الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه مسلم.
{الفصل الثاني}
928-
(4) عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من صلى علي صلاة واحدة، صلى الله عليه عشر صلوات، وحطت عنه عشر خطيئات، ورفعت له عشر درجات.
ــ
الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [33: 43] انتهى. وقال عياض، معناه: رحمه وضاعف أجره، كقوله تعالى:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . قال القاري: والظاهر أن هذا أقل المضاعفة. قال عياض: ويجوز أن تكون الصلاة على وجهها، وظاهرها كلاماً يسمعه الملائكة تشريفاً للمصلي وتكريماً له، كما جاء: وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم-انتهى. وقد يستشكل بأنه كيف يجوز أن يكون الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة وعلى المصلي عشرا؟ وأجيب بأن الواحدة صفة فعل المصلي، وجزاءها عشر صلوات من الله عليه على ما قال تعالى:{من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] . ولا يفهم منه أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تكون واحدة، فإن فضل الله واسع، ولو سلمنا أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم من الله تكون واحدة، فلعل هذه الصلاة الواحدة من الله تساوي في الشرف مائة ألف صلاة، أو تزيد في الشرف والكرامة بمائة ألف مرة، كما أن الجوهرة الواحدة الثمينة النفيسة تساوي في الثمن مائة ألف فلس، والله أعلم. والجمع بين هذا الحديث وبين ما يأتي من حديث عبد الله بن عمرو، قال: من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم واحدة صلى الله عليه وملائكته سبعين صلاة، بأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم بهذا الثواب شيئاً فشيئاً، فكلما علم بشيء قاله، فعلم صلى الله عليه وسلم بأن ثواب من صلى عليه هو ما في الحديث الأول، وما ورد في معناه، فأخبر به، ثم علم بأن ثوابه هو ما جاء في الحديث الثاني فأخبر به. قال ابن العربي في عارضة الأحوذى (ج2: ص273) : الذي أعتقده - والله أعلم - أن قوله: من صلى علي واحدة صلى الله عليه عشراً، ليست لمن قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هي لمن صلى عليه كما علم بما نصصناه عنه، والله أعلم-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن حبان في صحيحه، وفي بعض ألفاظ الترمذي: من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، وكتب له بها عشر حسنات. لكن رواية الترمذي هذه لم أجدها، وقد أشار إليها المنذري في الترغيب وذكر أنها رواية عند الترمذي، فكأنه لم يجدها في كتاب آخر.
928-
قوله. (وحطت عنه عشر خطيئات) أي غفرت، وسترت، ووضعت، ولعله اختير لفظ "حطت" لمقابلة قوله:(ورفعت له عشر درجات) في الدنيا بتوفيق الطاعات، وفي القيامة بتثقيل الحسنات، وفي الجنة بزيادة الكرامات. قال الطيبي: الصلاة من العبد طلب التعظيم والتبجيل لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصلاة من الله تعالى أي
رواه النسائي.
929-
(5) وعن ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة)) . رواه الترمذي.
ــ
في الجزاء إن كانت بمعنى الغفران فيكون من باب المشاكلة من حيث اللفظ، وإن كانت بمعنى التعظيم فيكون من الموافقة لفظاً ومعنى، وهذا هو الوجه لئلا يتكرر معنى الغفران، أي مع الحط. ومعنى الأعداد المخصوصة محمول على المزيد والفضل في المعنى المطلوب، كذا في المرقاة. قال ابن العربي: إن قيل قد قال الله تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} [6: 160] فما فائدة هذا الحديث؟ قلنا: أعظم فائدة، وذلك أن القرآن اقتضى أن من جاء بحسنة تضاعف عشرة، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حسنة، فمقتضى القرآن أن يعطي عشر درجات في الجنة، فأخبر أن الله تعالى يصلي على من صلى على رسوله عشراً، وذكر الله العبد أعظم من الحسنة مضاعفة، قال: ويحقق ذلك أن الله تعالى لم يجعل جزاء ذكره إلا ذكره وكذلك جعل جزاء ذكر نبيه ذكره لمن ذكره. قال العراقي: ولم يقتصر على ذلك حتى زاده كتابة عشر حسنات، وحط عنه عشر سيئات، ورفعه عشر درجات كما ورد في الأحاديث. (رواه النسائي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه (ج1: ص550) وقال صحيح الإسناد. وأقره الذهبي، وله شواهد من حديث سعيد بن عمر الأنصاري عند أبي نعيم في الحلية، ومن حديث أبي بردة بن نيار، وأبي طلحة، كلاهما عند النسائي، ورواتهما ثقات، ومن حديث البراء بن عازب عند ابن أبي عاصم في كتاب الصلاة عن مولى للبراء لم يسمه عنه.
929-
قوله: (أولى الناس بي يوم القيامة) أي أقربهم مني في القيامة، وأحراهم باللحوق بي، وأحقهم بالفوز بشفاعتي. قال الطيبي: يعني أخص أمتي، وأقربهم مني، وأحقهم بشفاعتي، من الولى بمعنى القرب، وضمن معنى الاختصاص فعدى بالباء. (أكثرهم على صلاة) أي في الدنيا، وذلك؛ لأن الاستكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم يورث المحبة وهي تورث الاتحاد، وقال المناوي: لأن كثرة الصلاة عليه تدل على صدق المحبة وكمال الوصلة، فتكون منازلهم في الآخرة منه بحسب تفاوتهم في ذلك-انتهى. قال ابن حبان في صحيحه عقب هذا الحديث: فيه بيان أن أولاهم به صلى الله عليه وسلم في القيامة أصحاب الحديث، إذ ليس من هذه الأمة قوم أكثر صلاة عليه منهم. وقال الخطيب البغدادي: قال لنا أبونعيم: هذه منقبة شريفة يختص بها رواة الآثار ونقلتها؛ لأنه لا يعرف لعصابة من العلماء من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم أكثر مما يعرف لهذه العصابة نسخاً وذكراً، يعني كتابة وقولاً. (رواه الترمذي) وقال هذا حديث حسن غريب، وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه كلاهما من رواية موسى بن يعقوب الزمعي عن عبد الله بن كيسان الزهري، وموسى هذا وثقة ابن معين وابن القطان، وقال الآجري عن أبي داود: هو صالح، وقال ابن عدي: لا بأس به عندي ولا برواياته.
930-
(6) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله ملائكة سياحين في الأرض يبلغوني من أمتي السلام)) رواه النسائي، والدارمي.
931-
(7) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أحد يسلم علي
ــ
وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن المديني: ضعيف، منكر الحديث. وقال النسائي: ليس بالقوي، كذا في تهذيب التهذيب (ج1: ص378) ، والميزان (ج3: ص221) وقال الحافظ في التقريب: صدوق، سيء الحفظ-انتهى. وأما عبد الله بن كيسان فقال عنه ابن القطان: لا يعرف حاله، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ: هو مقبول، وللحديث شاهد من حديث أبي أمامة بلفظ: صلاة أمتي تعرض علي في كل جمعة، فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني منزلة، أخرجه البيهقي. قال الحافظ في الفتح: لا بأس بسنده.
930-
قوله: (إن لله ملائكة) أي جماعة، منهم. (سياحين) صفة الملائكة، بالسين المهملة من السياحة وهي السير، يقال: ساح في الأرض يسيح سياحة إذا ذهب فيها، وأصله من السيح وهو الماء الجاري المنبسط على الأرض، في القاموس: ساح الماء، جرى على وجه الأرض، والسياح- بالتشديد- كالعلام مبالغة منها. (يبلغوني) من الإبلاغ أو التبليغ، قال القاري: وروي بتخفيف النون على حذف إحدى النونين. وقيل بتشديدها على الإدغام. (من أمتي السلام) أي يبلغوني سلام من سلم علي منهم قليلاً أو كثيراً وإن بعد قطره، أي فيرد عليه بسماعه منهم، وفيه حث على الصلاة والسلام عليه، وتعظيم له صلى الله عليه وسلم، وإجلال لمنزلته، حيث سخر الملائكة الكرام لهذا الشأن الفخم. قال الشوكاني: في الحديث الترغيب العظيم للاستكثار من الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فإنه إذا كانت صلاة واحدة من صلاة من صلى عليه تبلغه كان ذلك منشطاً له أعظم تنشيط، والاقتصار في الحديث على السلام لا ينافي إبلاغ الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، فحكمهما واحد كما يدل عليه حديث الحسن بن علي، وحديث أنس كلاهما عند الطبراني، وسنذكر لفظهما. (رواه النسائي والدارمي) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم (ج2: ص421) وقال صحيح، وأقره الذهبي. وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح. وأخرج الطبراني في الكبير بإسناد حسن من حديث الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حيثما كنتم فصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني، وأخرج الطبراني في الأوسط بإسناد لا بأس به من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى علي بلغتني صلاته، وصليت عليه، وكتب له سوى ذلك عشر حسنات.
931-
قوله: (ما من أحد يسلم علي) ظاهره الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، فيكون فيه دليل على حصول فضيلة رد السلام لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وعلى أنه صلى الله عليه وسلم يرد السلام على من يسلم عليه من جميع الآفاق من جميع أمته على بُعد شقته، لكن فهم عامة العلماء منه أن المراد السلام عليه عند قبره، فيدل على تخصيص رد السلام بالقريب من
القبر. قال الحفني: قوله ما من أحد أي مؤمن يسلم، الخ. ظاهره ولو بعيداً عن القبر، لكن خصه بعض الأئمة بالقريب منه، أما البعيد فيبلغه الملك-انتهى. وقال الحافظ العلامة محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في "الصارم المنكي في الرد على التقي السبكي" (ص172) : قوله: "ما من أحد يسلم" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة، ويحتمل أن يكون معناه على العموم، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد، وهذا هو ظاهر الحديث، وهو الموافق للأحاديث المشهورة التي فيها "فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم، وإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم" يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبُعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. والأحاديث عنه بأن صلاتنا وسلامنا تبلغه، وتعرض عليه، كثيرة-انتهى. وقال الشوكاني: ليس في الحديث ما يدل علىاعتبار كون المسلّم عليه على قبره، بل ظاهره أعم من ذلك-انتهى. قلت: إن كان المراد بالسلام في قوله: ما من أحد يسلم، الخ. ما هو بمنزلة سلام التحية الموجب للرد الذي هو حق المسلم، ولا يختص بالمؤمن، فإن الصحيح أن المراد في الحديث السلام عليه عند قبره كما فهمه كثير من العلماء؛ لأن سلام التحية على الميت يكون عند القبر لكن السلام المشروع عند القبر الذي هو سلام تحية ليس من خصائصه صلى الله عليه وسلم، ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً. فقد أخرج ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا عرفه، ورد عليه السلام، صححه أبومحمد عبد الحق، قال: وهذا نص في أنه يعرفه بعينه، ويرد عليه السلام، وروى ابن أي الدنيا في كتاب القبور بسنده عن زيد بن أسلم، عن أبي هريرة، قال: إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام، وعرفه، وإذا مر بقبر لا يعرفه فسلم عليه رد عليه. وعلى هذا فالحديث يكون مختصاً بالحاضر عند قبره. وأما الغائب فلا يحصل له ذلك. وإن كان المراد بالسلام في الحديث ما أمر الله به في القرآن، أعني الذي يسلم على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، والذي يختص بالمؤمن ولا يوجب الرد ولا يستدعيه، بل هو بمنزلة دعاء المؤمن للمؤمنين والاستغفار لهم، وله فيه الأجر والثواب من الله ليس على المدعو لهم مثل ذلك الدعاء، خلافاً لسلام التحية، فحمله على العموم هو الظاهر بل هو المتعين؛ لأنه ليس في الحديث ما يدل على اعتبار كون المسلم عليه حاضراً عند قبره، ولأن السلام مأمور به في القرآن مع الصلاة عليه بقوله:{صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] مشروع له في جميع الأمكنة، لا يختص بمكان دون مكان، ولا مزية للسلام عليه عند قبره، كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره، بل قد نهى عن تخصيص قبره بهذا كما روى: لا تتخذوا قبري عيداً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. والراجح عندي أن المراد بالسلام في الحديث سلام دعاء لا سلام تحية، فيتعين حمل الحديث على العموم، ولا يكون في ذلك فرق بين القريب والبعيد، كما قال في "الصارم المنكي": ولا يكون الحديث مختصاً بالزائر للقبر، الحاضر
عنده، بل يحصل ذلك لكل مسلم قريباً كان أو بعيداً، وحينئذٍ تحصل فضيلة رد النبي صلى الله عليه وسلم السلام على المسلّم من غير زيارة وحضور عند قبره. قال القاري في شرح الشفاء: ظاهر حديث أبي هريرة الإطلاق الشامل لكل مكان وزمان، ومن خص الرد بوقت الزيارة فعليه البيان-انتهى. وسيأتي من حديث أبي هريرة ما يدل على أن سلام الغائب عن قبره يبلغه ويعرض عليه، وأما الحاضر عند القبر، الزائر له إن كانت الزيارة المعهودة ممكنة مقدورة فهل يكون كذلك أو يسمعه صلى الله عليه وسلم بغير واسطة؟ فقال القاري: الزائر إذا صلى وسلم عند قبره سمعه سماعاً حقيقياً بخلاف من يصلي ويسلم عليه من بعيد، فإن ذلك لا يبلغه إلا بواسطة لما جاء عنه بسند جيد: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي من بعيداً علمته-انتهى. قلت: أخرج هذا الحديث أبوبكر بن أبي شيبة، والبيهقي، والعقيلي من طريق العلاء بن عمرو الحنفي، عن محمد بن مروان السدي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى عليّ عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائياً عن قبري بلغته. قال العقيلي: لا أصل له من حديث الأعمش، وليس بمحفوظ-انتهى. قلت: قد تكلم ابن حبان، والأزدي في العلاء بن عمرو، فقال ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به بحال، وقال الأزدي: لا يكتب عنه بحال. ومحمد بن مروان السدي متروك الحديث، متهم بالكذب، ورواه الطبراني من طريق العلاء أيضاً، ولفظه: من صلى علي من قريب سمعته، ومن صلى علي من بعيد أبلغته. وقد رواه أبوالشيخ في كتاب الثواب بلفظ الطبراني من رواية أبي معاوية عن الأعمش، قال في الصارم: وهو خطأ فاحش، وإنما هو محمد بن مروان السدي، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب. وقال ابن القيم في جلاء الأفهام: هذا الحديث غريب جداً، وقد ظهر بهذا أن قول القاري "بسند جيد" ليس بجيد، وكذا ما قال الحافظ في الفتح في رواية أبي الشيخ "أنه أخرجها بسند جيد" لا يخلو عن نظر وإشكال. وهذا، وقد ورد ما يدل على عدم السماع عند القبر، وهو ما روى البيهقي في الشعب بسند فيه محمد بن موسى الكديمي البصري، ومحمد بن مروان السدي، والكديمي متهم بالكذب، ووضع الحديث، والسدي متهم بالكذب، متروك الحديث عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً: ما من عبد يسلم علي عند قبري إلا وكّل الله به ملكاً يبلغني. وفي رواية: من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني، الخ. واعلم أن الذي استحبوا سلام التحية في المسجد خارج الحجرة - وهم أحمد وأبوداود، وابن حبيب والبيهقي، وغيرهم - قد ذهبوا إلى أن المراد بالسلام في الحديث السلام عند قبره، وأنه صلى الله عليه وسلم لا يرد على كل مسلّم عليه في صلاته في شرق الأرض وغربها، واحتجوا لما اختاروه بهذا الحديث، واعتمدوا عليه في مسألة الزيارة، لكن في الاستدلال به على استحباب سلام التحية في المسجد خارج الحجرة نظر. قال محمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي" (ص105) : إن كان المراد السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء فهل يدخل فيه من سلّم من خارج الحجرة، هذا مما
تنازع فيه الناس، وقد نوزعوا في دلالته، فمن الناس من يقول: هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة على زمن عائشة فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يرد عليهم، فأولئك سلموا عليه عند قبره، وكان يرد عليهم، وهذا قد جاء عموماً في حق المؤمنين: ما من رجل يمر بقبر الرجل كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام، قالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره، بل سلامهم عليه كالسلام عليه في الصلاة، وكالسلام عليه إذا دخل المسجد وخرج، هذا هو السلام الذي أمر الله به في حقه بقوله:{صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] . وهذا السلام قد ورد أنه من سلم مرة سلم الله عليه عشراً، كما أنه من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشراً. وقال في (ص107) : وسلام الزائر للقبر على الميت المؤمن من باب سلام التحية. ولهذا روي أن الميت يرد السلام مطلقاً، فالصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم في مسجده، وسائر المساجد، وسائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. وأما السلام عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعاً لما كان ممكنناً بدخول من يدخل على عائشة. وأما تخصيص هذا السلام والصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع، وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: منهم من ذكر استحباب السلام والصلاة عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضاً أن يأتي إلى القبر، ويصلي ويسلم، كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد. ومنهم من لم يذكر إلا الثاني فقط، وكثير من السلف لم يذكروا إلا النوع الأول فقط، فأما النوع الأول فهو المشروع لأهل البلد، وللغرباء في هذا المسجد، وغير هذا المسجد. وأما النوع الثاني فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلاد والغرباء، سواء فعله مع الأول أو مجرداً عنه، كما ذكر ذلك ابن حبيب وغيره. وقال في (ص126) : وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له، والسلام عليه عند الحجرة. فبعضهم رأى هذا من السلام الداخل في قوله صلى الله عليه وسلم: ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام، واستحبه لذلك. وبعضهم لم يستحبه إما لعدم دخوله، وإما لأن السلام المأمور به في القرآن مع الصلاة وهو السلام الذي لا يوجب الرد أفضل من السلام الموجب للرد، فإن هذا مما دل عليه الكتاب والسنة، واتفق عليه السلف، فإن السلام المأمور به في القرآن كالصلاة المأمور بها في القرآن كلاهما لا يوجب عليه الرد، بل الله يصلي على من يصلي عليه، ويسلم على من يسلم عليه، ولأن السلام الذي يوجب الرد هو حق للمسلم، ولهذا يرد السلام على من سلم وإن كان كافراً، وكان اليهود إذا سلموا يقول: عليكم، وأمر أمته بذلك. قال: ولا يجوز أن الكفار إذا سلموا عليه سلام التحية فإن الله يسلم عليهم عشراً، بل كان النبي صلى الله عليه وسلم يجيبهم على ذلك فيوفيهم، كما لو كان لهم دَين فقضاه، وأما ما يختص بالمؤمنين فإذا صلوا عليه صلى الله على من صلى عليه عشراً، وإذا سلم عليه سلم الله عيه عشراً، وهذا الصلاة والسلام عليه هو المشروع في كل مكان بالكتاب، والسنة، والإجماع، بل هو مأمور به من الله
سبحانه وتعالى، لا فرق في هذا بين الغرباء وأهل المدينة عند القبر. وأما السلام عليه عند القبر فقد عرف أن الصحابة، والتابعين المقيمين بالمدينة لم يكونوا يفعلونه إذا دخلوا المسجد، وخرجوا منه، ولو كان هذا كالسلام عليه لو كان حياً لكانوا يفعلونه كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، كما لو دخلوا المسجد في حياته وهو فيه، فإنه مشروع لهم كلما رأوه أن يسلموا عليه، فهو لما كان حياً كان أحدهم إذا أتى يسلم، وإذا قام يسلم، ومثل هذا لا يشرع عند القبر باتفاق المسلمين، وهو معلوم بالاضطرار من عادة الصحابة، ولو كان سلام التحية خارج الحجرة لكان مستحباً لكل أحد، ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة، ولا بين حال السفر وغيره، فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي، ولا يمكن أحداً أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر. وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرير ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذلك لأهل المدينة. فمثل هذه الشريعة ليس منقولاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه، ولا هو معروف من عمل الصحابة، وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، فقد روى عبد الرزاق عن معمر: ذكرت ذلك أي عمل ابن عمر لعبيد الله بن عمر فقال: ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر، هكذا قال عبيد الله بن عمر العمري الكبير، وهو أعلم آل عمر في زمانه، وأحفظهم، وأثبتهم. قال الشيخ أي ابن تيمية: كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة، والنزول والمرور حيث حل ونزل وغير ذلك في السفر، وجمهور الصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك، بل أبوه عمر كان ينهى عن مثل ذلك كما روى سعيد بن منصور في سننه. وقال في (ص129) : ومما اتفق عليه الصحابة، ابن عمر وغيره من أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا المسجد وخرجوا، بل يكره ذلك، يبين ضعف حجة من احتج بقوله:"ما من رجل يسلم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"، فإن هذا لو دل على استحباب السلام من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق بين القادم من السفر وغيره، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب، بل لو كان جائزاً لفعله بعضهم، فدل على أنه كان من المنهي عنه كما دلت عليه سائر الأحاديث، وعلى هذا فالجواب عن الحديث: إما بتضعيفه على قول من يضعفه، وإما بأن ذلك يوجب فضيلة الرسول صلى الله عليه وسلم لا فضيلة المسلم بالرد عليه. إذا كان هذا من باب المكافأة والجزاء حتى أنه يشرع للبر والفاجر التحية، بخلاف ما يقصد به الدعاء المجرد، وهو السلام المأمور به. وإما بأن يقال هذا مما هو في من سلم عليه من قريب، والقريب أن يكون في بيته، فإنه إن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع، ثم بسط الوجه الثاني، ثم ذكر في (ص131) كلام ابن تيمية في الرد على حجة من فرق بين الصادر من المدينة والوارد عليها، والوارد على مسجده من الغرباء، والصادر عنه. ثم قال في
(ص136) : والمقصود أن الصحابة كانوا في زمن الخلفاء الراشدين يدخلون المسجد ويصلون فيه الصلوات الخمس، ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمون عليه عند دخول المسجد وبعد دخوله، ولم يكونوا يذهبون ويقفون إلى جانب الحجرة ويسلمون عليه هناك، وكان على عهد الخلفاء الراشدين والصحابة حجرته خارجة عن المسجد، ولم يكن بينهم وبينه إلا الجدار. ثم إنه إنما أدخلت الحجرة في المسجد في خلافة الوليد بن عبد الملك بعد موت عامة الصحابة الذي كانوا بالمدينة، والوليد تولى سنة ست وثمانين، وتوفي سنة ست وتسعين. فكان بناء المسجد وإدخال الحجرة فيه فيما بين ذلك، وكان الذي تولى ذلك عمر بن عبد العزيز نائب الوليد على المدينة فسد باب الحجرة، وبنوا حائطاً آخر عليها غير الحائط القديم، فصار المسلم عليه من وراء الجدار أبعد من المسلم عليه لما كان جداًرا واحداً. قال هؤلاء: لو كان سلام التحية الذي يرده على صاحبه مشروعاً في المسجد لكان له حد، ذراع أو ذراعان، أو ثلاثة، فلا يعرف الفرق بين المكان الذي استحب فيه هذا. ولمكان الذي لا يستحب فيه. فإن قيل: من سلم عليه عند الحائط الغربي رد عليه. قيل: وكذلك من كان خارج المسجد، وإلا فما الفرق؟ وحينئذٍ يلزم أن يرد على جميع أهل الأرض، وعلى كل مصل في صلاة كما ظنه بعض الغالطين، ومعلوم بطلان ذلك. وإن قيل: يختص بقدر بين المسلم وبين الحجرة. قيل: فما حد ذلك؟ ولهم قولان: منهم من يستحب القرب من الحجرة كما استحب ذلك مالك وغيره، ولكن يقال: فما حد ذلك القرب؟ وإذا جعل له حد فهل يكون من خرج عن الحد فعل المستحب؟ وآخرون من المتأخرين يستحبون التباعد عن الحجرة كما ذكر ذلك من ذكره من أصحاب أبي حنيفة والشافعي فهل هو بذراع أو باع أو أكثر؟ وقدره من قدره من أصحاب أبي حنيفة بأربعة أذرع فإنهم قالوا: يكون حين يسلم عليه مستقبل القبلة، ويجعل الحجرة عن يساره، ولا يدنوا أكثر من ذلك، وهذا والله أعلم، قاله المتقدمون؛ لأن المقصود به السلام المأمور به في القرآن، كالصلاة عليه ليس المقصود به سلام التحية الذي يرد جوابه المسلم عليه، فإن هذا لا يشرع فيه هذا البعد، ولا يستقبل به القبلة، ولا يسمع إذا كان بالصوت المعتاد. وبالجملة فمن قال: إنه يسلم سلام التحية الذي يقصد به الرد فلا بد من تحديد مكان ذلك، فإن قال إلى أن يسمع ويرد السلام، فإن حد في ذلك ذراعاً، أو ذراعين أو عشرة أذرع، أو قال: إن ذلك في المسجد كله أو خارج المسجد فلا بد له من دليل، والأحاديث الثابتة عنه فيها أن الملائكة يبلغونه صلاة من صلى عليه، وسلام من سلم عليه، ليس في شيء منها أنه يسمع بنفسه ذلك، فمن زعم أنه يسمع ويرد من خارج الحجرة من مكان دون مكان فلا بد له من حد. ومعلوم أنه ليس في ذلك حد شرعي، وما أحد يحد في ذلك حداً إلا عورض بمن يزيده أو ينقصه ولا فرق، وأيضاً فذلك يختلف باختلاف ارتفاع الأصوات، وانخفاضها والسنة للمسلم في السلام عليه خفض الصوت، ورفع الصوت في مسجده منهي عنه بالسلام والصلاة وغير ذلك بخلاف المسلّم من الحجرة، فإنه فرق ظاهر بينه وبين المسلّم عليه من المسجد، ثم السنة لمن دخل مسجده أن يخفض صوته، فالمسلّم عليه إن رفع الصوت
أساء الأدب برفع الصوت في المسجد، وإن لم يرفع لم يصل الصوت إلى داخل الحجرة، وهذا بخلاف السلام الذي أمر الله به ورسوله الذي يسلم الله على صاحبه كما يصلي على من صلى عليه، فإن هذا مشروع في كل مكان لا يختص بالقبر. وبالجملة فهذا الموضع فيه نزاع قديم بين العلماء، وعلى كل تقدير فلم يكن عند أحد من العلماء الذين استحبوا سلام التحية في المسجد حديث في استحباب زيارة قبره يحتجون به، فعلم أن هذه الأحاديث. (يعني التي يوردها المبتدعون من القبوريين وغيرهم للاحتجاج لاستحباب السفر لمجرد زيارة قبره من غير قصد الصلاة في مسجد صلى الله عليه وسلم، وقد بين ما فيها من الكلام في "الصارم المنكي" مفصلاً) ليست مما يعرفه أهل العلم، ولهذا لما تتبعت وجدت رواتها إما كذاب، أو ضعيف سيء الحفظ، ونحو ذلك. وهذا الحديث الذي فيه "ما من مسلم يسلّم إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" قد احتج به أحمد وغيره من العلماء، فلو قدر أن هذا مخالف لما هو أصح منه، وجب تقديم ذلك عليه، ولكن السلام على الميت ورده السلام على من سلم عليه قد جاء في غير هذا الحديث، ولو أريد إثبات سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفاً فيه للنزاع في إسناده وفي دلالته متنه. وقال في (ص145) بعد ذكر الأحاديث التي فيها تبليغ صلاة أمته وسلامهم عليه: فهذه الأحاديث المعروفة عند أهل العلم التي جاءت من وجوه حسان فصدق بعضها بعضاً، وهي متفقة على أن من صلى عليه وسلم من أمته فإن ذلك يبلغه ويعرض عليه، وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي عليه والمسلّم بنفسه، إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه صلى الله عليه وسلم تسليماً، ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه وسلم في مسجده، أو مدينته، أو مكان آخر، فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه، وأما من سلم عليه عند قبره فإنه يرد عليه، وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه، ولا هو السلام المأمور به الذي يسلم الله على صاحبه عشراً، كما يصلي على من صلى عليه عشراً، فإن هذا هو الذي أمر الله به في القرآن، وهو لا يختص بمكان دون مكان، وقد تقدم حديث أبي هريرة أنه يرد السلام على من سلم عليه، والمراد عند قبره، لكن النزاع في معنى كونه عند القبر هل المراد في بيته كما يراد مثل ذلك في سائر ما أخبر به من سماع الموتى إنما هو لمن كان عند قبورهم قريباً منها، أو يراد به من كان في الحجرة كما قاله طائفة من السلف والخلف، وهل يستحب ذلك عند الحجرة لمن قدم من سفر أو لمن أراده من أهل المدينة أو لا يستحب بحال؟ وليس الاعتماد في سماعه ما يبلغه من صلاة أمته وسلامهم إلا على هذه الأحاديث الثابتة، فأما ذاك الحديث. (يعني ما روي عن أبي هريرة بلفظ: من صلى علي عند قبري سمعته، ومن صلى علي نائيا بلغته) وإن كان معناه صحيحاً، فإسناده لا يحتج به، وإنما يثبت معناه بأحاديث أخر، فإنه لا يعرف إلا من حديث محمد بن مروان السدي الصغير عن الأعمش، وهو عندهم موضوع على الأعمش، وهو لو كان صحيحاً فإنما فيه أنه يبلغ صلاة من صلى نائياً، ليس فيه أنه يسمع ذلك، فإن هذا لم يقله أحد من أهل العلم، ولا يعرف في شيء من الحديث، إنما يقوله بعض الجهال،
إلا رد الله عليّ روحي، حتى أرد عليه السلام.
ــ
يقولون: إنه يوم الجمعة وليلة الجمعة يسمع بأذنيه صلاة من صلى عليه، فالقول بأنه يسمع ذلك من نفس المصلي باطل، وإنما في الأحاديث المعروفة أنه يبلغ ذلك ويعرض عليه، وكذلك تبلغه إياه الملائكة، وقول القائل: إنه يسمع الصلاة من بعيد، ممتنع فإنه إن أراد وصول صوت المصلي إليه فهذه مكابرة، وإن أراد أنه هو بحيث يسمع أصوات الخلائق من البعد فليس هذا إلا لله رب العالمين الذي يسمع أصوات العباد كلهم-انتهى. وقال العلامة الشيخ محمد بشير السهسواني في "صيانة الإنسان" (ص21-24) : إن زيارة قبره صلى الله عليه وسلم المعهودة في زماننا هل يرفع فيها الصوت ويجهر له بالقول أم لا؟ والأول منهي عنه لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون} [49: 2] . وقال: في هذا الشق يلزم ثلاث محذورات، الأول: رفع الصوت في المسجد. والثاني: رفع الصوت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث: رفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: والشق الثاني أيضاً باطل، فإن السلام المشروع عند القبر سلام تحية لا سلام دعاء، وسلام التحية لا بد فيه من أن يفعل بحيث يسمعه المسلّم عليه حتى يرده على المسلّم. قال في المواهب وشرحه للزرقاني: ويكثر من الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضرته الشريفة حيث يسمعه ويرد عليه، بأن يقف بمكان قريب منه، ويرفع صوته إلى حد لو كان حياً مخاطباً لسمعه عادة-انتهى. وقال الزرقاني: والظاهر أن المراد بالعندية قرب القبر بحيث يصدق عليه عرفاً أنه عنده، وبالبُعد ما عداه وإن كان بالمسجد-انتهى. ولما سدت حجرة عائشة التي هي مدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنيت على القبر حيطان مرتفعة مستديرة حوله، ثم بنى عليه جدران من ركني القبر الشمالين، تعذر الوصول إلى قرب القبر، فالزائرون اليوم إنما يسلمون من مسافة لو سلم على حي من تلك المسافة لما سمعه فكيف يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ويرده عليه ولو سلم حياته صلى الله عليه وسلم في القبر؟ فإن قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الممات يمكن أن يزداد قوة سمعه فيسمع من تلك المسافة. فيقال: أي دليل على هذا من كتاب وسنة. ومجرد الإمكان العقلي لا يغني عن شيء، علا أنه هل لذلك تحديد أم لا؟ على الثاني يستوي المسلم من بعيد والمسلم عند القبر، وهذا باطل عند من يقول بقربة الزيارة، فإنهم فضلوا السلام عند القبر على السلام من بعيد كالسبكي، وابن حجر المكي. وعلى الأول فلا بد من بيانه بدليل شرعي وأنى له ذلك؟. (إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام هذا مشكل على من ذهب إلى أن الأنبياء بعد ما قبضوا ردت إليهم أرواحهم، فهم أحياء عند ربهم كالشهداء، ووجه الإشكال فيه أن عود الروح إلى الجسد يقتضي انفصالها عنه، وهو الموت، وهو لا يلتئم مع كونه حياً دائماً، بل رد روحه يلزمه تعدد حياته ووفاته في أقل من ساعة، إذ الكون لا يخلو من أن يسلم عليه بل قد يتعدد في آن واحد كثيراً، وقد أجابوا عنه بأجوبة، أحدها: أن المراد بقوله: "رد الله على روحي"، أن رد روحه كانت سابقة عقب دفنه، لا أنها تعاد ثم تنزع. قال السيوطي في تأليفه الذي أفرده للجواب عن هذا الإشكال سماه "انتباه الأذكياء بحياة
الأنبياء" ما نصه: أن قوله " رد الله روحي" جملة حالية، وقاعدة العربية أن جملة الحال إذا صدرت بفعل ماض قدرت فيه "قد" كقوله تعالى: {أو جاءوكم حصرت صدورهم} [4: 90] أي قد حصرت، وكذا ههنا يقدر "قد" والجملة ماضية سابقة على السلام الواقع من كل أحد، و"حتى" ليست للتعليل بل لمجرد العطف بمعنى الواو، فصار تقدير الحديث: ما من أحد يسلم علي إلا قد رد الله علي روحي قبل ذل: وأرد عليه، وإنما جاء الإشكال من أن جملة "رد الله علي روحي" بمعنى حال أو استقبال، وظن أن "حتى" تعليلية ولا يصح ذلك كله، وبهذا الذي قدرناه ارتفع الإشكال من أصله، ويؤيده من حيث المعنى أن الرد لو أخذ بمعنى حال أو استقبال للزم تكرره عند تكرار المسلمين، وتكرر الرد يستلزم تكرر المفارقة، وتكرر المفارقة يلزم منه محذورات، منها: تألم الجسد الشريف بتكرار خروج روحه وعوده، أو نوع ما من مخالفة تكرير إن لم يتألم، ومنها: مخالف سائر الناس من الشهداء وغيرهم، إذ لم يثبت لأحدهم أنه يتكرر له مفارقة روحه وعوده بالبرزخ، وهو صلى الله عليه وسلم أولى بالاستمرار الذي هو أعلى رتبة، ومنها: مخالفة القرآن إذ دل أنه ليس إلا موتتان وحياتتان، وهذا التكرار يستلزم موتات كثيرة وهو باطل. ومنها: مخالفة الأحاديث المتواترة الدالة على حياة الأنبياء. وما خالف القرآن والسنة المتواترة وجب تأويله-انتهى. وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة وأقواها عند السيوطي كما صرح به في رسالته، وقد تلقى هذا الجواب عن البيهقي وسيأتي ما فيه من الكلام. الثاني: أنه يستغرق في أمور الملأ الأعلى، فإذا سلم عليه رجع إليه فهمه ليجيب من سلم عليه، قال السيوطي: لفظ الرد قد لا يدل على المفارقة، بل كنى به عن مطلق الصيرورة، وحسنه هنا مراعاة المناسبة اللفظية بينه وبين قوله: حتى أرد عليه السلام، فجاء لفظ الرد في صدر الحديث لمناسبة ذكره بآخره، وليس المراد بردها عودها بعد مفارقة بدنها، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم بالبرزخ مشغول بأحوال الملكوت، مستغرق في مشاهدته تعالى كما هو في الدنيا بحالة الوحي، فعبر عن أفاقته من تلك الحالة برد الروح. وقال البيهقي: ويحتمل أن يكون رداً معنوياً، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهية، والملأ الأعلى عن هذا العالم، فإذا سلم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم لتدرك سلام من يسلم عليه ويرد عليه-انتهى. وقد نظر في هذين الجوابين الحافظ أبوعبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي في "الصارم المنكي (ص 179، 203) فقال: في كل منهما نظر، أما الأول فمضمونه رد روحه صلى الله عليه وسلم بعد موته إلى جسده، واستمرارها فيه قبل سلام من يسلم عليه، وليس هذا المعنى مذكور في الحديث، ولا هو ظاهره، بل هو مخالف لظاهره، فإن قوله "إلا رد الله علي روحي" بعد قوله "ما من أحد يسلم على "يقتضي رد الروح بعد السلام، ولا يقتضي استمرارها في الجسد، وليعلم أن رد الروح بعد السلام للبدن وعودها إلى الجسد بعد الموت لا يقتضي استمرارها فيه، ولا يستلزم حياة أخرى قبل يوم النشور نظير الحياة المعهودة، بل إعادة الروح إلى الجسد في البرزخ إعادة برزخية لا تزيل عن الميت اسم الموت، وقد ثبت في حديث البراء بن عازب
الطويل المشهور في عذاب القبر ونعيمه، وفي بيان الميت وحاله، أن روحه تعاد إلى جسده مع العلم بأنها غير مستمرة فيه وأن هذه الإعادة ليست مستلزمة لإثبات حياة مزيلة لاسم الموت، بل هي نوع حياة برزخية، والحياة جنس تحته أنواع، وكذلك الموت، فإثبات بعض أنواع الموت لا ينافي الحياة كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا استيقظ من النوم قال: الحمد لله الذي أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور، وتعلق الروح بالبدن واتصالها به يتنوع أنواعاً، أحدها: تعلقها به في هذا العالم يقظة ومناماً. الثاني: تعلقها به في البرزخ، والأموات متفاوتون في ذلك، فالذي للرسل والأنبياء أكمل مما للشهداء، ولهذا لا تبلى أجسادهم، والذي للشهداء أكمل مما لغيرهم من المؤمنين الذين ليسوا بشهداء. والثالث: تعلقها به يوم البعث الآخر، ورد الروح إلى البدن في البرزخ لا يستلزم الحياة المعهودة، ومن زعم استلزمه لها لزمه ارتكاب أمور باطلة مخالفة للحس، والشرع، والعقل، وهذا المعنى المذكور في حديث أبي هريرة من رده صلى الله عليه وسلم السلام على من يسلم عليه قد ورد نحوه في الرجل يمر بقبر أخيه، فذكر ما رواه ابن عبد البر من حديث ابن عباس مرفوعاً: ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه. حتى يرد عليه السلام، ثم قال: ولم يقل أحد إن هذا الرد يقتضي استمرار الروح في الجسد، ولا قال إنه يستلزم حياة نظير الحياة المعهودة، ثم ذكر آثاراً عن أبي هريرة، وعائشة بمعناه، وقال: قد روي في هذا الباب آثار كثيرة، وفي الجملة رد الروح على الميت في البرزخ، ورد السلام على من يسلم عليه لا يستلزم الحياة التي يظنها بعض الغالطين، وإن كانت نوع حياة برزخية، وقول من زعم أنها نظير الحياة المعهودة، مخالف للمنقول والمعقول، ويلزم منه مفارقته الروح للرفيق الأعلى، وحصولها تحت التراب قرناً بعد قرن والبدن حي مدرك سميع بصير تحت أطباق التراب والحجارة، ولوازم هذا الباطلة مما لا يخفى على العقلاء وبهذا يعلم بطلان تأويل قوله "إلا رد الله على روحي" بأن معناه: إلا وقد رد الله علي روحي، وأن ذلك مستمر وأحياه الله قبل يوم النشور، وأقره تحت التراب واللبن، فيا ليت شعري هل فارقت روحه الكريمة الرفيق الأعلى واتخذت بييت تحت الأرض مع البدن أم في الحال الواحد هي في المكانين؟ قال: وأما الجواب الثاني: وهو أن هذا رد معنوي، ففيه نوع من الحق، لكن صاحبه قصر فيه غاية التقصير، وهو إنما يصح ويجيء على قول أهل السنة من الفقهاء والمحدثين وغيرهم أن الروح ذات قائمة بنفسها لها صفات تقوم بها، وأنها تقارن البدن، وتصعد وتنزل، وتقبض، وتنعم، وتعذب، وتدخل، وتخرج، وتذهب، وتجيء، وتسأل، وتحاسب، ويقبضها الملك، ويعرج بها إلى السماء، ويشيعها ملائكة السموات إن كانت طيبة، وإن كانت خبيثة طرحت طرحاً، وأنه تحس، وتدرك، وتأكل، وتشرب في البرزخ من الجنة، كما دلت عليه السنة الصحيحة في أرواح الشهداء خصوصاً، والمؤمنين عموماً، ومع هذا فلها شأن آخر غير شأن البدن، فإنها تكون في الملأ الأعلى فوق السموات، وقد تعلقت بالبدن تعلقاً يقتضي رد السلام
على من سلم، وهي في مستقرها في عليين مع الرفيق الأعلى، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء على موسى قائماً يصلي في قبره، ثم رآه في السماء السادسة، ولا ريب أن موسى لم يرفع من قبره تلك الليلة لا هو ولا غيره من الأنبياء الذين رآهم في السموات، بل لم تزل تلك منازلهم من السموات، وإنما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء في منازلهم التي كانوا فيها من حين رفعهم الله سبحانه إليها، ولم تكن صلاة موسى بقبره بموجبه مفارقة روحه للسماء السادسة، وحلولها في القبر بل هي مستقرها، ولها تعلق بالبدن قوي، حتى حمله على الصلاة، وإذا كان النائم تقوى نفسه وفعلها في حال النوم حتى تحرك البدن، وتقيمه وتوثر فيه فما ظن بأرواح الأنبياء، وقد ثبت في الصحيح: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر، تأكل من ثمار الجنة، وتشرب من أنهارها، وتسرح فيها حيث شاءت، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، وهذا شأنها حتى يبعثها الله سبحانه إلى أجسادها، ومع هذا فإذا زارهم المسلم وسلم عليهم عرفوا به وردوا عليه السلام، بل ونسمة المؤمن كذلك مع كونها طائراً تعلق في شجر الجنة ترد على صاحبها، وتشعر به إذا سلم عليه المسلم، وقد قال أبوالدرداء: إذا نام العبد عرج بروحه حتى يؤتى بها إلى العرش، فإن كان طاهراً أذن لها بالسجود. ذكره ابن مندة في كتاب الروح. قال: فهذه روح النائم متعلقة ببدنه، وهي في السماء تحت العرش، وترد إلى البدن في أكثر وقت، فروح النائم مستقرها البدن، تصعد حتى تبلغ السماء، وترى ما هنالك، ولم تفارق البدن فراقاً كلياً، وعكسه أرواح الأنبياء، والصديقين والشهداء، مستقرها في عليين، وترد إلى البدن أحياناً، ولم تفارق مستقرها، ومن لم ينشرح صدره لفهم هذا والتصديق به فلا يبادر إلى رده وإنكاره بغير علم، فإن للأرواح شأناً آخر غير شأن الأبدان، ولا يلتفت إلى كثافة طبع الجهمى، وغلظ قلبه، ورقة إيمانه، ومبادرته إلى تكذيب ما لم يحط بعلمه-انتهى. الجواب الثالث: أن المراد بالروح الملك المؤكل بإبلاغه السلام. الرابع: أن المراد بالروح هنا النطق من إطلاق اللازم وإرادته الملزوم، أي فهو صلى الله عليه وسلم في البرزخ مشغول بالمشاهدة كما كان في الدنيا، إلا أنه تعالى أعطاه قوة في الدنيا على تبليغ الأحكام: والاشتغال بالخلق ظاهراً مع شغل باطنه بشهود مولاه، وفي البرزخ لا شغل له بالخلق أصلاً بل بالشهود، فلا ينطق بالكلام إلا إذا سلم عليه شخص، فيرد عليه إكراماً له، فنطقه صلى الله عليه وسلم موجود بالقوة؛ فلما لم يوجد بالفعل لشغله بحضرة القدس صار كالممنوع من النطق، فلذا قال "رد الله علي روحي " أي نطقي. قال الخفاجي: استعارة رد الروح للنطق بعيدة وغير معروفة، وكون المراد بالروح "الملك" تأباه الإضافة لضمير، إلا أنه ملك موكل كان ملازماً له فاختص به، على أنه أقرب الأجوبة، وقد ورد إطلاق الروح على الملك في القرآن. الخامس: أن الأنبياء والشهداء أحياء، وحياة الأنبياء أقوى، وإذا لم يسلط عليهم الأرض فهم كالنائمين، والنائم لا يسمع ولا ينطق حتى ينتبه كما قال تعالى:{والتي لم تمت في منامها} [39: 42] الآية، فالمراد بالرد الإرسال الذي في الآية، وحينئذٍ فمعناه أنه إذا سمع الصلاة والسلام بواسطة أو بدونها تيقظ ورد، لا أن روحه
رواه أبوداود والبيهقي في "الدعوات الكبير".
ــ
قبض قبض الممات، ثم ينفخ وتعاد كموت الدنيا وحياتها؛ لأن روحه مجردة نورانية، وهذا لمن زاره. ومن بعُد عنه تبلغه الملائكة سلامه، ذكره الخفاجي. وقد استشكل هذا الحديث من جهة أخرى. وهو أنه يستلزم استغراق الزمان كله في ذلك لاتصال الصلاة والسلام عليه في أقطار الأرض ممن لا يحصى كثرة. وأجيب بأن أمور لا تدرك بالعقل، وأحوال البرزخ أشبه بأحوال الآخرة. قلت: هذا الجواب هو الجواب الحق الصحيح عن كل إشكال يرد على هذا الحديث، فنؤمن بظاهر الحديث، ونصدق به؟ ونكل علمه إلى الله ورسوله، ولا نقيس أمر البرزخ على ما نشاهده في الدنيا فإن هذا من قياس الغائب على الشاهد. وهو غاية الجهل والغباوة والظلم والضلال. (رواه أبوداود) في آخر الحج. (والبيهقي في الدعوات الكبير) وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده كلهم من طريق أبي صخر حميد بن زياد. عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة. وقد سكت عنه أبوداود، وقال المنذري: أبوصخر حميد بن زياد قد أخرج له مسلم في صحيحه، وقد أنكر عليه شيء من حديثه، وضعفه يحيى بن معين مرة، ووثقه أخرى-انتهى. قلت: وضعفه النسائي أيضاً، لكن الظاهر توثيقه؛ لأنه وثقه أحمد، أبوحاتم والدارقطني وذكره ابن حبان في الثقات. وقال ابن عدى بعد أن روى عنه ثلاثة أحاديث: وهو عندي صالح الحديث، وإنما أنكر عليه هذان الحديثان: المؤمن يألف. وفي القدرية، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً. وبهذا ظهر تعيين ما أنكر على حميد بن صخر، وليس منه هذا الحديث. ومقتضى هذا أن لا ينحط هذا الحديث عن درجة الحسن، وقد صرح الحافظ في الفتح بأن رواته ثقات. وقال النووي في الأذكار: إسناده صحيح. وكذا قال في الرياض. وقال الإمام تقي الدين ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا الحديث على شرط مسلم. قال المقدسي في الصارم (ص169) : وفي ذلك نظر، فإن ابن قسيط وإن كان مسلم قد روى في صحيحه من رواية أبي صخر عنه لكنه لم يخرج من روايته عن أبي هريرة شيئاً. فلو كان قد أخرج في الأصول حديثاً من رواية أبي صخر، عن ابن قسيط، عن أبي هريرة أمكن أن يقال في هذا الحديث أنه على شرطه. واعلم أن كثيراً ما يروي أصحاب الصحيح حديث الرجل عن شيخ معين لخصوصيته به، ومعرفته بحديثه. وضبطه له، ولا يخرجون حديثه عن غيره لكونه غير مشهور بالرواية عنه، ولا معروف بضبط حديثه، أو لغير ذلك. فيجيء من لا تحقيق عنده فيرى ذلك المخرج له في الصحيح قد روى حديثاً عمن خرج له في الصحيح من غير طريق ذلك الرجل، فيقول: هذا على شرط الشيخين، أو على شرط البخاري، أو على شرط مسلم؛ لأنهما احتجا بذلك الرجل في الجملة، وهذا فيه نوع تساهل. فإن صاحبي الصحيح لم يحتجا به إلا في شيخ معين لا في غيره فلا يكون على شرطهما، ثم ذكر لذلك نظائر من الصحيحين ثم قال: وهكذا عادة مسلم غالباً، إذا روى لرجل قد تكلم فيه، ونسب إلى ضعف لسوء حفظه، وقلة ضبطه، إنما يروي له في الشواهد والمتابعات، ولا يخرج له شيئاً انفرد به، ولم يتابع عليه، فعلم أن هذا الحديث الذي تفرد به أبوصخر،
932-
(8) وعنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم))
ــ
عن ابن قسيط عن أبي هريرة، لا ينبغي أن يقال: هو على شرط مسلم، وإنما هو حديث إسناده مقارب، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره، وعاضداً له - انتهى.
932-
قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) أي كالقبور في خلوها عن الصلاة والذكر والعبادة، بل اشغلوها بذلك. قيل: المراد منه كراهة الصلاة في المقابر، والمعنى: أعطوا البيوت حظها من الصلاة والعبادة. ولا تجعلوها كالمقابر حيث لا يعبد ولا يصلي فيها، فأحال على المقابر لكونها معهودة معروفة بهذه الصفة حساً وشرعاً. وقيل: المراد الحث على الصلاة والعبادة في البيت، فإن الموتى لا يصلون في بيوتهم، وكأنه قال: لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، أو لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتى تصيروا كالموتى، وتصير هي كالقبور، فشبه المكان الخالي عن العبادة بالقبر، والغافل عنها بالميت، ثم أطلق القبر على المقبرة، ولا يبعد أن يكون المراد منه المعنيين كليهما، أعني النهي عن العبادة في المقابر، والندب إلى العبادة في البيوت. (ولا تجعلوا قبري عيداً) العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما يعود السنة، أو يعود الأسبوع أو الشهر، ونحو ذلك. وقال ابن القيم: العيد ما يعتاد مجيئة وقصده من زمان ومكان، مأخوذ من المعاودة والاعتياد، فإذا كان اسماً للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع والانتياب للعبادة عنده ولغير العبادة، كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر، جعلها الله تعالى عيداً للحنفاء ومثابة للناس، كما جعل أيام العيد منها عيداً، وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية، فلما جاء الله بالإسلام أبطلها، وعوض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر، كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بكعبة ومنى ومزدلفة وسائر المشاعر-انتهى. قيل: المراد بالعيد ههنا أحد الأعياد. أي لا تجعلوا زيارة قبري عيداً، والمعنى: لا تجتمعوا للزيارة اجتماعكم للعيد، فإنه يوم لهو وسرور وزينة وحال الزيارة مخالفة لتلك الحالة. قال المناوي: معناه النهي عن الاجتماع لزيارته. اجتماعهم للعيد إما لدفع المشقة، أو كراهة أن يتجاوزا حد التعظيم. وقيل: العيد ما يعاد إليه، أي لا تجعلوا قبري عيداً تعودون إليه متى أردتم أن تصلوا علي، فظاهره النهي عن المعاودة، والمراد المنع عما يوجبه، وهو ظنهم بأن دعاء الغائب لا يصل إليه. ويؤيده قوله:(صلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم) أي لا تتكلفوا المعاودة إلىّ، فقد استغنيتم بالصلاة عليّ. قال المناوي: ويؤخذ منه أن اجتماع العامة في بعض أضرحة الأولياء في يوم أو شهر مخصوص من السنة، ويقولون هذا يوم مولد الشيخ، ويأكلون ويشربون، وربما يرقصون فيه، منهي عنه شرعاً، وعلى ولي الشرع ردعهم على ذلك، وإنكاره عليهم، وإبطاله. وقال الإمام ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم": معنى الحديث: أي لا تعطلوا البيوت
رواه النسائي.
ــ
من الصلاة فيها والدعاء والقراءة، فتكون بمنزلة القبور، فأمر بتحرى العبادة في البيوت، ونهى عن تحريها عند القبور، عكس ما يفعله المشركون من النصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة، ثم إنه صلى الله عليه وسلم أعقب النهي عن اتخاذها عيداً بقوله:"وصلوا عليّ فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم"، وفي الحديث:"فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم"، يشير بذلك صلى الله عليه وسلم إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم منه، فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيداً. قال: وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم. واستدل بالحديث (كما سيأتي) وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين، عن جده علي، وأعلم بمعناه من غيره، فبين أن قصده للدعاء ونحوه اتخاذ له عيداً. وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر للسلام عليه ونحوه عند غير دخول المسجد. ورأى أن ذلك من اتخاذه عيداً، فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت رضي الله عنهم الذين لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب الدار، لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط-انتهى. والحديث قد استدل به على منع السفر لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم، لأن المقصود من زيارة قبره هو الصلاة والسلام عليه والدعاء له صلى الله عليه وسلم، وهذا يحصل من بُعد كما يحصل من قرب. ولأن من سافر إليه وحضر مع ناس آخرين فقد اتخذه عيداً، وهو منهي عنه بنص الحديث، فثبت المنع من شد الرحل لأجل ذلك بإشارة النص، كما ثبت النهي عن جعله عيداً بدلالة النص، وهاتان الدلالتان معمول بهما عند علماء الأصول، ووجه هذه الدلالة على المراد قوله "تبلغني حيث كنتم"، فإنه يشير إلى البُعد، والبعيد عنه صلى الله عليه وسلم لا يحصل له القرب إلا باختيار السفر إليه، ففيه النهي عن السفر للزيارة. قال الإمام ابن تيمية: في الحديث دليل على منع شد الرحل إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى قبر غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها عيداً -انتهى. وهذه المسألة أي السفر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والأولياء والصلحاء هي التي أفتى فيها ابن تيمية، وذكر اختلاف العلماء فيها، فمن مبيح لذلك كالغزالي، وأبي محمد المقدسي، ومن مانع لذلك كابن بطة، وابن عقيل، وأبي محمد الجويني، والقاضي عياض، وهو قول الجمهور، نص عليه مالك، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لحديث النهي عن شد الرحل إلا إلى ثلاثة مساجد، كما في الصحيحين، كذا في "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد". وارجع للتفصيل في هذه المسألة إلى "اقتضاء الصراط المستقيم" لابن تيمية، و"جلاء الأفهام" لابن القيم، و"الصارم المنكي" لمحمد بن عبد الهادي المقدسي، و"أحسن الأقوال في شرح حديث لا تشد الرحال"، و"الرد على منتهى المقال" للعلامة القاضي بشير الدين القنوجي. (رواه النسائي) هذا من أوهام المصنف، فإن حديث أبي هريرة هذا لم يروه النسائي، اللهم إلا أن يكون المراد روايته في السنن الكبرى. والحديث رواه أبوداود في باب زيارة القبور في آخر المناسك، وقد تفرد بروايته من بين أصحاب الكتب الستة كما يظهر من "ذخائر المواريث" و"الصارم المنكي". وأخرجه أيضا أحمد، وقد سكت عنه
933-
(9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رغم
ــ
أبوداود، وصححه النووي في الأذكار، وقال الإمام ابن تيمية: هذا إسناد حسن، فإن رواته كلهم ثقات مشاهير. لكن عبد الله بن نافع الصائغ المدني صاحب مالك فيه لين لا يقدح في حديثه. قال يحيى بن معين: هو ثقة. وحسبك بابن معين موثقاً. وقال أبوزرعة: لا بأس به. وقال أبوحاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف من حفظه وتنكر، فإن هذه العبارات منهم تنزل حديثه إلى مرتبة الحسن، إذ لا خلاف في عدالته وفقهه، وأن الغالب عليه الضبط، لكن قد يغلط أحياناً، ثم هذا الحديث مما يعرف من حفظه ليس مما ينكر، لأنه سنة مدنية هو محتاج إليها في فقهه، ومثل هذا يضبط الفقيه. وللحديث شواهد من غير طريقه، منها: ما روى عن علي بن الحسن أنه رأى رجلاً يجئ إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيدخل فيها فيدعو فنهاه، وقال: ألا أحدثكم سمعته من أبي، عن جدي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، فإن تسليمكم يبلغني أينما كنتم. ومنها: ما روي عن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا في بيوتكم، ولا تتخذوها قبوراً، ولا تتخذوا بيتي عيداً، وصلوا عليّ وسلموا، فإن صلاتكم وسلامكم يبلغني أينما كنتم. روى هذين الحديثين من طريق أبي يعلى الموصلى، الحافظ الضياء المقدسي فيما اختاره من الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين، وهو أعلى مرتبة من تصحيح الحاكم، وهو قريب من تصحيح الترمذي وأبي حاتم البستي، ونحوهما، فإن الغلط في هذا قليل، ليس هو مثل صحيح للحاكم، فإن فيها أحاديث كثيرة، يظهر أنها كذب موضوعة، فلهذا انحطت درجته عن درجة غيره. وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد: أخبرني سهل بن سهيل قال: رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر، فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى. فقال: هلم إلى العشاء، فقلت: لا أريده، فقال: ما لي رأيتك عند القبر؟ فقلت: سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم. فقال: إذا دخلت المسجد فسلم، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم، لعن الله اليهود النصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء. وقال سعيد بن منصور أيضا بسنده: عن أبي سعيد مولى المهرى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتخذوا قبري عيداً، ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا عليّ، فإن صلاتكم تبلغني. قال ابن تيمية: فهذان المرسلان: مرسل أبي سعيد مولى المهري أحد ثقات التابعين، ومرسل الحسن بن الحسن، من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث. لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين. فكيف وقد تقدم مسنداً-انتهى.
933-
قوله: (رغم) بكسر الغين وتفتح، أي لصق بالرغام، وهو تراب مختلط برمل كناية عن الذل والهلاك والخزي، رغِم يرغَم ورَغَم يَرغَم رَغْماً ورِغماً ورُغْماً، وأرغم الله أنفه، أي ألصقه بالرغام وهو التراب، هذا
أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة)) رواه الترمذي.
ــ
هو الأصل، ثم استعمل في الذل والعجز عن الانتصاف والانقياد على كره-انتهى. وهذا إخبار أو ادعاء. (أنف رجل) ذكر الرجل وصف طردي فإن المرأة مثل الرجل في ذلك. (ذكرت عنده) بالبناء للمفعول. (فلم يصل علي) قال الطيبي: الفاء استبعادية، وقيل: إنها للتعقيب فتقيد به ذم التراخي عن الصلاة عليه عند ذكره صلى الله عليه وسلم. قال الشوكاني في تحفة الذاكرين (ص25) : في الحديث دليل على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم عند ذكره؛ لأنه لا يدعو بالذل والهوان على من ترك ذلك إلا وهو واجب عليه-انتهى. (ثم انسلخ) أي انقضى. قال ابن حجر: وجه الإتيان بثم هنا أن بين ابتداء رمضان وانقضائه مهلة طويلة بخلاف سماع ذكره عليه السلام والصلاة عليه، فإنها تطلب عقب السماع من غير مهلة، وكذا بر الوالدين فإنه يتأكد عقب إحتياجهما المكنى عنه بالكبر. وقال الطيبي:"ثم" هذه استبعادية كما في قولك لصاحبك: بئس ما فعلت، وجدت مثل هذه الفرصة ثم لم تنتهزها. وكذلك الفاء في قوله "فلم يصل علي" و"فلم يدخلاه الجنة" ونظير وقوع الفاء موقع "ثم" الاستبعادية قوله تعالى. {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها} [57:18] في سورة الكهف، و {ثم أعرض عنها} [22:32] في السجدة. وقد تقرر أن قوله "رغم أنف فلان" كناية عن غاية الذل والهوان، وأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عبارة عن تعظيمه وتبجيله، فمن عظم رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمه الله ورفع قدره في الدارين، ومن لم يعظمه أذله الله وأهانه، فالمعنى بعيد من العاقل بل من المؤمن المعتقد أن يتمكن من إجراء كلمات معدودة على لسانه، فيفوز بعشر صلوات من الله عزوجل، ويرفع عشر درجات له، ويحط عشر خطيئات عنه، ثم لم يغنمه حتى يفوت عنه، فحقيق بأن يحقره الله تعالى. ويضرب عليه الذلة والمسكنة، وكذا شهر رمضان، شهر الله المعظم الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن وجد فيه فرصة تعظيمه بأن قام فيه إيماناً واحتساباً عظمه الله، ومن لم يعظمه يحقره الله، وتعظيم الوالدين مستلزم لتعظيم الله تعالى، ولذلك قرن الله الإحسان إليهما، وبرهما بتوحيده وعبادته في قوله:{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً} [23:17] ، فمستبعد ممن منح ووفق للإحسان إليهما لا سيما في حال كبرهما، وأنهما عنده في بيته كلحم على وضم، ولا كافل لهما سواه إن لم يغتنم هذه الفرصة، فجدير بأن يهان ويحقر شأنه-انتهى. (قبل أن يغفر له) قال الطيبي: الظاهر "ولم يغفر له" وإنما عدل تنبيهاً على أن تراخي الغفران من تقصيره، وكان حقه أن يغفر له قبل انسلاخه. (فلم يدخلاه) أي أو لم يدخله. (الجنة) لما كان دخول الجنة من الله تعالى بواسطة برهما والإحسان إليهما، أسند إليهما إسناداً مجازياً كما في قولك "أنبتت الربيع البقل" مبالغة، قاله الطيبي. (رواه الترمذي) في الدعوات وقال: حديث حسن غريب من هذا الوجه،
934-
(10) وعن أبي طلحة، ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والبشر في وجهه، فقال: إنه جاءني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد! أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً؟) رواه النسائي والدارمي.
935-
(11) وعن أبي بن كعب، قال: يا رسول الله!
ــ
وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه، والبزار في مسنده، والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح، وقد أورده الهيثمي في مجمع الزوائد. (ج10:ص164-167) من حديث ابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وعبد الله بن الحارث، وجابر بن سمرة، وأنس، وكعب بن عجرة، ومالك بن الحويرث، وأبي هريرة رضي الله عنهم. وأخرج مسلم في الأدب من صحيحه الجزء الثالث فقط من غير طريق الترمذي.
935-
قوله: (وعن أبي طلحة) هو زيد بن سهل الأنصاري الصحابي المشهور، وقد تقدم ترجمته. (جاء ذات يوم) أي ساعة من النهار. (والبشر) بكسر الباء اسم من الاستبشار، أي الطلاقة وآثار الفرح والسرور. (في وجهه) أي لائح في بشرته. (فقال) أي بعد سؤال الصحابة كما في رواية للنسائي: فقلنا: إنا لنرى البشر في وجهك، فقال إنه، الخ. وعند الدارمي: جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو يرى البشر في وجهه، فقيل: يا رسول الله: إنا لنرى في وجهك بشرا لم نكن نراه، قال: الخ. (إنه) أي الشأن. (جاني جبرئيل، فقال: إن ربك يقول: أما يرضيك يا محمد!) قال الطيبي: هذا بعض ما أعطى من الرضا في قوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [5:93] ، وهذه البشارة في الحقيقة راجعة إلى الأمة، ومن ثم تمكن البشر في أسارير وجهه صلوات الله وسلامه عليه حيث جعل وجهه ظرفاً ومكاناً للبشر والطلاقة. (أن لا يصلي عليك أحد من أمتك إلا صليت عليه عشراً) أن مصدرية والمعنى: أما يرضيك عدم صلاة أحد إلا مقرونة بعشر صلوات مني. (ولا يسلم) الخ. فيه دليل على أن السلام عليه كالصلاة، وأن الله سبحانه يسلم على من سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يصلي على من صلى على رسوله عشراً. (رواه النسائي) في الصلاة. (والدارمي) في الرقاق، وزاد الدارمي: قال يعني النبي صلى الله عليه وسلم: فلت بلى. وأخرجه أيضاً أحمد في مسنده. (ج4:ص29، 30) وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه. (ج2:ص420) وابن أبي شيبة في مصنفه، وفي سنده عندهم سليمان الهاشمي مولى الحسن ابن علي وهو مجهول كما في التقريب، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال النسائي: سليمان هذا ليس بالمشهور، والحديث صححه الحاكم ووافقه الذهبي وله طريق آخر عن أبي طلحة عند أحمد وغيره، وشاهد من حديث أنس عند الحاكم فالحديث صحيح.
935-
قوله: (قال: قلت: يارسول الله!) أول الحديث عند الترمذي هكذا: قال (أى أبي بن كعب) كان
إني أكثر الصلاة عليك. فكم أجعل لك من صلاتي؟ فقال: ما شئت. قلت: الربع؟ قال: ما شئت. فإن زدت فهو خير لك. قلت: النصف؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك. قلت: فالثلثين؟ قال: ما شئت، فإن زدت فهو خير لك، قلت: أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذا تكفي همك، ويكفر لك ذنبك))
ــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناس! أذكروا الله، أذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه. قال أبي: فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! (إني أكثر الصلاة) أي الدعاء، فالمراد بالصلاة هنا الدعاء، ومن جملته الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس المراد الصلوات ذات الأذكار والأركان. (فكم أجعل لك من صلاتي؟) أي بدل دعائي الذي أدعو به لنفسي، قاله القاري. وقال المنذري في الترغيب، معناه: أكثر الدعاء فكم أجعل لك من دعائي صلاة عليك؟. (ما شئت) أي اجعل مقدار مشيئتك. (الربع) بضم الباء وتسكن، أي اجعل ربع أوقات دعائي لنفسي مصروفاً للصلاة عليك. (أجعل لك صلاتي كلها) أي أصرف بصلاتي عليك جميع الزمن الذي كنت أدعو فيه لنفسي. (إذا) بالألف منوناً. (تكفي) مخاطب مبني للمفعول. (همك) مصدر بمعنى المفعول، وهو منصوب على أنه مفعول ثان لتكفي، فإنه يتعدى إلى مفعولين، والمفعول الأول المرفوع بما لم يسم فاعله، وهو أنت، والهم ما يقصده الإنسان من أمر الدنيا والآخرة، يعني إذا صرفت جميع أزمان دعائك في الصلاة على كفيت ما يهمك من أمور دنياك وآخرتك، أي أعطيت مرام الدنيا والآخرة، فاشتغال الرجل بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يكفي في قضاء حوائجه ومهماته. (ويكفر) بنصب الفاء من التكفير. (ذنبك) بضم الباء الموحدة. ولفظ الترمذي "ويغفر ذنبك". وفي هاتين الخصلتين أي كفاية الهم ومغفرة الذنب جماع خير الدنيا والآخرة، فإن من كفاه الله همه سلم من محن الدنيا وعوارضها، لأن كل محنة لا بد لها من تأثير الهم وإن كانت يسيرة، ومن غفر الله ذنبه سلم من محن الآخرة؛ لأنه لا يوبق العبد فيها إلا بذنوبه. قال التوربشتي: معنى الحديث: كم أجعل لك من دعائي الذي أدعو به لنفسي؟ ولم يزل يفاوضه ليوقفه على حد من ذلك، ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم أن يحد له ذلك لئلا تلتبس الفضيلة بالفريضة أولا، ثم لا يغلق عليه باب المزيد ثانياً، فلم يزل يجعل الأمر إليه داعيا لقرينة الترغيب والحث على المزيد، حتى قال: أجعل صلاتي كلها لك، أي أصلي عليك بدل ما أدعو به لنفسي، فقال: إذا تكفي همك، أي ما أهمك من أمر دينك ودنياك، وذلك لأن الصلاة عليه مشتملة على ذكر الله تعالى وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم، والاشتغال بأداء حقه عن أداء مقاصد نفسه، وإيثاره بالدعاء على نفسه ما أعظمه، من خلال جليلة الأخطار، وأعمال كريمة الآثار. قال الطيبي: وقد تقرر أن العبد إذا صلى مرة على النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عزوجل عشرة، وأنه إذا صلى وفق الموافقة لله تعالى دخل في زمرة الملائكة المقربين في قوله تعالى:{إن الله وملائكته يصلون على النبي}
رواه الترمذي.
936-
(12) وعن فضالة بن عبيد، قال: ((بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ دخل رجل فصلى، فقال: اللهم اغفرلي وارحمني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجلت أيها المصلي! إذا صليت فقعدت، فاحمد الله بما هو أهله، وصل علي، ثم ادعه. قال: ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أيها المصلي! ادع تجب.
ــ
[33: 56] . فأنى يوازي هذا دعائه لنفسه؟ - انتهى. (رواه الترمذي) . أي في الزهد وقال: حديث حسن، وأخرجه أيضاً أحمد، والحاكم. (ج2: ص421) وصححه، وفي رواية لأحمد عنه، قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال: إذاً يكفيك الله تبارك وتعالى ما أهمك من دنياك وآخرتك. قال المنذري: إسناد هذه الرواية جيدة، وأخرج الطبراني بإسناد حسن، عن محمد بن يحي بن حبان، عن أبيه، عن جده: أن رجلاً قال: يا رسول الله! أجعل ثلث صلاتي عليك؟ قال: نعم إن شئت. قال الثلثين؟ قال: نعم إن شئت. قال: فصلاتي كلها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا يكفيك الله ما همك من أمر دنياك وآخرتك.
936-
قوله: (فضالة) بفتح الفاء بزنة سحابة. (بن عبيد) بالتصغير تقدم ترجمته. (فصلى، فقال) أي في آخر صلاته، وفي رواية النسائي: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في الصلاة، وفي بعض النسخ في صلاته. (اللهم اغفرلي وارحمني) وعند النسائي: لم يحمد الله ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم. (عجلت) بكسر الجيم ويجوز الفتح والتشديد، قاله الأبهري، أي حين تركت الترغيب في الدعاء وعرضت السؤال قبل الوسيلة، أي الحمد لله والصلاة على النبي. وفيه إشارة إلى أن حق السائل أن يتقرب إلى المسؤل منه قبل طلب الحاجة بما يوجب له الزلفى عنده، ويتوسل بشفيع له بين يديه ليكون أطمع في الإسعاف، وأرجى بالإجابة، فمن عرض السؤال قبل تقديم الوسيلة فقد استعجل، ولذا قال صلى الله عليه وسلم مؤدباً لأمته. (إذا صليت) بالخطاب الخاص المراد بع العام، يدل على ذلك رواية النسائي، ثم علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقعدت) قال الطيبي: إما عطف على مقدر، أي إذا صليت وفرغت فقعدت للدعاء فاحمد الله، وإما عطف على المذكور، أي إذا كنت مصلياً فقعدت للتشهد فاحمد الله، أي اثن عليه بقولك "التحيات" انتهى. قال القاري: ويؤيد الأول إطلاق قوله: (فاحمد الله بما هو أهله) من كل ثناء جميل. قلت: ويؤيد كونه قبل الفراغ من الصلاة رواية النسائي المذكورة بلفظ: "يدعو في الصلاة". والروايات بعضها يفسر بعضاً. (ثم ادعه) بهاء الضمير، وقيل: بهاء السكت. (قال) أي فضالة ابن عبيد الراوي للحديث. (فحمد الله وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم) أي ولم يدع. (تجب) على بناء المجهول مجزوما على جواب
رواه الترمذي وروى أبوداود والنسائي نحوه.
937-
(13) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنت أصلي والنبي صلى الله عليه وسلم،
ــ
الأمر دلهما عليه السلام على الكمال، وزاد النسائي في روايته "وسل تعط". وروى أبوداود عن فضالة بن عبيد، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يدعو في صلاته لم يمجد الله، ولم يصل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجل هذا، ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه والثناء عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء. وأخرجه أيضاً أحمد (ج6: ص18) والترمذي وصححه، وابن خزيمة، والحاكم، والبيهقي. قال العلامة الأمير اليماني السبل: الحديث دليل على وجوب ما ذكر من التحميد، والثناء، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، والدعاء بما شاء، وهو موافق في المعنى لحديث ابن مسعود وغيره؛ لأن أحاديث التشهد تتضمن ما ذكر من الحمد والثناء، وهي مبنية لما أجمله هذا. ويأتي الكلام في الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم، وهذا إذا ثبت أن هذا الدعاء الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك الرجل كان في قعدة التشهد، وإلا فليس في هذا الحديث دليل على أنه كان ذلك حال قعدة التشهد، إلا أن ذكر المصنف. (أي الحافظ ابن حجر) له هنا يدل على أنه كان في قعود التشهد، وكأنه عرف من سياقه- انتهى. قلت: وكذا يدل على ذلك صنيع البغوي في المصابيح كما لا يخفى. والحديث قد استدل به القائلون بوجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، قال الأمير اليماني: قد ثبت وجوب الدعاء في آخر التشهد كما عرفت من الأمر به، والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم قبل الدعاء واجبة لما عرفت من حديث فضالة، وبهذا يتم إيجاب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم بعد التشهد قبل الدعاء الدال على وجوبه-انتهى. قال الحافظ: قد طعن ابن عبد البر في الاستدلال بحديث فضالة للوجوب فقال: لو كان كذلك لأمر المصلي بالإعادة كما أمر المسيء صلاته، وكذا أشار إليه ابن حزم. وأجيب باحتمال أن يكون الوجوب عند فراغه، ويكفي التمسك بالأمر في دعوى الوجوب-انتهى. (رواه الترمذي) في الدعوات من طريق رشدين بن سعد، عن أبي هانيء الخولاني، عن أبي الجنبي، عن فضالة، وقال: حديث حسن، وقد رواه حيوة بن شريح عن أبي هانيء الخولاني-انتهى. قلت: أخرج من طريق حيوة أحمد، وأبوداود، والترمذي أيضاً، وقد ذكرنا لفظه، ورواية الترمذي التي ذكرها المصنف، عزاها الهيثمي للطبراني، وقال: فيه رشدين بن سعد، وحديثه في الرقاق مقبول، وبقية رجاله ثقات- انتهى. وأخرجها أيضاً النسائي في باب التمجيد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة لكن من طريق ابن وهب عن أبي هانيء. (وروى أبوداود) قد تقدم لفظه. (والنسائي ونحوه) أي بمعناه. ذكر النسائي مع أبي داود لا يخلو عن نظر؛ لأن المتبادر منه أن رواية النسائي مثل رواية أبي داود، والأمر ليس كذلك، فكان الأولى أن يقول: رواه الترمذي، والنسائي، واللفظ للترمذي، وروى أبوداود، والترمذي أيضاً نحوه، والله أعلم.
937-
قوله: (كنت أصلي) أي الصلاة ذات الأركان بدليل قوله الآتي: فلما جلست. (والنبي صلى الله عليه وسلم) أي حاضر