الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: وأنا من المسلمين. ثم قال: ((اللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك. ثم يقرأ)) رواه النسائي.
(12) باب القراءة في الصلاة
{الفصل الأول}
828-
(1) عن عبادة بن الصامت، قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب))
ــ
(قال: وأنا من المسلمين) بدل: "وأنا أول المسلمين" وفيه نظر؛ لأن النسخ الموجودة عندنا من سنن النسائي من طبعة الهند ومصر كلها مطبقة على عكس ما ذكره المصنف، فقوله:"وأنا من المسلمين" إنما هو في حديث جابر، لا في حديث محمد بن مسلمة، ولفظ ابن مسلمة:"وأنا أول المسلمين"، وهذا عكس ما قال المصنف، ولا أدري هل وقع الخطأ في نسخ سنن النسائي الموجودة الحاضرة عندنا أو زاغ بصر المصنف فأخطأ وسها في بيان الفرق بين الروايتين، الله أعلم. (ثم قال) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم (سبحانك وبحمدك) قال في اللمعات: اعلم أن: "سبحانك" مصدر مضاف مفعول مطلق للنوع أي أسبحك تسبيحاً لائقاً بجنابك الأقدس، والباء في:"بحمدك" للملابسة، والواو للعطف، والتقدير"وأسبحك تسبيحاً متلبساً بحمدك" فيكون المجموع في معنى:"سبحان الله والحمد لله" وهو أظهر الوجوه- انتهى. (رواه النسائي) .
(باب القراءة في الصلاة) اعلم أن القراءة في الصلاة فرض عند جمهور علماء الأمة، فعند الشافعي ومالك وأحمد في المشهور، والصحيح من مذهبه في كلها، وعند الحنفية في الركعتين فقط. والحق ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة كما سيأتي. ثم الفرض عند الحنفية مطلق القراءة، والفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة، يأثم من يتركها، وتجزئ الصلاة بدونها، وقالت الأئمة الثلاثة بتعيين الفاتحة، فهي فرض عندهم، لا تصح الصلاة بدونها، وهو الحق. قال ابن قدامة في المغني (ج1: ص528) : يجب قراءة الفاتحة في كل ركعة في الصحيح من المذهب، وهذا مذهب مالك والأوزاعي والشافعي، وقال ابن حزم في المحلي (ج3: ص236) : وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء- انتهى.
828-
قوله. (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) أي فيها كما في مسند الحميدى ورواية البيهقي والإسماعيلي وأبي نعيم، وهذا يعين أن المراد قراءة الفاتحة في نفس الصلاة، وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة، وفاتحة كل شيء مبدأه الذي يفتح به ما بعده، افتتح فلان كذا ابتدأ به. قال ابن جرير في تفسيره (ج1: ص35) : وسميت فاتحة الكتاب؛ لأنها يفتتح بكتابتها المصاحف ويقرأ بها في الصلاة فهي فواتح لما يتلوها من سور القرآن في الكتابة والقراءة، وسميت أم القرآن لتقدمها على سائر سور القرآن غيرها، وتأخر ما سواها خلفها ف القراءة والكتابة
وذلك من معناها شبيه بمعنى فاتحة الكتاب، وإنما قيل لها لكونها كذلك أم القرآن تسمية العرب كل جامع أمراً أو مقدماً لأمر إذا كانت له توابع تتبعه، هو لها إمام جامع أماً – انتهى. وقال ابن منظور في لسان العرب. (ج1: ص297) : وأم الكتاب فاتحة؛ لأنه يبتدأ بها في كل صلاة، قال: وجاء في الحديث أن أم الكتاب هي فاتحة الكتاب؛ لأنها هي المقدمة أمام كل سورة في جميع الصلوات، وابتدئ بها في المصحف فقدمت– انتهى. والحديث دليل على أن قراءة الفاتحة في الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها، وأنه لا تصح صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فيها. قال الشاه ولي الله في حجته. (ج2: ص4) تحت قوله: الأمور التي لا بد منها في الصلاة: وما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الركنية كقوله: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وقوله: "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع والسجود" وما سمي الشارع الصلاة به، فإنه تنبيه بليغ على كونه ركنا في الصلاة- انتهى. وحديث عبادة هذا رواه الدارقطني وابن خزيمة وابن حبان، وغيرهم بإسناد صحيح بلفظ: لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب. وهذه الرواية نص صريح في ركنية الفاتحة لا تحتمل تأويلاً. وأجاب من قال بعدم فرضية الفاتحة وهو الحنفية عن حديث الباب بأن المراد بالنفي في قوله: "لا صلاة" نفى الكمال، أي لا صلاة كاملة. ورد هذا الجواب بوجهين: الأول: أن رواية الدارقطني وغيره بلفظ: "لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" لا تحتمل تأويلاً، بل هي تبطل تأويلهم هذا إبطالاً صريحاً؛ لأن النفي فيها نفي الإجزاء أي نفي الكفاية فلا يصح حملها على الكفاية مع نفى الكمال. والثاني: أن النفي في قوله: "لا صلاة" إما أن يراد به نفي الحقيقة، أو نفي الصحة أو نفى الكمال، فالأول حقيقة والثاني والثالث مجاز، والثاني أعني نفي الصحة أقرب المجازين إلى الحقيقة، والثالث أعني نفى الكمال أبعدهما، فحمل النفى على الحقيقة واجب إن أمكن، وإلا فحمله على أقرب المجازين واجب ومتعين، ومع إمكان الحقيقة أو أقرب المجازين، لا يجوز حمله على أبعد المجازين. قال الشوكاني: الحديث يدل على تعيين الفاتحة في الصلاة، وأنه لا يجزئ غيرها؛ لأن النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات إن أمكن انتفاءها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، لا إلى الكمال؛ لأن الصحة أقرب المجازين، والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب، وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في الفتح، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي، لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات؛ لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى إضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روى عن جماعة؛ لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة، وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى الذات؛ لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض، لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال، أما أولاً فلما ذكرناه، وأما ثانياً فرواية
الدارقطني المذكورة في الحديث، فإنها مصرحة بالأجزاء فتعين تقديره- انتهى. وقال الحافظ: إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إلى الحقيقة أولى من الحمل على أبعدهما، ونفي الإجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى ويؤيده رواية الإسماعيلي بلفظ:"لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب"، وأخرجه الدارقطني أيضاً بهذا اللفظ، وله شاهد من حديث أبي هريرة مرفوعاً بهذا اللفظ أخرجه ابن خزيمة، وابن حبان وغيرهما. ولأحمد من طريق عبد الله بن سوادة القشيري، عن رجل، عن أبيه مرفوعاً: لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن. وقال ابن الهمام في فتح القدير. (ج1: ص120) : وفيه أي في تقدير: "كاملة" نظر؛ لأن متعلق المجرور الواقع خبراً استقرار عام، فالحاصل:"لا صلاة كائنة" وعدم الوجود شرعاً هو عدم الصحة هذا هو الأصل، بخلاف:"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" الخ.: "لا صلاة للعبد الآبق" فإن قيام الدليل على الصحة أوجب كون المراد كوناً خاصاً أي كاملة، وعلى هذا فيكون من حذف الخبر لا من وقوع الجار والمجرور خبراً، فلذا عدل المصنف عنه إلى الظنية في الثبوت، وبه لا يثبت الركن؛ لأن لازمه نسخ الإطلاق بخبر الواحد، وهو يستلزم تقديم الظني على القاطع، وهو لا يحل، فيثبت به الوجوب، فيأثم بترك الفاتحة ولا تفسد– انتهى. وقال الشيخ الآلوسي في تفسيره روح المعاني. (ج9: ص210) : ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهو ظاهر في المقصود. إذ التقدير: "لا صلاة صحيحة إلا بها" واعترض بجواز أن يكون التقدير: "لا صلاة كاملة" فإنه لما امتنع نفي مسمى الصلاة لثبوته دون الفاتحة لم يكن بد من صرفه إلى حكم من أحكامها، وليس الصرف إلى الصحة أولى من الصرف إلى الكمال. وأجيب بأنا لا نسلم امتناع دخول النفي على مسماها؛ لأن الفاتحة إذا كانت جزأ من ماهية الصلاة تنتفي الماهية عند عدم قراءتها فيصح دخوله على مسماها، وإنما يمتنع لو ثبت أنها ليست جزءاً منها، وهو أول المسئلة سلمناه لكن لا نسلم أن صرفه إلى الصحة ليس أولى من صرفه إلى الكمال، بل هو أولى؛ لأن الحمل على المجاز الأقرب عند تعذر الحمل على الحقيقة أولى بل واجب بالإجماع، ولا شك أن الموجود الذي لا يكون صحيحاً أقرب إلى المعدوم من الموجود الذي لا يكون كاملاً- انتهى. وقال الشيخ أبوالحسن السندي في حاشية النسائي. (ج2: ص137) وابن ماجه. (ج1: ص277) : ثم قد قرروا أن النفي لا يعقل إلا مع نسبته بين أمرين فيقتضي نفى الجنس أمراً مستنداً إلى الجنس ليستقل النفي مع نسبته، فإن كان ذلك الأمر مذكور في الكلام فذلك، وإلا يقدر من الأمور العامة كالكون والوجود، وأما الكمال فقد حقق الكمال ضعفه؛ لأنه مخالف لا يصار إليه إلا بدليل، والوجود في كلام الشارع يحمل على الوجود الشرعي دون الحسي، فمؤدي الحديث نفى الوجود الشرعي للصلاة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فتعين نفى الصحة، وما قاله أصحابنا: أنه من أحاديث الآحاد وهو ظني لا يفيد العلم، وإنما يوجب الفعل فلا يلزم منه الافتراض، ففيه أنه يكفي في المطلوب أنه يوجب العمل بمدلوله لا بشيء آخر، ومدلوله عدم صحة صلاة لم يقرأ فيها
بفاتحة الكتاب، فوجوب العمل به يوجب القول بفساد تلك الصلاة وهو المطلوب، فالحق أن الحديث يفيد بطلان الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب- انتهى. واعلم أنه قد تأول بعض الحنفية رواية الدارقطني المذكورة بأن المراد نفي الأجزاء الكاملة. قال القاري: هو محمول على الأجزاء الكاملة. وقال الشيخ محمد أنور: لم لا يجوز أن يكون المراد من نفي الإجزاء نفي كمال الإجزاء كما في قوله: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان. عند البخاري في الجهاد وفي المغازي من حديث سهل بن سعد قال: ليجعله نظيراً لقوله صلى الله عليه وسلم: لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب. قلت: حمل الإجزاء في رواية الدارقطني على الإجزاء الكامل تحكم صريح، وإدعاء محض، وتعصب بحت، بل هو تحريف للحديث؛ لأنه ليس بعد الإجزاء إلا البطلان، فلا جوز حمله على نفي كمال الإجزاء، ولا يصح أن يجعل قول القائل:"ما أجزأ منا اليوم أحد" الخ. في حديث سهل نظيرة لما في رواية الدارقطني؛ لأن قوله: "كما أجزأ فلان" قرينة صريحة على أن المراد بنفي الإجزاء فيه نفي إجزاء مخصوص، أي إجزاء يشبه إجزاء فلان، لا نفي الإجزاء رأساً، بخلاف رواية الدارقطني فإنه ليس فيها شيء يشير إلى حمله على الإجزاء المخصوص، بل فيها نفي الإجزاء مطلقاً من غير تقييد وتخصيص فحمله على الإجزاء الكامل تحكم محض ليس عليه آثارة من علم فهو مردود على قائله. تنبيه: قد تقدم أن مذهب الحنفية أن قراءة الفاتحة ليست بفرض بل هي واجبة. قالوا: الفرض عندنا مطلق القرآن لقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] . فقد أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقاً، وتقييده بالفاتحة بالسنة زيادة على النص القرآني، وذا لا يجوز؛ لأنه نسخ فعملنا بالكتاب والسنة فقلنا: إن أدنى ما يطلق عليه القرآن فرض لكونه مأموراً به، وقراءة الفاتحة واجبة يأثم من يتركها، وتجزأ الصلاة بدونها ولا تفسد وأجاب عنه شيخنا في شرح الترمذي: بأن إثبات فريضة مطلق القرآن بهذه الآية مبني على أن المراد من قوله تعالى: {فاقرؤا} قراءة القرآن بعينها وهو ليس بمتفق عليه بل فيه قولان. قال الرازي في تفسيره. (ج8: ص345) : فيه قولان: الأول أن المراد من هذه القراءة الصلاة، أي فصلوا ما تيسر عليكم. والقول الثاني: أن المراد قراءة القرآن بعينها- انتهى. وهكذا في عامة كتب التفسير، والقول الثاني فيه بُعد عن مقتضى السياق. قال الشيخ الآلوسي البغدادي في تفسيره. (ج9: ص209) : أي فصلوا ما تيسر لكم من صلاة الليل، عبر عن الصلاة بالقراءة كما عبر عنها بسائر أركانها. وقيل: الكلام على حقيقته من طلب قراءة القرآن بعينها، وفيه بُعد عن مقتضى الساق – انتهى كلامه. فلما ظهر أن في قوله تعالى:{فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] القولين المذكورين، وأن القول الثاني فيه بُعد، لاح لك أن الاستدلال به على فريضة مطلق القراءة غير صحيح، ولو سلمنا أن المراد هو القول الثاني أعني قراءة القرآن بعينها فحديث الباب مشهور بل متواتر، قال الإمام البخاري في جزء القراءة (ص4) : تواتر الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلا بقراءة أم القرآن. والزيادة بالحديث المشهور جائز عند الحنفية. على أن قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} عام مخصوص منه البعض فهو ظني، فلا يدل على فرضية مطلق القراءة، ويجوز تخصيصه ولو بالآحاد. قال الملاجيون في تفسيره. () :
ثم أقل القراءة فرضاً عندنا آية واحدة طويلة كآية الكرسي وغيرها، أو ثلاث آيات قصيرة كـ {مدهامتان} ، وهذا هو الأصح. وقيل: إنه واحدة، طويلة كانت أو قصيرة، وذلك مما لا يعتد به، ينادي عليه كتب الفقه. وعلى كل تقدير يكون ما دون الآية مخصوصاً من هذا العام، فيكون العام ظنياً، فينبغي أن لا يدل على فرضية القراءة، وأن يعارضه الحديث حجة للشافعي_انتهى كلامه. وأما ما قيل: من أن ما دون الآية لا يسمى قراءة القرآن عرفاً، والعرف قاض على الحقيقة اللغوية فهذا دعوى لا دليل عليها، ويلزم أن يكون {مدهامتان} [55: 64] التي هي كلمة واحدة قراءة القرآن، ولا يكون أكثر آية المداينة التي هي كلمات كثيرة قراءة القرآن، وهذا كما ترى، وأيضاً يلزم منها أنه لو قرأ أحد نصف آية المداينة في الصلاة لا تجوز، وعامة الحنفية على جوازها. قال ابن الهمام في فتح القدير: ولو قرأ نصف آية المداينة قيل: لا يجوز لعدم الآية، وعامتهم على الجواز- انتهى. قلت: وقد رد أيضاً الشيخ محمد أنور استدلال الحنفية بقوله: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} على فرضية مطلق القرآن حيث قال: ما زعمه الحنفية من أن المراد من النص أي قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} القراءة مطلقاً ولو بآية مرجوح، لأن المراد منه ما تفعله الأمة الآن أي الفاتحة مع السورة، وإلا يلزم حمل القرآن على الكراهة ودرجها في النظم، نعم كون هذا المراد مراداً بالنص ظني، ولذا كانت قراءة الفاتحة مع السورة واجبة. وقال: إن الله تعالى لما علم الاستثقال عليه في القيام بالليل رخص لهم أن لا يطولوه كما كانوا يفعلونه في الليل كله أو أكثره، بل لهم أن يقوموه حسب ما تيسر لهم فهذا تيسير في حصص الليل لا في الفاتحة كما فهموه –انتهى. تنبيه آخر: قد استدل بحديث عبادة على فرضية قراءة الفاتحة على المقتدي، وهو استدلال صحيح لأن لفظ:"من" فيه من ألفاظ العموم فهو شامل للمأموم قطعاً كما هو شامل للإمام والمنفرد، ولم يرد دليل على تخصيصه بمصل دون مصل. قال ابن عبد البر في التمهيد: وقال آخرون: لا يترك أحد من المأمومين قراءة فاتحة الكتاب فيما جهر الإمام بالقراءة، لأن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" عام لا يخصه شيء، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخص بقوله ذلك مصلياً من مصل-انتهى. وقال الكرماني في شرح صحيح البخاري: وفي الحديث دليل على أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد والمأموم في الصلوات كلها-انتهى. ولأن لفظ صلاة في قوله: "لا صلاة" عام فيشمل كل صلاة فرضاً كانا أو نفلاً، سرية كانت أو جهرية، صلاة الإمام كانت أو صلاة المأموم أو صلاة المنفرد. قال الحافظ في الفتح تحت حديث عبادة: واستدل به على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم سوى أسر الإمام أم جهر؛ لأن صلاته صلاة حقيقة فتنتفي عند انتفاء القراءة-انتهى. وتخصيص من خص هذا الحديث بالإمام والمنفرد مما لا يلتفت إليه؛ لأن لا دليل على هذا التخصيص لا من كتاب ولا من سنة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخص إلا بدليل من الكتاب والسنة، ولا يجوز تخصيصه بقول أحد كائناً من كان. قال الخطابي بعد ذكر ما رواه أبوداود عن عبادة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعداً. قال سفيان لمن يصلي وحده
متفق عليه. وفي رواية لمسلم: ((لمن لم يقرأ بأم القرآن فصاعداً)) .
ــ
ما لفظه: قلت هذا عموم لا يجوز تخصيصه إلا بدليل-انتهى. وقيل: أراد سفيان بذلك قوله: "فصاعدا" كأنه خص ما يفهم منه من قراءة ما زاد على الفاتحة بالفذ والمنفرد، ويؤيده الأحاديث التي فيها المنع للمأموم من قراءة غير الفاتحة. وأما الاستدلال على التخصيص بقوله تعالى:{إذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} [7: 204] وبقوله عليه السلام: وإذا قرئ فأنصتوا، وبما روي:"من كان له إمام فإن قراءته له قراءة" فسيأتي الجواب عنه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وأخرجه البيهقي في كتاب القراءة بلفظ: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب خلف الإمام" قال: إسناده صحيح، والزيادة التي فيه صحيحة مشهورة من أوجه كثيرة. (وفي رواية لمسلم) والنسائي من طريق معمر عن الزهري. (لمن لم يقرأ بأم القرآن) سميت بها لكونها أصلاً ومنشأ له، إما لمبدئيتها له وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عزوجل والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، أو على جملة معانيه من الحكم النظرية والأحكام العملية. (فصاعداً) من الصعود وهو الارتفاع من سفل إلى علو، والصاعد اسم فاعل منه، ومعنى الصاعد هنا الزائد، وهو منصوب على الحال بفعل واجب الإضمار، أي فصعد القراءة صاعداً، يقال: أخذته بدرهم فصاعداً، نصب صاعدا في قولهم هذا على الحال، وحذف صاحب الحال والعامل فيه تخفيفا لكثرة الاستعمال، والتقدير: أخذته بدرهم فذهب الثمن صاعداً، فالثمن صاحب للحال، والفعل الذي هو"ذهب" العامل في الحال. قال في الحاشية العصامية على الفوائد الضيائية قوله: ويجب حذف العامل، الخ. وكذا في حال تبين ازدياد ثمن أو غيره مما دخله الفاء أو ثم نحو: بعته بدرهم فصاعداً، وقرأت جزأ من القرآن فصاعداً، أي فذهب القراءة في الصعود يعنى ذهبت القراءة الزائدة، وبنحوه ذكر الرضي في شرح الكافية. (ص153)، وسيبوية في الكتاب. (ج1: ص147) وهذا اللفظ لا يتغير سواء كان حالاً من مذكر أو مؤنث، وتقدير الكلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط أو بأم القرآن في حال كون قراءته زائدة على أم القرآن. والمراد أن أقل ما تجزئ به الصلاة وأدنى ما يترتب عليه الجواز الفاتحة فإن زاد فهو حسن. وقيل: صاعداً صفة وقعت مقام المصدر. كما تقول: قم قائماً، وقع قائماً موضع قياماً، وعلى هذا فصاعدا منصوب على أنه مفعول مطلق لفعل مقدر، أي اصعد صاعداً، أي إلى ما عدا أم القرآن، يعني اقرأ قراءة زائدة على الفاتحة لكن الأمر بقراءة ما زاد على الفاتحة ليس للوجوب لما سيأتي من الأحاديث الدالة على عدم وجوب ما زاد، والفاء في الصورة زائدة لكنها لازمة؛ لأنه لم ترد هذه الكلمة في لغة العرب إلا بالفاء أو بثم، وفي الصورة الأولى عاطفة، والعطف لا يقتضي التشريك من كل الوجوه فهو من عطف غير الواجب على الواجب، والمقصود حصر صحة الصلاة في الفاتحة سواء كان معها سورة أخرى أو لا. وقيل: تقدير الكلام فما كان صاعداً فهو أحسن وعلى هذا"صاعداً" خبر لكان المحذوف. قال بعض الحنفية: قوله: "فصاعداً" يدل على أن قراءة ما زاد على الفاتحة من السورة واجبة في الصلاة، وعند الجمهور ليس هذا الحكم إلا لمن كان إماماً أو يصلي وحده، لا على المأموم. فكذلك يحمل حكم قراءة الفاتحة عليهما لا على المأموم، ويؤيد ما روى أحمد وغيره عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد. وأخرج أبوداود وغيره عن أبي سعيد، قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر-انتهى. قلت: الاستدلال بقوله:: "فصاعداً" على وجوب ما زاد على الفاتحة وجعله قرينة لحمل قوله: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" على الإمام والمنفرد خاصة دون المقتدي، ليس بصحيح، فإن هذه الزيادة معلولة. قال في التلخيص (ص87) : قال ابن حبان: تفرد بها معمر عن الزهري وأعلها البخاري في جزء القراءة- انتهى. قلت: قال البخاري في جزء القراءة (ص2) : عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً" وقوله: "فصاعداً" غير معروف. ويقال: إن عبد الرحمن بن إسحاق تابع معمراً، وأن عبد الرحمن ربما روى عن الزهري ثم أدخل بينه وبين الزهري غيره، ولا نعلم أن هذا من صحيح حديثه أم لا. وقال (ص17) : وليس هذا يعني عبد الرحمن بن إسحاق ممن يعتمد على حفظه إذا خالف من ليس بدونه، وقال إسماعيل بن إبراهيم: سألت أهل المدينة عن عبد الرحمن فلم يحمد مع أنه لا يعرف له بالمدينة تلميذاً إلا أن موسى الزمعي روى عنه أشياء في عدة منها اضطراب – انتهى. وأما ما ذكر من متابعة سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي داود، ففيه أن هذا الحديث من هذا الطريق أعنى من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري أخرجها البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه والدارقطني وابن أبي شبة وأبوعوانة وغيرهم، لكن ليس في رواية واحد منهم هذه الزيادة، وأيضاً قد روى البخاري في جزء القراءة حديث عبادة من طريق سفيان، ثم ذكر زيادة معمر هذه، وقال: عامة الثقات لم يتابع معمراً في قوله: "فصاعداً"، فهذا يدل على أن هذه الزيادة لم يعرفها البخاري في رواية سفيان، فالظاهر أن زيادة قوله:"فصاعداً" في رواية سفيان وهم من أبي داود أو ممن فوقه بأن أدرج زيادة معمر في رواية سفيان، ولا بُعد فيه فإن الثقة قد يهم. وأما ما قيل من أن زيادة قوله:"فصاعداً" زيادة ثقة غير منافية لمن هو أوثق منه فتقبل، ففيه أن قبول الزيادة من الثقة ليس مجمعاً عليه بل فيه خلاف مشهور، فمن الناس من يقبل زيادة الثقة مطلقاً، ومنهم من لا يقبلها. قال الزيلعي في نصب الراية. (ج1: ص336) : والصحيح التفصيل، وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، ومن حكم في ذلك حكماً عاماً فقد غلط، بل كل زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها، وفي موضع يغلب على الظن صحتها، وفي موضع يجزم بخطأها كزيادة معمر ومن وافقه قوله:"وإن كان مائعاً فلا تقربوه" وإن كان معمر ثقة، فإن الثقة قد يغلط، وفي موضع يغلب على الظن خطأها كزيادة معمر في حديث ماعز الصلاة عليه، رواها البخاري في صحيحه، وسئل هل رواها غير معمر؟ فقال: لا. وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر: وقال فيه: "ولم يصل عليه" فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو عبد الرزاق، وقد اختلف عليه أيضاً، والصواب أنه قال:"ولم يصل عليه". وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة – انتهى كلام الزيلعي مختصراً. ومما يجب التنبه عليه أن الإطلاع على وهم الثقة وخطئه، والحكم بكون
الزيادة من الثقة صحيحة في موضع، وخطأ ووهماً في موضع، وكذا التوقف في أمرها في موضع، ليس إلا من شأن البخاري وأمثاله ممن رزقهم الله فهما ثاقباً، وحفظاً واسعاً، ومعرفة تامة بمراتب الرواة، وملكة قوية بالأسانيد والمتون، فلا يقبل في ذلك إلا قول البخاري، ومن كان من أهل هذا الشأن كعلي بن المديني، وأحمد بن حنبل، وأبي زرعة، والدارقطني وأبي حاتم وأمثالهم. وإذا كان الأمر كذلك فكون زيادة قوله:"فصاعداً" معلولة غير صحيحة، هو الراجح بل هو المتعين. ولو سلم صحتها فليست فيها دلالة على أن قراءة ما زاد على الفاتحة واجبة. قال الحافظ في الفتح: استدل به على وجوب قدر زائد، وتعقب بأنه ورد لدفع توهم قصر الحكم على الفاتحة. قال البخاري في جزء القراءة: هو نظير قوله: تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا- انتهى. يعني أن قوله: "فصاعداً" لبيان أدنى ما يترتب عليه الحكم مع شموله على فائدة أخرى وهي دفع توهم قصر الحكم على ما قبله، فكما أن ربع الدينار أدنى ما تقطع به اليد كذلك قراءة الفاتحة أدنى ما تجزئ به الصلاة، ولا يقتصر حكم صحة الصلاة على الفاتحة، بل تصح الصلاة في صورة الزيادة على الفاتحة أيضاً. وقال المظهر: قوله: "فصاعداً" أي فزائدا، وهو منصوب على الحال أي لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن فقط، أو بأم القرآن حال كون قراءته زائدة على أم القرآن- انتهى. وهذا يدل على أنه فهم منه التخيير فيما زاد على الفاتحة. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في أشعة اللمعات في تفسير قوله:"فصاعداً": بس بخواند فوق فاتحة وزيادة برآن، يعني فاتحة البتة مي بايد خواند، ومقتصر بر فاتحة هم نيست، واكر جيزبـ زيادة كند نيز درست است-انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي: لعلهم أي الذين ذهبوا إلى عدم وجوب ما زاد على الفاتحة يحملونه على معنى: "فما كان صاعداً فهو أحسن" والله أعلم. وقال صاحب العرف الشذى (ص145) : زعم الأحناف مراد الحديث وجوب الفاتحة ووجوب ضم السورة، ولكنه يخالف اللغة، فإن أرباب اللغة متفقون على أن ما بعد الفاء يكون غير ضروري، وصرح به سيبوية في باب الإضافة-انتهى. ومما يدل على كون قوله:"فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم وعدم وجوب ما زاد، ما روى ابن أبي شيبة عن عائشة مرفوعاً:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً". وعن عمران بن حصين قال: "لا يجوز صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وآيتين فصاعداً. وروى ابن عدي عن ابن عمر: "لا تجزئ المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعداً" كذا في كنز العمال. (ج4: ص96) وهذه الروايات وإن كانت ضعيفة لكنها تؤيد ما تقدم من أن قوله: "فصاعداً" لدفع توهم قصر الحكم على ما قبله، وأنه ليس فيه دلالة على وجوب ما زاد على الفاتحة. وأما حديث أبي هريرة بلفظ: "لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب وما زاد" فهو ضعيف، فإن مداره على جعفر بن ميمون، وقال أحمد فيه: ليس بقوي في الحديث. وقال ابن معين: ليس بذلك. وقال النسائي: ليس بثقة. وقال البخاري: ليس بشيء. وذكره يعقوب بن سفيان في باب من يرغب عن الرواية عنهم. وقال العقيلي في روايته عن أبي عثمان،
829-
(2) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي
خداج
ــ
عن أبي هريرة في الفاتحة: لا يتابع عليه. وأما حديث أبي سعيد بلفظ: "أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر". فقد صحح الحافظ سنده في الفتح والتلخيص لكن فيه نظر؛ لأن فيه قتادة وهو مدلس، وهو روى الحديث عن أبي نضرة بالعنعنة، فإن كان روايته عنه عند غير أبي داود بالتحديث فهي صحيحة، وإلا ففي صحتها نظر. قال البخاري في جزء القراءة: روى همام، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، قال: أمرنا نبينا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر، ولم يذكر قتادة سماعاً من أبي نضرة في هذا-انتهى. وأيضاً قد عارض حديثي أبي هريرة وأبي سعيد ما رواه الحاكم عن عبادة مرفوعاً: أم القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها عوضاً منها. ذكره الحافظ في التلخيص. قال: وله شواهد فساقها. وما رواه ابن خزيمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فصلى ركعتين، لم يقرأ فيهما إلا بفاتحة الكتاب. ذكره الحافظ في الفتح. وما رواه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة يقول: في كل صلاة يقرأ، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير-انتهى. وعلى هذا فلا يصح الاستدلال بقوله:"وما زاد وما تيسر" على وجوب قراءة ما زاد على الفاتحة، ولا يكون هو قرينة لحمل حكم قراءة الفاتحة للإمام والمنفرد دون المقتدي. واعلم أنه ضم السورة مع الفاتحة ليس بواجب عند الجمهور بل هو مستحب. قال الشيخ سلام الله الدهلوي في المحلى شرح المؤطا: قال الجمهور: إن ضم السورة بعد الفاتحة سنة، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد-انتهى. وقال الحافظ في الفتح: وفيه. (أى في حديث أبي هريرة: وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت، الخ) استحباب السورة أو الآيات مع الفاتحة، وهو قول الجمهور في الصبح والجمعة والأوليين من غيرهما، وصح إيجاب ذلك عن بعض الصحابة وهو عثمان بن أبي العاص، الخ. وبهذا ظهر أن ما تقدم من بعض الحنفية نسبة القول بوجوب ما زاد على الفاتحة من السورة إلى الجمهور ليس بصحيح.
829-
قوله: (من صلى) إماماً كان، أو مأموماً، أو منفرداً (صلاة) جهرية كانت أوسرية، فريضة أو نافلة. (لم يقرأ فيها بأم القرآن) أي فاتحة الكتاب. (فهي) أي صلاته. (خداج) بكسر الخاء المعجمة، أي ناقص نقص فساد وبطلان. قال المناوي في شرح الجامع الصغير: أي ذات خداج- بكسر الخاء- مصدر خدجت الناقة إذا ألقت ولدها ناقصاً فلا تصح، فاستعير للناقص، أي فصلاته ذات نقصان، أو خديجة: ناقصة نقص فساد وبطلان – انتهى. وقال العزيزي: فهي خداج – بكسر المعجمة -، أي فصلاته ذات نقصان نقص فساد وبطلان، فلا تصحح الصلاة بدونها ولو لمقتد عند الشافعي وجمهور العلماء. وقال الزمخشري في أساس البلاغة: ومن المجاز خدج الرجل فهو خادج إذا نقص عضو منه، وأخدجه الله فهو مخدج، وكان ذو الثدية مخدج اليد، وأخدج صلاته نقص بعض أركانها، وصلاتي مخدجة
- ثلاثاً- غير تمام. فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراء الإمام. قال: اقرأ بها في نفسك،
ــ
وخادجة وخداج وصفاً بالمصدر-انتهى. وقال الخطابي في معالم السنن (ج1: ص203) : فهي خداج معناه ناقصة نقص فساد وبطلان، تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها وهو دم لم يستبن خلقه فهي مخدج، والخداج اسم مبني منه-انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: قال أبوعبيد: أخدجت الناقة إذا أسقطت، والسقط ميت لا ينتفع به-انتهى. وقال الجزري: الخداج النقصان، يقال: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها قبل أوانه وإن كان تام الخلق، وأخدجته إذا ولدته ناقص الخلق، وإن كان لتمام الحمل-انتهى. وقال جماعة من أهل اللغة: خدجب (كنصر وضرب) وأخدجت إذا ألقت ولدها قبل أوانه لغير تمام أيام الحمل وإن كان تام الخلق. قلت: والمراد من إلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل وإن تم خلقه إسقاطها، والسقط ميت لا ينتفع به كما عرفت، فظهر من هذا كله أن المراد من قوله:"خداج" نقصان الذات أعني نقصان الفساد والبطلان، ويدل عليه ما رواه البيهقي في كتاب القراءة عن أبي هريرة مرفوعاً: لا يجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، قلت: فإن كنت خلف الإمام؟ قال: فأخذ بيدي وقال: اقرأ في نفسك يا فارسي!. قال البيهقي: رواه ابن خزيمة عن محمد بن يحيى محتجاً به على أن قوله في سائر الروايات: "فهي خداج" المراد به النقصان الذي لا تجزئ معه-انتهى. قال ابن عبد البر في الاستذكار: في حديث أبي هريرة هذا من الفقة إيجاب القراءة بالفاتحة في كل صلاة، وأن الصلاة إذا لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج، والخداج النقصان والفساد، من ذلك قولهم أخدجت الناقة إذا ولدت قبل تمام وقتها وقبل تمام الخلقة، وذلك نتاج فاسد. وقال الأخفش: خدجت الناقة إذا ألقت ولدها لغير تمام، وأخدجت إذا قذفت به قبل وقت الولادة وإن كان تام الخلق، وقد زعم من لم يوجب قراءة الفاتحة في الصلاة أن قوله:"خداج" يدل على جواز الصلاة؛ لأنه النقصان، والصلاة الناقصة جائزة، وهذا تحكم فاسد، والنظر يوجب في النقصان أن لا تجوز معه الصلاة؛ لأنها صلاة لم تتم، ومن خرج من صلاته قبل أن يتمها فعليه إعادتها تامة كما أمر، ومن ادعى أنها تجوز مع إقرار بنقصها فعليه الدليل ولا سبيل له إليه من وجه يلزم-انتهى. (ثلاثاً) أي قالها ثلاثاً. (غير تمام) بيان خداج أو بدل منه، وقيل تأكيد. قال الزرقاني: فهو حجة قوية على وجوب قراءتها في كل الصلاة _انتهى. قلت: قوله غير تمام يدل على تعين الفاتحة في الصلاة، وأنها لا يجزئ غيرها، ولا يقوم مقامها قراءة غيرها من القرآن لأن لفظ التمام يستعمل في الإجزاء، ويطلق بحسب الوضع على بعض ما لا تتم الحقيقة إلا به، ففيه دليل على كون الفاتحة من أجزاء الصلاة وأركانها. (فقيل لأبي هريرة) القائل هو أبوالسائب عبد الله بن السائب الأنصاري الراوي للحديث عن أبي هريرة، ففي رواية قال أي أبوالسائب: قلت: يأبا هريرة! (إنا نكون وراء الإمام) أي فهل نقرأ أم لا؟. (اقرأ بها في نفسك) أي سراً غير جهر، قاله القاري. وقال الباجي: أي بتحريك اللسان بالتكلم وإن لم يسمع نفسه. رواه سحنون عن ابن القاسم، قال: ولو أسمع نفسه يسيراً لكان أحب
فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: قسمت الصلاة
ــ
إلى –انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة (ص17) : المراد بقوله: "اقرأ بها في نفسك" أن يتلفظ بها سراً دون الجهر بها، ولا يجوز حمله على ذكرها بقلبه دون التلفظ بها لإجماع أهل اللسان على أن ذلك لا يسمى قراءة، ولإجماع أهل العلم على أن ذكرها بقلبه دون التلفظ بها ليس بشرط ولا مسنون، فلا يجوز حمل الخبر على ما لا يقول به أحد، ولا يساعده لسان العرب- انتهى. وقال النووي: معناه اقرأ سراً بحيث يسمع نفسك، وأما ما حمله بعض المالكية وغيرهم أن المراد تدبر ذلك وتذكره فلا يقبل؛ لأن القراءة لا تطلق إلا على حركة اللسان بحيث يسمع نفسه، ولهذا اتفقوا على أن الجنب لو تدبر القرآن بقلبه من غير حركة لسانه لا يكون قارئاً مرتكباً لقراءة الجنب المحرمة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوى في أشعة اللمعات: اقرأ بها في نفسك بخواني فاتحة را بس أمام نيز، أما آهسته جنانجه بشنوائي خودرا-انتهى. قلت: حقيقة القراءة في النفس هي القراءة سراً من غير جهر، قال تعالى:{اذكر ربك في نفسك} [7: 205] . قال السويطي: أي سراً. قال الجمل: أي أسمع نفسك. وقال في الهداية: إلا أن يقرأ الخطيب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه} [33: 56] الآية، فيصلي السامع في نفسه-انتهى. قال في الكفاية: قوله: "فيصلي السامع في نفسه" أي فيصلي بلسانه خفيا-انتهى. واعلم أنه قال بعض الحنفية: أن المراد بالقراءة في النفس: أن يقرأ على وجهه وعلى حياله، لا معاملة له مع غيره، ولا يقصد إسماعه، ويكون أمير نفسه، يقرأ لنفسه يعني يقرأ حال كونه منفرداً وفذاً لا مأموماً. وتعقب بأن حقيقة القراءة في النفس إنما هي الإسرار بالقراءة لا غير، وهو الذي فهمه مالك كما يظهر من تبويبة في المؤطا على هذا الحديث، وأما ما ذكره هذا البعض فهو معنى لنفسه لا في نفسه، ولذلك لم يخطر ما قاله هذا البعض ببال أحد ممن تقدم قبله من شراح الحديث وأصحاب المذاهب مع تداول الحديث وشهرته فيما بينهم، قال النووي: قول أبي هريرة هذا يؤيد وجوب الفاتحة على المأموم-انتهى وقال شيخنا في أبكار المنن (ص139) : وفي رواية أبي عوانة: "فقلت لأبي هريرة: فإني أسمع قراءة القرآن. فغمزني بيده فقال: يا فارسي أو ابن الفارسي! اقرأ بها في نفسك. وفي رواية للبخاري في جزء القراءة قلت: يا أبا هريرة! كيف أصنع إذا كنت مع الإمام وهو يجهر بالقراءة؟ قال ويلك يا فارسي! اقرأ بها في نفسك. وكذلك في رواية للبيهقي في جزء القراءة؛ فظهر بهذه الروايات أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية، وفي إفتاء بهذا دلالة واضحة على أن حديثه: "من صلى صلاة لم يقرأ بأم القرآن فهي خداج" باق على عمومة، شامل للإمام والمأموم والمنفرد، لأن راوي الحديث أعرف بالمراد منه من غيره-انتهى.. (فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) هذا استدلال من أبي هريرة على ما أفتى به من القراءة للمأموم، وعدول إلى الحديث الآتي لبيان دليل آخر على وجوب الفاتحة. (قال الله تعالى: قسمت) بصيغة المتكلم. (الصلاة) بالنصب على المفعولية، قال العلماء: المراد بالصلاة هنا الفاتحة، سميت بذلك؛ لأنها لا تصح إلا بها كقوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة"، ففيه دليل على وجوبها
بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد:((الحمد لله رب العالمين)) قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال: ((الرحمن الرحيم)) قال تعالى: أثنى علي عبدي. وإذا قال: ((مالك يوم الدين)) قال: مجدني عبدي.
ــ
بعينها في الصلاة، والمراد قسمتها من جهة المعنى؛ لأن نصفها الأول تحميد لله تعالى وتمجيده، وثناء عليه، وتفويض إليه، والنصف الثاني سؤال وطلب وتضرع وافتقار، قاله النووي. وقال السندي: وجه الاستدلال أي على افتراض قراءة الفاتحة هو أن قسمة الفاتحة جعلت قسمة للصلاة، واعتبرت الصلاة مقسومة باعتبارها، ولا يظهر ذلك إلا عند لزوم الفاتحة فيها-انتهى. وقال الخطابي في المعالم (ج1: ص203) : المراد بالصلاة القراءة، يدل على ذلك قوله عند التفسير له والتفصيل للمراد منه إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، يقول الله: حمدني عبدي، إلى آخر السورة، وقد تسمى القراءة صلاة لوقوعها في الصلاة وكونها جزءاً من أجزائها، كقوله تعالى:{ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} [17: 110] قيل: معناه القراءة. وقال: {وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [78: 17] أراد صلاة الفجر فسمى الصلاة مرة قرآناً والقرآن مرة صلاة، لانتظام أحدهما الآخر، يدل على صحة ما قلناه قوله:"بيني وبين عبدي نصفين" والصلاة خالصة لله لا شرك فيها لأحد، فعقل أن المراد به القراءة، وحقيقة هذه القسمة منصرفة إلى المعنى، لا إلى متلو اللفظ، وذلك أن السورة من جهة المعنى نصفها ثناء ونصفها مسألة ودعاء، وقسم الثناء ينتهي إلى قوله تعالى:{إياك نعبد} وهو تمام الشطر الأول من السورة، وباقي الآية وهو قوله:{وإياك نستعين} من قسم الدعاء والمسألة، ولذلك قال: وهذه الآية بيني وبين عبدي. ولو كان المراد به قسم الألفاظ والحروف لكان نصف الآخر يزيد على الأول زيادة بينه فيرتفع معنى التعديل والتنصيف، وإنما هو قسمة المعاني كما ذكرته لك-انتهى. وقيل: التنصيف ينصرف إلى آيات السورة؛ لأنها سبع آيات، ثلاث ثناء وثلاث سؤال، والآية المتوسطة نصفها ثناء ونصفها دعاء. (ولعبدي ما سأل) أي بعينه إن كان وقوعه معلقاً على السؤال، وإلا فمثله من رفع درجة ودفع مضرة ونحوهما. وقيل المعنى: لعبدي ما سأل من أحد النصفين، فهو وعد من الله تعالى بإعطاء النصف الذي للعبد، ويحتمل أن يكون هذا وعداً لما وراء النصف الذي للعبد، يعني آذن لعبدي أن يسأل ما شاء غير النصف الذي له. (حمدني عبدي) الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري نعمة كان أو غيرها. (أثنى على عبدي) الثناء هو ذكر الخير باللسان على جهة التعظيم. (مالك يوم الدين) أي الحساب. وقيل: الجزاء، وخص بالذكر لأن الله تعالى هو المنفرد بالملك ذلك اليوم، ويجزاء العباد وحسابهم، ولا دعوى لأحد ذلك اليوم حقيقة ولا مجازا. وأما في الدنيا فلبعض العباد ملك مجازي، ويدعى بعضهم دعوى باطلة وكل هذا ينقطع في ذلك اليوم. (مجدني) أي عظمني، والتمجيد نسبة إلى المجد وهو العظمة، أي ذكرني بالعظمة والجلال. قال النووي: قوله: "حمدني عبدي" وأثنى على ومجدني" إنما قاله؛ لأن التحميد الثناء بجميل الفعال، والتمجيد الثناء بصفات الجلال، ويقال:
وإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال:{اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل))
ــ
"أثنى عليه" في ذلك كله، ولهذا جاء جواباً للرحمن الرحيم لاشتمال اللفظين على الصفات الذاتية والفعلية-انتهى. قيل: الرحمة رحمتان: رحمة ذاتية مطلقة امتنانية، وهي التي وسعت كل شيء لا سبب لها ولا موجب، وليست بمقابلة شيء، والأخرى هي الفائضة عن الرحمة الذاتية، مقيدة بشروط موجبه لها من أعمال وأحوال وغيرهما، ومتعلق طمع إبليس هو الأول. (إياك نعبد) أي نخصك للعبادة. وقدم المعمول للاختصاص والحصر. (وإياك نستعين) أي نخصك بالاستعانة على العبادة وغيرها. (هذا بيني وبين عبدي) قال القرطبي: إنما قال الله تعالى هذا لأن في ذلك تذلل العبد لله تعالى وطلبه الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله وقدرته على ما طلب منه. وقال الباجي: معناه أن بعض الآية تعظيم للباري، وبعضها استعانة على أمر دينه ودنياه من العبد به. (ولعبدي ما سأل) من العون وغيره. وقيل: كرره تأكيداً، والمراد هو ما ذكره أولاً. (فإذا قال) العبد. (اهدنا الصراط المستقيم) قيل: هو بيان للمعونة المطلوبة، وقيل: إفراد لما هو أعظم مقصودا، أي ثبتناً على دين الإسلام أو طريق متابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام (صراط الذين أنعمت عليهم) من النبي ين والصديقين والشهداء والصالحين. (غير المغضوب عليهم) أي اليهود. (ولا الضالين) أي غير النصارى. (هذا لعبدي) أي مختص بالعبد؛ لأنه دعاء وسؤال يعود نفعه إلى العبد. (ولعبدي ما سأل) أي غير هذا، والمعنى: هذا متحقق وثابت لعبدي، وغيره مما يسأله موعود إجابته. والحديث قد استدل به على أن البسملة ليست من الفاتحة؛ لأن الفاتحة سبع آيات بالإجماع فثلاث في أولها ثناء، أولها:{الحمدلله} وثلاث دعاء، أولها:{اهدنا الصراط المستقيم} والرابعة متوسطة، وهي:{إياك نعبد وإياك نستعين} ؛ ولأنه لم يذكر البسملة في ما عددها ولو كانت منها لذكرها. ولأنه بدأ القراءة بالحمد لله رب العالمين، ولو كانت البسملة منها لابتدأ بها؛ لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، والحاجة إلى قراءة البسملة أمس. وأجيب: بأن التنصيف عائد إلى ما يختص بالفاتحة من الآيات الكاملة، وبأن معناه: فإذا انتهى العبد في قراءته إلى: {الحمد لله رب العالمين} فحينئذٍ تكون القسمة، وبأنه جاء في بعض الروايات عنه ذكر التسمية كما أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة مرفوعاً، وهذه الرواية وإن كان فيها ضعف ولكنها مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية. قلت: رواية الدارقطني هذه ضعيفة جداً، بل زيادة البسملة فيها باطلة قطعاً، فإن مدارها على عبد الله بن زياد بن لمعان، وهو متروك الحديث، متهم بالكذب، مجمع على ضعفه. قال مالك وابن معين: كان كذاباً. وقال أبوداود: متروك الحديث كان من الكذابين. وقد ذكر الدارقطني هذه الرواية في علله، وأطال فيها الكلام، ولخصه الزيلعي في
رواه مسلم.
830-
(3) وعن أنس ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، رضي الله عنهما، كانوا يفتتحون الصلاة
بالحمد لله رب العالمين)) .
ــ
نصب الراية (ج1: ص340) فارجع إليه. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وأخرجه ابن ماجه مختصراً.
830-
قوله: (كانوا يفتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين) بضم الدال على الحكاية، واختلف في المراد بذلك فقيل: المعنى كانوا يبتدؤن الصلاة بقراءة الفاتحة قبل السورة، وهذا قول من أثبت البسملة في أول الفاتحة. قال الشافعي في الأم بعد رواية الحديث: يعني يبدؤن بقراءة أم القرآن قبل ما يقرأ بعدها، والله تعالى أعلم، لا يعني أنهم يتركون:"بسم الله الرحمن الرحيم". وإلى هذا المعنى أشار النسائي حيث عقد على هذا الحديث: باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة. وتعقب: بأنها إنما تسمى الحمد فقط. وأجيب: بمنع الحصر ومستنده ثبوت تسميتها بهذه الجملة وهي: "الحمدلله رب العالمين" في صحيح البخاري. أخرجه في فضائل القرآن من حديث أبي سعيد بن المعلى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن
…
فذكر الحديث، وفيه قال:"الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني، وقيل: المعنى كانوا يفتتحون بهذا اللفظ تمسكاً بظاهر الحديث، وهذا قول من نفى قراءة البسملة لكن لا يلزم من قوله:"كانوا يفتتحون بالحمد" أنهم لم يقرؤا: "بسم الله الرحمن الرحيم"سرا. وقد أطلق أبوهريرة السكوت على القراءة سراً. واعلم أنهم اختلفوا في قراءة البسملة في الصلاة بعد دعاء الافتتاح، فعن الشافعي: تجب وجوب الفاتحة، وعن مالك: يكره، وعن أبي حنيفة: تستحب، وهو المشهور عن أحمد. ثم اختلفوا، فعن الشافعي يسن الجهر، وعن أبي حنيفة لا يسن، وعن إسحق بن راهوية مخير بينهما، وإليه ذهب ابن حزم، وهو المرجح عندنا. وسبب هذا الاختلاف ما روي من الأحاديث المختلفة في هذا وحديث الباب قد استدل بظاهره من نفي التسمية أصلاً سراً وجهراً، وقد أسلفنا ما في هذا الاستدلال من الخدشة، وهي أنه لا يلزم منه نفي قراءة البسملة سراً؛ لأنه يشمل نفي الجهر أيضاً فافهم. وأيضاً قد كثرت الروايات عن أنس في هذا واضطربت نفياً وإثباتاً في الجهر بالتسمية، أو الإسرار، أو القراءة، أو نفيها. وفي بعضها: أن أنساً أخبر سائلة بأنه نسي ذلك، ولا شك أن روايات الإثبات أرجح وأقوى فهي المعتمد. وقد بسط العلماء الكلام في بيان الاضطراب ونفيه في حديث أنس إن شئت الوقوف عليه فارجع إلى نصب الراية، والفتح، وشرح المؤطا للزرقاني، وتنوي الحوالك، وتدريب الراوي للسيوطي. وقد أعله بعضهم بهذا الاضطراب كابن عبد البر حيث قال: اختلفت ألفاظها اختلافاً كثيراً مضطرباً، ثم ذكر الاختلاف وقال بعد بسطه: وهذا اضطراب لا تقوم معه حجة لأحد من الفقهاء، وحاول بعضهم الجمع، وسلك بعضهم مسلك الترجيح. قال الحافظ: والذي يمكن أن يجمع به مختلف ما نقل عنه
أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يجهر بها، فحيث جاء عن أنس، أنه كان لا يقرأها، مراده نفي الجهر، وحيث جاء عنه إثبات القراءة فمراده السر، وقد ورد نفي الجهر عنه صريحاً فهو المعتمد. وقول أنس في رواية مسلم: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. محمول على نفي الجهر أيضاً؛ لأنه الذي يمكن نفيه، واعتماد من نفي مطلقاً بقول:"كانوا يفتتحون القراءة بالحمد" لا يدل على ذلك؛ لأنه ثبت أنه كان يفتتح بالتوجه، وسبحانك اللهم، وباعد بيني وبين خطاياي، وبأنه كان يستعيذ، وغير ذلك من الأخبار الدالة على أنه قدم على قراءة الفاتحة شيئاً بعد التكبير، فيحمل قوله:"يفتتحون" أى الجهر، لتأتلف الأخبار-انتهى. وقال من سلك مسلك الترجيح: أن رواية الباب أصح الروايات عن أنس، قال الدارقطني: هو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس، وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج هذه الرواية لسلامتها من الاضطراب. قال الزيلعي: وهذا اللفظ هو الذي صححه الخطيب وضعف ما سواه لرواية الحافظ له عن قتادة، ولمتابعة غير قتادة له عن أنس فيه، وجعله اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غير متشابهاً، وحمله على الافتتاح بالسورة لا بالآية-انتهى. وأما ما روى مسلم عنه بلفظ:"صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم". وفي أخرى له: كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون:"بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. فقد اضطرب أكثرهم فيه، ولذلك امتنع البخاري من إخراجه وهو من مفاريد مسلم. وأجاب بعض الشافعية عن روايتي مسلم بأن كلاً منهما رواية للفظ الأول بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه ولو بلغ الخبر بلفظه كما في البخاري لأصاب، ويؤيده ما قال العراقي في ألفيته:
وعلة المتن كنفي البسملة
…
... إذ ظن راوٍ نفيه فنقله
قال السخاوي في فتح المغيث (ص95) : قوله: "فنقله" مصرحاً بما ظنه فقال: لا يذكرون: "بسم الله الرحمن الرحيم" في أول قراءة ولا في آخرها. وفي لفظ: "فلم يكونوا يفتتحون ببسم الله"، وصار بمقتضى ذلك حديثاً مرفوعاً. والراوي لذلك مخطئ في ظنه-انتهى. تنبيه: اعلم أنهم اختلفوا في أن: "بسم الله الرحمن الرحيم" آية من الفاتحة فقط، أو آية من كل سورة من سور القرآن سوى براءة، أو هي جزء من آية، أو هي آية مستقلة نزلت مع كل سورة سوى براءة لافتتاحها وللفصل بينها وبين غيرها، أو ليست آية أصلاً لا من الفاتحة ولا من كل سورة، قيل: إن من رأى أنها آية من الفاتحة أوجب قراءتها بوجوب قراءة الفاتحة عنده في الصلاة، ومن رأى أنها آية من أول لكل سورة وجب عنده أن يقرأها مع السورة. وقيل مسألة الجهر بالبسملة في الصلاة ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة من الفاتحة. قال اليعمري: إن جماعة ممن يرى الجهر بها لا يعتقدونها قرآناً، بل هي من السنن عندهم كالتعوذ والتأمين، وجماعة ممن يرى الإسرار بها يعتقدونها قرآناً. ولهذا قال النووي: إن مسألة الجهر ليست مرتبة على مسألة إثبات البسملة، وهذه المسألة من أهم مسائل الخلاف بين القراء
والمحدثين والفقهاء، وألف فيها الكثيرون كتبا خاصة، وأفردوها بتصانيف مستقلة، فمن ذلك كتاب:"الإنصاف فيما بين العلماء من الاختلاف" لابن عبد البر المالكي، وهو جزء في. (42) صفحة، وقد طبع في مصر، وكتاب لعبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي، ذكره النووي في المجموع، وقال: إنه مجلد كبير، ولخص أهم ما فيه، وألف فيها أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والدارقطني والبيهقي والخطيب، وقد جمع الزيلعي في نصب الراية أكثر ما ورد فيها من الآثار والأقاويل في مقدار يصلح كتاباً مستقلاً (ج1: ص323-363) من طبعة مصر، وكذلك النووي في المجموع، كتب فيها مقدارا وافياً. وكذلك الشوكاني في شرح المنتقي، بسط الكلام فيها. (ج2: ص89-101) والذي تحصل لنا من الأقوال في البسملة أربعة: أحدها أنها ليست من القرآن أصلاً إلا في سورة النمل، نقل هذا عن مالك والأوزاعي، وحكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو رواية عن أحمد وهو قول لبعض أصحابه، واختاره ابن قدامة في المغني. والثاني أنها آية من كل سورة سوى براءة أو بعض آياته، وهو المشهور عن الشافعي وأصحابه، وهو رواية عن أحمد. والثالث أنها آية في أول الفاتحة، وليست قرآناً في أوائل باقي السور، وهو قول أحمد وإسحق وأبي عبيد وأهل الكوفة، وأهل مكة، وأهل العراق، وهو أيضاً رواية عن الشافعي. والرابع أنها آية مستقلة من القرآن في كل موضع كتبت فيه في المصحف وليست من الفاتحة ولا من غيرها، وإنما أنزلت لافتتاح القراءة بها، وللفصل بين كل سورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ذهب إليه أبوبكر الرازي الجصاص، وهو المختار عند الحنفية. قال محمد بن الحسن: ما بين دفتي المصحف قرآن، وهو قول ابن المبارك، ورواية عن أحمد وداود، وقال الزيلعي في نصب الراية: وهذا قول المحققين من أهل العلم، ونسبة هذا القول إلى الحنفية استنباط فقط كما يظهر من أحكام القرآن. (ج1: ص8) لأبي بكر الجصاص. وقال شمس الأئمة السرخسي في المبسوط. (ج1: ص16) : وعن معلى قال: قلت لمحمد يعني ابن الحسن: التسمية آية من القرآن أم لا؟ قال: ما بين الدفتين كله قرآن. قلت: فلم لم تجهر؟ فلم يجبنى، فهذا عن محمد بيان أنها أنزلت للفصل بين السور، لا من أوائل السور، ولهذا كتبت بخط على حدة، وهو اختيار أبي بكر الرازي، حتى قال محمد: يكره للحائض والجنب قراءة التسمية على وجه قراءة القرآن؛ لأن من ضرورة كونها قرآناً حرمة قراءتها على الحائض والجنب، وليس من ضرورة كونها قرآنا الجهر بها كالفاتحة في الأخريين-انتهى. وقد استدل كل فريق لقوله بأحاديث، منها الصحيح المقبول، ومنها الضعيف المردود، إن شئت الوقوف عليها فارجع إلى نصب الراية للزيلعي، ونيل الأوطار للشوكاني، والسنن للدارقطني والراجح عندنا أنها آية من القرآن في كل موضع كتب فيه، والدليل على ذلك الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله تعالى، والوفاق على إثباتها في المصاحف مع المبالغة في تجريد القرآن عما ليس منه حتى لم يكتب:"آمين". قال النووي في شرح مسلم. (ج1: ص172) : اعتمد أصحابنا ومن قال بأنها آية من الفاتحة أنها كتبت في المصحف بخط
رواه مسلم.
831-
(4) وعن أبي هريرة، قال ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمن الإمام فأمنوا،
ــ
المصحف وكان هذا باتفاق الصحابة وإجماعهم على أن لا يثبتوا فيه بخط القرآن غير القرآن، وأجمع بعدهم المسلمون كلهم في كل الإعصار إلى يومنا وأجمعوا على أنها ليست في أول براءة، وأنها لا تكتب فيها. وهذا يؤكد ما قلناه-انتهى. وقد أوضح هذا الدليل مع ذكر المذاهب العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي. (ج2: ص21، 22) فارجع إليه. وقد رجح هو كونها آية من كل سورة كتب في أولها أي من جميع سور القرآن سوى براءة. قال: لا يجوز لقارئ أن يقرأ أية سورة من القرآن سوى براءة من غير أن يبدأها بالتسمية التي هي آية منها في أولها، سواء قراءها ابتداء أم وصلها بما قبلها. وهذا الذي اختاره الشافعي رضي الله عنه-انتهى. (رواه مسلم) فيه أن حديث أنس هذا أخرجه البخاري في باب ما يقول بعد التكبير بهذا اللفظ بلا تفاوت حرف، فالأولى للمصنف أن يقول في آخره:"متفق عليه واللفظ للبخاري". وحديث أنس هذا أخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم.
831-
قوله: (إذا أمن الإمام) أي قال آمين. فيه مشروعية التأمين للإمام، والمشهور عن مالك وهي رواية عن أبي حنيفة: أنه لا يؤمّن، وهي رواية ابن القاسم عن مالك، وهي المعتمد عند المالكية، وفي رواية عنه أنه لا يؤمن في الجهرية ويؤمن في السرية، وأحاديث الباب ترد عليهم جميعاً. (فأمنوا) أي فقولوا آمين. والحديث قد استدل به الإمام البخاري والنسائي وابن ماجه وغيرهم على أن الإمام يجهر بالتأمين. وجه الاستدلال أنه لو لم يكن تأمين الإمام مسموعاً للمأموم لم يعلم به، وقد علق تأمينه بتأمينه. وأجيب: بأن موضعه معلوم فلا يستلزم الجهر بة. وفيه نظر لاحتمال أنه يخل به فلا يستلزم علم المأموم به. وقد روى روح بن عبادة عن مالك في هذا الحديث عن ابن شهاب: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال: ((ولا الضالين)) جهر بآمين. أخرجه السراج، ولابن حبان في هذا الحديث قال ابن شهاب: كان إذا فرغ من قراءة أم القرآن رفع صوته وقال: آمين. قاله الحافظ. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص223) : فيه دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بآمين، ولولا جهره لم يكن لمن يتحرى متابعته في التأمين على سبيل المداركة طريق إلى معرفة، فدل أنه كان يجهر به جهرا يسمعه من وراءه، وقد روى وائل بن حجر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ:((ولا الضالين)) قال آمين ورفع بها صوته –انتهى. وقال السندي في حاشية النسائي وابن ماجه: قوله: "إذا أمن القارئ" أخذ منه المصنف الجهر بآمين، إذ لو أسر الإمام بآمين لما علم القوم بتأمين الإمام، فلا يحسن الأمر إياهم بالتأمين عند تأمينه، وهذا استنباط دقيق يرجحه ما جاء من التصريح بالجهر، وهذا هو الظاهر المتبادر، نعم قد يقال: يكفي في الأمر معرفتهم لتأمين الإمام بالسكوت عن القراءة، لكن تلك معرفة ضعيفة، بل كثيراً ما يسكت الإمام عن القراءة ثم يقول بآمين، بل الفضل بين القراءة والتأمين هو
فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه. وفي رواية، قال: ((إذا قال الإمام {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين.
ــ
اللائق فيتقدم تأمين المقتدي على تأمين الإمام إذا اعتمد على هذه الأمارة-انتهى. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص170) : إذا أسر الإمام التأمين لا يعلم المأموم تأمينه، فكيف يوقع المأموم تأمينه مع تأمين الإمام؟ وكيف يتوافق تأمينهما معاً؟ وليس من اللازم حينئذٍ أن يقع تأمينه مع تأمينه، بل يمكن أن يقع معه أو قبله أو بعده، وأما إذا جهر الإمام بالتأمين فيعلم المأموم تأمينه، فحينئذٍ يوقع تأمينه مع تأمينه، فيوافق تأمينهما معاً قطعاً-انتهى. واستدل بقوله:"فأمنوا" على تأخير تأمين المأموم عن تأمين الإمام؛ لأنه رتب عليه بالفاء، لكن المراد عند الجمهور المقارنة لما سيأتي. والمعنى: أمنوا مقارنين له. وعلله إمام الحرمين بأن التأمين لقراءة الإمام لا لتأمينه، فلذلك لا يتأخر عنه. وظاهر سياق الأمر أن المأموم إنما يؤمن إذا أمن الإمام لا إذا ترك. ونص الشافعي في الأم على أن المأموم يؤمن، ولو تركه الإمام سهواً أو عمداً، وهذا هو الحق للرواية التالية. ثم إن هذا الأمر عند الجمهور للندب، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه على المأموم عملاً بظاهر الأمر، قال: وأوجبه الظاهرية على كل مصل، ثم في مطلق أمر المأموم بالتأمين أنه يؤمن ولو كان مشتغلاً بقراءة الفاتحة. (فإنه من وافق) المراد بالموافقة الموافقة في القول والزمان، يدل عليه الرواية الآتية:"من وافق قوله قول الملائكة" خلافاً لمن قال: المراد الموافقة في الإخلاص والخشوع، كابن حبان وغيره. (تأمينه تأمين الملائكة) قيل: المراد بالملائكة الحفظة، وقيل: الذين يتعاقبون منهم، إذا قلنا إنهم غير الحفظة. وقيل: من يشهد تلك الصلاة من الملائكة ممن في الأرض أو في السماء. وقيل: الأولى حمله على الأعم؛ لأن اللام للاستغراق فيقولها الحاضرون ومن فوقهم إلى الملأ الأعلى. (غفر له ما تقدم من ذنبه) ظاهره غفران جميع الذنوب الماضية، وهو محمول عند العلماء على الصغائر، وقيل: إن المكفر ليس التأمين الذي هو فعل المؤمن، بل وفاق الملائكة، وليس ذلك إلى صنعه، بل فضل من الله بمجرد وفاق، فيعم الكبائر والصغائر، لكن خص منها حقوق الناس. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك وأحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم. (وفي رواية) أي متفق عليها. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين) استدل به المالكية على أن الإمام لا يؤمن؛ لأن القسمة تنافي الشركة، وفيه أن هذه الرواية لا تدل على أن الإمام لا يؤمن، بل هي ساكتة عنه نفياً وإثباتاً، والرواية المتقدمة نص في معناه، وزاد في رواية أحمد والنسائي وابن حبان: أن الإمام يقول آمين، وهو نص لا يحتمل التأويل. ثم إن ظاهر الرواية الأولى من الحديث أن المؤتم يوقع التأمين عند تأمين الإمام، وظاهر الرواية منه أنه يوقعه عند قول الإمام:{غير المغضوب عليهم ولا الضالين} [1: 7] وجمع الجمهور بين الروايتين بأن المراد بقوله: "إذا أمن" أي أراد التأمين ليقع تأمين الإمام والمأموم
معاً، فإنه يستحب فيه المقارنة، يدل على هذا ما رواه أحمد والنسائي والسراج بلفظ:"إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه". وقيل: الأول لمن قرب عن الإمام، والثاني لمن تباعد عنه؛ لأن جهر الإمام بالتأمين أخفض من جهره بالقراءة. وقيل: يؤخذ من الروايتين تخيير المأموم في قولها مع الإمام أو بعده، قاله الطبري. وقيل: لا حاجة إلى الجمع بين الروايتين؛ لأن الجمع والتوفيق فرع التعارض والتخالف، ولا تخالف بين الروايتين، فإن المراد بقوله:"إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين" أي وقال: آمين فقولوا آمين، أي مع تأمين الإمام، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. قال الحافظ: وهو دال على أن المراد الموافقة في القول والزمان- انتهى. وهذا هو المراد بقوله: "إذا أمن الإمام فأمنوا، أي فقولوا آمين مقارنين بتأمينه. قال الخطابي في المعالم. (ج1: ص224) : معنى قوله: "إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا آمين" أي مع الإمام، حتى يقع تأمينكم وتأمينه معاً، فأما قوله: إذا أمن الإمام فأمنوا. فإنه لا يخالفه ولا يدل على أنهم يؤخرونه عن وقت تأمينه، وإنما هو كقول القائل: إذا رحل الأمير فارحلوا، يريد إذا أخذ الأمير في الرحيل فتهيئوا للإرتحال، ليكون رحيلكم مع رحيله، وبيان هذا في الحديث الآخر أن الإمام يقول آمين والملائكة تقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه، فأحب أن يجتمع التأمينان في وقت واحد رجاء المغفرة. قال: وقد احتج بقوله: "إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقولوا آمين" من ذهب إلى أنه لا يجهر بآمين، وقال ألا ترى أنه جعل وقت فراغ الإمام من قوله: "ولا الضالين" وقتاً لتأمين القوم فلو كان الإمام يقوله جهراً لا ستغنى بسماع قوله عن التحين له مراعاة وقته. قال: وهذا قد كان يجوز أن يستدل به لو لم يكن ذلك مذكوراً في حديث وائل بن حجر الذي تقدم ذكره، وإذا كان كذلك لم يكن فيما استدلوا به طائل، وقد يكون معناه: الأمر به والحض عليه إذا نسيه الإمام، يقول لا تغفلوه إذا أغفله الإمام ولا تتركوا إن نسيه، وأمنوا لأنفسكم لتحرزوا به الأجر- انتهى. وقال السندي: الأقرب أن أحد اللفظين من تصرفات الرواة وحينئذٍ فرواية: "إذا أمن" أشهر وأصح، فهي أشبه أن تكون هي الأصل، والله أعلم- انتهى. وقوله: "آمين" بالمد والتخفيف في جميع الروايات، وعن جميع القراء، وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي الإمالة، وفيها لغات أخرى شاذة. وهي من أسماء الأفعال، وتفتح في الوصل؛ لأنها مبنية بالاتفاق، مثل كيف، ومعناه: اللهم استجب. عند الجمهور، وقيل: غير ذلك مما يرجع جميعه إلى هذا المعنى، مثل: ليكن كذلك، وأقبل، ولا تخيب رجاءنا، ولا يقدر على هذا غيرك. وقيل: هو اسم من أسماء الله تعالى. تنبيه: اعلم أنه استدل البخاري بقوله: "إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين" على الجهر بالتأمين للمأمومين، حيث ترجم عليه: "باب جهر المأموم
فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) . هذا لفظ البخاري، ولمسلم نحوه. وفي أخرى للبخاري، قال:((إذا أمن القاري فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) .
ــ
بالتأمين" ووجه الأخذ منه على ما قال الزين بن المنير: إن في الحديث الأمر بقول آمين والقول إذا وقع به الخطاب مطلقاً حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار وحديث النفس قيد بذلك. وقال ابن الرشيد: تؤخذ مناسبة الحديث للترجمة من جهات: منها أنه قال: "إذا قال الإمام فقولوا" فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهراً، فكان الظاهر الاتفاق في الصفة. ومنها أنه قال: "فقولوا" ولم يقيده بجهر ولا غيره، وهو مطلق في سياق الإثبات، وقد عمل به في الجهر بدليل ما تقدم، يعني في مسألة الإمام، والمطلق إذا عمل به صورة لم يكن حجة في غيرها باتفاق. ومنها أنه تقدم أن المأموم مأمور بالإقتداء بالإمام، وقد تقدم أن الإمام يجهر فلزم جهره بجهره- انتهى. وتعقب بأنه يستلزم أن يجهر المأموم بالقراءة لأن الإمام جهر بها، لكن يمكن أن ينفصل عنه بأن الجهر بالقراءة خلف الإمام قد نهي عنه فبقى التأمين داخلاً تحت عموم الأمر بإتباع الإمام، ويتقوى ذلك بما تقدم عن عطاء: أن من خلف ابن الزبير كانوا يؤمنون جهراً، وروى البيهقي من وجه آخر عن عطاء، قال: أدركت مائتين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام: (. (ولا الضالين)) سمعت لهم رجة بآمين، كذا في الفتح. (هذا لفظ للبخاري) ، وأخرجه أيضاً بهذا اللفظ مالك وأبوداود والنسائي. (ولمسلم نحوه) بمعناه. (وفي أخرى للبخاري) في باب التأمين من كتاب الدعوات. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (إذا أمن القارئ) قال الحافظ: المراد بالقارئ هنا الإمام إذا قرأ في الصلاة، ويحتمل أن يكون المراد بالقارئ أعم من ذلك- انتهى. قلت: الظاهر أن المراد به هو الإمام إذا قرأ في الصلاة؛ لأن الحديث واحد اختلفت ألفاظه من تصرف الرواة. قيل: الحديث يدل على أن الإمام هو القارئ دون المأموم. وأن المأموم إنما ينتظر فراغه من الفاتحة حتى يقول آمين. وتعقب: بأن الأصح الأشهر رواية: "إذا أمن الإمام، والرواية الأخرى من تصرف الراوي، فالأولى هي العمدة، وبأن إطلاق القارئ على الإمام إنما هو لأنه يجهر بالقراءة بخلاف المقتدي. لا لأن القراءة مختصة بالإمام، وهذا لا يقتضي في القراءة السرية عن المأموم، والمعنى: إذا أمن الإمام بعد الفراغ عن قراءة الفاتحة فأمنوا، وهذا هو معنى قوله:"إذا قال الإمام: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) فقولوا آمين"، ولم يقل أحد: إن هذا يدل على نفي القراءة عن المأموم وحصرها في الإمام، ويمكن أن تحمل هذه الرواية الأخرى على معنى: أن القارئ أي الإمام إذا مر بآية مشتملة على الدعاء بعد الفاتحة وأمن فقولوا آمين، فأطلق لفظ القارئ من حيث أنه ينفرد بقراءة ما فوق الفاتحة دون المقتدي. ورواية البخاري هذه أخرجها أيضاً النسائي وابن ماجه، وفي رواية لأبي داود وابن ماجه عن أبي هريرة، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم -
832-
(5) وعن أبي موسى الأشعري، قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صليتم فأقيموا صفوفكم، ثم ليؤمكم أحدكم، فإذا كبر فكبروا، وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين؛ يحبكم الله. فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتلك بتلك)) .
ــ
إذا قال: (. (غير المغضوب عليهم ولا الضالين)) قال آمين. حتى يسمع من يليه من الصف الأول. وزاد ابن ماجه: فيرتج بها المسجد. وأخرجه أيضاً ابن حبان في صحيحه.
832-
قوله: (إذا صليتم) أي أردتم الصلاة. (فأقيموا صفوفكم) أي عدلوها، وسووها، وتراصوا فيها بحيث لا يكون فيها اعوجاج ولا فرج. فالمراد بإقامة الصفوف تسويتها واعتدال القائمين فيها على خط مستقيم وسمت واحد، والتراص فيها، وتتميمها الأول فالأول، وسد الخلل الذي في الصف، وعدم الفرج. قال العيني: وهي أي تسوية الصف من سنة الصلاة عند أبي حنيفة والشافعي ومالك، وزعم ابن حزم أنه فرض، فإن تسوية الصفوف من إقامة الصلاة، وإقامة الصلاة فرض، وما كان من الفرض فهو فرض. (ثم ليؤمكم أحدكم) فيه الأمر بالجماعة في المكتوبات، ولا خلاف في ذلك، ولا ينافي هذا ما صح عنه صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرأهم، الخ.؛ لأنه لبيان الأفضل، وذلك لبيان حصول أصل الجماعة، أو محمول على استواء الجميع في السن والفضيلة. (فإذا كبر فكبروا) فيه أمر المأموم بأن يكون تكبيرة عقب تكبير الإمام فلا يكبر قبل الإمام ولا معه بل بعده؛ لأن الفاء للتعقيب. (وإذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين) أي وقال: آمين. (فقولوا: آمين) أي مع تأمينه ليتوافق التأمينان معاً. واستدل بهذا الحديث بعض الحنفية على ترك الفاتحة خلف الإمام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بقراءتها والمقام مقام التعليم، وقال بعضهم: في قوله: "إذا قال: غير المغضوب عليهم" الخ. إشارة إلى السكوت والاستماع. قلت: قد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بقراءة الفاتحة غير مرة فترك ههنا لظهور أمرها وشهرة شأنها، واعتماداً على ما أكد الأمر فيها فلم يكن حاجة إلى أن يذكرها كل مرة، كيف ولم يذكر ههنا دعاء الاستفتاح، والتعوذ، ووضع اليدين، وغير ذلك من السنن وبعض الواجبات، والمقام مقام التعليم، ومع ذلك اتفقوا على مشروعيتها لكونها ثابتة من أحاديث أخرى، فليكن هكذا أمر الفاتحة خلف الإمام، ولا عبرة بالإشارة والمفهوم في مقابلة النص الصريح والمنطوق. (يحبكم الله) بالجزم جواب الأمر، أي يستجب لكم، وهذا حث عظيم على التأمين فيتأكد الاهتمام به. (فإذا كبر وركع، فكبروا واركعوا، فإن الإمام يركع قبلكم ويرفع قبلكم) معناه: اجعلوا تكبيركم للركوع وركوعكم بعد تكبيره وركوعه، وكذلك رفعكم من الركوع يكون بعد رفعه. (فتلك بتلك) أي فتلك اللحظة التي تقدمكم إمامكم مجبورة بتلك اللحظة التي تأخرتم عنه. قال النووي: معناه أي تلك اللحظة التي سبقكم الإمام بها في تقدمه إلى الركوع ينجبر لكم بتأخركم في الركوع بعد رفعه لحظة،
قال: ((وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمع الله لكم)) رواه مسلم.
833-
(6) وفي رواية له عن أبي هريرة وقتادة:
ــ
فتلك اللحظة بتلك اللحظة، وصار قدر ركوعكم كقدر ركوعه، وكذلك في السجود. وقال الخطابي في المعالم. (ج1: ص230) : فيه وجهان: أحدهما أن يكون ذلك مردوداً إلى قوله: "وإذا قرأ الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا: آمين، يحبكم الله" يريد أن كلمة آمين يستجاب بها الدعاء الذي تضمنه السورة أو الآية، كأنه قال: فتلك الدعوة مضمنة بتلك الكلمة أو معلقة بها، أو ما أشبه ذلك من الكلام. والوجه الآخر أن يكون ذلك معطوفاً على ما يليه من الكلام:"وإذا كبر وركع فكبروا واركعوا" يريد أن صلاتكم متعلقة بصلاة إمامكم فاتبعوه، وائتموا به، ولا تختلفوا عليه، فتلك إنما تصح وتثبت بتلك. (وإذا قال) أي الإمام. (سمع الله لمن حمده) أي استجاب الله دعاء من حمده. (يسمع الله لكم) بكسر العين، أي يستجيب لكم ويقبله، وكان مجزوماً لجواب الأمر فحرك بالكسر. وفيه دلالة على استحباب الجهر من الإمام بالتسميع ليسمعوه فيقولون. واستدل به من يقول: إن الإمام يقول: سمع الله لمن حمده فقط، والمأموم: اللهم ربنا لك الحمد فقط؛ لأن القسمة بين الذكرين تقطع الشركة. ويجاب: بأن أمر المؤتم بالحمد عند تسميع الإمام لا ينافي فعله له، كما أنه لا ينافي قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا قال الإمام ولا الضالين، فقولوا: آمين" قراءة المؤتم للفاتحة. وكذلك أمر المؤتم بالتحميد لا ينافي مشروعية للإمام، كما لا ينافي أمر المؤتم بالتأمين، تأمين الإمام. وقد استفيد التحميد للإمام والتسميع للمؤتم من أدلة أخرى، قاله الشوكاني. وقال شيخنا في أبكار المنن (ص220) : ورد هذا الاستدلال بأن غرضه صلى الله عليه وسلم من هذا القول ليس للقسمة بين الإمام والمقتدي. بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام: "سمع الله لمن حمده" وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً ونفياً- انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
833-
قوله: (وفي رواية له) أي لمسلم، وكذا لأبي داود، وابن ماجه أيضاً. (عن أبي هريرة وقتادة) أي وعن قتادة، فيكون أثرا موقوفاً على قتادة لا حديثاً مرفوعاً، وإليه أشار النووي بقوله: لاسيما لم يروها مسندة في صحيحه، فكأن المصنف وافق النووي في جعل هذه الزيادة غير مسندة. وفيه نظر: فإن هذه الزيادة ليست موقوفة على قتادة من قوله، بل هي مرفوعة متصلة رواها مسلم مسنده في صحيحه من حديث أبي موسى الأشعري من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير أبي غلاب، عن حطان بن عبد الله الرقاشي، عن أبي موسى الأشعري، وهذا ظاهر غير خفي لمن يتأمل في سياق الحديث عند مسلم. والظاهر عندي: أن معنى قول المصنف: وقتادة، أي وعن قتادة عن يونس بن جبير، عن حطان بن عبد الله، عن أبي موسى، فيكون إشارة إلى أن هذه الزيادة رواها مسلم من حديث أبي هريرة، ومن حديث أبي موسى أيضاً لكن من طريق جرير، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن يونس بن جبير، الخ. تنبيه:
((وإذا قرأ فأنصتوا)) .
ــ
ظاهر عبارة المصنف يقتضي أن هذه الزيادة أخرجها مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة، وليس كذلك، بل يفهم من كلام مسلم أنه لم يخرج حديث أبي هريرة هذا أصلاً، فإن في كتابه بعد إيراد حديث أبي موسى وذكر هذه الزيادة من رواية جرير عن سليمان التيمي عن قتادة:"قال أبوبكر بن أخت أبي النضر: فحديث أبي هريرة يعني: وإذا قرأ فأنصتوا؟ فقال مسلم: هو عندي صحيح، فقال: لِم لم تضعه ههنا؟ فقال: ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ههنا ما اجتمعوا عليه" انتهى. وحديث أبي هريرة هذا قد ذكره المصنف في الفصل الثاني، ويأتي الكلام عليه هناك. (وإذا قرأ فأنصتوا) أي اسكتوا للاستماع، وهذا لا يكون إلا حالة الجهر، قاله السندي. وقد احتج بذلك القائلون عن المؤتم لا يقرأ خلف الإمام في الصلاة الجهرية، وهم إسحاق بن راهويه وأحمد ومالك والحنفية، لكن الحنفية قالوا: لا يقرأ خلف الإمام لا في سرية ولا جهرية. واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون} [7: 204] قال ابن الهمام في فتح القدير: حاصل الاستدلال بالآية أن المطلوب أمران: الاستماع والسكوت، فيعمل بكل منهما، والأول يخص الجهرية والثاني لا، فيجري على إطلاقه، فيجب السكوت عند القراءة مطلقاً- انتهى. وبقوله: إذا قرأ فأنصتوا، في حديث أبي موسى، وفي حديث أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، قال العيني: هذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإمام أصلاً على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر- انتهى. قلت: الاستدلال بالآية وبقوله: "إذا قرأ فأنصتوا" على منع القراءة خلف الإمام في الصلوات الجهرية أو مطلقاً غير صحيح. أما الآية فلأن صحة الاستدلال بها موقوفة على أن يكون الخطاب فيها مع المسلمين وهو ممنوع، بل الظاهر أن الخطاب فيها مع الكفار، قال الفخر الرازي في تفسيره: لا شك أن قوله: {فاستمعوا له وأنصتوا} أمر، وظاهر الأمر للوجوب، فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجباً، وللناس فيه أقوال. (إلى أن قال) : وفي الآية قول خامس: وهو أنه خطاب مع الكفار في ابتداء التبليغ وليس خطاباً مع المسلمين، وهذا قول حسن مناسب- انتهى. ثم ذكر الرازي تقرير هذا القول، من شاء الوقوف عليه فليرجع إلى تفسيره. وما قيل: أنه أجمع الناس على أن هذه الآية نزلت في الصلاة، فهو ادعاء محض، لم يقم عليه دليل صحيح. ويرده: أن في سبب نزولها أقوالاً وروايات مختلفة عن الصحابة ومن بعدهم: منها أنها نزلت في السكوت عند الخطبة. ويرده أيضاً: أن الصحابة قد اختلفوا في القراءة خلف الإمام، وقد قال بها أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ومن بعدهم كما صرح به الترمذي. ويرده أيضاً: قول ابن المبارك: أنا أقرأ خلف الإمام، والناس يقرأون إلا قوم من الكوفيين. ويرده أيضاً أن أحمد اختار القراءة خلف الإمام، وأن لا يترك الرجل فاتحة الكتاب وإن كان خلف الإمام، كما ذكره الترمذي. وأما ما قيل: أن الخطاب في هذه الآية وإن كان مع الكفار لكن قد تقرر في مقره
أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، فيجري لفظ الآية على عمومه، ويشمل حكمه المورد وغيره، فتدل هذه الآية بعمومها على وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن مطلقاً ففيه: أنه لا شك في أن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب، لكن قد تقرر أيضاً في مقره أن اللفظ لو يحمل على عمومه يلزم التعارض والتناقض، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. قال ابن الهمام في فتح القدير: قوله صلى الله عليه وسلم: ليس من البر الصيام في السفر، محمول على أنهم استضروا به، بدليل ما ورد في صحيح مسلم في لفظ: إن الناس قد شق عليهم الصوم، والعبرة وإن كان لعموم اللفظ لا لخصوص السبب لكن يحمل عليه دفعاً للمعارضة بين الأحاديث، الخ. فإذا عرفت هذا فاعلم أنه لو يحمل قوله:{وإذا قرئ القرآن} على عمومه لزم التعارض والتناقض بينه وبين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} [73: 20] وأحاديث القراءة خلف الإمام، ولو يحمل على خصوص السبب يندفع التعارض، فحينئذٍ يحمل على خصوص السبب. ولو تنزلنا واعتبرنا عموم لفظها بل سلمنا أن فيها الخطاب مع المسلمين فعلى هذا التقدير أيضاً الاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام في الجهرية أو مطلقاً ليس بصحيح لوجوه كثيرة: منها أن هذه الآية ساقطة عن الاستدلال عند الحنفية كما صرحوا به في كتب الأصول، ففي نور الأنوار (ص191) : وحكمها بين الآيتين المصير إلى السنة؛ لأن الآيتين إذا تعارضتا تساقطتا فلا بد للعمل من المصير إلى ما هو بعده وهو السنة، ولا يمكن المصير إلى الآية الثالثة؛ لأنه يفضي إلى الترجيح بكثرة الأدلة وذلك لا يجوز، ومثاله قوله تعالى:{فاقرؤا ما تيسر من القرآن} مع قوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} فإن الأول بعمومه يوجب القراءة على المقتدي، والثاني بخصوصه ينفيه، وقد وردا في الصلاة جميعاً فتساقطا، فيصار إلى حديث بعده، وهو قوله عليه السلام: من كان له إمام فقرأه الإمام له قراءة- انتهى. وقال مسعود بن عمر سعد الدين التفتازاني- الذي جعله طائفة حنفياً كابن نجيم وعلي القاري، وجعله بعضهم شافعياً كصاحب كشف الظنون والكفوي والسيوطي- في التلويح حاشية التوضيح شرح التنقيح، في باب المعارضة والترجيح: مثال المصير إلى السنة عند تعارض الآيتين قوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} وقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} تعارضنا فصرنا إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: من كان له إمام فقراءه الإمام له قراءة- انتهى. ومنها أن الآية إنما أمرت باستماع القرآن والإنصات له، وهذا لا يقتضي وجوب سكوت المقتدي مطلقاً بأن لا يقرأ في نفسه أيضاً، فإن الإنصات هو ترك الجهر، والعرب يسمى تارك الجهر منصتاً وإن كان يقرأ في نفسه وسرا إذا لم يسمع أحد قراءته، وقد حقق ذلك البيهقي في كتاب القراءة، وعلى هذا فالدليل غير مثبت للمرام، والتقريب غير تام، وقد يقرر هذا الوجه بأن قوله:{وإذا قرئ القرآن} الخ، إنما ينفي القراءة خلف الإمام جهرا ويرفع الصوت، فإنها تشغل عن استماع القرآن، وأما القراءة خلفه في النفس وبالسر فلا ينفيها، فإنها لا تشغل عن الاستماع فنحن نقرأ الفاتحة خلف الإمام عملاً بأحاديث القراءة خلف
الإمام في النفس وسراً، ونستمع القرآن عملاً بقوله:{وإذا قرئ القرآن} والإشغال بأحدهما لا يفوت الآخر، ألا ترى أن الفقهاء الحنفية يقولون: إن استماع الخطبة يوم الجمعة واجب لقوله تعالى: {وإذا قرئ القرآن} ومع هذا يقولون إذا قرأ الخطيب: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [33: 56] فيصلي السامع في النفس وسراً. ومنها أن كتب المذاهب الثلاثة الشافعية والمالكية والحنابلة قد صرحت بجواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد عند الجمهور ومنهم الأئمة الأربعة كما في المحصول، والمختصر، وشرحه للعضد، وشرح الأسنوي على المنهاج للقاضي البيضاوي، والمستصفى، وروضة الناظر، وإرشاد الفحول، وغيرها، فلو سلمنا أن قوله:{وإذا قرئ القرآن} عام فحديث عبادة أخص منه، فيخص به عموم الآية، وتحمل على ما عدا الفاتحة، أو على غير المقتدي. قال الرازي في تفسيره: السؤال الثالث وهو المعتمد أن تقول: الفقهاء أجمعوا على أنه يجوز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، فهب أن عموم قوله تعالى:{وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا} يوجب سكوت المأموم عند قراءة الإمام إلا أن قوله عليه السلام: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. وقوله: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب. أخص من ذلك العموم، وثبت أن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد لازم فوجب تخصيص هذه الآية بهذا الخبر، وهذا السؤال حسن انتهى. وفي تفسير النيسابوري: وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ. إلا أنهم جوزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وذلك ههنا قوله صلى الله عليه وسلم: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب- انتهى. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الاستماع والإنصات أي السكوت له، وهذا مختص بالجهرية لا يتعدى إلى غيرها، فإن الاستماع والسكوت له لا يكون في السرية، فلو سلم أن هذه الآية تدل على منع القراءة خلف الإمام فإنما تدل على المنع في الجهرية دون السرية فيكون المدعى عاماً والدليل خاصاً. ومنها أن الآية لا تدل إلا على وجوب الإنصات حال قراءة الإمام لاستماعه، لا على السكوت مطلقاً؛ لأن المأمور في الآية الاستماع والإنصات، والاستماع لا يمكن وجوده إلا حال القراءة، والإنصات ليس عبارة عن السكوت مطلقاً بل عن سكوت مستمع. قال الرازي في تفسيره: الإنصات سكوت مع استماع، ومتى انفك أحدهما عن الآخر لا يقال له إنصات. قال تعالى:{فاستمعوا له وأنصتوا} . وقال العيني في شرح البخاري: الإنصات هو السكوت مع الإصغاء. وقال محمد بن أبي بكر الرازي في جواهر القرآن: "أنصتوا" اسكتوا سكوت مستمعين. يقال: نصت وأنصت وأنصت له، كله بمعنى واحد، أي سكت مستمعاً. وقال الجزري في النهاية: قد تكرر ذكر الإنصات في الحديث، يقال أنصت ينصت إنصاتاً. إذا سكت سكوت مستمع. وقال الفتني في مجمع البحار: باب الإنصات للعلماء، أي السكوت والاستماع لأجل ما يقولون- انتهى. ومثله كثير في كتب اللغة، وغريب القرآن، والحديث، وشروح الحديث، فلا وجود للإنصات أيضاً إلا حال القراءة، فالقول بأن الاستماع في الجهرية والإنصات بمعنى السكوت في السرية باطل،
فيقرأ المأموم الفاتحة في سكتات الإمام في الجهرية، وينصت عند القراءة، ويكون عاملاً بالقرآن والسنة جميعاً. قال الإمام البخاري في جزء القراءة: قيل له احتجاجك بقول الله تعالى: {فاستمعوا له وأنصتوا} أرأيت إذا لم يجهر الإمام يقرأ خلفه؟ فإن قال: لا. بطل دعواه؛ لأن الله تعالى قال: (. (فاستمعوا له وأنصتوا} وإنما يستمع لما يجهر، مع أنا نستعمل قول الله: {فاستمعوا له} نقول: يقرأ خلف الإمام عند السكتات- انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص107) : الإنصاف الذي يقبله من لا يميل إلى الاعتساف أن الآية المذكورة التي استدل بها أصحابنا على مذهبهم لا تدل على عدم جواز القراءة في السرية، ولا على عدم جواز القراءة في حال الجهرية عند السكتة، وقال: الاستدلال بها على وجوب الإنصات مطلقاً سرية كانت أو جهرية في حال السكتة وفي حال القراءة غير تام إلا بتأويلات ركيكة، لا يقبلها ذو الفهم التام- انتهى. وههنا وجوه أخرى تدل كلها على أن استدلال الحنفية بها على مطلوبهم المذكور ليس بصحيح، ولا يثبت بها مدعاهم. وقد ذكرها شيخنا في كتابه:"تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قرأ فأنصتوا، فقد أجمع أكثر الحفاظ على أنه وهم من الراوي، وأنه ليس بصحيح، منهم البخاري وأبوداود وأبوحاتم وابن معين والحاكم والدارقطني وابن خزيمة ومحمد بن يحيى الذهلي، والحافظ أبوعلى النيسابوري والحافظ على بن عمرو البيهقي، وصححه أحمد ومسلم، ولا شك أن عدد المضعفين أكثر من عدد من صححه بأضعاف، فيقدم تضعيفهم على تصحيح مسلم ومن وافقه، وقد حقق وقرر شيخنا في أبكار المنن (ص150-153) وتحقيق الكلام. (ج2: ص81-94) كون هذه اللفظة غير صحيحة، وأشبع الكلام في ذلك فارجع إلى هذين الكتابين. ولو سلم أن هذه اللفظة في حديث أبي موسى وأبي هريرة صحيحة محفوظة فالاستدلال بها على منع القراءة خلف الإمام ليس بصحيح، كما أن الاستدلال على هذا المطلوب بقوله تعالى:{وإذا قرئ القرآن} ليس بصحيح كما عرفت، وعلى عدم صحة الاستدلال بها على المنع وجوه أخرى مذكورة في:"تحقيق الكلام". منها أن قوله وإذا قرأ فأنصتوا محمول على ما عدا الفاتحة جمعاً بين الأحاديث. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عنه في الجهرية كالمالكية بحديث: وإذا قرأ فأنصتوا، ولا دلالة فيه لإمكان الجمع بين الأمرين فينصت فيما عدا الفاتحة، أو ينصت إذا قرأ الإمام ويقرأ إذا سكت. وقال الإمام البخاري في جزء القراءة: ولو صح لكان يحتمل سوى الفاتحة، وأن قرأ فيما سكت الإمام، ويؤيد هذا أن أبا هريرة كان يفتي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءة فاتحة الكتاب خلف الإمام في جميع الصلوات جهرية كانت أو سرية، وهو راوي حديث: وإذا قرأ فأنصتوا، أيضاً. وارجع إلى المحلي. (ج3: ص241) لابن حزم فقد أوضح ذلك الجواب فيه. واستدل أيضاً
ــ
1-
هو كتاب مبسوط في اللغة الأردية، مفرد في هذه المسألة، عديم النظير، قد تم في جزئين كبيرين: الجزء الأول في ذكر وجوب خلف الإمام من الأحاديث وآثار الصحابة والتابعين، والجزء الثاني في ذكر مستدلات من ذهب إلى عدم الوجوب، أو المنع والكراهة في الجهرية، أو مطلقاً مع الجواب عن كل دليل بعدة وجوه، فعليك أن ترجع إليه.
الحنفية بحديث جابر: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة. أخرجه الطحاوي والدارقطني وغيرهما. والجواب عنه أن هذا الحديث بجميع طرقه ضعيف كما بينه شيخنا في أبكار المنن وتحقيق الكلام. قال الحافظ في الفتح: واستدل من أسقطها عن المأموم مطلقاً كالحنفية بحديث: من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام له قراءة، لكنه ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه، وعلله الدارقطني وغيره- انتهى. وقال في التلخيص: حديث: "من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة" مشهور من حديث جابر، وله طرق عن جماعة من الصحابة وكلها معلولة- انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره بعد ما ذكره عن مسند أحمد بن حنبل: في إسناد ضعف، ورواه مالك، عن وهب بن كيسان، عن جابر من كلامه، وقد روي هذا الحديث من طرق لا يصح شيء منها عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال البخاري في جزء القراءة: هذا الخبر لم يثبت عند أهل العلم من أهل الحجاز وأهل العراق وغيرهم لإرساله وانقطاعه- انتهى. ولو سلم أن هذا الحديث صحيح فقد أجيب عنه بوجوه كثيرة ذكرها شيخنا في: "تحقيق الكلام" من شاء الوقوف عليها رجع إليه. فمنها أن هذا الحديث معارض بقوله تعالى: {فاقرؤا ما تيسر من القرآن} ، فإنه بعمومه نص صريح في أن المقتدى لا بد له من قراءة حقيقية خلف الإمام، وهذا الحديث يدل على منع القراءة الحقيقية خلف الإمام على قول أكثرهم، أو يدل على أن المقتدي لا حاجة له أن يقرأ خلف الإمام قراءة حقيقية، بل قراءة إمامه تكفيه، فلا يجوز تركه بخبر الواحد، وأما قول العيني: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام، فلا يلزم الترك، فمبني على عدم التدبر، فإنه ليس المراد بقوله: من كان له إمام، الخ. إلا أن قراءة الإمام تكفي المقتدى، ولا حاجة له إلى القراءة الحقيقية، فلو يقبل هذا الحديث ويعمل به يلزم الترك بلا شبه. ومنها ما قال البخاري في جزء القراءة: فلو ثبت الخبران كلاهما لكان هذا مستثنى من الأول لقوله: لا يقرأن إلا بأم الكتاب. وقوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، جملة، وقوله:"إلا بأم القرآن" مستثنى من الجملة كقول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، ثم قال في أحاديث أخر: إلا المقبرة، وما استثناه من الأرض، والمستثنى خارج من الجملة، وكذلك فاتحة الكتاب خارج من قوله: من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة، مع انقطاعه- انتهى. ومنها أن هذا الحديث وارد فيما عدا الفاتحة، قال الشيخ عبد الحي اللكنوى في إمام الكلام (ص150) : قد يقال: إن مورد هذا الحديث هو قراءة رجل خلف النبي صلى الله عليه وسلم {سبح اسم ربك الأعلى} [87: 1] في الظهر أو العصر كما مر من طرق عن جابر، فهو شاهد لكونه وارداً فيما عدا الفاتحة- انتهى. والعبرة وإن كانت لعموم اللفظ لا لخصوص المورد لكن قد يحمل الحديث على خصوص مورده إذا حصل بذلك الجمع بين الأحاديث المتعارضة دفعاً للتعارض، فحديث جابر هذا يحمل على خصوص مورده أي ما عدا الفاتحة؛ لأنه يحصل بذلك الجمع بين الأحاديث ويندفع التعارض. وقال الزيلعي في نصب الراية: وحمل البيهقي هذا الأحاديث على ما عدا الفاتحة، واستدل بحديث عبادة أن
النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر ثم قال: لعلكم تقرأون خلف إمامكم، قلنا: نعم. قال: فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب. وأخرجه أبوداود بإسناد رجاله ثقات، وبهذا يجمع بين الأدلة المثبتة للقراءة والنافية- انتهى. ومنها ما قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في إمام الكلام (ص50) : إن هذا الحديث يعني حديث من كان له إمام، الخ. ليس بنص على ترك الفاتحة بل يحتملها ويحتمل قراءة ما عداها، وتلك الروايات يعني روايات عبادة وغيره في القراءة خلف الإمام تدل على وجوب قراءة الفاتحة أو استحسانها نصاً، فينبغي تقديمها عليه قطعاً-انتهى. وقال فيه أيضاً: حديث عبادة نص في قراءة الفاتحة خلف الإمام، وأحاديث النهي والترك لا تدل على تركها نصاً بل ظاهراً، وتقديم النص على الظاهر عند تعارضهما منصوص في كتب الأعلام- انتهى. وقال الحازمي في كتاب الاعتبار: الوجه الثالث والثلاثون أن يكون الحكم الذي تضمنه أحد الحديثين منطوقاً به، وما تضمنه الحديث الآخر يكون محتملاً، يعني فيقدم الأول على الثاني. ومنها: أن هذا الحديث منسوخ عند الحنفية فلا يصح الاستدلال به على منع القراءة خلف الإمام، وتقرير النسخ أن جابراً راوي هذا الحديث كان يقرأ خلف الإمام كما روي ابن ماجه بسند صحيح عنه، وكذلك روى هذا الحديث أبوهريرة، وأنس، وأبوسعيد، وابن عباس، وعلي، وعمران بن حصين رضي الله عنهم، وكان كل من هؤلاء يقرأ الفاتحة خلف الإمام ويفتي بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها، بعضهم في جميع الصلوات، وبعضهم في السرية فقط. وقد تقرر عند الحنفية أن عمل الصحابي وفتواه على خلاف حديثه يدل على نسخه، فهذا الحديث عند الحنفية منسوخ، وإن شئت الاطلاع على الأجوبة الأخرى فعليك أن تطالع تحقيق الكلام. تنبيه: قال شيخنا في شرح الترمذي: أعلم أن الحنفية قد استدلوا على منع القراءة خلف الإمام ببعض آثار الصحابة - رضي الله تعالى عنهم -، كأثر زيد بن ثابت، قال: لا قراءة مع الإمام في شيء. رواه مسلم، وأخرج الطحاوي عن زيد، وجابر، وابن عمر، أنهم قالوا: لا يقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات. قلت: احتجاجهم بهذه الآثار ليس بشيء، فإن الأئمة الحنفية كالشيخ ابن الهمام وغيره قد صرحوا بأن قول الصحابي حجة ما لم ينفه شيء من السنة، وقد عرفت أن الأحاديث المرفوعة الصحيحة الصريحة دالة على وجوب القراءة خلف الإمام، فهي تنفي هذه الآثار فكيف يصح الاحتجاج بها. قال صاحب إمام الكلام: صرح ابن الهمام وغيره أن قول الصحابي حجة ما لم ينفح شيء من السنة، ومن المعلوم أن الأحاديث المرفوعة دالة على إجازة قراءة الفاتحة خلف الإمام، فكيف يؤخذ بالآثار وتترك السنة- انتهى. وأيضاً قد صرحوا بأن حجية آثار الصحابة إنما تكون مفيدة إذا لم يكن الأمر مختلفاً فيه بينهم كما في التوضيح، ونور الأنوار، والأمر فيما نحن فيه ليس كذلك، بل فيه إختلاف الصحابة، فكيف يصح احتجاجهم بهذه الآثار، فلا بد أن تحمل على قراءة السورة التي بعد الفاتحة، أو على الجهر بالقراءة مع الإمام؛ لئلا تخالف الأحاديث المرفوعة الصحيحة. قال النووي في شرح مسلم: والثاني أنه أي قول زيد بن ثابت محمول على قراءة السورة
834-
(7) وعن أبي قتادة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب،
ــ
التي بعد الفاتحة في الصلاة الجهرية، فإن المأموم لا يشرع له قراءتها، وهذا التأويل متعين ليحمل قوله على موافقة الأحاديث الصحيحة-انتهى. وقال البيهقي في كتاب القراءة: وهو أي قول زيد محمول عندنا الجهر بالقراءة مع الإمام، وما من أحد من الصحابة وغيرهم من التابعين قال في هذه المسألة قولاً يحتج به من لم ير القراءة خلف الإمام إلا وهو يحتمل أن يكون المراد به ترك الجهر بالقراءة-انتهى.
834-
قوله: (في الأوليين) بيائين وضم الهمزة، تثنية الأولى وكذا الأخريين. (بأم الكتاب) أي في كل ركعة منهما. (وسورتين) أي في كل ركعة سورة، ويدل على ذلك ما ثبت من حديث أبي قتادة في رواية للبخاري بلفظ: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة. واستدل به على أن قراءة سورة أفضل من قراءة قدرها من طويلة، وكأنه مأخوذ من قوله: كان يفعل؛ لأنها تدل على الدوام أو الغالب. (وفي الركعتن الأخريين بأم الكتاب) ظاهره أنه لا يزيد على أم الكتاب في الأخريين، ويدل حديث أبي سعيد الآتي على أنه كان يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها، ويزيده دلالة على ذلك ما وقع في رواية لمسلم من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. قال الأمير اليماني: ولعل حديث أبي قتادة أرجح من حديث أبي سعيد من حيث الرواية؛ لأنه اتفق عليه الشيخان، ومن حيث الدراية؛ لأنه إخبار مجزوم به، وخبر أبي سعيد انفرد به مسلم، ولأنه خبر عن حزر وتقدير وتظنن. ويحتمل أن يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يصنع هذا تارة فيقرأ في الأخريين غير الفاتحة معها، ويقتصر فيهما أحياناً فتكون الزيادة عليها فيهما سنة تفعل أحياناً وتترك أحياناً-انتهى. قلت: الجمع بينهما عندي أولى من الترجيح، فالظاهر أنه يجوز الزيادة على الفاتحة في الأخريين من غير كراهة، ويؤيده ما رواه مالك في المؤطا عن أبي عبد الله الصنابحي: أنه سمع أبى بكر يقرأ في الثالثة في المغرب: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [3: 8] الآية. وحمل الباجي وابن قدامة فعل أبي بكر هذا على أنه كان على معنى الدعاء لا على معنى أنه قرن قراءته على حسب ما تقرن بها السورة. وفيه: أن هذا الحمل يحتاج إلى دليل، وهو مفقود فلا يصغى إليه، ويؤيد أيضاً ما تقدم من كون الزيادة على الفاتحة في غير الأوليين جائزة من غير كراهة بل سنة ما رواه مالك أيضاً عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يقرأ في الأربع جميعاً، في كل ركعة بأم القرآن وسورة من القرآن. والظاهر أن الصلاة كانت فريضة لما في رواية محمد في هذا الأثر في الأربع جميعاً من الظهر والعصر. قال النووي: استحسن الشافعي قراءة السورة مع الفاتحة في الأخريين في الجديد دون القديم، والقديم هنا أصح، وهو مذهب مالك. قلت: وهو قول
ويسمعنا الآية أحيانا، ويطول في الركعة الأولى ما لا يطيل في الركعة الثانية،
ــ
أحمد. وعند الحنفية فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ضم السورة يوجب سجدة السهو. والثاني: أنه لا يوجب لكن يكره. والثالث: أنه لا يسن ولا يكره. وهو قول فخر الإسلام، وحقق الشامي أنه لو زاد على الفاتحة يكون خلاف الأفضل. (ويسمعنا الآية) من الإسماع أي يقرأ بحيث تسمع الآية من جملة ما يقرأ. وللنسائي من حديث البراء: كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات. ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه، لكن قال: بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وهذه الأحاديث دليل على أنه لا يجب الإسرار في السرية، وأن الجهر بالشيء اليسير من الآيات في الصلاة السرية جائز مغتفر لا يوجب سهواً يقتضي السجود. واختلف الحنفية في وجوب سجدة السهو إذا جهر في السرية، فقيل: تجب ولو بكلمة، وقيل بآياته تامة، وقيل بأكثر من الآية، وأحاديث الباب ترد هذه الأقوال كلها سواء. قلنا: كان يفعل ذلك عمداً لبيان الجواز كما هو الظاهر من لفظ الإسماع، أو بغير قصد للاستغراق في التدبر، أو ليعلمهم أنه يقرأ، أو يقرأ سورة كذا ليتأسوا به. واعلم أن الجهر في مواضع الجهر والإسرار في مواضع الإسرار في الجهرية، والإسرار في السرية سنة عند الشافعي وأحمد، فإن فعل خلاف ذلك، أي جهر فيما يسر فيه، أو أسر فيما يجهر فيه كره ذلك، وأجزأه، وتمت صلاته، ولا سجود سهو فيه. وهو قول الظاهرية، وهو الحق. والدليل على ذلك أن الجهر فيما يجهر فيه، والإسرار فيما يسر فيه إنما هما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسا أمراً منه، وأفعاله- عليه السلام على الإتساء، لا على الوجوب، وإنما كره خلاف ذلك لأن الجمهور من فعله- عليه السلام -كان الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، ولا سجود سهو في ذلك، لحديث أبي قتادة، وحديث البراء وأنس، وما أبيح تعمد فعله أو تركه فلا سهو فيه؛ لأنه فعل ما هو مباح له، ولم يقم دليل على وجوب الجهر في الجهرية، والإسرار في السرية، لا من كتاب ولا من سنة، وقد اعترف بذلك بعض العلماء الحنفية حيث قال: هو سنة عند الجمهور، وواجب عندنا. ولا دليل له عندي-انتهى. وحكم المنفرد كحكم الإمام، فيسن له أيضاً الجهر عند الشافعي، وظاهر كلام أحمد أنه يخير، وكذلك من فاته بعض الصلاة فقام ليقضيه قال أحمد: إنما الجهر للجماعة. (أحياناً) أي في أحيان جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه صلى الله عليه وسلم. وفيه دليل على جواز أن يخبر الإنسان بالظن، وإلا فمعرفة القراءة بالسورة في السرية لا طريق فيه إلى القين، وإسماع الآية أحياناً لا يدل على قراءة كل السورة، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه أخذ من سماع بعضها مع قيام القرينة على قراءة باقيها، ولو كانوا يعلمون قراءة السورتين بخبر عنه صلى الله عليه وسلم عقب الصلاة دائماً أو غالباً لذكروه. (ويطول) بالتشديد من التطويل. (في الركعة الأولى) أي يجعل السورة فيها أطول من التي في الثانية؛ لأن النشاط في الأولى يكون أكثر فناسب التخفيف في الثانية حذراً من الملل، وأيضاً ليدركها الناس كما صرح به راوي الحديث عند أبي داود، وابن خزيمة: فظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس الركعة الأولى. (ما لا يطيل في الركعة الثانية)
وهكذا في العصر، وهكذا في الصبح)) . متفق عليه.
835-
(8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: ((كنا نحزر
ــ
كلمة ما يحتمل أن تكون نكرة موصوفة، أي تطويلاً لا يطلبه في الثانية، وأن تكون مصدرية أي غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف. (وهكذا) يقرأ في الأوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الأخريين بها فقط، ويطول في الأولى، ويسمع الآية أحياناً. (في العصر) أي في صلاة العصر. (وهكذا) أي يطيل في الركعة الأولى في صلاة الصبح، فالتشبيه في تطويل المقروء في الأولى فقط، بخلاف التشبيه في العصر، فإنه أعم منه. والحديث يدل على استحباب تطويل الركعة الأولى بالنسبة إلى الثانية، وهذا هو مذهب أحمد، ومحمد بن الحسن في جميع الصلوات، وبه قال بعض الشافعية لهذا الحديث المصرح به في الظهر والعصر والفجر، وقياس غيرها عليها. وعند أبي حنيفة، وأبي يوسف يسوى بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول الأولى على الثانية، وبه قال بعض الشافعية، ويدل عليه حديث أبي سعيد الآتي: كان يقرأ في الظهر في الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية لابن ماجه: إن الذين حزروا ذلك كانوا ثلاثين من الصحابة. وأجيب لهما عن حديث أبي قتادة بأن تطويل الأولى كان بدعاء الاستفتاح والتعوذ لا في القراءة. وادعى ابن حبان أن الأولى إنما طالت على الثانية بالزيادة في الترتيل فيها مع استواء المقروء فيهما. وقد روى مسلم من حديث حفصة: أنه صلى الله عليه وسلم كان يرتل السورة حتى تكون أطول من أطول منها. قلت: والراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد ومحمد من أنه يستحب تطويل الركعة الأولى على الثانية في الصلوات كلها، وأن تطويل الأولى في الظهر والعصر كان في القراءة لا بدعاء الاستفتاح والتعوذ، أو بالزيادة في الترتيل؛ لأن المذكور في الحديث هو القراءة لا غير، فالظاهر أن التطويل والتقصير راجعان إلى ما ذكر فيه وهو القراءة. ولما روى أبوداود عن عبد الله بن أبي أوفي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الركعة الأولى من صلاة الظهر حتى لا يسمع وقع قدم. وتقديم حديث أبي قتادة على حديث أبي سعيد أولى؛ لأنه أصح، ويتضمن زيادة، وهي ضبط التفريق بين الركعتين. أو يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يطول الأولى تارة ويسوى بين الركعتين أخرى. وقال الحافظ في الفتح: وقال البيهقي في الجمع بين الأحاديث: يطول في الأولى إن كان ينتظر أحداً، وإلا فليسو بين الأوليين. وروى عبد الرزاق نحوه عن ابن جريج عن عطاء قال: إني أحب أن يطول الإمام الأولى من كل صلاة حتى يكثر الناس، فإذا صليت لنفسي فإني أحرص على أن أجعل الأوليين سواء. وذهب بعض الأئمة إلى استحباب تطويل الأولى من الصبح دائماً، وأما غيرها فإن كان يترجى كثرة المأمومين ويبادر هو أول الوقت فينتظر، وإلا فلا، وذكر في حكمة اختصاص الصبح بذلك أنها تكون عقب النوم والراحة، وفي ذلك الوقت يواطئ السمع واللسان القلب لفراغه، وعدم تمكن الاشتغال بأمور المعاش وغيرها منه. والعلم عند الله. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه.
835-
قوله: (كنا نحزر) بفتح النون وسكون الحاء المهملة وضم الزاي بعدها راء، من الحزر، أي نخرص
قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر، فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قدر قراءة الم تنزيل السجدة، وفي رواية: في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وحزرنا قيامه في الأخريين قدر النصف من ذلك، وحزرنا في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك)) رواه مسلم.
ــ
ونقدر. وفي قوله: "كنا نحزر" ما يدل على أن المقدرين بذلك جماعة، وقد أخرج ابن ماجه أن الخارصين ثلاثون رجلاً من الصحابة. (قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر) أي مقدار طول قيامه في الصلاتين. (الم تنزيل) بالرفع على الحكاية، قال القاري: ويجوز جره على البدل، ونصبه بتقدير:"أعني". (السجدة) قال النووي: يجوز جر: "السجدة" على البدل، ونصبها بأعني. ورفعها على خبر مبتدأ محذوف، ولا يخفى أن هذه الوجوه الثلاثة كلها مبنية على رفع:"تنزيل" حكاية، وأما على إعرابه فيتعين جر:"السجدة" على الإضافة قاله القاري. (وفي رواية في كل ركعة قدر ثلاثين آية) . أول هذه الرواية عند مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. فيحمل الرواية المطلقة المتقدمة على هذه المقيدة بقوله: "في كل ركعة". (قيامه في الأخريين) أي من الظهر. (قدر النصف من ذلك) فيه دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ غير الفاتحة معها في الأخريين من الظهر، ويزيده دلالة على ذلك قوله:(وحزرنا) كذا في جميع النسخ من غير زيادة لفظ: "قيامه" وفي مسلم: وحزرنا قيامه. (في الركعتين الأوليين من العصر على قدر قيامه في الأخريين من الظهر) ومعلوم أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر سورة غير الفاتحة. (وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك) أي من الأوليين منه. وفي رواية لمسلم: وفي الأخريين. (أى من الظهر) قدر قراءة خمس عشرة آية، أو قال: نصف ذلك، وفي العصر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر قراءة خمس عشرة آية، وفي الأخريين قدر نصف ذلك. وفيه دليل على أنه لا يقرأ في الأخريين من العصر إلا الفاتحة، وأنه يقرأ في الأخريين من الظهر غيرها معها. وقد تقدم الكلام في هذا. وحديث أبي سعيد هذا يدل على تخفيف الأخريين من الظهر والعصر من الأوليين منهما. ويدل أيضاً على استحباب التخفيف في صلاة العصر وجعلها على النصف من صلاة الظهر، والحكمة في إطالة الظهر أنها في وقت غفلة بالنوم في القائلة فطولت ليدركها المتأخر، والعصر ليست كذلك، بل تفعل في وقت تعب أهل الأعمال فخففت. وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في صلاة الظهر تطويلاً زائداً على هذا المقدار كما في حديث أبي سعيد عند مسلم، والنسائي: أن صلاة الظهر كانت تقام فيذهب الذاهب إلى البقيع فيقضي حاجته، ثم يتوضأ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى مما يطولها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود وأخرجه ابن ماجه بسند ضعيف بألفاظ أخرى.
836-
(9) وعن جابر بن سمرة، قال. ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك، وفي الصبح أطول من ذلك)) رواه مسلم.
837-
(10) وعن جبير بن مطعم، قال. ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {الطور}
ــ
836-
قوله: (كان يقرأ في الظهر: بـ {الليل إذا يغشى} وفي رواية بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي العصر نحو ذلك) أي يقرأ قريباً مما ذكر من السورتين. (وفي الصبح أطول من ذلك) أي من جميع ما ذكر؛ لأنها تفعل في وقت الغفلة بالنوم في آخر الليل، فيكون في التطويل انتظار للمتأخر، وإعانة له على إدراكها. وقوله:"كان يقرأ في الظهر" يفيد الاستمرار وعموم الأزمان كما تقرر في الأصول من أن لفظ: "كان" يفيد ذلك، فينبغي أن يحمل قوله:"كان يقرأ في الظهر" الخ. على الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم، أو تحمل:"كان" على أنها لمجرد وقوع الفعل؛ لأنها قد تستعمل لذلك كما قال ابن دقيق العيد؛ لأنه قد ثبت: أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر والعصر بـ {السماء والطارق} و {السماء ذات البروج} ونحوهما من السور، أخرجه أبوداود، والترمذي، وصححه من حديث جابر بن سمرة، وتقدم: أنه قرأ في الظهر سورة لقمان، والذاريات، وأنه كان يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين في كل ركعة قدر ثلاثين آية. وفي رواية قدر:"الم تنزيل السجدة". وفي الباب أحاديث كثيرة مختلفة. قال الحافظ: وجمع بينهما بوقوع ذلك في أحوال متغايرة إما لبيان الجواز، أو لغير ذلك من الأسباب. واستدل ابن العربي باختلافها على عدم مشروعية سورة معينة في صلاة معينة، وهو واضح فيما اختلف، لا فيما لم يختلف، كتنزيل وهل أتى، في صبح الجمعة – انتهى. (رواه مسلم) ، وأخرجه أيضاً أحمد، وأخرجه أبوداود بلفظ: كان إذا دحضت الشمس صلى الظهر وقرأ بنحو من {والليل إذا يغشى} والعصر كذلك، والصلوات كذلك إلا الصبح، فإنه كان يطيلها.
837-
قوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم) كان سماعه لذلك قبل إسلامه لما جاء في فداء أسارى بدر، واستبدل به على صحة أداء ما تحمله الراوي في حال الكفر، وكذا الفسق إذا أداه في حال العدالة. (يقرأ في المغرب بـ {الطور} ) أي بسورة الطور. وفيه دليل على أن المغرب لا يختص بقصار المفصل، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة. (الأعراف) وأنه قرأ فيها بحم، والدخان، وأنه قرأ فيها بالمرسلات، وأنه قرأ فيها بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وأنه قرأ فيها بـ {التين والزيتون} وأنه قرأ فيها بـ {الكافرون} و ((الإخلاص)) . وقال رافع بن خديج: كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم، فينصرف أحدنا وإنه يبصر مواقع نبله. قال الحافظ: طريق الجمع بين هذه الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان أحياناً يطيل القراءة في المغرب إما لبيان الجواز، وإما لعلمه بعدم المشقة على المأمومين. وليس في حديث جبير بن مطعم دليل على أن ذلك تكرر منه. وأما حديث زيد بن ثابت يعني الذي رواه البخاري وغيره عن مروان بن الحكم قال: قال لي
زيد بن ثابت: ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين؟. ففيه إشعار بذلك لكونه أنكر على مروان المواظبة على القراءة بقصار المفصل، ولو كان مروان يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم واظب على ذلك لاحتج به على زيد، لكن لم يرو زيد منه فيما يظهر المواظبة على القراءة بالطوال، وإنما أراد منه أن يتعاهد ذلك كما رآه من النبي صلى الله عليه وسلم. وفي حديث أم الفضل. (يعني ما أخرجه البخاري عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته وهو يقرأ {والمرسلات عرفاً} فقالت: يا بني! لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب. زاد في رواية: "ثم ما صلى لنا بعد حتى قبضه الله عزوجل" إشعار بأنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الصحة بأطول من المرسلات لكونه كان في حال شدة مرضه وهو مظنة التخفيف. وقال ابن خزيمة: هذا من الاختلاف المباح، فجائز للمصلي أن يقرأ في المغرب وفي الصلوات كلها بما أحب، إلا أنه إذا كان إماماً استحب له أن يخفف في القراءة كما تقدم-انتهى. واعلم أنه ذهب الجمهور إلى استحباب قراءة قصار المفصل في المغرب، حتى ذكر الترمذي عن مالك أنه كره أن يقرأ في المغرب بالسور الطوال نحو الطور والمرسلات. وقال الشافعي: لا أكره ذلك، بل أستحب أن يقرأ بهذه السور في الصلاة للمغرب، وكذا نقله البغوي في شرح السنة عن الشافعي. والمعروف عند الشافعية أنه لا كراهة في ذلك، ولا استحباب. وأما مالك فاعتمد العمل بالمدينة بل وبغيرها. قال ابن دقيق العيد: استمر العمل من الناس على التطويل في الصبح، والقصر في المغرب، والصحيح عندنا أن ما صح في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يكثر مواظبته عليه فهو جائز من غير كراهة، وما صحت المواظبة عليه فهو في درجة الرحجان في الاستحباب- انتهى. واستدل للجمهور بحديث رافع بن خديج الذي تقدم في باب تعجيل الصلاة: أنهم كانوا ينتضلون بعد صلاة المغرب، فإنه يدل على تخفيف القراءة فيها؛ لكن ليس فيه التنصيص على القراءة بشئ من قصار المفصل. وبحديث ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ، أخرجه ابن ماجه. قال الحافظ: ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة. فأما حديث ابن عمر فظاهر إسناده الصحة إلا أنه معلول، قال الدارقطني: أخطأ فيه بعض رواته. وأما حديث جابر ابن سمرة ففيه سعيد بن سماك، وهو متروك، والمحفوظ أنه قرأ بهما في الركعتين بعد المغرب. وبحديث سليمان بن يسار عن أبي هريرة الآتي في الفصل الثاني، فإنه يشعر بالمواظبة على قراءة قصار المفصل في المغرب، لكن في الاستدلال به نظر. وبما روى الطحاوي وغيره عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل. وبما روى مالك عن الصنابحي: أنه صلى المغرب خلف أبي بكر فقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن، وسورة سورة من قصار المفصل، وبما روى أبوداود عن أبي عثمان النهدى أنه صلى خلف ابن مسعود المغرب فقرأ بـ {قل هوالله أحد} . وبما روى أبوداود أيضاً عن عروة: أنه كان يقرأ في المغرب بالعاديات، ونحوها من السور. وقد ظهر بما ذكرنا أنه ليس فيما ذهب إليه
الجمهور حديث مرفوع صحيح صريح نص فيه على القراءة في المغرب بشيء من قصار المفصل، قال الحافظ: لم أرَ حديثاً مرفوعاً فيه التنصيص على القراءة فيها بشيء من قصار المفصل، إلا حديثاً في ابن ماجه عن ابن عمر نص فيه (الكافرون) و (الاخلاص)، ومثله لابن حبان عن جابر بن سمرة- انتهى. وقد تقدم ما فيهما من الكلام عن الحافظ. وأجاب الجمهور عن الأحاديث التي تدل على تطويل القراءة في المغرب بوجوه: أحدها: أن هذا كان شيئاً فترك، قاله محمد في مؤطاه. وقال أبوداود بعد ذكر أثر عروة المتقدم. هذا يدل على أن ذاك- أى حديث زيد- منسوخ. وفيه: أن النسخ لا يثبت بالادعاء والاحتمال، بل لا بد لمن يدعى أن تطويل القراءة في المغرب كان أولاً ثم ترك، أن يأتي بالحديث الناسخ الصحيح الصريح، ولا يثبت النسخ بمجرد قول محمد ولا غيره كائناً من كان، ولم يبين أبوداود وجه الدلالة على النسخ. وكأنه لما رأى عروة راوي الخبر عمل بخلافه، حمله على أنه اطلع على ناسخه، ولا يخفى بُعد هذا الحمل، وكيف يصح دعوى النسخ وأم الفضل تقول: إن آخر صلاة صلاها بهم قرأ بـ (المرسلات) . وقال صاحب التعليق الممجد: هذا الجواب مخدوش؛ لأن مبناه على احتمال النسخ، والنسخ لا يثبت بالاحتمال، ولأن كونه متروكاً إنما يثبت لو ثبت تأخر قراءة القصار على قراءة الطوال من حيث التاريخ، وهو ليس بثابت، ولأن حديث أم الفضل صريح في أن آخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم هو سور المرسلات في المغرب، فحينئذٍ إن سلك مسلك النسخ يثبت نسخ قراءة القصار لا العكس. وثانيها: أنه لعله كان يقرأ بعض السورة ثم يركع، ذكره أيضاً محمد في مؤطاه. وفيه: أن إثبات التفريق في جمع ما ورد في قراءة الطوال مشكل، وأيضاً قد ورد في رواية البخاري وغيره ما يدل على أن جبير بن مطعم سمع {الطور} بتمامه قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المغرب، فلا يفيد حينئذٍ ليت ولعل. وأيضاً قد ورد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة (الأعراف) في المغرب، فرقها في ركعتين، كما سيأتي، ومن المعلوم أن نصف {الأعراف} لا يبلغ مبلغ القصار، فلا يفيد التفريق لإثبات القصار، كذا في التعليق الممجد. وقال الحافظ: ادعى الطحاوي أنه لا دلالة في شيء من الأحاديث على تطويل القراءة، لاحتمال أن يكون المراد أنه قرأ بعض السورة، ثم استدل لذلك بما رواه من طريق هشيم عن الزهري في حديث جبير بلفظ: سمعته يقرأ {إن عذاب ربك لواقع} [52: 7] قال: فأخبر أن الذي سمعه من هذه السورة هي هذه الآية خاصة –انتهى. وليس في السياق ما يقتضي قوله: "خاصة" مع كون رواية هشيم عن الزهري بخصوصها مضعفة، ورواية البخاري في التفسير بلفظ:"سمعته يقرأ في المغرب بـ {الطور} فلما بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} [52: 35] الآيات إلى قوله: {المصيطرون} [52: 37] كاد قلبي يطير" تبطل هذه الدعوى. وفي رواية ابن حبان والطبراني: سمعته يقرأ {والطور وكتاب مسطور} [52: 1، 2)) ومثله لابن سعد، وزاد في أخرى: فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد. ثم ادعى الطحاوي أن الاحتمال المذكور يأتي في حديث زيد بن ثابت، وفيه نظر؛
متفق عليه.
838-
(11) وعن أم الفضل بنت الحارث، قالت: ((سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: بـ {المرسلات عرفاً} متفق عليه.
839-
(12) وعن جابر، قال: ((كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي فيؤم قومه، فصلى
ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء ثم أتى قومه
ــ
لأنه لو كان قرأ بشيء منها يكون قدر سورة من قصار المفصل لما كان لإنكار زيد معنى، وقد روي أن زيداً قال لمروان: إنك لتخفف القراءة في الركعتين من المغرب، فوالله لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ فيها بسورة الأعراف في الركعتين جميعاً. أخرجه ابن خزيمة-انتهى كلام الحافظ باختصار وتغيير يسير. وثالثها: أن هذا بحسب اختلاف الأحوال قرأ بالطوال لتعليم الجواز. وفيه: أنه لو كانت قراءته صلى الله عليه وسلم السور الطوال في المغرب لبيان الجواز لما كان ما فعله مروان من المواظبة على قصار المفصل إلا محض السنة، ولم يحسن من زيد بن ثابت إنكار ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفعل غيره إلا لبيان الجواز، ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان عن الاحتجاج بمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك في مقام الإنكار عليه، وأيضاً بيان الجواز لا يحتاج له إلى تكرير الفعل، وقد عرفت أنه صلى الله عليه وسلم قرأ السور الطويلة في المغرب مرات متعددة، فالظاهر أن القراءة في المغرب بطوال المفصل وقصاره وسائر السور سنة، لكن ينبغي أن يكثر من قراءة قصار المفصل، وأما الاقتصار على نوع من ذلك فهو إن انضم إليه اعتقاد أنه السنة دون غيره، مخالف لهديه صلى الله عليه وسلم، والله اعلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، وأحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
838-
قوله: (يقرأ في المغرب بـ {المرسلات عرفاً} ) أي سورة {والمرسلات} وفي الجلالين: {والمرسلات} [77: 1] . أي الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضه بعضاً، ونصب"عرفاً" على الحال-انتهى. والعرف- بضم العين المهملة- شعر عنق الفرس. قال سليمان الجمل: أقسم تعالى بصفات خمسة، موصوفها محذوف، فجعله بعضهم"الرياح" في الكل، وبعضهم:"الملائكة" في الكل، وبعضهم غاير-انتهى. والحديث يرد على من قال: التطويل في صلاة المغرب منسوخ. كما تقدم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
839-
قوله: (يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم) زاد مسلم في رواية: "عشاء الآخرة" فكان العشاء هي التي كان يواظب فيها على الصلاة مرتين. (ثم يأتي) أي مسجد الحي. (فيؤم قومه) وفي رواية مسلم المذكورة: فيصلي بهم تلك الصلاة. وللبخاري في الأدب: "فيصلي بهم الصلاة" أي المذكورة. وفي هذا رد على من زعم أن المراد أن الصلاة التي كان يصليها مع النبي صلى الله عليه وسلم غير الصلاة التي كان يصليها بقومه. (فصلى) أي معاذ (ليلة مع النبي صلى الله عليه وسلم العشاء) أي الآخرة. (ثم أتى قومه)
فأمهم، فافتح بسورة البقرة، فانحرف رجل فسلم ثم صلى وحده وانصرف، فقالوا له: أنافقت يا فلان؟ قال: لا والله، ولآتينّ رسول الله فلأخبرنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إنا أصحاب النوازح، نعمل بالنهار، وإنما معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى قومه، فافتتح بسورة البقرة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على معاذ، فقال: يا معاذ! أفتان أنت؟ اقرأ {والشمس وضحاها} ،
ــ
أي بني سلمة، بكسر اللام. (فأمهم) أي في العشاء. (فافتح بسورة البقرة) أي بعد الفاتحة. وفي رواية للبخاري: فصلى العشاء، فقرأ بالبقرة. قال الحافظ: كذا في معظم الروايات، ووقع في رواية لأبي عوانة والطحاوي من طريق محارب: صلى بأصحابه المغرب، فإن حمل على تعدد القصة، أو على أن المراد بالمغرب العشاء مجازاً وإلا فما في الصحيح أصح-انتهى. (فانحرف رجل) أي مال عن الصف فخرج منه، أو انحراف من صلاته عن القبلة. والرجل هو حزم بن أبي بن كعب، كما في رواية أبي داود الطيالسي في مسنده. وقيل: سليم، كما في رواية لأحمد. وجمع بعضهم بين هذا الاختلاف بأنهما واقعتان، لكن وقوع هذه القضية مرتين بعيد كما لا يخفى، إلا أن يقال يحتمل أنه وقع من معاذ مرتين، ثم رفع الواقعتان إلى النبي صلى الله عليه وسلم مرة. ووقع في رواية لمسلم: فانطلق رجل منا. وهذا يدل على أنه كان من بني سلمة، ويقوي رواية من سماه سليماً. (فسلم) أي قطع صلاته. قال النووي: قوله: "سلم" دليل على أنه قطع الصلاة من أصلها، ثم أستأنفها، فيدل على جواز قطع الصلاة وإبطالها لعذر. (ثم صلى وحده) أي استأنف الصلاة منفرداً؛ لأنه لم يعلم أنه لو فارق بالنية وانفرد وأتم بلا استئناف لجاز فيه ذلك، ذكره ابن الملك. (وانصرف) أي خرج من المسجد. (فقالوا) أي أصحاب معاذ. (أنافقت يا فلان؟) أي أفعلت ما يفعله المنافق من الميل والانحراف عن الجماعة، والتخفيف في الصلاة؟ قالوه تشديداً له، قاله الطيبي. (قال: لا والله، ولآتين) هو إما معطوف على الجواب، أي والله لا أنافق، ولآتين، وإما إنشاء قسم آخر والمقسم به مقدر. (إنا أصحاب نواضح) جمع ناضحة أنثى ناضح، وهو- بالنون والضاد المعجمة والحاء المهملة- ما استعمل من الإبل في سقى النخل والزرع. (نعمل بالنهار) أي نكد فيه بعمل الزراعة لأجل أمر المعاش. (فافتح بسورة البقرة) يحتمل أنه أراد معاذ أن يقرأ بعضها ويركع، فتوهم المقتدي أنه أراد إتمامها فقطع صلاته، فعاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبهامه ذلك، فإنه سبب للتنفير، قاله القاري. (فقال: يا معاذ!) خطاب عتاب. (أفتان) أي منفر عن الدين، وصاد عنه، وموقع للناس في الفتنة. قال الحافظ: معنى الفتنة ههنا أن التطويل يكون سبباً لخروجهم من الصلاة، وللنكرة للصلاة في الجماعة. وقال الداودي: يحتمل أن يريد بقوله: "فتان" أي معذب؛ لأنه عذبهم بالتطويل. ومنه قوله تعالى: {إن الذين فتنوا المؤمنين} [85: 10] قيل: معناه عذبوهم. (اقرأ والشمس وضحاها) الخ. أي
{والضحى} و {والليل إذا يغشى} و {سبح اسم ربك الأعلى}
ــ
إقرأ هذه السورة وأمثالها. وفي الحديث استحباب تخفيف الصلاة مراعاة لحال المأمومين، وفيه جواز خروج المأموم من الصلاة بعذر، وغير ذلك من الفوائد. واستدل بهذا الحديث للشافعي، وأحمد، وإسحاق على صحة إقتداء المفترض خلف المتنفل؛ لأن الظاهر منه أن معاذاً كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فريضة، إذ بعيد من فقاهة معاذ - وهو أفقه الصحابة - أن يدرك الفرض خلف أفضل الأئمة في مسجده الذي هو أفضل المساجد بعد المسجد الحرام فيتركه، ويضيع حظه منه، ويقنع من ذلك بالنفل. قال الخطابي: لا يجوز على معاذ مع فقهه أن يترك فضيلة الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فعل نفسه-انتهى. قلت: وقد جاء في الحديث رواية كأنها صريحة في كون معاذ كان ينوي بالأولى الفرض، وبالثانية النفل، ذكرها الدارقطني وغيره بلفظ: هي له تطوع ولهم فريضة. قال الحافظ: ويدل عليه ما رواه عبد الرزاق، والشافعي والطحاوي، والدارقطني وغيرهم من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن جابر في حديث الباب زاد: هي له تطوع، ولهم فريضة. وهو حديث صحيح، وقد صرح ابن جريج في رواية عبد الرزاق بسماعه فيه، فانتفت تهمة تدليسه، فقول ابن الجوزي:"أنه لا يصح" مردود. وتعليل الطحاوي بأن ابن عيينة ساقه عن عمرو أتم من سياق ابن جريج ولم يذكر هذه الزيادة، ليس بقادح في صحته؛ لأن ابن جريج أسن وأجل من ابن عيينة، وأقدم أخذاً عن عمرو منه، ولو لم يكن كذلك فهي زيادة من ثقة حافظ، ليست منافية لرواية من هو أحفظ منه، ولا أكثر عدداً، فلا معنى للتوقف في الحكم بصحتها. وأما رد الطحاوي لها باحتمال أن تكون مدرجة. (أى من قول ابن جريج أو من قول عمرو بن دينار) فجوابه: أن الأصل عدم الإدراج حتى يثبت التفصيل، فمهما كان مضموماً إلى الحديث فهو منه، ولا سيما إذا روى من وجهين، والأمر هنا كذلك، فإن الشافعي أخرجها من وجه آخر عن جابر متابعاً لعمرو بن دينار عنه. وقول الطحاوي:"هو ظن من جابر". (أى على تسليم كونها من قول جابر) مردود: لأن جابراً كان ممن يصلي مع معاذ، فهو محمول على أنه سمع ذلك منه، ولا يظن بجابر أنه يخير عن شخص بأمر غير مشاهد إلا بأن يكون ذلك الشخص أطلعه عليه. وأما قول الطحاوي: لا حجة فيها؛ لأنها لم تكن بأمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا تقريره، فجوابه: أنهم لا يختلفون في أن رأي الصحابي إذا لم يخالفه غيره حجة، والواقع هنا كذلك، فإن الذين كان يصلي بهم معاذ كلهم صحابة، وفيهم ثلاثون عقبياً، وأربعون بدرياً، قاله ابن حزم، قال: ولا يحفظ عن غيرهم من الصحابة امتناع ذلك، بل قال معهم بالجواز عمر، وابن عمر، وأبوالدرداء، وأنس وغيرهم. وأما قول الطحاوي: لو سلمنا جميع ذلك لم يكن فيه حجة لاحتمال أن ذلك كان في الوقت الذي كانت الفريضة فيه تصلى مرتين، أي فيكون منسوخاً بما روى عن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تصلى فريضة في يوم مرتين. فجوابه: أنه يتضمن إثبات النسخ بالاحتمال وهو لا يسوغ. وأما حديث ابن عمر ففي الاستدلال به نظر، لاحتمال أن يكون النهي عن أن يصلوها مرتين على أنها فريضة في كل مرة، وبذلك جزم البيهقي جمعاً
بين الحديثين، بل لو قال قائل: هذا النهي منسوخ بحديث معاذ لم يكن بعيداً. وأما تقوية بعضهم بكون حديث معاذ منسوخاً بأن صلاة الخوف وقعت مراراً على صفة فيها مخالفة بالأفعال المنافية في حال الأمن، فلو جازت صلاة المفترض خلف المتنفل لصلى النبي صلى الله عليه وسلم بهم مرتين على وجه لا تقع فيه منافاة، فلما لم يفعل ذلك دل على المنع. فجوابه: أنه ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف مرتين كما أخرجه أبوداود عن أبي بكرة صريحاً، وصرح فيه أنه سلم على الركعتين الأوليين، ولمسلم عن جابر نحوه، لكن ليس في روايته تصريح بالسلام على الركعتين، وأما صلاته بهم على نوع من المخالفة فلبيان الجواز. وأما قول بعضهم: كان فعل معاذ للضرورة لقلة القراءة ذلك الوقت. فهو ضعيف كما قال ابن دقيق العيد؛ لأن القدر المجزئ من القراءة في الصلاة كان حافظوه كثيراً، وما زاد لا يكون سبباً لارتكاب أمر ممنوع منه شرعاً في الصلاة-انتهى. وأما ما رواه أحمد، والطحاوي، وابن عبد البر، عن معاذ بن رفاعة، عن سليم رجل من بني سلمة: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله صلى الله عليه وسلم! إن معاذ بن جبل يأتينا-الحديث. وفي آخره:: "يا معاذ! لا تكن فتاناً، إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك". واستدل به الطحاوي على أنه صلى الله عليه وسلم نهى معاذاً عن ذلك، وادعى أن قوله:"إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" معناه: إما أن تصلي معي، ولا تصلي بقومك وإما أن تخفف بقومك، أي ولا تصلي معي. ففيه: أن في صحة هذه الرواية كلاماً، قال ابن حزم في المحلى (ج4: ص230) : هذا خبر لا يصح؛ لأنه منقطع؛ لأن معاذ بن رفاعة لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدرك هذا الذي شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعاذ؛ لأن هذا الشاكي – أي سليماً صاحب القصة – قتل يوم أحد. ثم في صحة ما ذكره الطحاوي في معنى قوله:"إما أن تصلي معي، وإما أن تخفف على قومك" كلام أيضاً. قال الحافظ في الفتح: وأما دعوى الطحاوي أن معناه: إما أن تصلي معي ولا تصل بقومك، وإما أن تخفف بقومك ولا تصل معي، ففيه نظر؛ لأن لمخالفه أن يقول: بل التقدير: "إما أن تصلي معي فقط إذا لم تخفف، وإما أن تخفف بقومك فتصلي معي". وهو أولى من تقديره لما فيه من مقابلة التخفيف بترك التخفيف؛ لأن هو المسؤل عنه المتنازع فيه-انتهى. قلت: ورواية عبد الرزاق والشافعي وغيرهما بزيادة: "هي له تطوع ولهم فريضة" تؤيد المعنى الذي بيّنه الحافظ، وتوهن المعنى الذي بينه الطحاوي. واستدل الحنفية على عدم جواز اقتداء المفترض بالمتنفل بما روي مرفوعاً: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه. قالوا: لا اختلاف أشد من الاختلاف في النيات في صلاة فرضين، أو تنفل الإمام وافتراض المقتدي. وأجيب: بأن الاختلاف المنهي عنه مقصور على الاختلاف في الأفعال الظاهرة؛ لأن الاختلاف في النيات لا يظهر به مخالفة الإمام عند الناس، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين في هذا الحديث نفسه المواضع التي يلزم الائتمام بالإمام فيها، ويحرم الاختلاف عليه فيها، وهي قوله عليه السلام: فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعودا. فههنا أمر- عليه السلام -بالائتمام
متفق عليه.
840-
(13) وعن البراء، قال: ((سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء: {والتين والزيتون} وما سمعت
أحداً أحسن صوتا منه)) متفق عليه.
841-
(14) وعن جابر بن سمرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر: بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها،
ــ
فيه، وعدم الاختلاف عليه لا في النية. وأيضاً: لو عمم هذا الاختلاف المنهي عنه للزم عدم جواز اقتداء المتنفل بالمفترض لوجود الاختلاف في النيات، فظهر أن الحديث ليس بمحمول على العموم عندهم أيضاً. ولو سلمنا: أنه يعم كل الاختلاف لكان حديث معاذ أو نحوه مخصصاً له. واستدلوا أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام ضامن" بمعنى يضمنها صحة وفساداً، والمفترض أقوى حالاً من المتنفل فلا يتضمنه ما هو دونه. وفيه: أن معنى الضمان هنا هو الحفظ والرعاية في الأفعال الظاهرة لا التكفل في الصحة والفساد، والمعنى أن الإمام يحفظ ويراعي الصلاة وعدد الركعات وغير ذلك من الأفعال الظاهرة على القوم، والله أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه البخاري مطولاً في غير موضع بألفاظ مختلفة، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي وغيرهم.
840-
قوله: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء) أي في الركعة الأولى من صلاة العشاء، كما في رواية النسائي {والتين والزيتون} وقرأ في الثانية {إنا أنزلناه} وهما من قصار أوساط المفصل، وإنما قرأ في العشاء بقصار الأوساط لكونه مسافراً، ففي رواية للبخاري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفره، فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بـ {التين والزيتون} . والسفر يطلب فيه التخفيف، وقصة معاذ كانت في الحضر، فلذلك أمر فيها بقراءة أوساط المفصل، وهذا يدل على أن القراءة في صلاة السفر ليست كالقراءة في صلاة الحضر. والمفصل: من (الحجرات) إلى آخر القرآن على القول الراجح، وطواله: من سورة (الحجرات) إلى (البروج) . وأوساطه: من (البروج) إلى سورة (لم يكن) . وقصاره: من سورة (لم يكن) إلى آخر القرآن. وسمى مفصلاً لكثرة الفصل بين سورة بالبسملة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
841-
قوله: (كان يقرأ في الفجر بـ {ق والقرآن المجيد} ونحوها) بالجر، وهو ظاهر، وقيل بالنصب عطفاً على محل الجار والمجرور، وقوله:"كان يقرأ" الخ. ينبغي أن يحمل على الغالب من حاله صلى الله عليه وسلم، أو تحمل:"كان" على أنها لمجرد وقوع الفصل لا للاستمرار والدوام؛ لأنه قد ثبت أنه قرأ في الفجر {إذا الشمس كورت} وثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى بمكة الصبح فاستفتح سورة (المؤمنين) كما سيأتي. وأنه قرأ بـ {الطور} . ذكره البخاري تعليقاً من حديث أم سلمة، وأنه كان يقرأ في ركعتي الفجر أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة. أخرجه الشيخان من حديث أبي برزة، وأنه قرأ (الروم)
وكانت صلاته بعد تخفيفاً)) رواه مسلم.
842-
(15) وعن عمرو بن حريث ((أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر {والليل إذا عسعس} رواه مسلم
843-
(16) وعن عبد الله بن السائب، قال: ((صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح
ــ
أخرجه النسائي. وأنه قرأ (المعوذتين) أخرجه النسائي أيضاً، وأنه قرأ {إنا فتحنا لك فتحا مبيناً} [48: 1] ، أخرجه عبد الرزاق عن أبي بردة، وأنه قرأ (الواقعة) أخرجه عبد الرزاق أيضاً، وأنه قرأ بـ (يونس وهود) أخرجه ابن شيبة في مسنده، وأنه قرأ {إذا زلزلت} أخرجه أبوداود، وأنه قرأ (الم تنزيل السجدة) و {هل أتى على الإنسان} كما سيأتي. والجمع بين هذه الروايات أنه وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم باختلاف الحالات والأوقات والأشغال عدماً ووجودا. ً (وكانت صلاته بعد) أي بعد صلاة الفجر. (تخفيفاً) يعني أن قراءته في بقية الصلوات الخمس كانت أخف من قراءته في صلاة الفجر. وقيل: أي بعد ذلك الزمان، فإنه- عليه السلام -كان يطول أو الهجرة لقلة أصحابه، ثم لما كثر الناس وشق عليهم التطويل لكونهم أهل أعمال من تجارة وزراعة خفف رفقاً بهم، قاله القاري. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد.
842-
قوله: (وعن عمرو بن حريث) مصغراً، ابن عمرو بن عثمان بن عبد الله بن عمر مخزوم القرشي أبوسعيد المخزومي الكوفي، صحابي صغير. له ثمانية عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديثين. قال ابن عبد البر: رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسمع منه، ومسح برأسه، ودعا له بالبركة. قيل قبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثنتي عشرة سنة. نزل الكوفة وابتنى بها داراً، وسكنها، وولده بها. وكان قد ولى إمارة الكوفة لزياد، ولابنه عبيد الله بن زياد، مات بها سنة (85) . روى عنه ابنه جعفر وغيره. (يقرأ في الفجر:{والليل إذا عسعس} ) أي يقرأ بالسورة التي فيها {والليل إذا عسعس} [81: 17] لا أنه اقتصر على هذه الآية واكتفى بها. ذكر في شرح السنة أن الشافعي قال: يعني به {إذا الشمس كورت} بناء على أن قراءة السورة بتمامها وإن قصرت أفضل من بعضها وإن طال، قاله الطيبي. فالمعنى: قرأ سورة هذه الآية فيها، والغالب من قراءته- عليه السلام -السورة التامة، بل قال بعضهم: لم ينقل عنه- عليه السلام قراءته السورة في الفرائض إلا كاملة، ولم ينقل عنه التفريق إلا في المغرب، قرأ فيها (الأعراف) في ركعتين. وسيأتي مزيد الكلام في شرح حديث عبد الله بن السائب. ومعنى:"عسعس" أدبر. وقيل: أقبل ظلامه. وقيل: هو من الأضداد. ويقال: إذا أقبل وإذا أدبر. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه.
843-
قوله: (وعن عبد الله بن السائب) بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم المكي، له ولأبيه صحبة، وكان أبوه شريك النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابنه عبد الله قارئ أهل مكة، أخذ عنه أهل مكة القراءة، قرأ عليه
بمكة. فاستفتح سورة المؤمنين، حتى جاء ذكر موسى وهارون – أو ذكر عيسى – أخذت
النبي صلى الله عليه وسلم سعلة فركع)) .
ــ
مجاهد وغيره. مات بمكة سنة بضع وستين قبل قتل عبد الله بن الزبير، وهو عبد الله بن السائب قائد ابن عباس، أفرده صاحب الكمال بالذكر وهو هو، وله سبعة أحاديث، انفرد له مسلم بحديث، روى عنه عطاء وغيره. (بمكة) أي في فتحها كما في رواية النسائي. (فاستفتح سورة المؤمنين) أراد به {قد أفلح المؤمنون} . (حتى جاء ذكر موسى) بالرفع، قال القاري: وفي نسخة بالنصب، أي حتى وصله النبي صلى الله عليه وسلم. (وهارون) أي قوله تعالى:{ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون} [23: 45] . (أو عيسى) أي {وجعلنا ابن مريم وأمه آية} [23: 50] . و: "أو" للشك من محمد بن عباد بن جعفر الراوي. (سعلة) بفتح السين، ويجوز الضم، أي سعال، وهي حركة تدفع بها الطبيعة أذى عن الرئة والأعضاء التي تتصل بها. قال الطيبي: السعلة فعلة من السعال، وإنما أخذته من البكاء يعني عند تدبر تلك القصص بكى حتى غلب عليه السعال ولم يتمكن من إتمام السورة. وفي رواية ابن ماجه: فلما أتى على ذكر عيسى أصابته شرقة. قال السندي: أي شرق بدمعه يعني للقراءة. وقيل: شرق بريقه. وفي القاموس: شرق بريقه كفرح غص-انتهى. واستدل بالحديث على أن السعال لا يبطل الصلاة، وهو واضح فيما إذا غلبه، ويؤخذ منه أن قطع القراءة لعارض السعال ونحوه أولى من التمادي في القراءة مع السعال أو التنحنح، ولو استلزم تخفيف القراءة فيما استحب فيه تطويلها. واستدل به على جواز قراءة بعض السورة في الفريضة. وفيه: أن الاقتصار على بعض السورة ههنا للضرورة، فالاستدلال به على الاقتصار بلا ضرورة لا يتم، فالأولى الاستدلال بقراءته صلى الله عليه وسلم بسورة الأعراف في المغرب حيث فرقها في ركعتين، فإنه لم يذكر ضرورة، ففيه القراءة بالأول وبالأخير، وروى عبد الرزاق بإسناد صحيح عن أبي بكر الصديق: أنه أم الصحابة في صلاة الصبح بسورة البقرة فقرأها في الركعتين. وهذا إجماع منهم. وروى محمد بن عبد السلام الخشني من طريق الحسن البصري قال: غزونا خراسان ومعنا ثلاث مائة من الصحابة، فكان الرجل منهم يصلي بنا فيقرأ آيات من السورة ثم يركع. أخرجه ابن حزم محتجاً به. وروى الدارقطني بإسناد قوي عن ابن عباس: أنه قرأ الفاتحة وآية من البقرة في كل ركعة، كذا في الفتح. قال شمس الدين أبوالفرج ابن قدامة في الشرح الكبير على متن المقنع (ج1: ص618) : المشهور عن أحمد أنه لا يكره قراءة أواخر السورة وأوساطها في الصلاة، نقلها عنه جماعة لقول الله تعالى {فاقرؤوا ما تيسر منه} [73: 20] ؛ ولأن أبا سعيد قال: أمرنا أن نقرأ فاتحة الكتاب وما تيسر. رواه أبوداود، وروى الخلال بإسناده: أن ابن مسعود كان يقرأ في الآخر من صلاة الصبح آخر (آل عمران) وآخر (الفرقان) وقال أبوبرزة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بالستين إلى المائة. ففيه دليل على أنه لم يكن يقتصر على قراءة سورة. ولأن آخرها أحد طرفي السورة فلم يكره كأولها. وعن أحمد: أنه يكره في الفرض. نقلها عنه المروذي وقال: سورة أعجب إلى، وقال المروذي: وكان
رواه مسلم.
844-
(17) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة بـ {الم تنزيل} في
الركعة الأولى، وفي الثانية {هل أتى على الإنسان} .
ــ
لأبي عبد الله قرابة يصلي به فكان يقرأ في الثانية من الفجر بآخر السورة، فلما أكثر قال أبوعبد الله: تقدم أنت فصل، فقلت: هذا يصلي بكم منذ كم؟ قال: دعنا منه يجيء بآخر السور، وكرهه. قال شيخنا: ولعل أحمد إنما أحب إتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما نقل عنه، وكره المداومة على خلاف ذلك، فإن المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السورة، أو بعض السورة من أولها، ونقل عنه رواية ثالثة أنه يكره قراءة أوسط السورة دون آخرها لما روينا في آخر السور عن عبد الله بن مسعود، ولم ينقل مثل ذلك في وسطها. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: الرجل يقرأ آخر السورة في الركعة، فقال: أليس قد روي في هذا رخصة عن عبد الرحمن بن يزيد وغيره؟ قال: فأما قراءة أوائل السور فلا خلاف في أنه غير مكروه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع، وقرأ سورة الأعراف في المغرب فرقها مرتين. رواه النسائي- انتهى. قلت: لا شك أنه يجوز القراءة في لفريضة من أوائل السورة وأواخرها وأوساطها؛ لأن الكل كتاب الله، لكن الأولى والأفضل قراءة السورة كاملة، فإنه الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه. وذكره البخاري في صحيحه معلقاً بقوله: ويذكر عن عبد الله بن السائب، للاختلاف في سنده مع كونه مما تقوم به الحجة.
844-
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر) أي في صلاة الفجر. (يوم الجمعة) لعل السر في قراءة هاتين السورتين في صلاة فجر يوم الجمعة أنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها، فإنهما اشتملتا على خلق آدم، وعلى ذكر المبدأ والمعاد، وحشر العباد، وأحوال يوم القيامة، وكل ذلك كان، وسيقع يوم القيامة، ففي قراءتها تذكير للعباد ليعتبروا بذكر ما كان ويستعدوا لما يكون. (بـ {الم تنزيل} ) بضم اللام على الحكاية، وزاد في رواية:"السجدة" بالنصب عطف بيان. {هل أتى على الإنسان} أي بكمالها ويسجد فيها كما في المعجم الصغير للطبراني من حديث علي: أنه صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في: "تنزيل السجدة". لكن في إسناده ضعف. قال الحافظ: في الحديث دليل على استحباب قراءة هاتين السورتين في هذه الصلاة من هذا اليوم لما تشعر الصيغة به من مواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك، أو إكثاره منه، بل ورد من حديث ابن مسعود التصريح بمداومته صلى الله عليه وسلم على ذلك. أخرجه الطبراني، ولفظه: يديم ذلك. وأصله في ابن ماجه بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوب أبوحاتم إرساله- انتهى. قال ابن حجر: تصويب أبي حاتم إرساله لا ينافي الاحتجاج به، فإن المرسل يعمل به في مثل ذلك إجماعاً، على أن له شاهداً أخرجه الطبراني أيضاً في الكبير عن ابن عباس بلفظ:
متفق عليه.
845-
(18) وعن عبيد الله بن أبي رافع، قال:((استخلف مروان أباهريرة على المدينة، وخرج إلى مكة، فصلى لنا أبوهريرة الجمعة، فقرأ سورة الجمعة في السجدة الأولى، وفي الآخرة {إذا جاءك المنافقون} فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة)) رواه مسلم.
846-
(19) وعن النعمان بن بشير، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين، وفي الجمعة: بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} .
ــ
كل جمعة- انتهى. وبالجملة فالزيادة المذكورة نص في ذلك، فدل على السنية. وبه أخذ الشافعي، وأحمد، وإسحاق، وقال به أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين، كما نقله ابن المنذر وغيره. وقال صاحب المحيط من الحنفية: يستحب قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة بشرط أن يقرأ غير ذلك أحياناً لئلا يظن الجاهل أنه لا يجزئ غيره. وقريب منه قول الطحاوي فإنه خص الكراهة بمن يراه حتماً لا يجزئ غيره، أو يرى القراءة بغيره مكروهة. وأما صاحب الهداية منهم فذكر أن علة الكراهة هجران الباقي وإيهام التفضيل. قلت: كل ما ذكره الحنفية والمالكية في تعليل الكراهة مردود لكونه في مقابلة النص، والحق أن قراءة هاتين السورتين في صبح يوم الجمعة والمداومة عليهما مع اعتقاد جواز غيرهما سنة، ولله در السندي فقد باح بالحق حيث قال: على كل تقدير المداومة عليهما خير من المداومة على تركهما. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي، وابن ماجه، وفي الباب عن ابن عباس أخرجه أحمد، ومسلم، والترمذي، وأبوداود، والنسائي. وابن مسعود أخرجه ابن ماجه، والطبراني. وسعد بن أبي وقاص أخرجه ابن ماجه. وعلي أخرجه الطبراني في الصغير والأوسط.
845-
قوله: (وعن عبيد الله بن أبي رافع) المدني مولى النبي صلى الله عليه وسلم روى عن أبيه وأمه سلمى، وعن علي، وكان كاتبه، وأبي هريرة. وهو ثقة، من الطبقة الوسطى من التابعين. (استخلف مروان أباهريرة على المدينة) أي جعله خليفته ونائبه عليها. (وخرج) أي مروان. (الجمعة) أي صلاتها. (في السجدة الأولى) أي الركعة الأولى. (إذا جاءك المنافقون) أي سورتها، أو إلى آخرها. (فقال) أي أبوهريرة. (يقرأ بهما) أي تينك السورتين. (يوم الجمعة) أي في صلاة الجمعة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، وابن ماجه.
846-
قوله: (بـ {سبح اسم ربك} ) أي في الركعة الأولى. (و {هل أتاك حديث الغاشية} ) أي في الركعة الثانية. وروى مالك، وأحمد، ومسلم، وغيرهم عن النعمان بن بشير: وسأله الضحاك ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ يوم الجمعة على
قال: وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد قرأ بهما في الصلاتين. رواه مسلم.
847-
(20) وعن عبيد الله:
ــ
أثر سورة الجمعة؟ قال كان يقرأ: {هل أتاك حديث الغاشية} فتحصل من أحاديث الباب أن السنة أن يقرأ الإمام في صلاة الجمعة في الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، أو في الأولى بـ {سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية بـ {هل أتاك حديث الغاشية} . قال السندي: الاختلاف محمول على جواز الكل واستنانه، وأنه فعل تارة هذا وتارة ذاك، فلا تعارض في أحاديث الباب- انتهى. وإنما خص هذه السور بالجمعة لما في سورة الجمعة من الحث على حضورها، والسعي إليها، وفي سورة المنافقين من توبيخ أهل النفاق وحثهم على التوبة، فإن المنافقين يكثر اجتماعهم في صلاتها، وفي سورة الأعلى والغاشية من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد ما يناسب قراءتها في تلك الصلاة الجامعة. (قال) أي النعمان. (قرأ بهما) أي بالسورتين. (في الصلاتين) قال النووي: فيه استحباب القراءة في العيدين والجمعة بـ {سبح اسم ربك الأعلى} و {هل أتاك حديث الغاشية} . وفي الحديث الآخر- يعني حديث أبي واقد الآتي- القراءة في العيد بقاف واقتربت، وكلاهما صحيح، فكان صلى الله عليه وسلم في وقت يقرأ في الجمعة (الجمعة) و (المنافقين) . وفي وقت (سبح) و (هل أتاك) . وفي وقت يقرأ في العيد (قاف) و (اقتربت) وفي وقت. (سبح) و (هل أتاك) - انتهى. وقال أبوحنيفة وأصحابه: يقرأ الإمام في الجمعة والعيدين بعد الفاتحة أي سورة شاء، ولو قرأ هذه السور في أغلب الأحوال تبركاً بالإقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فحسن، ولكن لا يواظب على قراءتها، بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات كيلا يؤدي إلى هجر الباقي، ولا يظنه العامة حتماً، كذا في البدائع وغيره من كتب الحنفية. وهذا يدل على أن قراءة هذه السور في الجمعة والعيدين ليست بسنة عند الحنفية، خلافاً لما ذهب إليه الجمهور. وقول الجمهور هو الحق والصواب؛ لأنه تواترت الروايات بذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابن رشد وابن عبد البر ولم يصح عنه غير ذلك فلا شك في كونها سنة. وتعليل الحنفية بأن المواظبة على قراءتها تؤدي إلى هجران الباقي، وظن العامة واعتقادهم قراءتها فيها حتماً، باطل؛ لأنه لو صح هذا التعليل لزم أن لا يكون قراءة قصار المفصل في المغرب سنة؛ لإفضاء المواظبة عليها إلى هجران بقية القرآن، واعتقاد العامة قراءة القصار فيها حتماً. وأيضاً على فرض حصول هذه المفسدة الأخيرة على ما زعموا تدفع بالتنبيه والتعليم كما هي عادة الرسول صلى الله عليه وسلم لا بالترك والهجران. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.
847-
قوله: (وعن عبيد الله) هو عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي المدني الإمام التابعي الأعمى، أحد فقهاء المدينة السبعة، ثقة، فقيه، ثبت، مأمون، شاعر مجيد، جامع للعلم. قال ابن عبد البر: كان أحد الفقهاء
أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ((ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟ فقال: يقرأ فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} و {اقتربت الساعة} رواه مسلم.
ــ
العشرة ثم السبعة الذين يدور عليهم الفتوى، وكان عالماً فاضلاً مقدماً في الفقه، تقياً، شاعراً محسناً، لم يكن بعد الصحابة إلى يومنا فيما علمت فقيه أشهر منه، ولا شاعر أفقه منه. مات سنة (94) وقيل:(98) وقيل: (99) . (أن عمر بن الخطاب) هذه الرواية منقطعة، فإن عبيد الله لم يدرك عمر رضي الله عنه، لكن الحديث صحيح متصل بلا شك، فإنه وقع في رواية أخرى لمسلم عن عبيد الله عن أبي واقد، قال: سألني عمر بن الخطاب. فإنه أدرك أباواقد بلا شك، وسمع منه بلا خلاف. (سأل أباواقد الليثى) صحابي قديم الإسلام، مختلف في اسمه؛ فقيل: الحارث بن مالك، وقيل: ابن عوف، وقيل: عوف بن الحارث. عداده في أهل المدينة، وجاور بمكة سنة، ومات بها سنة (68) وهو ابن (85) سنة. له سبعة وعشرون حديثاً، اتفقا على حديث، وانفرد مسلم بآخر. وسأله عمر رضي الله عنه اختباراً له هل حفظ ذلك أم لا؟ أو لزيادة التوثيق، ويحتمل أنه نسي. وأما الاحتمال أنه ما علم بذلك أصلاً، فيأباه قرب عمر منه صلى الله عليه وسلم. قال القاضي وغيرهم: يحتمل أن عمر شك في ذلك فاشتبه عليه، أو أراد إعلام الناس بذلك، أو نازعه غيره ممن سمعه يقرأ في ذلك بـ (سبح) و (هل أتاك) فأراد عمر الاستشهاد عليه بما سمعه أيضاً أبوواقد، أو نحو ذلك. قال العراقي: ويحتمل أن عمر كان غائباً في بعض الأعياد عن شهوده، وأن ذلك الذي شهده أبوواقد كان في عيد واحد أو أكثر. قال: ولا عجب أن يخفى على الصاحب الملازم بعض ما وقع من مصحوبة كما في قصة الاستئذان ثلاثاً، وقول عمر: خفي علي هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ألهاني الصفق بالأسواق- انتهى. (ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر؟) أي شيء كان يقرأ في ركعتيهما. (فقال) أي أبوواقد. (يقرأ أي رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فيهما بـ {ق والقرآن المجيد} ) في الركعة الأولى. (و {اقتربت الساعة} ) في الركعة الثانية. فيه دليل للشافعي وموافقيه أنه تسن القراءة بهما في العيدين. والحكمة في قراءتهما لما اشتملتا عليه من الإخبار بالبعث، والإخبار عن القرون الماضية، وإهلاك المكذبين، وتشبيه بروز الناس للعيد ببروزهم لبعث، وخروجهم من الأجداث كأنهم جراد منتشر، وأما سورة (سبح) و (هل أتاك) فقيل: إن ذلك لما في سورة (سبح) من الحث على الصلاة، وزكاة الفطر على ما قال سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز في تفسير قوله تعالى:{قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصلى} فاختصت الفضيلة بها كاختصاص الجمعة بسورتها. وأما: "الغاشية" فللموالاة بين (سبح) وبينا كما بين (الجمعة) و (المنافقين) والله أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً مالك، والشافعي، وأحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
848-
(21) وعن أبي هريرة، قال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الفجر: {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} رواه مسلم.
849-
(22) وعن ابن عباس، قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا} والتي في آل عمران {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء
ــ
848-
قوله: (قرأ في ركعتي الفجر) أي في سنة الفجر وهي المشهورة. بهذا الاسم {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} أي كل سورة بعد الفاتحة إلا أنه تركها الراوي لظهورها، وهذا شائع كثير في الأحاديث المرفوعة القولية والفعلية ذكر فيها السور دون الفاتحة لظهورها وشهرتها، وهذا يدل على تأكد وجوب الفاتحة. وفي الحديث دليل على استحباب قراءة سورتي (الإخلاص) في ركعتي الفجر. ويدل عليه أيضاً ما رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن أبي شيبة، وابن عدي، والطحاوي عن ابن عمر، قال: رمقت النبي صلى الله عليه وسلم شهراً فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر بـ {قل يأيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} ورواه الطبراني في الكبير، وأبويعلى الموصلي بلفظ آخر. وللترمذي عن ابن مسعود، أنه قال: ما أحصى ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في الركعتين- الحديث. وسيأتي. ولابن ماجه، والدارمي، وابن أبي شيبة عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ركعتين قبل الفجر، وكان يقول: نعم السورتان هما يقرأ بهما في ركعتي الفجر {قل هو الله أحد} و {قل يا أيها الكافرون} . وأخرج البزار والطحاوي، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في ركعتي الفجر بـ {قل يا أيها الكافرون} و {قل هو الله أحد} وأخرج ابن حبان في صحيحه، والطحاوي عن جابر في قراءة سورتي. (الإخلاص) حديثاً تقريرياً، ذكره الحافظ في الفتح. وهذه الأحاديث دليل صريح لمذهب الجمهور أنه يستحب أن يقرأ فيهما بعد الفاتحة سورة، ويستحب أن تكون هاتان السورتان أو الآيات المذكورة في حديث ابن عباس، وحديث أبي هريرة الآتيين كلها سنة، فالمصلي مخير إن شاء قرأ مع فاتحة الكتاب في كل ركعة ما في هذه الأحاديث، وإن شاء قرأ ما في حديث ابن عباس وحديث أبي هريرة الآتيين. وقال مالك وجمهور أصحابه: لا يقرأ فيهما غير الفاتحة. وقال بعض السلف: لا يقرأ فيهما شيئاً، وكلاهما خلاف هذه الأحاديث التي لا معارض لها. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
849-
قوله: (قولوا آمنا بالله وما أنزل علينا) أي يقرأ في الأولى منهما الآية التي في البقرة وتمامها {وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون} [2: 136] . (والتي في آل عمران) في الركعة الثانية {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء