الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما يسجد الوجه)) . رواه مالك.
(15) باب التشهد
{الفصل الأول}
913-
(1) عن ابن عمر، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قعد في التشهد، وضع يده اليسرى على
ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد
ــ
المسألة أيضاً مختلفة فيها كما تقدم. قال ابن رشد في البداية: واختلفوا أيضاً هل من شرط السجود أن تكون يد الساجد بارزة وموضوعة على الذي يوضع عليه الوجه، أم ليس ذلك من شرطه؟ فقال مالك: ذلك من شرط السجود، أحسبه شرط تمامه. وقالت جماعة: ليس ذلك من شرط السجود- انتهى. قلت: أقرب الأقوال في بيان الغرض من قول ابن عمر هذا هو القول الأول، ثم الثالث، وأبعدها الثاني، والله أعلم. (كما يسجد الوجه) أي الجبهة والأنف. (رواه مالك) عن نافع، عن ابن عمر موقوفاً عليه من قوله. ورواه أحمد (ج2: ص6) وأبوداود، والنسائي والحاكم، وصححه من طريق ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال: إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما.
(باب التشهد) قال القاضي: سمي الذكر المخصوص تشهداً لاشتماله على كلمتي الشهادة، تغليباً لها على بقية أذكاره لشرفها.
913-
قوله: (إذا قعد في التشهد) أي لأجله، وهو أعم من الأول والثاني. (وضع يده اليسرى) أي بطن كفها باسطا لأصابعها مستقبلاً بها القبلة كما يأتي. (على ركبته اليسرى) أي على قربها فوق فخذه اليسرى جمعاً بين الأحاديث. (ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى) وضع اليدين على الركبتين في التشهد مجمع على استحبابه، ولعل حكمة وضعهما على الركبتين المحافظة من العبث والمراعاة للأدب. (وعقد) أي اليمنى. وهذا بظاهره يدل على أن العقد من أول القعود كما هو مذهب الشافعية لا عند الإشارة، أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، كما هو مختار الحنفية. قال القاري في تزيين العبارة: المعتمد عندنا لا يقعد إلا عند الإشارة، لاختلاف ألفاظ الحديث، وبما اخترنا يحصل الجمع بين الأدلة، فإن بعضها يدل على أن العقد من أول القعود، وبعضها يشير إلى أنه لا عقد أصلاً مع الاتفاق على تحقيق الإشارة- انتهى. قلت: لا اختلاف بين ألفاظ الحديث أصلاً، فإن الروايات التي فيها ذكر القبض أو العقد كلها ظاهرة في أن القبض من ابتداء الجلوس لا عند الإشارة، وأما الاقتصار في بعض الروايات على مجرد الوضع والإشارة
ثلاثة وخمسين،
ــ
بدون ذكر القبض فليس فيها أدنى إشارة إلى عدم القبض، فإنها مطلقة تحمل على الروايات التي فيها التنصيص بذكر القبض، حمل المطلق على المقيد. وأما قول ابن الهمام: إن وضع الكف مع قبض الأصابع لا يتحقق حقيقة، فالمراد وضع الكف ثم قبض الأصابع بعد ذلك للإشارة، ففيه أن ذلك إنما يتم لو كان المراد بوضع الكف اليمنى بسطها، ولا دليل على ذلك، بل في قوله:"ويده اليسرى على ركبته باسطها عليها" إشعار ظاهر بقبض اليمنى من أول القعود، وإشارة بينة إلى أنه لم يبسط اليمنى مطلقاً، بل كان وضعها مع عقد الأصابع وقبضها. والحاصل أن الروايات بظاهرها تدل على المعية لا البعدية. ولو سلم أن القبض كان عند الإشارة فلا يضرنا ذلك بل يوافقنا؛ لأن ظاهر الأحاديث يدل على أن الإشارة من ابتداء الجلوس، ولم أر حديثاً صحيحاً يدل عل كون الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. وأما ما ورد في بعض الروايات عند أحمد، والبيهقي من قول الصحابي في بيان فعله صلى الله عليه وسلم "ولكنه التوحيد" أو "إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك يوحد بها ربه عزوجل" أو "يشير بها إلى التوحيد" فليس فيه دليل على كون الإشارة أي رفع المسبحة عند قوله: لا إله إلا الله، بل فيه بيان حكمة الإشارة، يعني أنها للتوحيد، فإذا ثبت أن الإشارة من أول القعود وقد قالوا: إن القبض كان للإشارة ثبت أن القبض كان من ابتداء القعود وأوله، لا عند قوله: لا إله إلا الله. (ثلاثة وخمسين) وهو أن يعقد الخنصر والبنصر والوسطى، ويرسل المسبحة، ويضم الإبهام إلى أصل المسبحة مرسلة. قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث: وصورتها أن يجعل الإبهام معترضة تحت المسبحة- انتهى. وهذه هي إحدى الهيئات الواردة في وضع اليد اليمنى على الركبة اليمنى حال التشهد. والثانية: أن يقبض الأصابع كلها على الراحة، ويشير بالمسبحة، ففي رواية لمسلم من حديث ابن عمر مرفوعاً: كان إذا جلس في الصلاة وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى، وقبض أصابعه كلها، وأشار بإصبعه التي تلي الإبهام. والثالثة: أن يعقد الحنصر والبنصر، ويرسل المسبحة ويحلق الإبهام والوسطى كما هو منصوص في حديث وائل ابن حجر الآتي. والرابعة: أن يضع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى ويشير بالسبابة، ويضع إبهامه على إصبعه الوسطى كما في حديث ابن زبير الآتي، ولا منافاة بين هذه الأحاديث لجواز وقوع الكل في الأوقات المتعددة، فيكون الكل جائزاً. قال الرافعي: الأخبار وردت بها جميعاً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع مرة هكذا، ومرة هكذا. وقال الأمير اليماني: الظاهر أنه مخير بين هذه الهيئات- انتهى. والمختار الأحسن عند الحنفية والحنابلة هو التحليق. وقال البيهقي بعد رواية حديث وائل: ونحن نجيزه ونختار ما روينا في حديث ابن عمر، ثم ما روينا في حديث ابن الزبير لثبوت خبرهما، وقوة سندهما- انتهى. وقد رام بعضهم الجمع بين حديث ابن الزبير، ورواية العقد ثلاثة وخمسين، بأن يكون المراد بقوله:"على إصبعه الوسطى" أي وضعها قريباً من أسفل الوسطى، وحينئذٍ يكون بمعنى العقد ثلاثة وخمسين، وتكون الهيئات ثلاثة لا أربعة، وهذا هو الظاهر. وأما ما ورد في الرواية الآتية من حديث ابن عمر، وبعض روايات ابن الزبير من ذكر وضع
وأشار بالسبابة. وفي رواية: ((كان إذا جلس في الصلاة، وضع يديه على ركبتيه، ورفع إصبعه اليمنى التي تلي الإبهام، يدعوا بها، ويده اليسرى على ركبته، باسطها عليها)) . رواه مسلم.
914-
(2) وعن عبد الله بن الزبير، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
اليدين على الركبتين، والإشارة بالمسبحة بدون ذكر القبض، فليس ذلك دليلاً على هيئة أخرى غير ما تقدم، فإنها مطلقة فتحمل بعض الروايات التي وردت مقيدة بذكر القبض، والله أعلم. (وأشار بالسبابة) قال الطيبي: أي رفعها عند قول "إلا الله" ليطابق القول الفعل على التوحيد. وقال القاري: وعندنا يرفعها عند "لا إله" ويضعها عند "إلا الله" لمناسبة الرفع للنفي، وملائمة الوضع للإثبات، ومطابقة بين القول والفعل حقيقة. وقال الأمير اليماني: موضع الإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" لما رواه البيهقي من فعل النبي صلى الله عليه وسلم؛ وينوي بالإشارة التوحيد، والإخلاص فيه، فيكون جامعاً في التوحيد بين الفعل، والقول، والاعتقاد. قلت: حاصل ما رواه البيهقي وغيره في ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يشير بالمسبحة إلى التوحيد، أو يريد بها التوحيد، أو يوحد بها ربه عز وجل، وليس فيه كما ترى تصريح بالإشارة عند قوله "لا إله إلا الله" خاصة. ولا نفي الإشارة قبل ذلك من ابتداء الجلوس. ومقصود الصحابي منه إنما هو بيان حكمة الإشارة ونكتتها، لا بيان محل الإشارة ووقتها. وظاهر الأحاديث الواردة في هذه المسئلة يدل على الإشارة من ابتداء الجلوس، فالراجح عندنا أن يعقد من أول القعود مشيراً بالمسبحة، مستمراً على ذلك إلى أن يسلم، والله أعلم. قال العلماء: خصت السبابة بالإشارة لاتصالها بنياط القلب، فتحريكها سبب لحضوره. (وفي رواية: كان إذا جلس في الصلاة) أي للتشهد كما بينته الرواية الأولى. (وضع يديه على ركبتيه) لكن مع اختلاف الهيئة كما علم من الروايات السابقة والآتية. (ورفع إصبعه) ظاهره أن رفع الإصبع، أي الإشارة بها كان في ابتداء الجلوس. (اليمنى التي تلي الإبهام) وهي المسبحة. (يدعو بها) وفي مسلم "فدعا بها" أي أشار بها. قال الطيبي: إما أن يضمن "يدعو" معنى "يشير" أي يشير بها داعياً إلى وحدانية الله بالإلهية، وإما أن يكون حالاً، أي يدعو مشيراً بها. قال ابن حجر: يدعو بها، أي يتشهد بها، وإنما سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، إذ من جملته "السلام عليك أيها النبي" إلى "الصالحين"، وهذا كله دعاء، وإنما عبر عنه بلفظ الإخبار لمزيد التوكيد. (ويده اليسرى) قال القاري: بالنصب في النسخ المصححة، وفي نسخة بالرفع، وهو الظاهر. (باسطها) بالنصب على الحال ويجوز الرفع. (عليها) أي حال كونه باسطاً يده على الركبة من غير رفع إصبع، وفيه إشعار بكون اليمنى مقبوضة. (رواه مسلم) الرواية الثانية أخرجها أيضاً أحمد والترمذي والنسائي.
914-
قوله: (وعن عبد الله بن الزبير) بن العوام القرشي الأسدي يكنى أبابكر المكي ثم المدني، وهو أول مولود في الإسلام للمهاجرين بالمدينة، هاجرت به أمه أسماء بنت أبي بكر إلى المدينة وهي حامل، فولد بعد الهجرة في السنة الأولى
إذا قعد يدعوا وضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى، وأشار بإصبعه السبابة، ووضع إبهامه على إصبعه الوسطى، ويلقم كفه اليسرى ركبته)) .
ــ
وأذن أبوبكر في أذنه، ولدته أمه بقباء، وأتت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، فدعا بتمرة فمضغها، ثم تفل في فيه وحنكه، فكان أول شيء دخل في جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا له وبرك عليه، وكان كثير الصيام والصلاة شهيما ذا أنفة، شديد البأس فصيحا لسنا، قابلا للحق، وصولا للرحم، اجتمع له ما لم يجتمع لغيره. أبوه الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمه أسماء بنت الصديق، وجده لأمه الصديق، وجدته صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخالته عائشة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم. بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان سنين وحضر وقعة اليرموك. وشهد خطبة عمر بالجابية وبويع له بالخلافة عقيب موت يزيد بن معاوية سنة. (64) وغلب على الحجاز والعراقيين واليمن ومصر، وأكثر الشام. وكانت ولايته تسع سنين. وقتله حجاج بن يوسف بمكة، وصلبه يوم الثلاثاء لسبع عشرة خلت من جمادي الأخرى سنة. (73) وحج بالناس ثماني حجج. ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنين. ومناقبه وأخباره كثيرة جداً، وخلافته صحيحة خرج عليه مروان بعد أن بويع له بالآفاق كلها إلا بعض قرى الشام. فغلب مروان على دمشق، ثم غزا مصر فملكها. ومات بعد ذلك، فغزا بعد مدة عبد الملك بن مروان العراق، فقتل مصعب بن الزبير ثم أغزى الحجاج مكة فقتل عبد الله. وقد كان عبد الله أولاً امتنع من بيعة يزيد بن معاوية، وسمى نفسه عائذ البيت، وامتنع بالكعبة، فأغزى يزيد جيشا عظيما فعلوا بالمدينة في وقعة الحرة ما اشتهر، ثم ساروا من المدينة إلى مكة، فحاصروا ابن الزبير، ورموا البيت بالمنجنيق، وأحرقوه، فجاءهم نعى يزيد بن معاوية وهم على ذلك، فرجعوا إلى الشام، فلما غزى الحجاج مكة كما فعل أسلافه، ورمى البيت بالمنجنيق، وارتكب أمرا عظيما، وظهرت حينئذٍ شجاعة ابن الزبير فحمى المسجد وحده، وهو في عشر الثمانين بعد أن خذله عامة أصحابه حتى قتل صابرا، محتسبا، مقبلا، غير مدبر، رضي الله عنه. له ثلاثة وثلاثون حديثا، اتفقا على حديث، وانفرد البخاري بستة، وانفرد مسلم بحديثين. روى عنه خلق كثير. (إذا قعد يدعو) أي يتشهد. قال الطيبي: سمى التشهد دعاء لاشتماله عليه، فإن قوله: سلام عليك، وسلام علينا، دعاء. (وأشار بإصبعه السبابة) أي من ابتداء القعود للتشهد. (ووضع إبهامه) أي من أول جلوسه للتشهد. (على إصبعه الوسطى) تقدم الكلام عليه. (ويلقم) من الإلقام أي أحياناً. (كفه اليسرى ركبته) أي اليسرى، أي يعطف أصابعها على الركبة. يقال: ألقمت الطعام، إذا أدخلته في فيك. أي يدخل ركبته في راحة فه اليسرى حتى صارت ركبته كاللقمة في كفه. قال ابن حجر: ولا ينافي هذا ما مر من أن السنة وضع بطن كفيه على فخذيه قريباً من ركبتيه، بحيث تسامتها رؤس الأصابع؛ لأن ذاك بيان لكمال السنة. وهذا بيان لأصل السنة- انتهى. وقال النووي: قد أجمع العلماء على استحباب وضع اليد اليسرى عند الركبة، أو على الركبة.
رواه مسلم.
915-
(3) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا إذا صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم، أقبل علينا بوجهه، قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، فإذا جلس أحدكم في الصلاة، فليقل:
ــ
وبعضهم يقول بعطف أصابعها على الركبة، وهو معنى قوله: ويلقم كفه اليسرى ركبته- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الدارقطني.
915-
قوله: (قلنا) أي في قعود التشهد قبل مشروعيته. (السلام على الله قبل عباده) في المجمع: أي قلنا هذا اللفظ قبل "السلام على عباده"- انتهى. فجعل الظرف متعلقاً بالقول، والظاهر أنه من جملة المقول، وكأنهم رأوا "السلام" من قبيل الحمد والشكر فجوزوا ثبوته لله تعالى أيضاً. (السلام على فلان) وفي رواية "السلام على فلان وفلان" مكرراً. زاد في رواية ابن ماجه "يعنون الملائكة"، وللسراج: فنعد من الملائكة ما شاء الله. والأظهر أنه عليه السلام لم يسمعه إلا حين أنكره عليهم. وقوله "كنا" ليس من قبيل المرفوع حتى يكون منسوخاً بقوله "إن الله هو السلام"؛ لأن النسخ إنما يكون فيما يصح معناه، وليس تكرر ذلك منهم مظنة سماعة له منهم؛ لأنه في التشهد، والتشهد سر. (فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم) أي فرغ من صلاته. (أقبل علينا بوجهه) يعني لا بمجرد الكلام، وقيل: إنه تأكيد، والجملة بدل من "انصرف" وجواب "لما" قوله. (قال: لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام) أي هو مالك السلامة ومعطيها، فلا يحتاج إلى أن يدعى له بالسلامة، كيف وهو المرجوع إليه بالمسائل والمدعو على الحالات، أو أنه تعالى هو السالم عن الآفات التي لأجلها يطلب السلام عليه، ولا يطلب السلام إلا على من يمكن له عروض الآفات، فلا يناسب السلام عليه تعالى. (فليقل) فيه دليل على وجوب قراءة التشهد في القعدة الأولى والثانية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق، لكن عدا الحنابلة التشهد الأول واجباً، والثاني ركناً، وقريب منه مذهب الشافعية، فإنهم جعلوا الأول من الأبعاض والسنن التي تنجبر بالسجود، وجعلوا الآخر من الأركان. وعند الحنفية التشهد الثاني واجب، وأما الأول فقيل: واجب، وهو ظاهر الرواية، وقيل: سنة. وأما مالك فقال: بسنية التشهد مطلقاً كما قال الزرقاني. ويدل على الوجوب أيضاً قول ابن مسعود عند النسائي والدارقطني والبيهقي بإسناد صحيح: كنا نقول في الصلاة قبل أن يفرض علينا التشهد. فإن ظاهره أن التشهد في محله فرض ولذلك بوب النسائي عليه بلفظ "باب إيجاد التشهد". وقيل: يحتمل أن المراد قبل أن يشرع التشهد، واستدل على الوجوب أيضاً بما في رواية لأحمد: وأمره أن يعلمه الناس. وبما روي عن عمر، أنه قال: لا تجزيء صلاة إلا بتشهد.
التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك أيها النبي
ــ
أخرجه سعيد بن منصور في سننه، والبخاري في تاريخه. (التحيات) جميع تحية، ومعناها: السلام، وقيل: البقاء. وقيل: العظمة. وقيل: السلامة من الآفات والنقص. وقيل: الملك. وقال المحب الطبري: يحتمل أن يكون لفظ التحية مشتركاً بين هذه المعاني وكونها بمعنى السلام أنسب هنا. وقال الخطابي والبغوي: لم يكن في تحياتهم شيء يصلح للثناء على الله، فلهذا أبهمت ألفاظها، واستعمل منها معنى التعظيم، فقال، قولوا: التحيات لله، أي أنواع التعظيم له. وقال ابن قتيبة: لم يكن يحيى إلا الملك خاصة، وكان لكل ملك تحية تخصه، فلهذا جمعت، فكأن المعنى: التحيات التي كانوا يسلمون بها على الملوك كلها مستحقة لله. (والصلوات) قيل: الخمس، أو ما هو أعم من ذلك من الفرائض والنوافل في كل شريعة. وقيل: المراد العبادات كلها. وقيل: الدعوات. وقيل: المراد الرحمة. وقيل، التحيات: العبادات القولية، والصلوات: العبادات الفعلية، والطيبات: الصدقات المالية. (والطيبات) أي ما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله دون ما لا يليق بصفاته مما كان الملوك يحيون به. وقيل الطيبات ذكر الله. وقيل: الأقوال الصالحة كالدعاء والثناء. وقيل: الأعمال الصالحة، وهو أعم من القول والفعل. قال ابن دقيق العيد: إذا حمل التحية على السلام فيكون التقدير: التحيات التي تعظم بها الملوك مثلاً مستحقة لله. وإذا حمل على البقاء فلا شك في اختصاص الله به. وكذلك الملك الحقيقي والعظمة التامة، وإذا حملت الصلاة على العهد أو الجنس كان التقدير: إنها لله واجبة لا يقصد بها غيره. وإذا حملت على الرحمة فيكون معنى قوله "لله" أنه المتفضل بها؛ لأن الرحمة التامة لله يؤتيها من يشاء، وإذا حملت على الدعاء فظاهر. وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال، ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى فتشمل الأقوال، والأفعال، والأوصاف، وطيب الأوصاف كونها بصيغة الكمال، وخلوصها عن شوائب النقص-انتهى. قال البيضاوي: يحتمل أن يكون الصلوات، والطيبات معطوفتين على "التحيات"، ويحتمل أن يكون "الصلوات" مبتدأ وخبرها محذوف، و"الطيبات" معطوفة عليها. والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة التي قبلها، والثانية لعطف المفرد على الجملة. وقال العيني: كل واحد من "الصلوات والطيبات" مبتدأ حذف خبره، أي الصلوات لله، والطيبات لله، فالجملتان معطوفتان على الأولى وهي "التحيات لله". (السلام) التعريف إما للعهد التقديري، أي ذاك السلام الذي وجه إلى الرسل والأنبياء عليك، أو للجنس، والمعنى أن حقيقة السلام الذي يعرفه كل واحد، ويجوز أن يكون للعهد الخارجي إشارة إلى قوله:{وسلام على عباده الذين اصطفى} وقيل: معنى "السلام عليك" الدعاء، أي سلمت من المكارة، وقيل معناه اسم السلام عليك، كأنه برك عليه باسم الله عزوجل. (عليك) أمرهم أن يفردوه بالسلام عليه لشرفه، ومزيد حقه عليهم، ثم أمرهم أن يخصصوا أنفسهم أولاً؛ لأن الاهتمام بها أهم، ثم أمرهم بتعميم السلام على الصالحين، إعلاماً منه بأن الدعاء للمؤمنين ينبغي أن يكون شاملاً لهم. (أيها النبي) قيل: الحكمة في العدول عن الوصف بالرسالة مع أن الوصف بها أعم في حق البشر وأشرف أن يجمع له الوصفين،
لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة، لكن التصريح بهما أبلغ. والحكمة في تقديم الوصف بالنبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله:{اقرأ باسم ربك} [96: 1] قبل قوله {يا أيها المدثر قم فأنذر} [74: 1، 2] . واعلم أن الأحاديث المرفوعة كلها متفقة على قوله في التشهد "السلام عليك أيها النبي" أي على لفظ الخطاب وحرف النداء، نعم ترك بعض الصحابة كابن مسعود وغيره الخطاب بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ففرقوا بين حياته عليه السلام ووفاته، وقالوا "السلام على النبي" كما عند البخاري في الإستيذان، وأبي عوانة في صحيحه، والسراج والجوزقي وأبي نعيم الأصبهاني والبيهقي وعبد الرزاق، لكن جمهور الصحابة والتابعين وغيرهم من المحدثين والفقهاء مطبقون على التشهد المرفوع المروى بصيغة الخطاب والنداء، أي على عدم المغايرة بين زمانه صلى الله عليه وسلم وما بعده، وعلى هذا فلا بد من بيان توجيه الخطاب؛ لأنه يرد عليه أنه كيف شرع هذا اللفظ وهو خطاب بشر مع كونه منهياً عنه في الصلاة؟ والجواب أن ذلك من خصائصه عليه السلام، فإن قيل: ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق؟ كأن يقول "السلام على النبي" فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي، ثم إلى تحية النفس، ثم إلى تحية الصالحين. أجاب الطيبي مما محصله: نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي كان علمه الصحابة. وقال ابن الملك: روى أنه صلى الله عليه وسلم لما عرج به أثنى على الله تعالى بهذه الكلمات، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه السلام: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال جبريل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله-انتهى. قال القاري: وبه يظهر وجه الخطاب، وأنه على حكاية معراجه – عليه السلام – في آخر الصلاة التي هي معراج المؤمنين – انتهى. وقال في "مسك الختام" في شرح " بلوغ المرام" بالفارسية ما معربه: ووجه الخطاب إبقاء هذا الكلام على ما كان في الأصل، فإن ليلة المعراج قد خاطب الله تعالى رسوله بالسلام، فأبقاه النبي صلى الله عليه وسلم وقت تعليم الأمة على ذلك الأصل، ليكون ذك مذكراً لتلك الحال-انتهى. وتمام بيان القصة مع شرح ألفاظ التشهد في الإمداد كذا في رد المختار. وهذا المروي لم أقف على سنده، فإن كان ثابتاً فنعم التوجيه هذا، لكن يقصد على هذا التوجيه بألفاظ التشهد معانيها مرادة له على وجه الإنشاء كأنه يحيى الله تعالى ويسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلى نفسه، وأولياءه، ولا يقصد مجرد الإخبار والحكاية عما وقع في المعراج عنه صلى الله عليه وسلم. وقد ظهر بما ذكرنا عدم صحة استدلال القبوريين بصورة النداء والخطاب في التشهد على حضوره صلى الله عليه وسلم في كل موضع، وعلى جواز ندائه في غير التشهد، وهذا لأن كون النداء فيه نداء حقيقياً ممنوع، فإنه ليس فيه طلب شئ، بل هو نداء مجازي يطلب به استحضار المنادي في القلب فيخاطب المشهود بالقلب. قال الإمام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: وقوله: يا محمد! يا نبي الله! هذا وأمثاله نداء يطلب به استحضار المنادى في القلب فيخاطب المشهود بالقلب كما يقول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته،
ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عبد الله الصالحين – فانه إذا قال ذلك أصاب كل عبد صالح
ــ
والإنسان يفعل مثل هذا كثيراً يخاطب من يتصوره في نفسه وإن لم يكن في الخارج من يسمع الخطاب-انتهى. وعلى هذا فليس هذا النداء مما يدعيه هؤلاء القبوريون. وقال بعض شيوخ مشائخنا ما حاصله: أن تشهده صلى الله عليه وسلم كان مثل ما علم الأمة، فكان عليه السلام يقول في التشهد "السلام عليك أيها النبي" كما أمر به الأمة، كما هو مصرح في حديث عبد الله بن الزبير عند الطحاوي، والبزار، والطبراني، وفي حديث ابن مسعود عند أحمد والطبراني. قال الزرقاني في شرح المواهب نقلاً عن النووي بعد ذكر ألفاظ التشهد ما نصه: وفي هذا فائدة حسنة، وهي أن تشهده عليه السلام بلفظ تشهدنا- انتهى. ومن المعلوم أن التشهد المروي في الأحاديث عام للحاضرين من الصحابة، وللغائبين والموجودين في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولمن جاء بعده، إذا الخطاب في قوله:"إذا صلى أحدكم" وقوله: "ولكن قولوا" يشمل الحاضرين والغائبين، والموجودين، والمعدومين الكائنين إلى يوم القيامة مثل سائر الخطابات الواردة في الوضوء، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغير ذلك، وليس هناك حديث يدل على أن للغائبين والمعدومين تشهداً آخر غير هذا التشهد، وأيضاً علمهم النبي صلى الله عليه وسلم التشهد هكذا بلفظ الخطاب والنداء بدون التفريق بين الحاضرين منهم والغائبين عنه مع أن الصحابة كانوا يغيبون عنه صلى الله عليه وسلم في الغزوات، والسرايا، وغير ذلك من الأسفار، ولا يغايرون بين الحضور عنده والغيبة عنه، ولم يثبت ما تقدم من حكاية المعراج، فهذا كله يدل على أن ذلك مما لم نؤت علمه فينبغي لنا أن لا نبحث فيه، ونكل أمره إلى الله، قال الله تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علم} [17: 36] ، وإذا يكون هذا الخطاب معدولاً عن العقل والقياس، فيكون مقصوراً على مورده، فلا يقتضى هذا الخطاب جواز خطابه صلى الله عليه وسلم ونداءه في غير تشهد الصلاة- انتهى. (ورحمة الله) أي إحسانه. (وبركاته) جمع بركة، أي زيادة من كل خير. (السلام) أي الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء. (علينا) أي محشر الحاضرين، يريد به نفسه، والحاضرين من الإمام، والمأمومين، والملائكة، والجن، وفيه استحباب البداءة بالنفس في الدعاء، وفي الترمذي مصححاً عن أبيّ كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه، وأصله في صحيح مسلم. (وعلى عباد الله الصالحين) الأشهر في تفسير الصالح أنه القائم بما يجب عليه من حقوق الله، وحقوق عباده، وتتفاوت درجاته. قال الحكيم الترمذي: من أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبداً صالحاً، وإلا حرم هذا الفضل العظيم. (فإنه) أي الشأن أو المصلي. (إذا قال ذلك) أي قوله "وعلى عباد الله الصالحين" وهو كلام معترض بين قوله "الصالحين" وبين قوله "أشهد" إلى آخره. وإنما قدمت للاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عد الملائكة واحداً واحداً، ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلمهم لفظاً يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين، والمرسلين، والصديقين، وغيرهم بغير مشقة، وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في بعض طرقه سياق التشهد متوالياً، وتأخير الكلام المذكور بعد، وهو من تصرف الرواة. (أصاب) فاعله ضمير ذلك. (كل عبد صالح) قيد به؛ لأن التسليم لا يصلح للمفسد.
في السماء والأرض - أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه، فيدعوه)) . متفق عليه.
ــ
(أشهد أن لا إله إلا الله) زاد ابن أبي شيبة "وحده لا شريك له" وسنده ضعيف، لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم، وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ. (ثم ليتخير) أي ليختر. (من الدعاء أعجبه إليه) أي أحب الدعاء وأرضاه من الدين، والدنيا، والآخرة. (فيدعوه) أي فيقرأ الدعاء الأعجب. وقيل التقدير: فيدعوا به. كما في رواية أبي داود، فهو من باب الحذف والإيصال. وقيل التقدير: فيدعوا الله به. فحذف المفعول الثاني للعلم به. وفيه دليل على مشروعية الدعاء في الصلاة قبل السلام من أمور الدنيا والآخرة ما لم يكن إثماً؛ لأن ظاهر قوله "ليتخير من الدعاء أعجبه إليه" شامل لكل دعاء مأثور وغيره مما يتعلق بالآخرة كقوله "اللهم أدخلني الجنة". أو الدنيا مما يشبه كلام الناس كقوله "اللهم ارزقني زوجة جميلة، ودراهم جزيلة". وبذلك أخذ الشافعية، والمالكية ما لم يكن إثماً. وقصر الحنفية على ما يناسب المأثور فقط مما لا يشبه كلام الناس محتجين بقوله عليه السلام:"إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس". واحتج الأولون بظاهر حديث ابن مسعود، بقوله عليه السلام: سلوا الله حوائجكم حتى الشسع لنعالكم، والملح لقدوركم. واستثنى بعض الشافعية من مصالح الدنيا ما فيه سوء أدب كقوله:"اللهم أعطني امرأة جميلة" ثم يذكر أوصاف أعضائها. وقال ابن المنير: الدعاء بأمور الدنيا في الصلاة حظر، وذلك أنه قد تلتبس عليه الدنيا الجائزة بالمحظورة، فيدعوا بالمحظورة فيكون عاصياً متكلماً في الصلاة، فتبطل صلاته وهو لا يشعر، ألا ترى أن العامة يلتبس عليها الحق بالباطل، فلو حكم حاكم على عامي بحق فظنه باطلاً، فدعا على الحاكم باطلا بطلت صلاته، وتمييز الحظوظ الجائزة من المحرمة عسير جداً، فالصواب أن لا يدعوا بدنياه إلا على تثبت من الجواز- انتهى. ثم ظاهر اللفظ يدل على وجوب الدعاء قبل السلام بعد التشهد؛ لأن التخيير في آحاد الشيء لا يدل على عدم وجوبه كما قال ابن رشد، وهو المتقرر في الأصول، وقد ذهب إلى الوجوب أهل الظاهر، وروي عن أبي هريرة، وادعى بعض العلماء الإجماع على عدم الوجوب. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، وغيرهم. واعلم أن حديث التشهد قد رواه أربعة وعشرون صحابياً، ذكر الحافظ في التلخيص (ص 102، 103) أسماءهم مع تخريج أحاديثهم، وبيان اختلاف ألفاظهم، واقتصر المصنف على إيراد أحاديث ثلاثة منهم: ابن مسعود، وابن عباس، وجابر. والروايات في ألفاظ التشهد مختلفة جداً، ولذلك اختلف الأئمة في اختيار بعضها دون بعض، وترجيح بعضها على بعض مع القول بجواز كل ما ثبت وصح، فاختار مالك تشهد عمر الموقوف عليه، ولفظه نحو حديث ابن عباس التالي إلا أنه قال "الزاكيات" بدل "المباركات"، وإنما رجح مالك تشهد عمر؛ لأنه علمه الناس على المنبر، ولم ينازعه أحد، فكان إجماعاً،
ودل على تفضيله. وفيه: أن عدم إنكار الصحابة على عمر إنما يدل على جواز تشهده وإجزائه، لا على كونه أفضل التشهدات لاختيار أكثر الصحابة غير تشهده كما تدل عليه الروايات، ولم يكونوا ينكرون على أحد في الأمور المباحة، على أن تشهد عمر موقوف عليه. قال الدارقطني: لم يختلفوا في أنه موقوف عليه. وقال ابن عبد البر: ليس عند مالك في التشهد شيء مرفوع وإن كان غيره قد رفع ذلك، ومعلوم أنه لا يقال بالرأي. ولما علم مالك أن التشهد لم يكن إلا توقيفاً اختار تشهد عمر؛ لأنه كان يعلمه الناس، وهو على المنبر من غير نكير. قال: وتسليم الصحابة لعمر ذلك مع اختلاف رواياتهم دليل الإباحة والتوسعة. وقال ابن قدامة في المغني: أما حديث عمر فلم يروه عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو من قوله، وأكثر أهل العلم من الصحابة على خلافه، فكيف يكون إجماعاً على أنه ليس الخلاف في إجزائه في الصلاة، إنما الخلاف في الأولى والأحسن، والأحسن تشهد النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمه أصحابه. وأخذوا به- انتهى. ولو سلم أن سكوت الصحابة وعدم إنكارهم على عمر دليل على إجماعهم فقد وقع إجماعهم على تشهد ابن مسعود قبل ذلك، فروى ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن ابن عمر: أن أبابكر كان يعلمهم التشهد على المنبر كما يعلم الصبيان في المكتب: التحيات لله، والصلوات، والطيبات. فذكر مثل حديث ابن مسعود. قال الحافظ: ورواه أبوبكر بن مردويه في كتاب التشهد له من رواية أبي بكر مرفوعاً، وإسناده حسن. واختار الشافعي تشهد ابن عباس الآتي، وقال هو أفضل التشهد. واختار أحمد، وأبوحنفية، وجمهور الفقهاء، وأهل الحديث تشهد ابن مسعود، قال الترمذي: وعليه العمل عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من التابعين، وهو قول الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق-انتهى. وقال الحافظ: وذهب جماعة من محدثي الشافعية كابن المنذر إلى اختيار تشهد ابن مسعود-انتهى. وذكروا لترجيحه وجوهاً كثيرة، منها: أن الأئمة الستة اتفقوا على تخريج حديثه لفظاً ومعنى، وذلك نادر، وأعلى درجات الصحة عند المحدثين ما اتفق عليه الشيخان فكيف إذا اتفق عليه الستة لفظاً ومعنى. ومنها: أنه أجمع العلماء على أن حديثه أصح ما روي في التشهد. قال الترمذي: هو أصح حديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد. وقال البزار لما سئل عن أصح حديث في التشهد قال: هو عندي حديث ابن مسعود، وروي من نيف وعشرين طريقاً، ثم سرد أكثرها وقال: لا أعلم في التشهد أثبت منه، ولا أصح أسانيد، ولا أشهر رجالاً، ولا أشد تظافراً بكثرة الأسانيد والطرق، ذكره الحافظ في التلخيص، وقال بعد ذكره في الفتح: ولا اختلاف بين أهل الحديث في ذلك، وممن جزم بذلك البغوي في شرح السنة، وقال محمد بن يحيى الذهلي: حديث ابن مسعود أصح ما روي في التشهد. وقال بريدة بن الحصيب: ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود، رواه الطبراني، وقال النووي: أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود، ثم حديث ابن عباس. ومنها: أن الرواة عن ابن مسعود من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره، قال مسلم: إنما اجتمع
916-
(4) وعن عبد الله بن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن،
ــ
الناس على تشهد ابن مسعود؛ لأن أصحابه لا يخالف بعضهم بعضاً، وغيره قد اختلف أصحابه، ذكره الحافظ في الفتح. ومنها: أنه تلقاه عن النبي صلى الله عليه وسلم تلقيناً؛ فروى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد عنه، قال: أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقننيه كلمة كلمة. ومنها: أن فيه تأكيد التعليم ما ليس في غيره؛ ففي البخاري في الاستئذان: علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد وكفى بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن. وفي أبي داود بسنده إلى القاسم قال: أخذ علقمة بيدي فحدثني أن عبد الله بن مسعود أخذ بيده، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيده، فعلمه التشهد في الصلاة. ومثل هذا لا يوجد في غيره. ومنها: أن أبا بكر علمه الناس على المنبر كما تقدم. ومنها: أن رواته لم يختلفوا في حرف منه بل نقلوه مرفوعاً على صفة واحدة بخلاف غيره. ومنها: أنه ورد بصيغة الأمر مثل قوله "فليقل" وقوله "قولوا" ونحو ذلك، وأقله الندب والاستحباب بخلاف غيره، فإنه مجرد حكاية. ومنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم ابن مسعود التشهد وأمره أن يعلمه الناس، أخرجه أحمد. قال الحافظ بعد ذكره: ولم ينقل ذلك لغيره، ففيه دليل على مزيته. ومنها: أنه اتفق على روايته جماعة من الصحابة مثل أبي بكر، ومعاوية، وسلمان، وغيرهم. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص578) : وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم معه ابن عمر، وجابر، وأبو موسى، وعائشة. وقال أيضاً (ج1: ص579) : وقد اتفق على روايته جماعة من الصحابة فيكون أولى. ومنها: أنه أخذ به جمهور الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الفقهاء، وأهل الحديث بخلاف تشهد غيره. ومنها: ما ذكره في المغني: قال عبد الرحمن بن الأسود: عن أبيه، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه التشهد في الصلاة، قال: وكنا نتحفظه عن عبد الله كما نتحفظ حروف القرآن: الواو، والألف. (أخرجه البزار، ورجاله رجال الصحيح) قال ابن قدامة: وهذا يدل على ضبطه، فكان أولى. ومنها: ما قال الحافظ في الفتح: ورجح أيضاً بثبوت الواو في الصلوات والطيبات، وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيكون كل جملة ثناء مستقلاً، بخلاف ما إذا حذفت، فإنها تكون صفة لما قبلها، وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى، ولو قيل: إن الواو مقدرة في الثاني- انتهى. وقد ذكروا لترجيح تشهد ابن مسعود وجوهاً أخرى وفيما ذكرناه كفاية لمن له بصيرة، فلا يشك في أن حديث ابن مسعود أرجح من جميع الأحاديث المروية في التشهد فالأخذ به أولى وأحسن، والله اعلم.
916-
قوله: (يعلمنا التشهد) سمى باسم جزءه الأشرف كما هو القاعدة عند البلغاء في تسمية الكل باسم البعض. (كما يعلمنا السورة من القرآن) أي بكمال الاهتمام لتوقف الصلاة عليه إجزاء، ففيه دلالة ظاهرة على اهتمامه
فكان يقول: التحيات المباركات، الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله)) . رواه مسلم.
ــ
وإشارة إلى وجوبه. (التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله) المباركات جمع مباركة، وهي كثيرة الخير، وقيل: النامية، قال النووي: تقديره "والمباركات، والصلوات، والطيبات" كما في حديث ابن مسعود وغيره، لكن حذفت الواو اختصاراً، وهو جائز معروف في اللغة- انتهى. قلت: حذف واو العاطف ولو كان جائزاً لكن التقدير خلاف الظاهر؛ لأن المعنى صحيح بدون تقديرها، فيكون جملة واحدة في الثناء، ولو سلم حذف الواو ههنا فتعدد الثناء صريح في تشهد ابن مسعود لذكر الواو فيه فيكون أولى من هذا. (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا) كذا رواه مسلم وأبوداود وابن ماجه، وأحمد في رواية له بتعريف السلام في الموضعين. ورواه الترمذي والنسائي والشافعي وأحمد في طريق أخرى بتنكير السلام فيهما. قال النووي: يجوز فيهما حذف اللام وإثباتها، والإثبات أفضل، وهو الموجود في روايات الصحيحين. قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام، وإنما اختلف ذلك في حديث ابن عباس، وهو من أفراد مسلم- انتهى. (وأشهد أن محمداً رسول الله) انفرد ابن عباس بهذا اللفظ، إذ في سائر التشهدات الواردة عن عمر، وابن مسعود، وجابر، وأبي موسى، وعبد الله بن الزبير كلها بلفظ "وأشهد أن محمداً عبده ورسوله". وأما قول الرافعي المنقول أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في تشهده "وأشهد أني رسول الله" فمردود بأنه لا أصل له، قاله القاري. قلت: روى النسائي وابن ماجه حديث ابن عباس هذا بلفظ: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. هذا، وقد تقدم أن الشافعي اختار تشهد ابن عباس. قال الحافظ في الفتح: قال الشافعي بعد أن أخرج حديث ابن عباس: رويت أحاديث في التشهد مختلفة، وكان أحب إلىّ؛ لأنه أكملها. وقال في موضع آخر، وقد سئل عن اختياره تشهد ابن عباس: لما رأيته واسعاً، وسمعته عن ابن عباس صحيحا، كان عندي أجمع وأكثر لفظاً من غيره، وأخذت به غير معنف لمن يأخذ بغيره مما صح، ورجحه بعضهم لكونه مناسباً للفظ القرآن في قوله تعالى:{تحية من عند الله مباركة طيبة} [24: 61] ، وأما من رجحه بكون ابن عباس من أحداث الصحابة فيكون أضبط لما روى، أو بأنه أفقه من رواه، أو يكون إسناد حديثه حجازياً، وإسناد ابن مسعود كوفياً، وهو مما يرجح به، فلا طائل فيه لمن أنصف-انتهى. (رواه مسلم) قال المجد بن تيمية في المنتقى بعد ذكر الحديث بلفظ المصنف: رواه مسلم، وأبوداود بهذا اللفظ، ورواه الترمذي وصححه كذلك، لكنه ذكر السلام منكراً، ورواه ابن ماجه كمسلم، لكنه قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. ورواه الشافعي وأحمد بتنكير السلام، وقالا فيه "وأن محمداً" ولم يذكرا "أشهد" والباقي كمسلم. ورواه أحمد من طريق آخر كذلك لكن بتعريف السلام، ورواه النسائي كمسلم، لكنه نكر السلام، وقال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله- انتهى. والحديث