت بسماع جواب ابن عمر المتقدم. وعلى هذا فإيراد هذا الحديث للاستدلال به على خمول الرفع عند الركوع والرفع منه، وعلى ترجح الترك فيهما ليس بصحيح. وأيضاً غاية ما تشير إليه هذه الروايات هو أن جماعة من الناس تسامحوا في هذه السنة فتركوها، كما أن بني أمية تركوا نفس التكبيرات، والمحافظة على أوقات الصلاة، والتعديل في الأركان ولا نعلم أحداً استدل بتسامحهم في هذه الأمور، وترك اهتمامهم بها، وتكاسلهم عنها، على أن ترك التكبيرات والتعديل، وتأخير الصلاة عن أوقاتها أرجح، فكذلك ههنا أيضاً لا يصح الاستدلال بهذه الروايات على خمول الرفع فيهم، ولا على كون الترك أرجح. سلمنا دلالتها على خمول الرفع، لكنها تدل عليه بالإشارة. ومن المعلوم أن العبارة مقدمة على الإشارة. علا أنه لا يعبأ بترك من تركه كائناً من كان بعد ما ثبت كونه سنة مستمرة متواترة إسناداً وعملاً، إذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. ومنها ما قال هذا البعض أيضاً: أن تخصيص ابن عمر الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، وتنويهه به، واهتمامه بأمره يدل على خموله في زمانه، ولذا لم يتوجه إلا إلى الرفع خاصة،

ص: 41

ولعله رأى فيه تركاً، فأراد إحياء الرفع، ورمى التاركين بالحصى، ولو لم يكن هناك تاركون فمن ذا الذي كان يرميهم؟ نعم: لو كان في طريق من طرق روايته ذكر صفات أخرى أيضاً لحملناه على الاختصار فقط، إلا أنه لما لم يتعرض إلا إلى هذا الجزء خاصة علمنا فيه خمولاً في زمانه بحيث احتاج إلى الاستدلال والتفصيل، ولو كان الرفع فاشياً ولم يكن هناك تارك كما زعموه فأي حاجة دعته إلى اهتمامه أي اهتمام. وقال تلميذه: إن التخصيص بالذكر مما يحتاج إلى نكتة، ألا ترى أن بعض الأمراء لما تركوا التكبيرات حالة الخفض احتاج الصحابة إلى التعرض لحالها خاصة، ففي البخاري عن عكرمة، قال: صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة، فقلت لابن عباس: إنه أحمق. فقال: ثكلتك أمك، سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم. وعن سعيد بن الحارث، قال: صلى لنا أبوسعيد الخدري فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع من الركعتين. وفي الموطأ عن علي بن الحسين مرسلاً، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الصلاة كلما خفض ورفع، فلم تزل تلك صلاته حتى لقي الله. فما ترى أمثال ذلك كيف خصصوا التكبيرات بالذكر من بين سائر صفات الصلاة! فكما أن اعتناءهم ببيان التكبير دل عندهم على فقدان العمل في زمنهم، كذلك اعتناء ابن عمر بالرفع يدل على فشو العمل بالترك في الموضعين، وإثباته بين السجدتين، فاحتاج إلى إثباته أو نفيه. قال: وهناك نظائر أخرى بعضها ألصق من بعض، فقد أخرج مسلم عن جابر بن سمرة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائماً، ثم يجلس، ثم يقوم، فيخطب قائماً، فمن نبأك أنه كان يخطب جالساً فقد كذب. وإنما احتاج إلى تأكيد القيام من بين سنن الجمعة؛ لأن بعضهم كعبد الرحمن بن أم الحكم كان يخطب قاعداً. وأخرج الشيخان عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر، وعمر يصلون العيد قبل الخطبة، ومثله روي عن جابر والبراء، وغيرهم. وذلك لأن بعض الأمراء كمروان بن الحكم كان قدم الخطبة، فقد علمت بما ذكرنا أن الصحابة ماذا كانوا يريدون من التخصيص بالذكر، وعليه فليقس حديث ابن عمر في رفع اليدين-انتهى. وفيه أن حديث ابن عمر هذا ليس فيه أدنى دلالة على خمول الرفع، وفقدان عمل الناس به، وفشو تركه في زمنه، بل هو يدل على عكس ما فهم منه هذا البعض، أي على كون الرفع سنة مستمرة فاشية معمولاً بها في زمانه، وكون خلافه مخمولاً في عصره؛ لأنه لم يرو الإنكار عن أحد من الصحابة على روايته وعمله به، بل وافقه كثير من الصحابة في رواية الرفعات، واتفق جميعهم معه على العمل بالرفع، وأيضاً صدق جماعة منهم أباحميد الساعدي في رواية الرفع، وهذا كله يدل على فشو هذه السنة في زمن الصحابة لا على خموله، نعم لا ننكر أنه كان هناك من غير الصحابة من يتركه إما لجهله بهذه السنة، وإما لرؤيته هذه السنة غير مؤكدة، وإما لتكاسله عنها كما ترك بعضهم التكبيرات ونحوها، فكان ابن عمر يعلم من تركها لجهله عنها، ويخبر بكونه سنة مؤكدة من يهون أمرها، ويحث على العمل بها من يتكاسل ويتوانى عنها، فكان إذا رأى مصلياً لا يرفع حصبه. رواه أحمد بسنده عن نافع بهذا

ص: 42

اللفظ. ورواه البخاري في جزئه بلفظ: "رماه بالحصى"، وترك بعض الناس هذه السنة لا يدل على كون الترك فاشياً وذائعاً، وعلى كون العمل بالرفع مفقوداً ومجهوراً ومتروكاً، بل يدل على شذوذ الترك وندرته وقلته كما لا يخفى. على أنا لا نسلم أن ابن عمر خصص الرفع بالذكر من بين سائر صفات الصلاة، ولم يتعرض لغيره من صفاتها؛ لأنه قد روي عنه صفات أخرى أيضاً للصلاة: ففي مسند أحمد (ج2: ص152) عن واسع، أنه سأل عبد الله بن عمر عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان يقول: الله أكبر كلما وضع وكلما رفع، ثم يقول: السلام عليكم ورحمة الله على يمينه، السلام عليكم على يسارة. ونحوه في (ج2: ص86) . وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن سالم عن ابن عمر، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في صلاة الفجر حين رفع رأسه من الركعة، قال: ربنا ولك الحمد، في الركعة الآخرة. ثم قال: اللهم العن فلاناً- الحديث. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس في الصلاة وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام فدعا بها، ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها. وفيه أيضاً (ج2: ص147) عن نافع عن ابن عمر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الرجل في الصلاة وهو يعتمد على يديه. وفيه أيضاً (ج2: ص72) أن رجلاً صلى إلى جنب ابن عمر فجعل يعبث بالحصى، فقال: لا تعبث بالحصى فإنه من الشيطان، ولكن اصنع كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. قال هكذا..... وضع يده اليسرى وبسط على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وكأنه عقد وأشار بالسبابة. وفيه أيضاً (ج2: ص14) عن ابن عمر، قال: بينا نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال رجل في القوم: الله أكبر كبيراً، والحمدلله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من القائل كذا وكذا؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! قال: عجبت لها، فتحت لها أبواب السماء. قال ابن عمر: فما تركتهن منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك. وهذه الروايات كما ترى مشتملة على صفات أخرى للصلاة غير الرفع، فروى ابن عمر لبعض أصحابه وهو ابنه سالم الرفعات، والتحميد، والقنوت في النازلة. ولمحارب بن دثار الكوفي الرفع فقط. ولبعضهم –وهو واسع- التكبير في كل خفض ورفع، والتسليم عن اليمين واليسار للانصراف من الصلاة. ولبعضهم-وهو مولاه نافع- الرفعات، ووضع اليدين على الركبتين في التشهد، ورفع المسبحة، والإشارة بها والنهي عن الاعتماد على اليدين في حالة الجلوس. ولبعضهم عقد الأصابع في التشهد، والإشارة بالسبابة. ولبعضهم شرعية قول الله أكبر كبيراً

الخ. وعلى هذا فرواية الباب تحمل على الاختصار. ولو سلمنا عدم الاختصار في روايته، وأنه خصص الرفع بالذكر فنكتة التعرض لحالة خاصة إنما هو سؤال الجاهل عن هذه السنة، وعدم رفع بعض الناس لجهله، أو لرؤيته سنة غير مؤكدة، أو لتكاسله، وهذا لا يدل على خمول الرفع فيهم وفقدان العمل به عندهم، ولا على نسخه، ولا علىكون الترك أرجح والأولى.

ص: 43

وهذا كما تعرض الصحابة للتكبيرات خاصة لأجل ترك بعض بني أمية إباها، وتعرض جابر للقيام في خطبة الجمعة لأجل ترك معاوية أوعبد الرحمن بن أم الحكم القيام فيها. واهتم ابن عمر وغيره بأمر تقديم صلاة العيد على الخطبة لأجل تقديم مروان الخطبة على الصلاة. وتعرض جابر لكون صلاة العيد بغير أذان وإقامة. ولا شك أن تعرض هؤلاء الصحابة لهذه الأمور خاصة بسبب ترك بعض الناس لا يدل على كون التكبيرات والقيام في خطبة الجمعة وتقديم الصلاة على الخطبة، وكون صلاة العيد من غير أذان وإقامة مخمولة متروكة مهجورة، ولا على فقدان العمل بها في زمنهم، ولا على كون خلافها فاشياً ذائعاً. ولا نعلم أحد استدل بهذه الأحاديث على أن التكبيرات وغيرها مما تقدم ذكرها آنفاً منسوخة، أو على أن تركها أرجح وأولى، فكذا اعتناء ابن عمر بالرفع خاصة لا يدل على كون الرفع مخمولاً ومتروكاً ومهجوراً، وعلى كون تركه فاشياً ذائعاً شائعاً. ولذلك لم يذهب إليه ذهن أحد ممن كان قبل هذا البعض من المقلدين لكونه خلاف الظاهر والواقع حقاً. واعلم أنه قد تفوه بعض الحنفية أن حديث ابن عمر مع كونه مخرجاً في الصحيحين مضطرب من وجوه: أحدها الاختلاف في الرفع والوقف، فرفعه سالم ووقفه نافع. وثانيها الاختلاف في مواضع الرفع، فروي عنه بذكر الرفع في موضعين فقط أي عند الافتتاح وعند رفع الرأس من الركوع، وهو عند مالك في الموطأ، وبذكره عند الافتتاح والركوع، ورفع الرأس منه، وهو عن مالك خارج الموطأ، وبذكره بعد الركعتين أيضاً في رواية نافع، وعدم ذكره في رواية سالم بل بنفيه في رواية لنافع؛ فقد روى الدارقطني في الغرائب بإسناد حسن:"ولا يرفع بعد ذلك"، فإن ظاهره يشمل النفي عما عداً المواضع الثلاثة، وروي عنه بنفيه عند السجود في الصحيحين وغيرهما، وبذكره عنده في جزء رفع اليدين للبخاري، وفي المعجم الأوسط للطبراني، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: إسناده صحيح، وروي عنه الرفع في كل خفض، ورفع، وركوع، وسجود، وقيام، وقعود، وبين السجدتين، كما في مشكل الطحاوي. وثالثها الاختلاف في عمله؛ فروي عنه الرفع عند الافتتاح فقط، وهو عن مجاهد من طريق أبي بكر بن عياش، عن حصين. وقد تابع مجاهداً عبد العزيز بن حكيم، وعطية العوفي، وروي عنه الرفع عند الركوع والرفع منه، وعند النهوض للركعة الثالثة، وروي عنه الرفع عند السجدتين وبين الركعتين أيضاً كما في المحلي لابن حزم (ج4: ص93) ورابعها الاختلاف في مقدار الرفع، فروي عنه مرفوعاً الرفع حذو المنكبين عند رفع الرأس من الركوع كما يرفع حذو منكبيه عند الافتتاح وعند الركوع، وروي من عمله عند مالك أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع رفعهما دون ذلك، ويعارضه ما في أبي داود، قال ابن جريج: قلت لنافع: أكان ابن عمر يجعل الأولى أرفعهن؟ قال: لا، سواء. قلت: أراد هذا البعض بادعاء الاضطراب في حديث ابن عمر الاعتذار عن ترك العمل به مع كونه صحيحاً مخرجا في الصحيحين. وهذا من عادة الحنفية خلفاً عن سلف أنهم إذا رأوا حديثاً يخالف قول إمامهم جعلوا يضعفونه،

ص: 44

وإن كان مخرجاً في الصحيحين، وفي أعلى مراتب الصحة، بل ولو كان متواتراً، وقد يحكمون عليه بكونه منسوخاً، وقد سلكوا في حديث ابن عمر المسلكين كما رأيت. وقد يأولون ما خالفهم بتأويلات يصير بها الحديث موافقاً لقول إمامهم، وهي في الحقيقة تكون تحريفات معنوية، وإذا وجدوا حديثاً ضعيفاً موافقاً لمذهبهم ومؤيداً لمسلكهم جعلوا يصححونه وإن كان في غاية الضعف، بل ولو كان ساقطاً أو موضوعاً باطلاً، كما صنعوا بحديث ابن عمر المروي في الخلافيات للبيهقي في رفع اليدين عند تكبير الافتتاح فقط. وقد تقدم البسط في الرد على دعوى نسخ حديث الباب وغيره من أحاديث الرفعات. وأما دعوى اضطرابه فهي أيضاً مردودة باطلة؛ لأن الوجوه التي ذكرها هذا البعض في إثبات اضطراب هذا الحديث من الاختلافات في الرفع والوقف. وفي محل الرفع، وفي مقداره ليس واحد منها موجباً لاضطراب الحديث لإمكان الجمع أو الترجيح، وشرط المضطرب أن يتعذر الجمع أو الترجيح. ولذلك لم ينتقد هذا الحديث على الشيخين أحد من النقاد الذين انتقدوا عليهما. قال الحافظ: الاختلاف على الحفاظ في الحديث لا يوجب أن يكون مضطرباً إلا بشرطين: أحدهما استواء وجوه الاختلاف؛ فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ولا يعل الصحيح بالمرجوح. وثانيهما مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، أو يغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه؛ فحينئذٍ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف على الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك-انتهى. وههنا وجوه الاختلاف ليست بمستوية ولا تعذر الجمع بينهما كما سيأتي مفصلاً. أما الاختلاف الأول أي اختلاف سالم ونافع في الرفع والوقف فالراجح فيه الرفع وذلك من وجوه: أولها أن رواية سالم مجزومة الرفع، أي لم يختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف، بل اتفقوا على روايته عنه مرفوعاً، بخلاف رواية نافع فإنها ليست مجزومة الوقف، أي لم يثبت نافع على الوقف، بل روى مرة مرفوعاً فوافق سالماً في الرفع وأخرى موقوفاً. واختلف عليه أصحابه فروى الليث ومالك وابن جريج عنه موقوفاً، وروى عبيد الله بن عمر في رواية عبد الأعلى عند البخاري وأبي داود عنه مرفوعاً، وكذا روى عنه مرفوعاً أيوب في رواية حماد بن سلمة، وإبراهيم بن طهمان عند البخاري في جزئه، والبيهقي في سننه. قال البخاري في صحيحه بعد إخراجه من طريق عبد الأعلى، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً: ورواه حماد بن سلمة عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن طهمان عن أيوب وموسى بن عقبة مختصراً. قال الحافظ: قصد البخاري الرد على من جزم بأن رواية نافع موقوفة، وأنه خالف في ذلك سالماً كما نقله ابن عبد البر وغيره، وقد تبين بهذا التعليق أنه اختلف على نافع في وقفه ورفعه، والذي يظهر أن السبب في هذا الاختلاف أن نافعاً كان يرويه موقوفاً ثم يعقبه بالرفع، فكأنه كان أحياناً يقتصر على الموقوف أو يقتصر عليه بعض الرواة عنه- انتهى. وإخراج البخاري في صحيحه حديث نافع عن ابن عمر

ص: 45

مرفوعاً من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله بن عمر ثم استشهاده بروايتي حماد بن سلمة وابن طهمان عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر يدل على أن الصحيح عنده في رواية نافع هو الرفع. وأما أبوداود فقد صحح وقفه، ولا يخفى أن القول قول البخاري. وثانيها: ما قال ابن عبد البر في التمهيد: أن هذا الحديث أحد الأحاديث الأربعة التي رفعها سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووقفها نافع عن ابن عمر، والقول فيها قول سالم، ولم يلتفت الناس فيها إلى نافع، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص407) . وثالثها: أنه إذا وقع الاختلاف بين الرواة في الرفع والوقف فالقول قول من رفعه؛ لأن الرفع زيادة ثقة وهي مقبولة إلا إن ظهرت قرينة تدل على أنها وهم من الراوي فحينئذٍ لا تقبل، وههنا لم تقم قرينة على كون زيادة الرفع وهماً، ولذلك اتفق المحدثون على قبولها والاحتجاج بها. قال السيوطي في التدريب (ص76) : إذا روى بعض الثقات الضابطين الحديث مرسلاً وبعضهم متصلاً، أو بعضهم موقوفاً وبعضهم مرفوعاً، أو وصله هو أو رفعه في وقت، وأرسله ووقفه في وقت آخر، فالصحيح عند أهل الحديث والفقة والأصول أن الحكم لمن وصله أو رفعه، سواء كان المخالف له مثله في الحفظ والإتقان أو أكثر منه؛ لأن ذلك أي الرفع والوصل زيادة ثقة وهي مقبولة

الخ. وقال أبوبكر الخطيب: اختلاف الروايتين في الرفع لا يؤثر في الحديث ضعفاً، وهو مذهب أهل الأصول؛ لأن إحدى الروايتين ليست مكذبة للأخرى، والأخذ بالمرفوع أخذ بالزيادة، وهي واجبة القبول-انتهى. وأما الجمع فهو ظاهر، فإنه يقال: إن ابن عمر رأى النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في هذه المواضع فعمل وأفتى بما رأى؛ فروى سالم ومحارب بن دثار مشاهدته، أي المرفوع من حديثه، وروى نافع مرة المرفوع وأخرى الموقوف أي عمله وفتياه أي رميه بالحصى من لا يرفع يديه. قال الماوردي: لا تعارض بين ما ورد مرفوعاً مرة وموقوفاً على الصحابي أخرى؛ لأنه يكون قد رواه وأفتى به. وأما الاختلاف الثاني فالراجح فيه رواية من ذكر الرفع في المواضع الأربعة، وأما ما عداها من الروايات التي فيها ذكر الرفع عند السجدة، أو في كل خفض ورفع، وبين السجدتين والركعتين، فلم يصح منها شيء، ففي رواية البخاري في جزئه عبد الله بن عمر العمري، وهو ضعيف من قبل حفظه. ورواية الطبراني وإن صحح الهيثمي إسنادها لكن لا يطمئن القلب بتصحيحه؛ لأن له أوهاماً في كتابه، على أن صحة السند لا يستلزم صحة المتن كما تقرر في موضعه، فرواية الطبراني هذه شاذة؛ لأنها مخالفة لما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر مرفوعاً: ولا يفعل ذلك حين يسجد ولا حين يرفع رأسه من السجود. وفي رواية: ولا يفعل ذلك في السجود. قال الحافظ: أي في الهوي إليه ولا في الرفع منه-انتهى. ومن المعلوم أن الترجيح عند التعارض للبخاري، وأنه لا يعل الراجح بالمرجوح، ورواية الطحاوي في مشكله أيضاً شاذة، وقد بين الحافظ شذوذها في الفتح (ج3: ص406) فارجع إليه. وقال العراقي في التقريب: ذكر الطحاوي أن هذه الرواية شاذة، وصححها ابن القطان ثم قال: وصحح ابن حزم

ص: 46

وقال: سمع الله لمن حمده

ــ

وابن القطان حديث الرفع في كل خفض ورفع، وأعله الجمهور-انتهى. ولا تعارض بين رواية الرفع في المواضع الأربعة ورواية الرفع في المواضع الثلاثة؛ لأن الأولى مشتملة على زيادة رواها الثقة العدل غير منافية للرواية الثانية، وأيضاً لها شواهد فيجب قبولها. قال الحافظ: أبعد من استدل برواية سالم على ضعف رواية نافع. والحق أنه ليس بين روايتي نافع وسالم تعارض؛ بل رواية نافع زيادة لم ينفها سالم، وستأتي الإشارة إلى أن سالماً أثبتها من وجه آخر-انتهى. وأما رواية مالك في موطأه بالاقتصار على الرفع عند رفع الرأس من الركوع فهي وهم منه. قال الزيلعي بعد ذكر رواية مالك هذه من الموطأ: هكذا - أى بعدم ذكر الرفع في الركوع - وقع في رواية يحيى بن يحيى، وتابعه على ذلك جماعة من رواة الموطأ منهم: يحيى بن بكير، والقعنبي، وأبومصعب، وابن أبي مريم، وسعيد بن عفير، ورواه ابن وهب، وابن القاسم، ومعن بن عيسى، وابن أبي أويس عن مالك؛ فذكروا فيه الرفع في الركوع، وكذلك رواه جماعة من أصحاب الزهري عن الزهري، وهو الصواب. ذكر ذلك أبوعمر بن عبد البر في كتاب التقصي، وقال في التمهيد: وذكر جماعة من أهل العلم أن الوهم في إسقاط الرفع من الركوع إنما وقع من جهة مالك: فإن جماعة حفاظاً رووا عنه الوجهين جميعاً-انتهى. وكذلك قال الدارقطني في غرائب مالك: أن مالكاً لم يذكر في الموطأ الرفع عند الركوع، وذكره في غير الموطأ، حدث به عشرون نفراً من الثقات الحفاظ منهم محمد بن الحسن الشيباني، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وابن وهب وغيرهم، ثم أخرج أحاديثهم عن عشرين رجلاً

الخ. وأما رواية الدارقطني بلفظ: "ولا يرفع بعد ذلك" فهي لا تعارض رواية البخاري وغيره ممن رواها بزيادة الرفع في الموطن الرابع؛ لأنها أصح وأقوى، ولأنها مثبتة فتقدم على النافية، ولأنها نص والنص يقدم على الظاهر عند التعارض. وأما الاختلاف الرابع فالراجح فيه رواية سالم بعدم الفرق بين مقدار الرفعات؛ لأنها صحيحة مرفوعة بخلاف رواية الفرق، فإنها موقوفة على ابن عمر من فعله، ومن المعلوم أن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى وعمل به؛ على أنه اختلفت الرواية في بيان عمله كما تقدم، ورواية من روى موافقة عمله لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفته من حيث النظر، وأيضاً قد أشار أبوداود إلى غرابة رواية الفرق. وأما الاختلاف الثالث فالراجح فيه ما روي عنه من الرفع في المواضع الأربعة، وهي عند البخاري في صحيحه، وأما ما روي عنه من الاقتصار على الرفع في التحريمة فهو ضعيف جداً، وقد تقدم البسط فيه فتذكر. ورواية الرفع عند السجدة وبين الركعتين لا تعارض ما رواه هو مرفوعاً بلفظ:"ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولاحين يرفع رأسه من السجود"؛ لأن العبرة لما رواه لا لما رأى وعمل به. وهذا ظاهر والله أعلم. (وقال: سمع الله لمن حمده) معناه قبل حمد من حمد. واللام في "لمن" للمنفعة، والهاء في "حمده" للكناية. وقيل: للسكتة والاستراحة، ذكره ابن الملك. وقال الطيبي: أي أجاب حمده وتقبله. يقال: اسمع دعائي أي أجب؛

ص: 47

ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك في السجود

ــ

لأن غرض السائل الإجابة والقبول-انتهى. فهو دعاء بقبول الحمد ويحتمل الإخبار (ربنا لك الحمد) هكذا هو بلا واو، وفي رواية:"ربنا ولك الحمد" أي بزيادة الواو. قال الرافعي: روينا في حديث ابن عمر بإسقاط الواو وبإثباتها، والروايتان معاً صحيحتان – انتهى. والكل جائز، وإثبات الواو أولى وأرجح وأفضل؛ لأنها زيادة مقبولة، ولأنها تدل على زيادة معنى؛ لأنه يكون التقدير "ربنا استجب لنا" أو ما قارب ذلك، "ولك الحمد"، فيشتمل الكلام على معنى الدعاء ومعنى الخبر. وإذا قيل بإسقاط الواو دل على أحد هذين، والواو هي عاطفة، وعطف الخبر على الإنشاء جوزه جمع من النحويين وغيرهم. والتقدير:"ربنا تقبل منا، ولك الحمد على هدايتك إيانا لما يرضيك عنا"، وبتقدير اعتماد ما عليه الأكثرون من امتناع عطف الخبر على الإنشاء؛ فالخبر ههنا بمعنى إنشاء الحمد لا الإخبار بأنه موجود؛ إذ ليس فيه كبير فائدة، ولا يحصل به الامتثال لما أمرنا به من الحمد. وقيل: الواو زائدة. وقيل: هي واو الحال. والحديث قد احتج به من قال: إنه يجمع بين التسميع والتحميد كل مصل من غير فرق بين الإمام والمؤتم والمنفرد، فإذا رفع رأسه من الركوع يقول في حال ارتفاعه:"سمع الله لمن حمده"، فإذا استوى قائماً يقول:"ربنا ولك الحمد"، وفيه أن الدليل أخص من الدعوى؛ لأنه حكاية لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم إماماً كما هو الغالب والمتبادر، إلا أن قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي" يدل على عدم اختصاص ذلك بالإمام. واحتج لذلك أيضاً بما نقله الطحاوي وابن عبد البر من الإجماع على أن المنفرد يجمع بينهما. وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما للاتفاق على اتحاد حكم الإمام والمنفرد فيلحق بهما المؤتم؛ لأن الأصل استواء الثلاثة في المشروع في الصلاة إلا ما صرح الشرع باستنثائه، ولا دليل في قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد. على استثناء المؤتم عن حكم الجمع بينهما، كما لا دليل فيه على استثناء الإمام عن ذلك. وسنوضح ذلك مع ذكر اختلاف العلماء في هذه المسألة في باب الركوع فانتظر. (وكان لا يفعل ذلك) أي رفع اليدين (في السجود) أي لا عند الهوي والانحطاط، ولا عند رفع الرأس من السجدة؛ ففي رواية للبخاري:"ولا يفعل ذلك حين يسجد، ولا حين يرفع رأسه من السجود"، ولمسلم:"ولا يفعل حين يرفع رأسه من السجود"، وله أيضاً:"ولا يرفعهما بين السجدتين"، وفي حديث علي عند الترمذي:"ولا يرفع يديه في شيء من صلاته، وهو قاعد"، وفي حديث أبي موسى عند الدارقطني:"ولا يرفع بين السجدتين". وهذه الروايات صريحة في نفي الرفع عند الهوي للسجود، وعند الرفع منه، وبين السجدتين. وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. وذهب بعض أهل العلم إلى الرفع للسجود أيضاً بل لكل خفض ورفع، واستدلوا بحديث ابن عمر عند الطبراني، وقد تقدم الكلام فيه. وبحديث مالك بن الحويرث عند النسائي، وبحديث أنس عند أبي يعلى، وبحديث أبي هريرة عند ابن ماجه، وهذه الأحاديث ضعفها الجمهور وعللوها، وقد ذكرها شيخنا الأجل المباكفوري في أبكار المنن (ص197-200) مع بسط الكلام فيها

ص: 48

متفق عليه.

ــ

فارجع إليه. والحق في ذلك ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن أحاديث النفي صحيحة صريحة في النفي، بخلاف أحاديث الإثبات فإنها معلولة وبعضها غير صريحة في الإثبات، ولو سلم صحتها وكونها صريحة في الإثبات فحديث ابن عمر ومن وافقه أولى أن يعمل به؛ لكونه أصح وأقوى وأرجح وأصرح. وأما ما قيل: أن الإثبات يقدم على النفي لأن مع المثبت زيادة علم فات عن النافي وإن كان أوثق من المثبت؛ ففيه أن هذا إنما هو عند عدم تحقق التعارض لإمكان تعدد الجهة أو الوقت، وأما إذا تعارض النفي والإثبات باتحاد الجهتين والوقتين معاً فقبول زيادة الثقة يستلزم ترك قول الأوثق بقول الثقة، وذلك لا يجوز إلا أن يترجح قول الثقة بما يوجب الأخذ به، فذاك باب التعارض والترجيح دون تقديم المثبت على النافي بنفس الإثبات، وههنا روايات الباب تدل بظاهرها على اتحاد الجهة وعلى اتحاد الوقت أيضاً؛ لأن النافين والمثبتين لم يقيدوا النفي والإثبات بوقت دون وقت، وكلتا الروايتين وردت بلفظة "كان"، وهي تدل على الدوام إلا إذا قامت قرينة على انتفاء ذلك، ولا قرينة ههنا، فتعارض النفي والإثبات باتحاد الجهة والوقت معاً، فتقدم رواية النفي؛ لأنها أصح وأقوى. وأشار بعض الحنفية إلى أن قوله:"وكان لا يفعل ذلك في السجود" مدرج وإلا فهو شاذ، حيث قال بعد ذكر أحاديث الرفع في السجود: فهذه الروايات كلها تخالف حديث ابن عمر؛ فلو سلم لفظ: "وكان لا يفعل" من الإدراج يكون شاذاً لمخالفة الروايات الصحيحة العديدة-انتهى. قلت: الإدراج في المتن إنما يثبت إذا ورد ذلك منفصلاً في رواية أخرى، أو نص على ذلك أحد من رواة الحديث، أو بعض الأئمة المطلعين، أو كان صدور ذلك منه صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً مستحيلاً، والكل ههنا منتف. وأما أحاديث الإثبات فلا تكون فرينة على الإدراج؛ لأنها ضعيفة، والضعيف لا يعل به الصحيح، أو صحيحة لكنها مرجوحة، والمرجوح لا يعل به الراجح؛ فتوهم كونه مدرجاً مردود على من توهمه. وأما دعوى شذوذه فهي أيضاً باطلة لأن تعريف الشاذ المصطلح الذي عليه المحققون هو: ما رواه المقبول مخالفاً لرواية من هو أولى منه، ولا شك أن رواية النفي أصح وأقوى وأرجح لكونها مخرجة في الصحيحين، وأيضاً لها شاهدان صحيحان من حديث علي عند الترمذي، ومن حديث أبي موسى عند الدارقطني، وعلى هذا فالشاذ والمرجوح إنما هي رواية الإثبات لا رواية النفي؛ فترد الأولى لكونها شاذة مرجوحة، وتقبل الثانية لكونها محفوظة راجحة. وقد تحقق عند هذا البعض أيضاً ضعف دعوى الإدراج والشذوذ وبطلانها حيث قال بعد ذلك: اللهم إلا أن يقال: إنها أي روايات الإثبات محمولة على أول الزمان، ثم نسخ الرفع تدريجاً-انتهى. قلت: هذه الروايات مخالفة لما رواه الشيخان وغيرهما فترد لكونها مرجوحة، وأيضاً التاريخ غير معلوم، ولا يثبت النسخ بالادعاء والاحتمال، فما بنى عليه ورتب من دعوى تدرج النسخ لا يلتفت إليه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وفي الباب عن جماعة كثيرة من الصحابة. قال الشافعي: روى الرفع

ص: 49

800-

(5) وعن نافع ((أن ابن عمر كان إذا دخل في الصلاة كبر ورفع يديه، وإذا ركع رفع يديه،

وإذا قال: سمع الله لمن حمده، رفع يديه، وإذا قام من الركعتين رفع يديه. ورفع ذلك ابن عمر

إلى النبي صلى الله عليه وسلم))

ــ

جمع من الصحابة، لعله لم يرو قط حديث بعدد أكثر منهم. وذكر البخاري: من زعم أن رفع اليدين بدعة فقد طعن في الصحابة؛ فإنه لم يثبت عن أحد منهم تركه. قال: ولا أسانيد أصح من أسانيد الرفع. وذكر أيضاً: أن رفع اليدين عند الركوع وعند الرفع منه رواه سبعة عشر رجلاً من الصحابة. وذكر الحاكم وأبوالقاسم بن مندة ممن رواه العشرة المبشرة. وقال الحافظ العراقي في تقريب الأسانيد: واعلم أنه قد روي رفع اليدين من حديث خمسين من الصحابة منهم العشرة. انظر طرح التثريب (ج2: ص254) . وسرد البيهقي في السنن وفي الخلافيات أسماء من روى الرفع عن نحو من ثلاثين صحابياً، وقال: سمعت الحاكم يقول: اتفق على رواية هذه السنة العشرة المشهود لهم بالجنة ومن بعدهم من أكابر الصحابة. قال البيهقي: وهو كما قال. وقال السيوطي في "الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة": إن حديث الرفع متواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أخرجه الشيخان عن ابن عمر، ومالك بن الحويرث. ومسلم عن وائل بن حجر، والأربعة عن علي. وأبوداود عن سهل بن سعد، وابن الزبير، وابن عباس، ومحمد بن مسلمة، وأبي أسيد، وأبي قتادة، وأبي هريرة، وابن ماجه عن أنس، وجابر، وعمير الليثي. وأحمد عن الحكم بن عمير. والبيهقي عن أبي بكر والبراء. والدارقطني عن عمر، وأبي موسى. والطبراني عن عقبة بن عامر، ومعاذ بن جبل.

800-

قوله: (وعن نافع: أن ابن عمر كان) الخ. الرواية السابقة كانت من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر، وهذه الثانية من طريق نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر. والفرق بين الروايتين أن سالماً اقتصر على رواية المرفوع، ولم يختلف عليه أصحابه في الرفع بخلاف نافع، فإنه رواه موقوفاً ثم عقبه بالمرفوع، واختلف عليه أصحابه في الرفع والوقف كما تقدم مفصلاً، ولم يكن عند البخاري هذا الاختلاف قادحاً في صحة رواية نافع المرفوعة، ولذلك أدخلها في صحيحه، وذكر لها شاهدين كما أسلفنا، وحكى الدارقطني في العلل الاختلاف في وقفه ورفعه، وقال: الأشبه بالصواب قول عبد الأعلى، وارجع إلى نصب الراية (ج1: ص408) وذكر المصنف هذه الرواية لأن فيها زيادة الرفع في موطن رابع، وهي زيادة العدل الثقة فيجب قبولها. (إذا دخل) أي أراد الدخول (كبر) للتحريمة (ورفع يديه) حذو منكبيه. (وإذا قام من الركعتين) أي من الأوليين بعد التشهد الأول. (ورفع ذلك) أي أسند وأضاف رفع اليدين في هذه المواضع الأربعة (ابن عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم) أي قال: إنه فعل ذلك، والمرفوع عندهم ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم -

ص: 50

رواه البخاري.

801-

(6) وعن مالك بن الحويرث، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر رفع يديه حتى يحاذى بهما أذنيه، وإذا رفع رأسه من الركوع فقال: سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك.

ــ

خاصة من قول أو فعل أو تقرير سواء كان متصلاً أو منقطعاً بسقوط الصحابي منه أو غيره. والمسند على المعتمد هو ما اتصل سنده من راويه إلى منتهاه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمتصل ويسمى الموصول هو ما اتصل سنده سواء كان مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم أو موقوفاً، فالمسند متصل مرفوع، والمتصل قد يكون مرفوعاً وغير مرفوع، والمرفوع قد يكون متصلاً وغير متصل. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، كلاهما من طريق عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر. وكما رفع هذا الحديث عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، كذلك رفعه عبد الوهاب الثقفي ومعتمر عن عبيد الله، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، كما أخرجه البخاري في جزء رفع اليدين، وفيه هذه الزيادة أي زيادة الرفع عند القيام من الركعتين، وقد توبع نافع على ذلك عن ابن عمر، وهو فيما رواه أبوداود، وصححه البخاري في الجزء المذكور من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر، قال:"كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الركعتين كبر ورفع يديه"، وله شواهد: منها حديث أبي حميد، وحديث علي بن أبي طالب، أخرجهما أبوداود، وصححهما ابن خزيمة وابن حبان. وقال البخاري في جزء الرفع: ما زاده ابن عمر وعلي وأبوحميد في عشرة من الصحابة من الرفع عند القيام من الركعتين صحيح؛ لأنهم لم يحكوا صلاة واحدة فاختلفوا فيها، وإنما زاد بعضهم على بعض، والزيادة مقبولة من أهل العلم.

801-

قوله: (إذا كبر) أي عند التحريمة، أي شرع في تكبيره (رفع يديه) أي شرع في رفعهما (حتى يحاذي بهما أذنيه) هذا الظاهر مخالف لما تقدم من حديث ابن عمر عند الشيخين، وحديث أبي حميد عند البخاري، فذهب بعضهم إلى ترجيح الثاني لكونه متفقاً عليه بخلاف الأول، فإنه من أفراد مسلم كما سيأتي، وذهب آخرون إلى الجمع فقالوا: يرفع يديه حذو منكبيه بحيث يحاذى أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمة أذنيه، وظهر كفيه منكبيه، وهو جمع حسن، فمعنى قوله:"حتى يحاذي بهما" أي بطرف إبهاميه. "أذنيه" شحمة أذنيه. ومعنى قوله الآتي: "حتى يحاذي بهما" أي بأعلى أصابعه وأطراف أنامله "فروع أذنيه" أي أعليهما؛ لأن فرع كل شيء أعلاه. (وإذا رفع رأسه من الركوع فقال:) عطف على رفع (سمع الله لمن حمده، فعل مثل ذلك) أي فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعل عند التكبير. كذا في النسخ الموجودة للمشكاة عندنا بدون ذكر رفع اليدين عند الركوع. وفي مسلم زاد قبل هذا: "وإذا

ص: 51

ركع رفع يديه حتى يحاذي بهما أذنيه". وكذا وقع ذكر الرفع عند الركوع عند البخاري والنسائي وأبي داود وابن ماجه. وفي المصابيح: "فلا أدري سقوط هذا في نسخ المشكاة من المصنف أو من النساخ". واعلم أن حديث مالك هذا دليل واضح على تأخر الرفع عند الركوع والرفع منه، وبقاءه، وبطلان دعوى نسخه، وذلك من وجوه: الأول: أن مالك بن الحويرث وأصحابه قدموا المدينة قبل غزوة تبوك حينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهز ويتأهب لها، وكانت وقعة تبوك في رجب سنة تسع، وقد نزل قوله تعالى: {قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون} [2، 1: 23] قبل قدوم مالك ورفقائه المدينة. والخشوع السكون، قال في فتح البيان: الخشوع في اللغة السكون والتواضع. وقال ابن عباس: "خاشعون" ساكنون. وهذا يدل على أن رفع اليدين عند الركوع والرفع منه ليس منافياً للخشوع والسكون، وأن الرفع الذي هو مناف للسكون ومخالف له هو شيء آخر غير ذلك الرفع المتنازع فيه، وأن المراد بالسكون في قوله: "اسكنوا في الصلاة" في حديث جابر هو السكون عن الرفع عند السلام اعتباراً للسبب، وعن الأفعال التي ليست من أعمال الصلاة اعتباراً لعموم اللفظ، لا عن الرفع عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فعمله صلى الله عليه وسلم بالرفع بعد نزول قوله: {خاشعون} دليل على بقائه وعدم نسخه؛ لكونه غير مناف للسكون والخشوع. قال السندي في حاشية النسائي: مالك بن الحويرث ووائل بن حجر ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره، فروايتهما الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه، وبطلان دعوى نسخه. كيف وقد روى مالك هذا جلسة الاستراحة فحملوها على أنها كانت في آخر عمره في سن الكبر، فهي ليس مما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم قصداً فلا تكون سنة، وهذا يقتضي أن يكون الرفع الذي رواه ثابتاً لا منسوخاً لكونه في آخر عمره عندهم، فالقول بأنه منسوخ قريب من التناقض، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك هذا وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي" –انتهى. وقال في حاشية ابن ماجه مثل ذلك، وزاد: فإن كان هناك نسخ فينبغي أن يكون المنسوخ ترك الرفع. والثاني: أن مالك بن الحويرث الذي روى هذا الحديث قد كان يرفع يديه بعده صلى الله عليه وسلم عملاً بما رأى وشاهد منه صلى الله عليه وسلم، وبقوله صلى الله عليه وسلم له ولرفقائه: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فإن الرفع داخل في هذا العموم. روى البخاري في صحيحه عن أبي قلابة: أنه رأى مالك بن الحويرث إذا صلى كبر ورفع يديه، وإذا أراد أن يركع رفع يديه، وإذا رفع رأسه من الركوع رفع يديه، وحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع هكذا، فرفع مالك يديه في صلاته بعده صلى الله عليه وسلم عملاً بما رأى منه وبما أمره به يدل على عدم نسخه. والثالث: أن مالكاً قدم المدينة عام تبوك، وقد حكى ما رأى وشاهد من النبي صلى الله عليه وسلم من الرفع في صلاته، وهذا صريح في عدم وقوع النسخ قبل ذلك، وقد بقي صلى الله عليه وسلم حياً بعد تبوك قريباً من عشرين شهراً، ولم ينقل أنه ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة لا بسند صحيح ولا ضعيف، والأصل في الأشياء بعد وجودها ثبوتها وبقاؤها لا عدمها؛ لأن عدم نقل الترك في مثل هذه المواقع بمنزلة نقل عدم

ص: 52

وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه)) متفق عليه.

802-

(7) وعنه: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي

قاعداً)) .

ــ

الترك كما هو مقرر في موضعه، فلا بد لمن يدعى النسخ أن يأتي بدليل صريح في ترك الرفع في هذه المدة ولو مرة، ولو بسند ضعيف ودونه خرط القتاد، وقلل الجبال. (وفي رواية: حتى يحاذي بهما فروع أذنيه) تقدم معناه، وهذه الرواية من أفراد مسلم، وكذا قوله:"حتى يحاذي بهما أذنيه" من أفراد مسلم، ففي قوله:(متفق عليه) نظر، وقد وهم المحب الطبري أيضاً فعزاه للمتفق، نعم أصل الحديث متفق عليه، وقد أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

802-

قوله: (فإذا كان في وتر) أي فرد (من صلاته) المراد بالوتر الركعة الأولى، والثالثة من الرباعيات (لم ينهض) للقيام (حتى يستوي قاعداً) للاستراحة يعني يجلس للاستراحة ثم يقوم، وهذا دليل صريح على مشروعية جلسة الاستراحة وسنيتها. قال الحافظ: وأخذ بها الشافعي، وطائفة من أهل الحديث، وعن أحمد روايتان، وذكر الخلال أن أحمد رجع إلى القول بها، ولم يستحبها الأكثر– انتهى. وكذا صرح برجوع أحمد إلى القول بها نقلاً عن الخلال في المغني، والشرح الكبير، وزاد المعاد وغير ذلك من كتب الحنابلة وغيرهم، فلا شك في أن آخر قولي أحمد هو أن يجلس للاستراحة، وقال مالك وأبوحنيفة بتركها. والاختلاف في الأفضلية لا في الجواز. قال في رد المحتار: قال شمس الأئمة الحلوائي: الخلاف في الأفضلية حتى لو فعل كما هو مذهبنا لا بأس به عند الشافعي، ولو فعل كما هو مذهبه لا بأس به عندنا- انتهى. والحق ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، يدل عليه حديث مالك هذا، وهو حديث صحيح، وأحاديث أخرى، منها: حديث أبي هريرة في قصة المسيء في صلاته، وهو أول أحاديث الفصل الأول من هذا الباب، وقد ورد فيه الأمر بجلسة الاستراحة. ومنها حديث أبي حميد الآتي، وهو أول أحاديث الفصل الثاني. قال ابن قدامة في المغني بعد ذكر حديث مالك هذا: وذكره أيضاً أبوحميد في صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو حديث حسن صحيح، فيتعين العمل به والمصير إليه – انتهى. ومنها حديث ابن عباس الآتي في صلاة التسبيح، وهو حديث حسن أو صحيح لغيره. ومن لا يقول بجلسة الاستراحة اعتذار عن حديث مالك بن الحويرث بأعذار كلها واهية، فمنها: أنه محمول على حال الكبر، فعلها صلى الله عليه وسلم في آخر عمره حين ثقل وبدن، ولم يفعل قصداً، والسنة ما فعل قصداً لا ما فعله بسبب آخر. ورده السندي بأنه أورد عليه قوله صلى الله عليه وسلم لمالك وأصحابه:"صلوا كما رأيتموني أصلي"، وأقل ذلك أن يكون مستحباً، وأيضاً قد جاء الأمر بها في بعض روايات الأعرابي المسيء صلاته- انتهى. ورده صاحب البحر الرائق أيضاً حيث قال: يرد عليه بأن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وقد قال عليه الصلاة والسلام:"صلوا كما رأيتموني أصلي"- انتهى. وقال الحافظ في الدراية: هذا تأويل يحتاج إلى دليل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث لما أراد أن يفارقه: "صلوا كما رأيتموني

ص: 53

أصلي"، ولم يفصل له، فالحديث حجة في الإقتداء به في ذلك- انتهى. قلت: ويرده أيضاً حديث أبي حميد الآتي فإن في آخره: "قالوا: صدقت هكذا كان يصلي"، فلم يفصل أحد أن هذه الجلسة كانت في آخر عمره حين ثقل. ومنها أن حديث أبي حميد حال عن جلسة الاستراحة، فقد رواه الطحاوي بلفظ: "فقام ولم يتورك" وأخرجه أبوداود أيضاً كذلك، فلما تخالفا احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد لأجلها لا أن ذلك من سنة الصلاة. والجواب عنه أن الأصل عدم العلة، وأن مالك بن الحويرث هو راوي حديث "صلوا كما رأيتموني أصلي"، فحكاياته لصفات صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم داخله تحت هذا الأمر، ولم تتفق الروايات عن أبي حميد على نفي هذه الجلسة؛ بل أخرجه أبوداود أيضاً من وجه آخر عنه بإثباتها. وكذا أخرجه الترمذي في جامعه بإثباتها، والمثبت مقدم على النافي. ومنها أنها لو كانت سنة لشرع لها ذكر مخصوص. والجواب عنه أنها جلسة خفيفة جداً استغنى فيها بالتكبير المشروع للقيام، فإنها من جملة النهوض إلى القيام. ومنها أنها لو كانت سنة لذكرها كل من وصف صلاته صلى الله عليه وسلم. والجواب عنه أن السنن المتفق عليها لم يستوعبها كل واحد ممن وصف صلاته، إنما أخذ مجموعها من مجموعهم. ومنها أن عمل أكابر الصحابة الذين كانوا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشد اقتفاء لأثره وألزم لصحبته من مالك بن الحويرث كعلي، وابن مسعود، وعمر، على خلاف ما قال مالك، فوجب تقديمه، وحمل ما رواه على حالة عارضة اقتضت تلك الجلسة، وليس في روايته ما يدل على مواظبته عليها لتكون قرينة على السنة. والجواب عنه أن الأصل عدم عروض تلك الحالة، والحمل عليها يحتاج إلى دليل، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك وأصحابه: "صلوا كما رأيتموني أصلي". وأقل ذلك أن يكون مستحباً كما قال السندي. ولم يثبت عن أحد من الصحابة تركها بسند صحيح غير ابن مسعود، ومتابعة السنة أولى. وليس بعد الحديث قول لأحد كائناً من كان. وأيضاً ترك من ترك من الصحابة على تقدير ثبوته عنه لا يقدح في سنيتها؛ لأن ترك ما ليس بواجب جائز، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث وأصحابه بإقتداء به بقوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، واختيار مالك بن الحويرث بعده صلى الله عليه وسلم جلسة استراحة عملاً بهذا الأمر قرينة واضحة على مواظبته عليها وبقائها، وعلى سنيتها، وإستحبابها. واحتج هؤلاء على ترك جلسة الاستراحة بأحاديث: منها حديث أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على صدور قدميه، أخرجه الترمذي. والجواب عنه أنه حديث ضعيف جداً لا يقوم بمثله الحجة؛ فإن في سنده خالد بن إلياس وهو متروك. قاله أحمد والنسائي. وقال البخاري وابن معين: ليس بشيء. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات حتى يسبق إلى القلب أنه الواضع لها، لا يكتب حديثه إلا على جهة التعجب. وفيه أيضاً صالح مولى التوأمة وقد اختلط بآخره، وخالد لا يعرف متى أخذ عنه. ومنها حديث أبي مالك الأشعري أنه جمع قومه فقال: يا معشر الأشعريين! اجتمعوا وأجمعوا نساءكم وأبناءكم أعلمكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم الحديث.

ص: 54

رواه البخاري.

803-

(8) وعن وائل بن حجر: ((أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه حين دخل في الصلاة، كبر

ــ

وفيه: ثم كبر وخر ساجداً، ثم كبر فرفع رأسه، ثم كبر فسجد، ثم كبر فانتهض قائماً-الحديث أخرجه أحمد. والجواب عنه أن في إسناده شهر بن حوشب، وهو كثير الإرسال والأوهام كما في التقريب، ثم هذا الحديث ليس فيه تصريح بنفي جلسة الاستراحة، ولو سلم فهو إنما يدل على نفي وجوبها لا على نفي سنيتها؛ لأن الترك في بعض الأحيان إنما ينافي وجوبها لا القول بسنيتها. ومنها حديث وائل بن حجر عند البزار بلفظ:"كان إذا رفع رأسه من السجدتين استوى قائماً"، والجواب عنه: أن حديث وائل هذا قد ذكره النووي في الخلاصة في فصل الضعيف، ثم إنه يدل على تسليم كونه صريحاً في نفي تلك الجلسة على نفي وجوبها فقط لا على نفي سنيتها. واحتجوا أيضاً بآثار بعض الصحابة، وهي على تقدير ثبوتها لا تقدح في سنيتها؛ لأن الترك ينافي الوجوب لا السنية، فإن ترك ما ليس بواجب جائز. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي، وأبوداود، والنسائي.

803-

قوله: (وعن وائل بن حجر) بضم الحاء المهملة وسكون الجيم وبالراء، ابن سعد بن مسروق الحضرمي، أبوهنيدة ويقال: أبوهند، صحابي جليل: وكان قيلا من أقيال حضر موت، وكان أبوه من ملوكهم، ووفد هو على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، ويقال إنه بشر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل قدومه، وقال: يأتيكم وائل بن حجر من أرض بعيدة من حضر موت طائعاً راغباً في الله ورسوله، وهو بقية أبناء الملوك، فلما دخل عليه رحب به، وأدناه من نفسه، وقرب مجلسه، وبسط له رداءه فأجلسه عليه مع نفسه على مقعده. وقيل: أصعده معه على المنبر، وقال: اللهم بارك في وائل وولده وولد ولده. واستعمله النبي صلى الله عليه وسلم على أقيال من حضر موت، وكتب معه ثلاثة كتب، منها كتاب إلى المهاجرين أبي أمية، وكتاب إلى الأقيال والعباهلة، وأقطعه أرضاً، وبعث معه معاوية بن أبي سفيان ليتسلمها، فقال له معاوية أردفني، فقال وائل: لست من أرداف الملوك. وعاش وائل حتى ولى معاوية الخليفة، فقصده وائل فتلقاه معاوية وأكرمه، فقال وائل: وددت أني حملته ذلك اليوم بين يدي. سكن وائل الكوفة وعقبه بها، ومات في ولاية معاوية. له أحد وسبعون حديثاً، انفرد له مسلم بستة، روى عنه ابناه علقمة وعبد الجبار، ومولى لهم، وأم يحيى زوجته وغيرهم، ولم يسمع عبد الجبار من أبيه. (رأى النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه) حال، أي نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم رافعاً يديه (حين دخل في الصلاة كبر) قال الطيبي: كبر بالواو في بعض نسخ المصابيح وبدونها في صحيح مسلم، وكتاب الحميدي، وجامع الأصول، فعلى الأول عطف على "دخل"، وعلى الثاني إما حال بتقدير "قد" أو بيان لدخل، أو بدل منه، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون حالاً و"قد" مقدرة، وأن يراد بالدخول الشروع فيها والعزم عليها بالقلب فيوافق معنى العطف،

ص: 55

ثم التحف بثوبه، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثم رفعهما وكبر فركع، فلما قال:"سمع الله لمن حمده" رفع يديه، فلما سجد، سجد بين كفيه،

ــ

ويلزم منه المواطأة بين اللسان والقلب، وثانيهما: أن يكون" كبر" بياناً لقوله: "دخل في الصلاة"، ويراد بالدخول افتتاحها بالتكبير، ونحوه في البيان قوله تعالى:{فوسوس إليه الشيطان قال يآدم هل أدلك على شجرة الخلد} [20: 120] أو بدلاً منه كقول الشاعر:

ارحل لا تقيمن عندنا

فعلى الأول يلزم اقتران النية بالتكبير- انتهى. (ثم التحف بثوبه) أي تستر به. قال ابن حجر: يحتمل أنه بعد تكبيرة الإحرام سقط ثوبه عن كتفه فأعاده، ويحتمل أنه كان نسيه ثم تذكره بعد إحرامه فأخذه والتحف به. قلت: ويحتمل أنه كان وضع ثوبه أي رداءه على كتفه قبل الدخول في الصلاة لكن بدون التحاف وتوشح بل سدلاً وإرسالاً، ثم التحف به، وتوشح بعد الدخول في الصلاة بالتكبير، وهذا هو الأقرب. (ثم وضع يده اليمنى على اليسرى) ورواه ابن خزيمة في صحيحه بلفظ:"وضع يده اليمنى على صدره"، وسيأتي الكلام في مسألة محل وضع اليدين وكيفية الوضع مفصلاً إن شاء الله. (فلما أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب) فيه استحباب كشف اليدين عند الرفع (فلما قال: سمع الله لمن حمده رفع يديه) أي لما شرع في قوله ذلك شرع في رفعهما كما علم من الروايات السابقة، واستفيد منه أن "سمع الله لمن حمده" ذكر الرفع والانتقال من الركوع إلى الاعتدال. (فلما سجد سجد بين كفيه) أي محاذيين لرأسه، قاله القاري. وقال ابن الملك: أي وضع كفيه بإزاء منكبيه في السجود. قال القاري: وفيه أن إزاء المنكبين لا يفهم من الحديث. قلت: في رواية عاصم بن كليب عن وائل بن حجر عند النسائي: "ثم سجد فجعل كفيه بحذاء أذنيه"، وفي رواية أبي داود:"فلما سجد وضع رأسه بذلك المنزل من بين يديه"، يعني وضع يديه حذاء أذنيه. وهذه الرواية تدل على مشروعية وضع الكفين حذو الأذنين، وحديث أبي حميد الآتي بلفظ:"وضع كفيه حذو منكبيه" يدل على مشروعية وضع الكفين في السجود حذو المنكبين، فجنح بعضهم إلى ترجيح ما في رواية مسلم والنسائي، وحمل حديث أبي حميد على بيان الجواز، وعكس آخرون. وقال بعضهم: إن المصلي مخير بين أن يضع كفيه حذو منكبيه، وبين أن يضع حذاء رأسه وجبهته حملاً للأحاديث على أوقات مختلفة. واختار بعضهم الجمع بما تقدم في مقدار الرفع، والله أعلم. تنبيه: حديث وائل بن حجر هذا دليل واضح على تأخر الرفع وبقائه، وبطلان دعوى نسخه؛ لأن وائلاً متأخر الإسلام جداً. قال العيني في شرح البخاري (ج 3: ص9) : وائل بن حجر أسلم في المدينة سنة تسع من الهجرة- انتهى. وقال السندي: وائل بن حجر ممن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم آخر عمره، فروايته الرفع عند الركوع والرفع منه دليل على بقائه وبطلان دعوى نسخه – انتهى.

ص: 56

واعلم أن إبراهيم النخعي لما سمع حديث وائل هذا من عمرو بن مرة الجملي المرادي وغيره قال استبعاداً: ما أرى وائلاً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ذلك اليوم فحفظ عنه، وعبد الله بن مسعود لم يحفظ. إنما رفع اليدين عند افتتاح الصلاة. أخرجه الدارقطني والبيهقي والطحاوي، وأخرجه أبويعلى في مسنده بلفظ:"أحفظ وائل ونسى ابن مسعود؟ " وفي رواية للطحاوي: قال إبراهيم: فإن كان وائل رآه مرة يرفع فقد رآه عبد الله خمسين مرة لا يرفع- انتهى. ذكر هذا الكلام كله الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد (ص 91) نقلاً عن نصب الراية، ثم قال رداً على النخعي: وههنا أبحاث، الأول: ما قاله البيهقي في كتاب المعرفة عن الشافعي أنه قال: الأولى أن يؤخذ بقول وائل؛ لأنه صحابي جليل فكيف يرد حديثه بقول رجل ممن هو دونه. والثاني: ما قاله البخاري في رسالة رفع اليدين: إن كلام إبراهيم هذا ظن منه، لا يرفع به رواية وائل، بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فرفع يديه، وكذلك رأى أصحابه غير مرة يرفعون أيديهم، كما بينه زائدة، فقال: نا عاصم: نا أبى عن وائل بن حجر، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فرفع يديه في الركوع، وفي الرفع منه، قال: ثم أتيتهم بعد ذلك فرأيت الناس في زمان برد، عليهم جل الثياب تتحرك أيديهم من تحت الثياب. والثالث: ما نقله الزيلعي عن الفقية أبي بكر بن إسحاق أنه قال: ما ذكره إبراهيم علة لا يساوي سماعها؛ لأن رفع اليدين قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عن الخلفاء الراشدين، ثم عن الصحابة والتابعين، وليس في نسيان ابن مسعود لذلك ما يستغرب، فقد نسى من القرآن ما لم يختلف المسلمون فيه بعد وهي المعوذتان، ونسي ما اتفق العلماء على نسخه كالتطبيق، ونسي كيف قيام الاثنين خلف الإمام، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح يوم النحر في وقتها، ونسي كيفية جمع النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، ونسي ما لم يختلف العلماء فيه من وضع المرفق والساعد على الأرض في السجود، ونسي كيف كان يقرأ النبي صلى الله عليه وسلم {وما خلق الذكر والأنثى} [92: 3] . وإذا جاز على ابن مسعود أن ينسى مثل هذا في الصلاة كيف لا يجوز مثله في رفع اليدين؟. والرابع: أن وائلاً ليس بمتفرد في رواية الرفع عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل اشترك معه جمع كثير كما مر ذكره سابقاً، بل ليس في الصحابة من روى ترك الرفع فقط إلا ابن مسعود، وأما من عداه فمنهم من لم ترو عنه إلا رواية الرفع، ومنهم من روى عنه حديث الرفع وتركه كليهما كابن عمر، والبراء إلا أن أسانيد رواية الرفع أوثق وأثبت، فعند ذلك لو عورض كلام إبراهيم بأنه يستبعد أن يكون ترك الرفع حفظ ابن مسعود فقط، ولم يحفظ من عداه من أجلة الصحابة الذين كانوا مصاحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مصاحبة ابن مسعود أو أكثر لكان له وجه. والخامس: أنه لا يلزم من ترك ابن مسعود وأصحابه عدم ثبوت رواية وائل، فيجوز أن يكون تركهم؛ لأنهم رأوا الرفع غير لازم، لا لأنه غير ثابت، أو لأنهم رجحوا أحد الفعلين الثابتين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الرفع والترك فداموا عليه، وتركوا الآخر، ولا يلزم منه بطلان الآخر. والسادس: أنه قد أخذ ابن مسعود بالتطبيق في الركوع، وداوم عليه أصحابه، وكذلك أخذوا بقيام الإمام في الوسط إذا

ص: 57

رواه مسلم.

804-

(9) وعن سهل بن سعد، قال: كان الناس يؤمرون

ــ

كان من يقتدي به اثنين مع ثبوت ترك ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن جمهور أصحابه بعده بأسانيد صحاح، فلم لا يعتبر فعل ابن مسعود في هذين الأمرين وأمثال ذلك؟. فما هو الجواب هناك هو الجواب ههنا. والإنصاف في هذا المقام أنه لا سبيل إلى رد روايات الرفع برواية ابن مسعود وفعله وأصحابه، ولا إلى دعوى نسخ الرفع ما لم يثبت ذلك بنص عن الشارع- انتهى. باختصار يسير. (رواه مسلم) من طريق عبد الجبار بن وائل عن علقمة ومولى لهم أنهما أخبراه عن أبيه وائل بن حجر، وهو إسناد صحيح متصل، ووهم من قال: إن علقمة لم يسمع من أبيه. قال الترمذي: علقمة بن وائل سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار بن وائل لم يسمع من أبيه- انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن خزيمة.

804-

قوله: (كان الناس) أي في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم (يؤمرون) قال الحافظ: هذا حكمه الرفع؛ لأنه محمول على أن الآمر لهم بذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: لا خلاف في ذلك في ذلك بين أهل النقل. وقال النووي في شرح مسلم: هذا حديث صحيح مرفوع. وقال السيوطي في التدريب (ص 62) : قول الصحابي: أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا وما أشبهه كله مرفوع على الصحيح الذي قاله الجمهور. قال ابن الصلاح: لأن مطلق ذلك ينصرف بظاهر إلى من له الأمر والنهي ومن يجب اتباع سنته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال غيره: لأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة ولا العادة، الشرع يتلقى من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا يصح أن يريد أمر الكتاب لكون ما في الكتاب مشهوراً يعرفه الناس، ولا الإجماع لأن المتكلم بهذا من أهل الإجماع، ويستحيل أمره نفسه، ولا القياس إذ لا أمر فيه، فتعين كون المراد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ليس بمرفوع لاحتمال أن يكون الآمر غيره كأمر القرآن أو الإجماع أو بعض الخلفاء أو الاستنباط. وأجيب ببُعد ذلك مع أن الأصل الأول- انتهى. قال الجمال القاسمي: واحتمال أن يكون الآمر غيره بعيد، وإن كنا لا ننكر أن إطلاق ذلك يصدق مع الواسطة، ولكن العادة أن من له رئيس معظم فقال:"أمرنا بكذا" فإنما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلا ذلك. ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو عظيم الصحابة، ومرجعهم، والمشار إليه في أقوالهم وأفعالهم، فتصرف إطلاقاتهم إليه صلى الله عليه وسلم. وما قيل: إن الفاعل إذا حذف احتمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فلا نثبت شرعاً بالشك. فجوابه أن ظاهر الحال صارف للنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم تقريره. قال: ومما يؤيد أن ذلك في حكم الرفع ما رواه الشيخان عن أبي موسى في قصة إستئذانه على عمر، ولفظ البخاري عن أبي موسى قال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فكأنه كان مشغولاً، فرجعت، ففرغ عمر، فقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ إيذنوا له. قيل: قد رجع. فدعاني، فقلت: كنا نؤمر بذلك، فقال: لتأتيني على ذلك بالبينة، فانطلقت إلى مجلس الأنصار فسألتهم

ص: 58

أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى

ــ

فقالوا: لا يشهد لك على هذا إلا أصغرنا أبوسعيد الخدري، فذهبت بأبي سعيد الخدري، فقال عمر: أخفى على هذا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق، يعني الخروج إلى التجارة. زاد مالك في الموطأ، فقال عمر لأبي موسى: أما إني أتهمك، ولكن خشيت أن يتقوّل الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشراح: وحينئذٍ فلا دلالة في طلبه البينة على أنه لا يحتج بخبر الواحد، بل أراد سد الباب خوفاً من غير أبي موسى أن يخلق كذباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الرغبة والرهبة. وقالوا: في الحديث أن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" له حكم الرفع-انتهى. وأما قول بعضهم: إن كان مرفوعاً فلم لا يقولون فيه "قال رسول الله؟. فجوابه أنهم تركوا الجزم بذلك تورعاً واحتياطاً. وقيل: هو من التفنن في تبليغ الهدي النبوي، لا سيما وقد يكون الحكم الذي قيل فيه "أمرنا" أو "من السنة" من سنن الأفعال لا الأقوال. وقد يقولون ذلك إيجازًا أو لضيق المقام أو لغير ذلك. (أن) أي بأن (يضع الرجل) أي والمرأة تابعة له. وكان الأصل أن يقول "يضعون" فوضع المظهر موضع المضمر. قال الطيبي: في وضع الرجل موضع ضمير الناس تنبيه على أن القائم بين يدي الملك الجبار ينبغي أن لا يهمل شريطة الأدب، بل يضع يده على يده ويطأطأ رأسه كما يصنع بين يدي الملوك، نقله ميرك وكتب تحته: "وفيه ما فيه"، يعني وفيه أن هذه النكتة لمطلق الوضع لا لذكر الرجل موضع ضمير الناس، ولعله أراد أن لا يقوم بهذا الأدب إلا من اجتمعت فيه صفات الرجولية الكاملة لا لتخصيص الحكم به؛ لأن الناس يعمه ما لم يقم دليل خروجه، كذا في المرقاة. (اليد اليمنى على ذراعه اليسرى) الذراع-بكسر الذال- من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى، والساعد مؤنثة فيهما وقد تذكر. أبهم سهل بن سعد موضعه من الذراع. قال الشوكاني: وقد بينه حديث وائل عند أحمد وأبي داود والنسائي بلفظ: "ثم وضع يد اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ والساعد"، وصححه ابن خزيمة وغيره، وأصله في مسلم بدون الزيادة. والرسغ - بضم الراء وسكون السين بعدها معجمة- هو المفصل بين الكف والساعد. والمراد أنه وضع يده اليمنى بحيث صار وسط كفه اليمنى على الرسغ، ويلزم منه أن يكون بعضها على الكف اليسرى، والبعض على الساعد. قال بعضهم: ورد في بعض الأحاديث ذكر وضع اليد على اليد كما في رواية وائل عند مسلم، وفي بعضها ذكر وضع اليد على الذراع كما في حديث سهل بن سعد، وفي البعض أخذ الشمال والقبض عليها باليمين، كما روى النسائي من حديث وائل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض بيمينه على شماله. وروى الترمذي وابن ماجه من حديث قبيصة بن هلّب عن أبيه، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيأخذ شماله بيمينه. وورد في رواية أحمد وأبي داود من حديث وائل: "وضع اليمنى على الكف اليسرى والرسغ والساعد". فالسنة أن يجمع بين الوضع والقبض جمعًا بين هذه الأحاديث، وكيفية الجمع أن يضع الكف اليمنى على الكف

ص: 59

اليسرى ويحلق الإبهام والخنصر على الرسغ ويبسط الأصابع الثلاث على الذراع، فيصدق أنه وضع اليد على اليد وعلى الذراع، وأنه أخذ شماله وقبض عليها بيمينه. قلت: لا حاجة إلى هذا التكلف للتوفيق والجمع لكون التوفيق فرع التعارض، ولا يظهر التعارض أصلاً؛ لأنه لا تناقض بين الأفعال المختلفة لجواز وقوع الكل في أوقات مختلفة، على أن حديث سهل بن سعد حديث قولي أخرجه مالك وأحمد والبخاري، وهو أيضاً أصح ما ورد في ذلك فهو أولى بالعمل. واعلم أنه لم يرد في رواية وضع الذراع على الذراع، فما يفعله بعض العوام من وضع الذراع على الذراع بحيث أنه يضعون الكف اليمنى على مرفق اليد اليسرى أو قريباً منه، ثم يأخذونه بأصابع اليد اليمنى هو مما لا أصل له. تنبيه: لم يذكر سهل ابن سعد في حديثه محل وضع اليدين من الجسد، وهو عندنا على الصدر لما ورد في ذلك من أحاديث صريحة قوية. فمنها حديث وائل بن حجر قال:"صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره"، أخرجه ابن خزيمة في صحيحه ذكره الحافظ في بلوغ المرام والدراية والتخليص وفتح الباري. والنووي في الخلاصة وشرح المهذب وشرح مسلم للاحتجاج به على ما ذهبت إليه الشافعية من وضع اليدين على الصدر، وذكرهما هذا الحديث في معرض الاحتجاج به، وسكوتهما عن الكلام فيه يدل على أن حديث وائل هذا عندهما صحيح أو حسن قابل للاحتجاج، لا سيما من الحافظ في الدراية والفتح، فإنه قال في الفتح في شرح حديث سهل بن سعد: لم يذكر أي سهل بن سعد محلهما من الجسد، وقد روى ابن خزيمة من حديث وائل "أنه وضعهما على صدره"، والبزار "عند صدره"، وعند أحمد في حديث هلّب الطائي نحوه، وفي زيادات المسند من حديث علي "أنه وضعهما تحت السرة" وإسناده ضعيف-انتهى. فالظاهر من كلام الحافظ هذا أن حديث وائل هذا عند صحيح أو حسن؛ لأنه ذكر ههنا لتعيين محل وضع اليدين ثلاثة أحاديث: حديث وائل وحديث هلب وحديث علي، وضعف حديث علي إذ قال: إسناده ضعيف، وسكت عن حديث وائل وحديث هلب، فلو كانا هما أيضاً ضعيفين لصرح بذلك وبين ضعفهما، ولأنه ذكر في أوائل مقدمة الفتح في بيان دأبة في الشرح أنه يستخرج ما يتعلق به غرض صحيح في الحديث من الفوائد المتنية والإسنادية، منتزعاً كل ذلك من أمهات المسانيد والجوامع والمستخرجات والأجزاء والفوائد بشرط الصحة والحسن فيما يورده من ذلك، فقوله هذا يدل على أن حديث وائل وكذا حديث هلب عنده صحيح أو حسن. وقد اعترف الشيخ محمد قائم السندي في رسالته فوز الكرام: أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة حيث قال فيها: الذي أعتقد أن هذا الحديث على شرط ابن خزيمة، وهو المبتادر من صنيع الحافظ في الإتحاف، والظاهر من قول ابن سيد الناس بعد ذكر حديث وائل في شرح جامع الترمذي: وصححه ابن خزيمة-انتهى. وقال ابن أمير الحاج في شرح المنية: إن الثابت من السنة وضع اليمين على الشمال، ولم يثبت حديث يوجب تعيين المحل الذي يكون الوضع فيه من البدن إلا حديث وائل المذكور، وهكذا قال صاحب البحر الرائق، كذا في فتح الغفور للشيخ

ص: 60

محمد حيات السندي. وقال الشوكاني في النيل: أخرجه ابن خزيمة في صحيحه وصححه-انتهى. ومن يدعى أن الشوكاني لم ير صحيح ابن خزيمة ولم ينقل تصحيح ابن خزيمة لهذا الحديث من أصل الكتاب بل اشتبه عليه من قول ابن سيد الناس، أو ظن أن كل حديث أورده ابن خزيمة في صحيحه فقد صححه. وكذا من يدعى أن الحديث الذي ذكر تصحيحه ابن سيد الناس هو الذي ذكره الحافظ في الفتح بلفظ:"ثم وضع يده اليمنى على ظهر كفه اليسرى والرسغ من الساعد"، لا حديث وائل بزيادة "على صدره" فعليه البيان. وأما الادعاء المحض من غير إقامة برهان ودليل وإظهار قرينة فلا يلتفت إليه. والظاهر أن ابن خزيمة صحح الروايتين جميعاً، ذكر تصحيح إحداهما الحافظ في الفتح، وذكر تصحيح الرواية الثانية أي بزيادة "على صدره" ابن سيد الناس في شرح الترمذي والشوكاني في النيل، وسكوت النووي أو الحافظ عن ذكر تصحيح ابن خزيمة للرواية الثانية لا يدل على أن ابن خزيمة لم يصححها، فإن الحافظ لم يصرح بأنه التزم في تصانيفه أن يذكر تصحيح ابن خزيمة في كل حديث صرح ابن خزيمة بتصحيحه. وعدم ذكر مسلم هذه الزيادة في صحيحه لا يدل على كونها خطأ وغلطاً من الراوي، كما أن عدم ذكر من لم يذكر من الشيخين في صحيحه حديثاً أو زيادة اشتركاً في روايته من شيخ واحد بسند واحد لا يدل على كونه وهماً أو خطأ وغلطاً من الراوي عند من لم يذكره، وكذا عدم ذكر غيره ممن لم يذكرها من الرواة لا يدل على كونها شاذة، فإنها زيادة ثقة، وهي مقبولة إلا أن تقوم قرائن قوية ودلائل واضحة على كونها وهماً، أو حكم الأئمة النقاد على كونها غير محفوظة. ومنها حديث هلب الطائي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه ويساره، ورأيته يضع يده على صدره، ووصف يحيى بن سعيد القطان الراوي، اليمنى على اليسرى فوق المفصل. أخرجه أحمد في مسنده، ورواته كلهم ثقات، وإسناده متصل كما بينه شيخنا في شرح الترمذي. ومنها حديث طاووس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ثم يشد بينهما على صدره وهو في الصلاة. أخرجه أبوداود في المراسيل وإسناده حسن، والمرسل حجة عند الحنفية مطلقاً، وههنا قد اعتضد هذا المرسل بحديث وائل وحديث هلب الطائي المذكورين، فالاستدال به على وضع اليدين على الصدر في الصلاة صحيح. قال العلماء: الحكمة في هذه الهيئة أنه صفة السائل الذليل وهو أمنع من العبث وأقرب إلى الخشوع. ومن اللطائف قول بعضهم: القلب موضع النية، والعادة أن من احترز على حفظ شيء جعل يديه عليه، وفيه حفظ نور الإيمان في الصلاة، فكان أولى من إشارته إلى العورة بالوضع تحت السرة. قال ابن عبد البر: لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أي في وضع اليدين خلاف، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين، وهو الذي ذكره مالك في الموطأ، ولم يحك ابن المنذر وغيره عن مالك غيره. وروى ابن القاسم عن مالك الإرسال، وصار إليه أكثر أصحابه، وعنه التفرقة بين الفريضة والنافلة. ومنهم من كره الإمساك. ونقل ابن حاجب أن ذلك حيث يمسك معتمداً لقصد الراحة، كذا

ص: 61

في الفتح. والذي ذكرنا من محل الوضع على الصدر هي إحدى الروايات الثلاث عن الشافعي، والمشهور المختار عند أصحابه، المذكور في أكثر متونهم وشروحهم هو أن يضعهما تحت الصدر فوق السرة. واستدل لذلك بما رواه أبوداود عن جرير الضبي قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وإسناده صحيح أو حسن، لكنه فعل علي رضي الله عنه، ليس بمرفوع، ثم الظاهر أن المراد من قوله "فوق السرة" على مكان مرتفع من السرة أي على الصدر أو عند الصدر كما تقدم في حديث وائل، وفي حديث هلب، وفي حديث طاووس. واستدل لما ذهبت إليه الحنفية من أن الرجل يضع اليدين تحت السرة بأحاديث: منها حديث وائل أخرجه ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع، عن موسى بن عمير، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضع يمينه على شماله تحت السرة. قال الشيخ قاسم بن قطلوبغا الحنفي: هذا سند جيد. وقال الشيخ أبوالطيب المدني في شرح الترمذي: هذا حديث قوي من حيث السند. وقال الشيخ محمد عابد السندي في طوالع الأنوار: رجاله ثقات. وفيه أن هذا الحديث وإن كان قوياً من حيث السند لكن من المعلوم أن صحة السند وقوته لا تستلزم صحة المتن وقوته، وههنا في ثبوت لفظ "تحت السرة" نظر بل هو غلط، فإن النسخ الصحيحة من المصنف لابن أبي شيبة خالية من هذه الزيادة في حديث وائل هذا، كما صرح بذلك الشيخ محمد حيات السندي في رسالته "فتح الغفور"(ص6-8) والشيخ محمد فاخر المحدث الإله آبادي في منظومته "نور السنة" وصاحب رسالة "الدرة في إظهار غش نقد الصرة" ويؤيدهم أن أحداً من أهل العلم ممن أكثروا النقل عن المصنف كابن عبد البر، والحافظ ابن حجر والسيوطي والعيني وابن أمير الحاج وغيرهم لم يذكروا هذا الحديث بهذه الزيادة، إلا القاسم بن قطلوبغا الحنفي. قال شيخنا في شرح الترمذي (ج1: ص214) : إسناد هذا الحديث وإن كان جيداً، لكن في ثبوت لفظ تحت السرة في هذا الحديث نظراً قوياً، ثم بين ذلك مفصلاً فعليك أن ترجع إليه، وإلى أبكار المنن أيضاً. ومنها حديث علي أخرجه أحمد وأبوداود، وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن أبي جحيفة أن علياً قال: السنة وضع الكف على الكف تحت السرة. وفيه أن في سند هذا الحديث عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، وعليه مدار هذا الحديث، وهو ضعيف لا يصلح للاحتجاج. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن حنبل وأبوحاتم: منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال البيهقي: لا يثبت إسناده، تفرد به عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي وهو متروك. وقال النووي في الخلاصة وشرح مسلم: هو حديث متفق على تضعيفه، فإن عبد الرحمن بن إسحاق ضعيف بالاتفاق، ذكره الزيلعي في نصب الراية (ج1: ص314) وقال ابن الهمام في التحرير: إذا قال البخاري للرجل: فيه نظر، فحديثه لا يحتج به، ولا يستشهد به، ولا يصلح للاعتبار- انتهى. فظهر بهذا كله أن حديث علي هذا لا يصلح للاحتجاج، ولا للاستشهاد، ولا للاعتبار. ثم حديث علي هذا منسوخ على طريق الحنفية. قال صاحب الدرة في إظهار غش نقد الصرة - وهو من العلماء الحنفية -: روى أبوداود عن جرير

ص: 62

في الصلاة)) رواه البخاري.

ــ

الضبي أنه قال: رأيت علياً يمسك شماله بيمينه على الرسغ فوق السرة. وأصل علمائنا إذا خالف الصحابي مرويه فهو يدل على نسخه، وهذا الفعل وإن لم يكن أقوى من القول فلا أقل أن يكون مثله-انتهى. قلت: إسناد أثر علي هذا أعني الذي رواه أبوداود عن جرير الضبي صحيح أو حسن كما عرفت. ومنها حديث أبي هريرة رواه أبوداود عن أبي وائل، قال: قال أبوهريرة: أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة. وفيه أن في إسناد حديث أبي هريرة أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق الواسطي، فهذا الحديث أيضاً لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار. ومنها حديث أنس ذكره ابن حزم في المحلي تعليقاً بلفظ "ثلاث من أخلاق النبوة تعجيل الإفطار، وتأخير السحور، ووضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة تحت السرة". وفه أن سنده غير معلوم لينظر فيه هل رجالهم مقبولون أم لا، وما لم يعلم سنده لا يصلح للاحتجاج ولا للاستشهاد ولا للاعتبار، وإيراد ابن حزم هذا الحديث في المحلي من غير أن يذكر سنده، وكذا إيراد غيره من الحنفية في تصانيفهم بغير سند لا يدل على كونه قابلاً للاحتجاج. فهذه الأحاديث الأربعة هي كل ما احتج به الحنفية على وضع اليدين في الصلاة، وقد عرفت أنه لا يصلح واحد منها للاحتجاج، ويذكرون أثرين: أحدهما أثر أبي المجلز التابعي رواه ابن أبي شيبة عن الحجاج بن حسان، قال: سمعت أبا مجلز أو سألته قال: قلت: كيف أضع؟ قال: يضع باطن كف يمينه على ظاهر كف شماله، ويجعلهما أسفل من السرة. وفيه أن هذا قول تابعي ينفيه الحديث المرفوع فلا يلتفت إليه، وقد روي عنه وضع اليدين فوق السرة أيضاً. والثاني ما رواه ابن أبي شيبة أيضاً عن إبراهيم النخعي، قال: يضع يمينه على شماله في الصلاة تحت السرة. وفيه أن هذا قول رجل من صغار التابعين مخالف للحديث المرفوع فلا يعبأ به. واعلم أنه لم يرد ما يدل على الفرق بين الرجل والمرأة في محل الوضع، ومذهب الحنفية أن الرجل يضع اليدين تحت السرة والمرأة تضعهما على الصدر؛ لأنه أستر لها. ولا دليل على هذا الفرق من السنة ولا من قول الصحابي. (في الصلاة) ومحل الوضع منها كل قيام هو قبل الركوع لأن الأصل هو الإرسال كما هو وضع الإنسان خارج الصلاة، فلا يترك هذا الأصل إلا فيما ورد النص على خلافه، وهو القيام قبل الركوع، وأما القومة أي الاعتدال بعد رفع الرأس من الركوع فلم يرد حديث مرفوع صريح صحيح يدل على الوضع فيه، فيكون فيه العمل على الأصل، والأحاديث المطلقة تحمل على المقيدة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد كلهم من طريق أبي حازم عن سهل بن سعد، وزادوا في آخره "قال أبوحازم: لا أعلمه إلا ينمي أي يرفع ويسند ويضيف ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ". واعترض الداني في أطراف الموطأ فقال: هذا معلول؛ لأنه ظن من أبي حازم. ورد بأن أبا حازم لو لم يقل: "لا أعمله" الخ. لكان في حكم المرفوع؛ لأن قول الصحابي "كنا نؤمر بكذا" يصرف بظاهره إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم. قبل: لو كان مرفوعاً ما احتاج أبوحازم إلى قوله: "لا أعمله" والجواب أنه أراد الانتقال إلى التصريح، فالأول لا يقال له مرفوع، وإنما يقال "له حكم الرفع" قاله الحافظ.

ص: 63

805-

(10) وعن أبي هريرة، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول:"سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه من الركعة، ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يهوي، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها،

ــ

805-

قوله: (إذا قام إلى الصلاة يكبر) أي للدوام (حين يقوم) فيه أنه لا يتوجه ولا يصنع قبل التكبير شيئاً، وأن التكبير يكون مقارناً لحال القيام، وأنه لا يجزئ من قعود. قال ابن دقيق العيد: هذا يقتضي إيقاع التكبير في حال القيام، ولا شك أن القيام واجب في الفرائض للتكبير مع القدرة، فكل انحنا يمنع اسم القيام عند التكبير يبطل التحريم، ويقتضي عدم انعقاد الصلاة فرضاً. (ثم يكبر) أي تكبيرة النقل (حتى يركع) قال الأمير اليماني: ظاهر قوله: "يكبر حين كذا وحين كذا" أن التكبير يقارن هذه الحركات، فيشرع في التكبير عند ابتداءه للركن، وأما القول بأنه يمد التكبير حتى يتم الحركة فلا وجه له، بل يأتي باللفظ من غير زيادة على أدائه ونقصان منه. (ثم يقول:"سمع الله لمن حمده" حين يرفع صلبه) أي حين يشرع في رفعه (من الركعة) أي من الركوع يعني يقول ذلك في حال أخذه في رفع صلبه من هويه للقيام. (ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد) بحذف الواو، وفي رواية بإثباتها. وقد تقدم أن الرواية بثبوت الواو أرجح، وهي عاطفة على مقدر. أي ربنا أطعناك، وحمدناك، ولك الحمد. وقيل: زائدة. قال الأصمعي: سألت أبا عمرو عنها فقال: زائدة. تقول العرب: بعني هذا، فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم، فالواو زائدة. وقيل: هي واو الحال، قاله ابن الأثير وضعف ما عداه. وفيه أن التسميع ذكر النهوض والرفع، والتحميد ذكر الاعتدال، واستدل به على أنه يشرع الجمع بين التسميع والتحميد لكل مصل من إمام، ومنفرد، ومؤتم، إذ هو حكاية لمطلق صلاته صلى الله عليه وسلم، وإن كان يحتمل أنه حكاية لصلاته صلى الله عليه وسلم إماماً لكون ذلك هو الأكثر الأغلب من أحواله إلا أنه لو فرض هذا فإن قوله صلى الله عليه وسلم:"صلوا كما رأيتموني أصلي" أمر لكل مصل أن يصلي كصلاته صلى الله عليه وسلم من إمام ومنفرد ومؤتم، ثم إن هذا الحديث مفسر للأحاديث التي فيها "كان يكبر في كل خفض ورفع". (ثم يكبر حين يهوي) بفتح أوله وكسر ثالثه، أي حين يسقط ساجداً. وفيه أن التكبير ذكر الهوي فيبتدئ به من حين يشرع في الهوي بعد الاعتدال. (ثم يفعل ذلك) أي جميع ما ذكر ما عدا التكبيرة الأولى التي للإحرام (في الصلاة كلها) أي جميع ركعاتها (حتى يقضيها) أي يتمها ويؤديها. والحديث يدل على إتمام التكبير بأن يوقع في كل خفض ورفع مع التسميع في الرفع من الركوع، وقد كان وقع من بعض أمراء بني أمية تركه تساهلاً، فقد روى أحمد عن مطرف، قال: قلنا: يعني لعمران

ص: 64

ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس)) متفق عليه.

806-

(11) وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة طول القنوت))

ــ

ابن حصين يا أيا نجيد! من أول من ترك التكبير؟ قال: عثمان بن عفان حين كبر وضعف صوته. وهذا يحتمل إرادة ترك الجهر. وروى الطبراني عن أبي هريرة أن أول من ترك التكبير معاوية. وروى أبوعبيد أن أول من تركه زياد. وهذا لا ينافي الذي قبله؛ لأن زياداً تركه بترك معاوية، وكان معاوية تركه بترك عثمان. وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء، لكن حكى الطحاوي أن قوما كانوا يتركون التكبير في الخفض دون الرفع. قال: وكذلك كانت بنوأمية تفعل، ثم استقر العمل من الأمة على فعله في كل ركعة خمس تكبيرات كما عرفته من لفظ هذا الحديث، ويزيد في الرباعية والثلاثية تكبير النهوض من التشهد الأوسط، فيتحصل في المكتوبات الخمس بتكبيرة الإحرام أربع وتسعون تكبيرة، ومن دونها تسع وثمانون تكبيرة. قال البغوي في شرح السنة: اتفقت الأمة على هذه التكبيرات، فقال النووي: هذا مجمع عليه اليوم، وقد كان فيه خلاف من زمن أبي هريرة. واختلف العلماء في حكم تكبير النقل. فقيل: واجب، وهو المشهور عن أحمد، وإليه ذهب داود وإسحاق، وابن حزم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم داوم عليه، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي، ولأنه ورد تعليم ذلك في حديث المسيء في صلاته عند أبي داود وغيره كما سلف منا. واستدل لمن قال بندب تكبير الانتقال- وهم الجمهور- بما رواه أحمد وأبوداود، عن ابن أبزى عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم، فكان لا يتم التكبير. وفي لفظ لأحمد: إذا خفض ورفع. وفي رواية: فكان لا يكبر إذا خفض يعني بين السجدتين. قيل: هذا يدل على عدم الوجوب؛ لأن تركه صلى الله عليه وسلم له في بعض الحالات لبيان الجواز والإشعار بعدم الوجوب. وأجيب عنه بأن في إسناده الحسن بن عمران. قال أبوزرعة: شيخ، وذكره ابن حبان في الثقات. ونقل البخاري في التاريخ عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا باطل. وقال الطبري في تهذيب الآثار، والبزار: تفرد به الحسن، وهو مجهول. وهذا لا يعارض الأحاديث فيها تكبيرات النقل لكثرتها وصحتها وكونها مثبتة ومشتملة على الزيادة، وكون بعضها دالة على الوجوب. وقيل: المراد في حديث ابن أبزى "لم يتم الجهر أو لم يمده". (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.

806-

قوله: (أفضل الصلاة طول القنوت) أي أفضل أركان الصلاة وأفعالها طول القنوت، أو أفضل الصلاة صلاة فيه طول القنوت، أو صلاة ذات طول القنوت. والقنوت يجئ لمعان كثيرة، والمراد هنا طول القيام. قال النووي باتفاق العلماء فيما علمت. وقال ابن العربي في شرح الترمذي (ج1: ص179، 178) : تتبعت موارد القنوت فوجدتها عشرة: الطاعة، العبادة، دوام الطاعة، الصلاة، القيام، طول القيام، الدعاء، الخشوع، السكوت، ترك الالتفات.

ص: 65