الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رواه الترمذي.
(17) باب الدعاء في التشهد
{الفصل الأول}
946-
(1) عن عائشة، رضي الله عنها، قالت. ((كان رسول الله يدعو في الصلاة، يقول: اللهم إني
أعوذبك من عذاب القبر،
ــ
التشهد، فإذا قال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، يحمد ربه ويثني عليه، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل حاجته-انتهى. وقد تقدم ما روى عن ابن مسعود، قال: يتشهد الرجل، ثم يصلي على النبي ثم يدعو لنفسه، أخرجه الحاكم بسند قوي، وهو أقوى شيء يحتج به للشافعي في وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في قعود التشهد الأخير. (رواه الترمذي) في الصلاة من طريق أبي قرة الأسدي. عن سعيد بن المسيب، عن عمر مرفوعاً، لكن للوقف في مثل هذا حكم الرفع؛ لأن ذلك مما لا مجال للاجتهاد فيه. قال ابن العربي في العارضة (ج2:ص273، 274) : مثل هذا إذ قاله عمر لا يكون إلا توقيفاً؛ لأنه لا يدرك بنظر، ويعضده ما خرج مسلم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا عليّ، فإنه من صلى علي صلاة، صلى الله بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة-الحديث. قلت: لكن رواية عمر هذه ضعيفة؛ لأن أبا قرة الأسدي مجهول كما صرح به الحافظ في التقريب، والذهبي في الميزان، وأخرج الطبراني في الأوسط عن علي بن أبي طالب قال: كل دعاء محجوب حتى يصلى على محمد صلى الله عليه وسلم وآل محمد. قال المنذري: إنه موقوف، ورواته ثقات، ورفعه بعضهم، والموقوف أصح-انتهى. وقال الهيثمي: رجاله ثقات، وأخرجه البيهقي في الشعب من حديثه، وأخرجه الديلمي في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ: كل دعاء محجوب حتى يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وفي إسناده محمد بن عبد العزيز الدينوري، قال الذهبي في الضعفاء: منكر الحديث، ويشهد لذلك كله ما تقدم من حديث فضالة بن عبيد مرفوعاً، وفي الحصن الحصين (ص247) : قال الشيخ أبوسليمان الداراني: إذا سألت الله حاجة فابدأه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ادع بما شئت، ثم اختم بالصلاة عليه، فإن الله سبحانه بكرمه يقبل الصلاتين، وهو أكرم من أن يدع ما بينهما-انتهى.
(باب الدعاء في التشهد) أي في آخره أو عقبه بعد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كيفية الانصراف عن الصلاة.
946-
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في الصلاة) أي في آخرها بعد التشهد قبل السلام للحديث الآتي عقب هذا. ففيه تعيين محل هذه الاستعاذة بعد التشهد الأخير، وهو مقيد، وحديث عائشة هذا مطلق فيحمل عليه. (يقول) بدل أو بيان. (اللهم إني أعوذبك من عذاب القبر) هو ضرب من لم يوفق للجواب بمقامع من حديد وغيره من العذاب، كشدة
وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات،
ــ
الضغطة ووحشة الوحدة، والمراد بالقبر البرزخ، والتعبير به للغالب، أو كل ما استقر فيه أجزاءه فهو قبره. وفيه إثبات لعذاب القبر، ورد على المنكرين لذلك من المعتزلة. والأحاديث في الباب متواترة كما تقدم. (وأعوذ بك من فتنة المسيح) قال أهل اللغة: الفتنة الامتحان والاختبار. قال عياض: واستعمالها في العرف لكشف ما يكره، وقد تطلق على القتل، والإحراق، والنميمة، وغير ذلك. والمسيح - بفتح الميم وكسر السين المخففة آخره هاء مهملة – وفيه ضبط آخر، وهذا المشهور الأصح، يطلق على الدجال، وعلى عيسى بن مريم عليه السلام، لكن إذا أريد الدجال قيد به، واختلف في تلقيب الدجال بذلك، فقيل: لأن إحدى عينيه ممسوحة، فعيل بمعنى مفعول، أي عينيه ذاهبة. وقيل:؛ لأن أحد شقى وجهه خلق ممسوحاً لا عين فيه ولا حاجب. وقيل: فعيل بمعنى فاعل من المساحة؛ لأنه يمسح الأرض إذا خرج، أي يقطعها بتردده فيها في أيام معدودة إلا مكة والمدينة، فإن الله تعالى حماهما منه بفضله، وآخر الأمر يقتله المسيح عيسى بن مريم في محاصرة القدس. وأما عيسى، فقيل: سمى بذلك؛ لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن. وقيل: لأن زكريا مسحه. وقيل:؛ لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برئ. وقيل:؛ لأنه كان سياح يمسح الأرض أي يقطعها بسياحته وكثرة سيره في الأرض. وقيل:؛ لأن رجله كانت لا أخمص لها. وقيل: للبسه المسوح. وقيل: أصله "ما شيخا" بالعبرانية، وهو المبارك، فعرب المسيح. وقيل: المسيح الصديق. وذكر المجد الشيرازي صاحب القاموس أنه جمع في وجه تسمية عيسى بذلك خمسين قولاً، أوردها في شرح مشارق الأنوار. (الدجال) أي الخداع الكذاب، فعال من الدجل، وهو الخدع، والكذب، والتغطية، والمراد به هنا الكذاب المعهود الذي سيظهر في آخر الزمان، وفي معناه كل مفسد مضل. والمراد بفتنة المسيح الدجال هي ما يظهر على يده من الأمور الخارقة للعادة التي يضل بها من ضعف إيمانه كما اشتملت على ذلك الأحاديث المشتملة على ذكره، وذكر خروجه وما يظهر للناس من تلك الأمور. (وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات) المحيا بالقصر مفعل من الحياة كالممات من الموت، والمراد الحياة والموت، ويحتمل أن يريد زمان ذلك ويريد بذلك محنة الدنيا وما بعدها، ويحتمل أن يريد بذلك حالة الاخضار وحالة المسألة في القبر، وكأنه استعاذ من فتنة هذين المقامين، وسأل التثبيت فيهما، قاله القرطبي. وقال ابن دقيق العيد: فتنة المحيا ما يعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا، والشهوات، والجهالات، وأعظمها-والعياذ بالله – أمر الخاتمة عند الموت، وفتنة الممات يجوز أن يراد بها الفتنة عند الموت، أضيفت إليه لقربها منه، ويكون المراد بفتنة المحيا على هذا ما قيل ذلك ويجوز أن يراد بها فتنة القبر، وقد صح يعني حديث أسماء عند البخاري "إنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال". ولا يكون مع هذا الوجه متكرراً مع قوله "عذاب القبر"؛ لأن العذاب مرتب عن الفتنة، والسبب غير المسبب. وقال الطيبي:"فتنة المحيا" الابتلاء مع زوال الصبر والرضاء، والوقوع في الآفات، والإصرار على السيئات،
اللهم إني أعوذ بك من المأثم ومن المغرم. فقال له قائل: ما أكثر ما تستعيذ من المغرم! فقال: إن الرجل إذا غرم، حدث فكذب، ووعد فأخلف)) .
ــ
وترك متابعة طريق الهدى، و"فتنة الممات" سؤال منكر ونكير مع الحيرة والخوف، وعذاب القبر وما فيه من الأهوال والشدائد، وهذا من العام بعد الخاص؛ لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال داخلة تحت فتنة المحيا. (من المأثم) أي مما يأثم به الإنسان، أو مما فيه إثم، أو مما يوجب الإثم، أو الإثم نفسه، مصدر وضع موضع الاسم. (ومن المغرم) قال الجزري: هو مصدر وضع موضع الاسم، يريد به مغرم الذنوب والمعاصي. وقيل: المغرم كالغرم وهو الدين، ويريد به ما استدين فيما يكرهه الله أو فيما يجوز ثم عجز عن أدائه، فأما دين احتاج إليه وهو قادر على أداءه فلا يستعاذ منه-انتهى. وقال الحافظ: المغرم الدين، يقال: غرم-بكسر الراء- أي أدان. قيل: والمراد به ما يستدان فيما لايجوز، أو فيما يجوز ثم يعجز عن أدائه. ويحتمل أن يراد به ما هو أعم من ذلك، وقد استعاذ صلى الله عليه وسلم من قلبة الدين-انتهى. وقال السندي: الظاهر أن المراد ما يفضي إلى المعصية بسبب ما. (فقال له قائل) في رواية للنسائي أن السائل عن ذلك عائشة، ولفظها: قلت: يارسول الله! ما أكثر ما تستعيذ، الخ.. (ما أكثر) بفتح الراء فعل التعجب. (ما تستعيذ) في محل النصب وما مصدرية، أي استعاذتك، كأن هذا القائل رأى أن الدين إنما يتعلق بضيق الحال ومثله لا يحترز عنه أصحاب الكمال. (إن الرجل) المراد به الجنس، وغالب حاله. (إذا غرم) بكسر الراء أي لزمه دين، والمراد استدان واتخذ ذلك دأبه وعادته كما يدل عليه السياق. (حدّث) بتشديد الدال أي أخبر عن ماضي الأحوال لتمهيد عذر في التقصير. (فكذب) ؛ لأنه إذا تقاضاه رب الدين ولم يحضره ما يؤدي به دينه يكذب ليتخلص من يده ويقول: لي مال غائب إذا حضر أودي دينك. (ووعد) أي في المستقبل بأن يقول: أعطيك غداً أو في المدة الفلانية، (فأخلف) في وعده، وبما تقرر علم أن "غرم" شرط و"حدث" جزاء، و"كذب" عطف على الجزاء مرتب عليه، و"وعد" عطف على "حدث" لا على"غرم" و"أخلف" مرتب عليه. وحاصل الجواب: أن الدين يؤدي إلى خلل بالدن فلذلك وقعت العناية بالمسألة وقد استشكل دعاءه صلى الله عليه وسلم بما ذكر مع أنه معصوم مغفور له ما تقدم وما تأخر. وأجيب بأجوبة، أحدها: أنه قصد التعليم لأمته. ثانيها: أن المراد السؤال منه لأمته فيكون المعنى هنا: أعوذ بك لأمتي. ثالثها: سلوك طريق التواضع، وإظهار العبودية، وإلزام خوف الله، وإعظامه، والافتقار إليه، وامتثال أمره في الرغبة إليه، ولا يمتنع تكرار الطلب مع تحقق الإجابة؛ لأن ذلك يحصل الحسنات، ويرفع الدرجات. وفيه تحريض لأمته على ملازمة ذلك؛ لأنه إذا كان مع تحقق المغفرة لا يترك التضرع، فمن لم يتحقق ذلك أحرى بالملازمة. وأما الاستعاذة من فتنة الدجال مع تحققه أنه لا يدركه فلا إشكال فيه على الوجهين الأولين. وقيل: على الثالث يحتمل أن يكون ذلك قبل تحقق عدم إدراكه، ويدل عليه
متفق عليه.
947-
(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر، فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شر المسيح الدجال)) رواه مسلم.
948-
(3) وعن ابن عباس، رضي الله عنهما ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم هذا الدعاء كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات)) .
ــ
قوله في الحديث الآخر عند مسلم: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه-الحديث. والله أعلم، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.
947-
قوله: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الآخر) أي آخر الصلاة ولو كان أولا. وفيه تقييد لحديث عائشة السابق، وبيان أن الاستعاذة المأمور بها بعد التشهد الأخير، ويدل التعقيب بالفاء وقوله "إذا فرغ" أنها تكون قبل الدعاء المخير فيه بما شاء. وفيه رد على ابن حزم فيما ذهب إليه من وجوبها في التشهد الأول. قال النووي: فيه التصريح باستحبابه في التشهد الأخير والإشارة إلى أنه لا يستحب في الأول. وهكذا الحكم؛ لأن الأول مبني على التخفيف. (فليتعوذ بالله) ظاهره وجوب الاستعاذة مما ذكر، وقد ذهب إليه ابن حزم، وروى عن طاووس، وحمله الجمهور على الندب، وادعى بعضهم الإجماع على الندب، وهو لا يتم مع مخالفة من تقدم. (من أربع) ينبغي أن يزاد على هذه الأربع التعوذ من المأثم والمغرم المذكورين في حديث عائشة. (من عذاب جهنم) قدم فإنه أشد وأبقى، بدل بإعادة الجار. (ومن شر المسيح الدجال) قيل أخره هنا؛ لأنه إنما يقع آخر الزمان قرب الساعة. قال القاري، قيل: له شر وخير، فخيره أن يزداد المؤمن إيماناً، ويقرأ ما هو مكتوب بين عينيه من أنه كافر، فيزيد إيقاناً. وشره أن لا يقرأ الكافر ولا يعلمه. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.
948-
قوله: (كان يعلمهم) أي أصحابه أو أهل بيته. (هذا الدعاء) أي الذي يأتي. (يقول: قولوا) ذهب طاووس إلى وجوبه، وأمر ابنه بإعادة الصلاة حين لم يدع بهذا الدعاء فيها، وإليه ذهب ابن حزم، والجمهور على أنه مستحب، (اللهم إني أعوذبك من عذاب جهنم) فيه إشارة إلى أنه لا مخلص من عذابها إلا بالالتجاء إلى بارئها. (وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال) أي على تقدير لقيه. (وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات) هذا تعميم بعد تخصيص، وكرر "أعوذ" في كل
رواه مسلم.
949-
(4) وعن أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، قال ((قلت: يارسول الله! علمني دعاء أدعو به
في صلاتي. قال: اللهم إني
ــ
واحدة إظهار لعظم موقعها، وأنها حقيقة بإعادة مستقلة. (رواه مسلم) في الصلاة، وأخرجه أيضاً مالك، وأبوداود في أواخر الصلاة، والترمذي في الدعوات، والنسائي في الاستعاذة.
949-
قوله: (وعن أبي بكر الصديق) هو عبد الله بن عثمان أبي قحافة-بضم القاف- ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة التيمي أبوبكر الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال: من أراد أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى أبي بكر، وهو أول الرجال إسلاما. وقال ميمون بن مهران: لقد آمن أبوبكر بالنبي صلى الله عليه وسلم زمان بحيراء الراهب، واختلف بينه وبين خديجة حتى تزوجها. وذلك قبل أن يولد علي، وكان مولد أبي بكر بمكة بعد الفيل بسنتين وأربعة أشهر إلا أياماً، وشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، ولم يفارقه في الجاهلية، ولا في الإسلام، وكان أفضل الصحابة، ولأبويه، وولده، وولده ولده صحبة، ولم يجتمع هذا لأحد من الصحابة. كان أبيض، أشقر، لطيفاً، نحيفاً، مسترق الوركين، خفيف العارضين. قال عمر: أبوبكر خيرنا وسيدنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناقبه وفضائله كثيرة جداً مدونة في كتب العلماء. مات بالمدينة ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة من الهجرة بين المغرب والعشاء، وله ثلاث وستون سنة، وأوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، فغسلته، وصلى عليه عمر، ودفن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خلافته سنتين وأربعة أشهر. روى مائة واثنين وأربعين حديثاً، اتفقا على ستة، وانفرد البخاري بأحد عشر، ومسلم بحديث، ولم يرو عنه من الحديث إلا هذا القدر القليل لقلة مدته بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وترجمته في تاريخ الشام في مجلد ونصف. (أدعو به في صلاتي) أي عقب التشهد الأخير والصلاة عليك والاستعاذة، وإليه جنح البخاري في صحيحه حيث قال "باب الدعاء قبل السلام"، ثم ذكر حديث أبي بكر هذا. قال ابن دقيق العيد في الكلام على هذا الحديث: هذا يقتضى الأمر بهذا الدعاء في الصلاة من غير تعيين محله، ولعل الأولى أن يكون في أحد موطنين إما السجود وإما بعد التشهد؛ لأنهما أمر فيهما بالدعاء، ولعله يترجح كونه فيما بعد التشهد بظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل. ونازعه الفاكهاني، فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين أي السجود والتشهد. وقال النووي: استدلال البخاري صحيح؛ لأن قوله "في صلاتي" يعم جميعها، ومن مظانه هذا الموطن. وقال العيني: ظاهر الحديث عموم جميع الصلاة. ولكن المراد بعد التشهد الأخير قبل السلام؛ لأن لكل مقام من الصلاة ذكراً مخصوصاً فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل وهو آخر الصلاة، وبيانه أن للصلاة قياماً،
ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
ــ
وركوعاً، وسجوداً، وقعوداً، فالقيام محل قراءة القرآن، والركوع والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محل التشهد، فلم يبق للدعاء إلا بعد التشهد قبل السلام. (ظلمت نفسي) أي بملابسة ما يوجب العقوبة، أو ينقص الحظ والأجر. (ظلمًا كثيراً) يروى بالمثلثة وبالموحدة فيخير الداعي بين اللفظين، ولا يجمع بينهما؛ لأنه لم يرو إلا أحدهما. وقيل: يأتي مرة بالمثلثة، ومرة بالموحدة، فإذا أتى بالدعاء مرتين فقد نطق بما نطق به النبي صلى الله عليه وسلم بيقين. قال الحافظ: في الحديث أن الإنسان لا يعري عن تقصير، ولو كان صديقا. قال السندي: بل فيه أن الإنسان كثير التقصير وإن كان صديقاً؛ لأن النعم عليه غير متناهية، وقوته لا تطيق بأداء أقل قليل من شكرها، بل شكره من جملة النعم أيضاً فيحتاج إلى شكر هو أيضاً كذلك، فما بقي له إلا العجز والاعتراف بالتقصير الكثير، كيف وقد جاء في جملة أدعيته صلى الله عليه وسلم "ظلمت نفسي" انتهى. (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) فيه إقرار بوحدانية الباري تعالى، واستجلاب لمغفرته بهذا الإقرار كما قال تعالى: علم أن له رباً يغفر الذنب. ويأخذ بالذنب، وقد وقع في هذا الحديث امتثال لما أثنى الله تعالى عليه في قوله:{والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله} [3: 135] ، فأثنى على المستغفرين، وفي ضمن ثناءه بالاستغفار لوح بالأمر به كما قيل: إن كل شيء أثنى الله على فاعله فهو آمر به، وكل شيء ذم فاعله فهو ناه عنه. وقوله "لا يغفر الذنوب إلا أنت" كقوله تعالى:{ومن يغفر الذنوب إلا الله} . (مغفرة) نكرها للتعظيم أي مغفرة عظيمة، وزادها تعظيماً بوصفها بقوله:(من عندك) ؛ لأن ما يكون من عنده لا تحيط بوصفه عبارة. وقيل، معناه: من محض فضلك من غير سابقة استحقاق مني، أو مغفرة لائقة بعظيم كرمك. قال الطيبي: دل التنكير على أنه غفران لا يكتنه كنهه، ثم وصف بقوله "من عندك" مبالغة في ذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله ومن لديه لا يحيط به وصف واصف كقوله تعالى:{وعلمناه من لدنا علماً} [18: 65] . وقال ابن دقيق العيد: يحتمل وجهين: أحدهما الإشارة إلى التوحيد المذكور، كأنه قال: لا يفعل هذا إلا أنت فافعله لي أنت. والثاني- وهو أحسن- أنه إشارة إلى طلب مغفرة متفضل بها، لا يقتضيها سبب من العبد من عمل حسن ولا غيره، فهي رحمة من عنده بهذا التفسير ليس للعبد فيها سبب، وهذا تبرؤ من الأسباب، والإدلال بالأعمال والاعتقاد في كونها موجبة للثواب وجوباً عقلياً، وبهذا الثاني جزم ابن الجوزي فقال: المعنى هب لي المغفرة تفضلاً وإن لم أكن لها أهلاً بعملي. (إنك أنت الغفور الرحيم) هما صفتان ذكرتا ختما للكلام على جهة المقابلة لما قبله، فالغفور مقابل لقوله "اغفرلي" والرحيم مقابل لقوله "ارحمني" وهي مقابلة مرتبة. وفي هذا الحديث من الفوائد: التوسل إلى الله تعالى بأسمائه عند طلب الحاجات، واستدفاع المكروهات، وأنه يأتي من صفاته في كل مقام ما يناسبه كالغفور الرحيم عند طلب المغفرة والرحمة، ونحو. {وارزقنا وأنت خير الرازقين} [5: 114] عند طلب الرزق، والقرآن والأدعية النبوية مملوة بذلك. وفيه أيضاً استحباب طلب التعليم من العالم
متفق عليه.
950-
(5) وعن عامر بن سعد، عن أبيه، قال:((كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياض خده))
ــ
سيما في الدعوات المطلوب فيها جوامع الكلم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
950-
قوله: (عن عامر بن سعد) بن أبي وقاص الزهري القرشي، ثقة من أوساط التابعين، مات سنة أربع ومائة. (عن أبيه) سعد بن أبي وقاص تقدم ترجمته. (كنت أرى) بفتح الهمزة. (يسلم عن يمينه) قال الطيبي أي مجاوزاً نظره عن يمينه كما يسلم أحد على من في يمينه. (وعن يساره) فيه مشروعية أن يكون التسليم إلى جهة اليمين ثم إلى جهة اليسار. (حتى أرى بياض خده) قال الأبهري: أي وجنته الخالية عن الشعر، وكان مشرباً بالحمرة- انتهى. والمعنى حتى أرى بياض خده الأيمن في الأولى، والأيسر في الثانية، وفيه دليل على مبالغة في الالتفات إلى جهة اليمين، وإلى جهة اليسار. واعلم أن السلام للتحلل عن الصلاة فرض لا يقوم غيره مقامه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد. وقال أبوحنيفة: لا يتعين السلام للخروج من الصلاة بل إذا خرج بما ينافي الصلاة من عمل، أو حدث؛ أو غير ذلك جاز. قال العيني: اختلف العلماء في هذا؛ فقال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: إذا انصرف المصلي بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة؛ وذهب أبوحنيفة وأبويوسف ومحمد إلى أن التسليم ليس بفرض حتى لو تركه لم تبطل صلاته- انتهى. قلت: السلام عند الحنفية واجب يجب إعادة الصلاة بتركه كما صرح به بعض الحنفية، وهذا مبني على ما أصلوه من التفريق بين الواجب والفرض، قال في البدائع: أما الخروج عن الصلاة بلفظ السلام فواجب عندنا على ما هو القاعدة عند الحنفية أن خبر الواحد يعني قوله "تحليلها التسليم" يفيد الوجوب-انتهى. والحق ما ذهب إليه الجمهور من تعيين السلام للخروج عن الصلاة، وأنه لا يقوم غيره مقامه وأنه يبطل صلاة من تركه. والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:"وتحليلها التسليم" فإن الإضافة تقتضي الحصر فكأنه قال: جميع تحليلها التسليم أي انحصر تحليلها في التسليم لا تحليل لها غيره. ولأنه أحد طرفي الصلاة فكان فيه نطقاً واجباً. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم من صلاته، ويديم ذلك، ويواظب عليه ولا يخل به، وقد قال: صلوا كما رأيتموني أصلي. ولأنه قد تواتر العمل عليه من لدن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وتلقاه الكافة عن الكافة طبقة عن طبقة، فهو ثابت متواتراً عملاً، وطبقة عن طبقة، وهذا كالقعدة الأخيرة عند الحنفية، فإنها فرض عندهم تبطل الصلاة بتركها، ولا دليل على فرضيتها إلا أخبار الآحاد أو تواتر العمل. وأما ما قيل: من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم السلام المسيء في صلاته، ولو وجب لأمره به؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة. ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمه كل الواجبات، بدليل أنه لم يعلمه التشهد والقعود وغيرهما، ويحتمل أنه اقتصر على تعليمه ما رآه أساء فيه. وأما ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمساً
فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله، فسجد سجدتين، أخرجه الجماعة عن ابن مسعود بطريق متعددة، وألفاظ مختلفة. قال الطحاوي: في هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسداً للصلاة، فدل ذلك على أن السلام ليس من أصلها، ولو كان واجباً كوجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضاً كذلك ولكنه بخلافه فهو سنة. ففيه أنه ليس فيه إلا تأخير السلام لا تركه رأساً، وهذا لا يدل على كون السلام من غير أصل الصلاة مع أن ذلك كان في حالة النسيان، وعلى ظن عدم الزيادة والإدخال، والكلام هنا فيمن ترك السلام عمداً، وخرج من الصلاة بغير السلام مما ينافي الصلاة. وأما ما روى عن عبد الله بن عمر مرفوعاً: إذا أحدث الرجل وقد جلس في آخر صلاته قبل أن يسلم فقد جازت صلاته. أخرجه أبوداود والترمذي، وسيأتي في "باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه". ففيه أنه حديث ضعيف مضطرب، قد تفرد به عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وضعفه أكثر الحفاظ. قال الترمذي بعد إخراجه: ليس إسناده بذاك القوي، وقد اضطربوا في إسناده- انتهى. وفيه أيضاً أنه مخالف للحديث الصحيح "وتحليلها التسليم" فلا يقوى على معارضته بل يؤخذ بالأصح، قال الخطابي في المعالم (ج1:ص175) : هذا الحديث ضعيف، وقد تكلم الناس في بعض نقلته، وقد عارضته الأحاديث التي فيها إيجاب التشهد والتسليم- انتهى. وأما ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عبد الله بن مسعود فعلمه التشهد في الصلاة، ثم قال: إذا قلت هذا أو قضيت هذا فقد قضيت صلاتك، إن شئت أن تقوم فقم، وإن شئت أن تقعد فاقعد. أخرجه أحمد وأبوداود والدارقطني. ففيه أن قوله: إذا قلت هذا، الخ. مدرج من قول ابن مسعود، قال الدارقطني: الصحيح أن قوله "إذا قضيت هذا فقد قضيت صلاتك" من كلام ابن مسعود، فصله شبابه عن زهير بن معاوية، وجعله من كلام ابن مسعود، وقوله أشبه بالصواب ممن أدرجه، وقد اتفق من روى تشهد ابن مسعود على حذفه، كذا في المنتقى. قال الشوكاني: أما حديث ابن مسعود فقال البيهقي في الخلافيات: إنه كالشاذ من قول عبد الله، وإنما جعله كالشاذ؛ لأن أكثر أصحاب الحسن بن الحر لم يذكروا هذه الزيادة، لا من قول ابن مسعود مفصولة من الحديث، ولا مدرجة في آخره، وإنما رواه بهذه الزيادة عبد الرحمن بن ثابت عن الحسن، فجعلها من قول ابن مسعود وزهير بن معاوية عن الحسن، فأدرجها في آخر الحديث في قول أكثر الرواة عنه، ورواها شبابه بن سوار عنه مفصولة كما ذكر الدارقطني. وقد روى البيهقي من طريق أبي الأحوص عن ابن مسعود ما يخالف هذه الرواية بلفظ: مفتاح الصلاة التكبير وانقضاءها التسليم، إذا سلم الإمام فقم إن شئت. قال: وهذا الأثر صحيح عن ابن مسعود. وقال ابن حزم: قد صح عن ابن مسعود إيجاب السلام فرضاً، وذكر رواية أبي الأحوص هذه عنه. قال البيهقي: إن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم التشهد لابن مسعود كان قبل فرض التسليم ثم فرض بعد ذلك، وقد صرح بأن تلك الزيادة المذكورة في الحديث مدرجة جماعة من الحفاظ، منهم الحاكم والبيهقي والخطيب، وقال البيهقي في المعرفة: ذهب الحفاظ إلى أن هذا وهم من زهير
ابن معاوية. وقال النووي في الخلاصة: اتفق الحفاظ على أنها مدرجة- انتهى. وقد رواه عن الحسن بن الحر حسين الجعفي، ومحمد بن عجلان. ومحمد بن أبان، فاتفقوا على ترك هذه الزيادة في آخر الحديث مع اتفاق كل من روى التشهد عن علقمة وغيره عن ابن مسعود على ذلك- انتهى كلام الشوكاني. وقد تأول القاضي أبوبكر بن العربي في شرح الترمذي (ج2:ص199) حديث ابن مسعود هذا بأنه إنما يعني به "فقد قضيت صلاتك فاخرج منها كما دخلتها بإحرام"- انتهى. وهو تأويل حسن جيد ظاهر من السياق. وقال ابن حجر: معنى "قضيت" قاربت أو قضيت معظمها، وهذا على تقدير تسليم أنه من الحديث وقد عرفت مما قدمنا أن الحق هو كونه مدرجاً في آخر الحديث من كلام ابن مسعود، وقد عارضه ما صح عن ابن مسعود عند البيهقي، وابن حزم من إيجاب السلام فرضاً، والله أعلم. ثم إن حديث سعد هذا يدل على مشروعية التسليمتين على اليمين واليسار، واختلف فيه أيضاً فالتسليمتان معاً فرض في المشهور عن أحمد لكن صحح في المغني والشرح الكبير (ج1:ص594) أن الفرض تسليمة واحدة، والثانية سنة. ونقل ابن المنذر والنووي إجماع العلماء على ذلك، وأما عند الحنفية فالأولى واجبة، والثانية سنة، وقيل: كلتاهما واجبتان عندهم على ما صرح به الشامي، وصاحب البرهان، والكبيري، وعليه يدل كلام صاحب البدائع. وأما عند الشافعي فالأولى فرض، والثانية مستحبة. قال في الأم (ج1: ص106) بعد رواية أحاديث التسليمتين ما نصه: وبهذه الأحاديث كلها نأخذ فنأمر كل مصل أن يسلم تسليمتين، إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً، ونأمر المصلي خلف الإمام إذا لم يسلم الإمام تسليمتين أن يسلم هو تسليمتين ويقول في كل واحدة منهما: السلام عليكم ورحمة الله. (ثم قال) : وإن اقتصر رجل على تسليمة فلا إعادة عليه، وأقل ما يكفيه من تسليمه أن يقول: السلام عليكم، فإن نقص من هذا حرفاً عاد فسلم- انتهى. وأما عند مالك فغير المأموم وهو الإمام والمنفرد يسلم واحداً قبالة وجهه، ويتيامن قليلاً، والمأموم يسلم ثلاثاً أي عن يمينه أولا ثم يرد على إمامه، وإن كان على يساره أحد يرد عليه. وقد ظهر بهذا كله أن الاختلاف ههنا في شيئين: الأول في عدد الواجب، فالجمهور على أن الواجب واحد والثاني سنة، خلافاً للمشهور عن أحمد والحنفية في قول. والثاني في عدد السنة، فعند الجمهور المسنون تسليمتان لكل مصل إماماً كان أو مأموماً أو منفرداً. وقال أنس وعائشة وسلمة بن الأكوع من الصحابة والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز من التابعين، والشافعي في قول: إن المشروع تسليمة واحدة لكل مصل. وقال مالك: يسلم غير المأموم سلاماً واحداً قبالة وجهه، والمأموم ثلاثاً إن كان على يساره أحد. واستدل على ذلك بما روى في موطئه عن ابن عمر من فعله أنه كان يسلم عن يمينه، ثم يرد على الإمام، فإن سلم عليه أحد عن يساره رد عليه أيضاً. وأخرجه أيضاً البيهقي في سننه، وهذا من متفردات ابن عمر، لم يوافقه عليه أحد من الصحابة. والحق أن المشروع تسليمتان فقط لكل مصل، والواحدة منهما ركن لا تجزئ الصلاة إلا بها، والتسليمة الثانية سنة يدل على ذلك
رواه مسلم.
951-
(6) وعن سمرة بن جندب، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه))
رواه البخاري.
ــ
الأحاديث الواردة في المسئلة، وفيه جمع الأخبار، وأقوال الصحابة في أن يكون المشروع والمسنون تسليمتين، والواجب واحدة، وقد دل على صحة هذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر والنووي فلا يعدل عنه. قال ابن العربي في العارضة: التسليمة الواحدة إن كان حديثها عن عائشة معلولة لكن نقلها بصفة الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتر فهي مقدمة على رواية الآحاد: فسلموا واحدة التحليل من الصلاة كما أحرمتم بتكبيره واحدة، وسلموا أخرى تردون بها على الإمام، والذي على يساركم، واحذروا عن تسليمة ثالثة، فإنها بدعة- انتهى. ويأتي بقية الكلام في شرح حديث عائشة في الفصل الثالث. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي وابن ماجه والبزار والدارقطني وابن حبان، وفي الباب أحاديث كثيرة فيها ذكر التسليمتين ذكرها الشوكاني في النيل (ج1:ص193) والحافظ في التلخيص (ص104) والزيلعي في نصب الراية، قال الأمير اليماني في السبل: حديث التسليمتين رواه خمسة عشر من الصحابة بأحاديث مختلفة، ففيها صحيح، وحسن، وضعيف، ومتروك.
951-
قوله: (إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه) معناه إذا فرغ من الصلاة استقبل المأمومين لضرورة أنه لا يتحول عن القبلة قبل فراغ الصلاة والتسليم، وفي الباب عن زيد بن خالد الجهني، قال: صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت من الليل، فلما انصرف. (أي من صلاته) أقبل على الناس- الحديث. وعن أنس، قال: أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل، ثم خرج علينا، فلما صلى أقبل علينا بوجهه- الحديث. أخرجهما البخاري. وعن يزيد بن الأسود، قال: حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، قال: فصلى بنا صلاة الصبح، ثم انحرف جالساً فاستقبل الناس بوجهه- الحديث. أخرجه أحمد. وفي هذه الأحاديث دليل على مشروعية استقبال المؤتمين بعد الفراغ من الصلاة، والمواظبة على ذلك لما يشعر به لفظ "كان". قيل: والحكمة في استقبال المؤتمين أن يعلمهم ما يحتاجون إليه، وعلى هذا يختص بمن كان في مثل حاله صلى الله عليه وسلم من الصلاحية للتعليم والموعظة. وقيل: الحكمة فيه أن يعرف الداخل انقضاء الصلاة إذ لو استمر الأمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلاً. وقال الزين بن المنير: استدبار الإمام المأمومين إنما هو لحق الإمامة، فإذا انقضت الصلاة زال السبب، فاستقبالهم حينئذٍ يرفع الخيلاء والترفع على المأمومين- انتهى. هذا وحديث البراء الآتي بعد حديثين يدل بظاهره على أنه صلى الله عليه وسلم كان يقبل على من في جهة اليمين لا على المؤتمين جميعاً، وسيأتي وجه الجمع هناك. (رواه البخاري) في عشرة مواضع مطولاً ومقطعاً في الصلاة
952-
(7) وعن أنس، قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه)) رواه مسلم.
953-
(8) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته، يرى أن
حقاً أن لا ينصرف إلا عن يمينه، لقد رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره))
ــ
والجنازة والبيوع والجهاد وبدء الخلق وصلاة الليل، والأدب، وأحاديث الأنبياء، والتفسير، والتعبير، وأخرجه أيضاً مسلم والترمذي والنسائي كلهم في الرؤيا.
952-
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه) وفي رواية لمسلم: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه. وكذا في رواية النسائي، وهذه الرواية تدل على أن أكثر انصرافه صلى الله عليه وسلم كان عن اليمين بخلاف الرواية التي ذكرها المصنف فإنها يمكن أن تحمل على أنه كان يفعل ذلك أحياناً. وسيأتي الكلام عليه في شرح حديث ابن مسعود التالي. (رواه مسلم) وأخرجه النسائي.
953-
قوله: (لا يجعل أحدكم للشيطان شيئاً من صلاته) هذا لفظ البخاري، ولفظ مسلم: لا يجعلن أحدكم للشيطان من نفسه جزءا، وفي رواية أبي داود نصيبا. (يرى) بفتح أوله، أي يعتقد، ويجوز الضم، أي يظن، وهو استئناف كأن قائلاً يقول: كيف يجعل أحدنا حظاً للشيطان من صلاته؟ قال: يرى. (أن حقاً) أي واجباً. وفي رواية النسائي: أن حتماً. (عليه أن لا ينصرف) أي يعتقد أنه حق عليه أن لا ينصرف إذا فرغ من الصلاة. (إلا عن يمينه) أي جانب يمينه، فمن اعتقد ذلك فقد تابع الشيطان في اعتقاده حقية ما ليس بحق عليه، فذهب كمال صلاته. قال ابن المنير: فيه أن المندوبات قد تنقلب المكروهات إذا رفعت عن رتبتها؛ لأن التيامن مستحب في كل شيء، أي من أمور العبادة، لكن لما خشي ابن مسعود أن يعتقدوا وجوبه أشار إلى كراهته، قال الطيبي: في الحديث أن من أصر على أمر مندوب وجعله عزماً ولم يعمل بالرخصة فقد أصاب منه الشيطان من الإضلال فكيف من أصر على بدعة أو منكر؟ ذكره القاري. قال السندي: قوله "أن حقاً عليه أن لا ينصرف" أورد عليه أن حقاً نكرة، وقوله "أن لا ينصرف" بمنزلة المعرفة، وتنكير الاسم مع تعريف الخبر لا يجوز. وأجيب بأنه من باب القلب، أي يرى أن عدم الانصراف حق عليه. قلت: وهذا الجواب يهدم أساس القاعدة إذ يتأتى مثله في كل مبتدأ نكرة مع تعريف الخبر، فما بقي لقولهم بعدم الجواز فائدة، ثم القلب لا يقبل بلا نكتة، فلا بد لمن يجوز ذلك من بيان نكتة في القلب ههنا. وقيل: بل النكرة المخصصة كالمعرفة، قلت: ذلك في صحة الابتداء بها، ولا يلزم منه أن يكون الابتداء بها صحيحا مع تعريف الخبر، وقد صرحوا بامتناعه، ويمكن أن يجعل اسم "أن" قوله "أن لا ينصرف" وخبره الجار والمجرور وهو "عليه" ويجعل "حقاً" حالاً من ضمير "عليه" أن يرى أن عليه الانصراف عن يمينه حال كونه حقاً لازماً- انتهى كلام السندي. (لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ينصرف عن يساره)
متفق عليه.
954-
(9) وعن البراء، قال: ((كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه،
ــ
ولعل ذلك؛ لأن حاجته صلى الله عليه وسلم غالباً الذهاب إلى البيت، وبيته إلى اليسار، فلذلك كثر ذهابه إلى اليسار، ووقع في رواية مسلم: أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله، فأما رواية البخاري فلا تعارض حديث أنس الذي ذكره المصنف عن مسلم كما لا يخفى على من له أدنى تأمل. وأما رواية مسلم التي ذكرناها الآن فهي معارضة في الظاهر لحديث أنس عند مسلم بلفظ: أكثر ما رأيت رسول الله ينصرف عن يمينه؛ لأنه عبر في كل منهما بصيغة أفعل. ووجه الجمع بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر هذا مدة وهذا مدة، فأخبر كل واحد بما اعتقد أنه الأكثر فيما يعلمه، فدل على جواز الأمرين، ولا كراهة في واحد منهما. وقد صح الأمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تخطئة ابن مسعود فإنما هي لاعتقاد أحدهما واجباً بعينه، وهذا خطأ بلا ريب، واللائق أن ينصرف إلى جهة حاجته، سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، كما روى ابن أبي شيبة عن علي أنه قال: إذا قضيت الصلاة وأنت تريد حاجة، فكانت حاجتك عن يمينك أو عن يسارك، فخذ نحو حاجتك- انتهى. فإن استوى الجهتان في الحاجة وعدمها فاليمين أفضل بلا وجوب لعموم الأحاديث المصرحة بفضل التيامن. ويمكن أن يجمع بينهما بوجه آخر، وهو أن يحمل حديث ابن مسعود على حالة الصلاة في المسجد؛ لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت من جهة يساره في حال أداء الصلاة، ويحمل حديث أنس على ما سوى ذلك كحال السفر، ثم إذا تعارض اعتقاد ابن مسعود وأنس رجح ابن مسعود لأنه أعلم، وأسن، وأجل، وأكثر ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم وأقرب إلى موقفه في الصلاة من أنس، وبأن في إسناد حديث أنس من تكلم فيه وهو السدي، وبأنه متفق عليه بخلاف حديث أنس الأمرين، وبأن رواية ابن مسعود توافق ظاهر الحال؛ لأن حجرة النبي صلى الله عليه وسلم كانت على جهة يساره، كذا في الفتح. والحديث رواه أبوداود، وزاد في آخره: قال عمارة. (يعني ابن عمير) : أتيت المدينة بعد، فرأيت منازل النبي صلى الله عليه وسلم عن يساره، ورواه أحمد (ج1:ص459) من طريق عبد الرحمن بن الأسود ابن يزيد النخعي، عن أبيه، قال: سمعت رجلاً يسأل عبد الله بن مسعود عن انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته: عن يمينه كان ينصرف أو عن يساره؟ قال: فقال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف حيث أراد، كان أكثر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته على شقه الأيسر إلى حجرته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
954-
قوله: (أحببنا أن نكون عن يمينه) لكون يمين الصف أفضل، هذا هو الذي فهمه النسائي فقد ترجم على حديث البراء هذا "باب المكان الذي يستحب من الصف"، وكذا ابن ماجه حيث عقد عليه "باب فضل ميمنة الصف".
يقبل علينا بوجهه.
ــ
وبوب عليه النووي في شرحه لمسلم "باب استحباب يمين الإمام". وقيل في بيان السبب لكونه صلى الله عليه وسلم (يقبل علينا) أي على أهل اليمين. (بوجهه) أي عند السلام أولاً قبل أن يقبل على من يساره، أي فنحب أن يقع بصره صلى الله عليه وسلم علينا عند التسليم أولاً. وعلى هذين الوجهين لا دليل في الحديث على أنه كان يلتفت بعد الانصراف من الصلاة إلى أهل اليمين ويستقبلهم في حالة الجلوس بعد انحرافه عن جهة القبلة، فلا منافاة بينه وبين ما تقدم من حديث سمرة بن جندب الدال على استقبال جميع المؤتمين. قال القاضي: يحتمل أن يكون التيامن عند التسليم وهو الأظهر؛ لأن عادته صلى الله عليه وسلم إذا انصرف أن يستقبل جميعهم بوجهه- انتهى. وقيل: معنى الحديث يقبل علينا بوجهه أي يستقبل في حالة الجلوس بعد الانصراف من الصلاة والانحراف عن جهة القبلة أهل الميمنة لا جميع المؤتمين، فلذلك نحب أن نكون عن يمينه، وعلى هذا المعنى يعارض هذا حديث سمرة المتقدم. واختلفوا في وجه الجمع بينهما، وبيان محمل الحديثين، ومحمل أحاديث الانصراف عن اليمين وعن اليسار. فمنهم من أوّل حديث سمرة إلى حديث البراء، وجعل حديث البراء مفسراً الحديث سمرة، وقال: المراد بقوله "أقبل علينا" في حديث سمرة أي على بعضنا وهم أهل اليمين، أو أن سمرة كان يصلي في الميمنة فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين. ومنهم من جمع بين الحديثين بأنه صلى الله عليه وسلم كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل اليمين، قالوا فالإمام مخير إن شاء استقبل القوم بوجهه، وإن شاء انحرف يمنه ويسرة أي يجعل يمينه إليهم ويساره إلى القبلة، أو عكسه. قال الشوكاني: يمكن الجمع بين الحديثين بأنه كان تارة يستقبل جميع المؤتمين، وتارة يستقبل أهل الميمنة، أو يجعل حديث البراء مفسراً لحديث سمرة، فيكون المراد أقبل علينا أي على بعضنا، أو أنه كان يصلي في الميمنة، فقال ذلك باعتبار من يصلي في جهة اليمين- انتهى. ومنهم من فصل وقال: إنه كان من عادته صلى الله عليه وسلم أنه إذا أسلم تحول عن القبلة، وانحرف يميناً أو شمالاً، ولم يمكث مستقبل القبلة، بل يسرع الانتقال إلى المأمومين، فإن كان هناك حاجة وضرورة إلى خطاب الناس جلس مستقبلاً لجميع المؤتمين، وخاطبهم وكلمهم، كما في حديث سمرة، وزيد بن خالد الجهني، وأنس، ومن وافقهم، وإن لم يكن هناك شيء يتعلق بخطاب القوم فتارة جلس منحرفاً يمنه بأن يجعل يمينه إلى القوم ويساره إلى القبلة، كما يدل عليه حديث البراء على المعنى الثالث. وتارة جلس منحرفاً يسره بأن جعل يساره إلى القوم ويمينه إلى القبلة، وتارة لا يجلس بل يذهب إلى جهة حاجته سواء كانت عن يمينه أو عن شماله، والأحاديث التي فيها ذكر الانصراف عن اليمين والشمال مطلقاً كحديثي ابن مسعود وأنس الذين ذكرهما المصنف، وكحديث هلب عند الترمذي، وأبي داود، وابن ماجه بلفظ: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فينصرف عن جانبيه جميعاً على يمينه وشماله. وكحديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجه بلفظ: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة" تتناول جميع هذه الصور. ومنهم من حمل أحاديث الانصراف المطلقة على الذهاب إلى البيت، والانصراف إلى موضع الحاجة، وقال: إن الإمام إن كان لا يريد الجلوس بعد السلام بل يريد الذهاب إلى بيته سلم
قال: فسمعته يقول: رب قني عذابك يوم تبعث - أوتجمع- عبادك)) رواه مسلم.
955-
(10) وعن أم سلمة، قالت: ((إن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة
قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله،
ــ
وانصرف إلى موضع حاجته يمنه أو يسره، وذهب إلى بيته، وإن كان يريد المكث والقعود في مصلاه فالسنة أن يستقبل جميع المؤتمين، فسنة الجلوس هي استقبال جميع المؤتمين، لا استقبال أهل اليمين أو أهل اليسار فقط، فجلوس الإمام منحرفاً يمنة أي استقبال أهل اليمين، أو يسرة أي استقبال أهل اليسار وإن كان مباحاً لكنه ليس من السنة في شيء، فمن كان يريد السنة فلينصرف بعد السلام إلى بيته وموضع حاجته إن لم يرد المكث والجلوس، وهذا هو محمل روايات الانصراف المطلقة، أو يجلس مستقبلاً لجميع المؤتمين. قلت: هذا القول الأخير هو الراجح عندي، وقد جنح إليه البخاري حيث عقد على أحاديث سمرة، وزيد بن خالد، وأنس "باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم"، فجزم بأن سنة الجلوس هو استقبال القوم جميعاً، ثم ترجم بعد بابين "باب الانفتال والانصراف عن اليمين والشمال"، وذكر فيه أثر أنس بأنه كان ينفتل عن يمينه ويساره، ثم ذكر حديث ابن مسعود. قال القسطلاني في شرحه "باب الانفتال" أي لاستقبال المأمومين "والانصراف" أي لحاجته إلى اليمين والشمال، وكأنه أخذ ذلك من كلام الزين بن المنير حيث قال: جمع البخاري في الترجمة بين الانفتال والانصراف، للإشارة إلى أنه لا فرق في الحكم بين الماكث في مصلاه إذا انفتل لاستقبال المأمومين وبين المتوجه لحاجته إذا انصرف إليها-انتهى. (قال) أي البراء. (فسمعته يقول) أي بعد التسليم. قال ابن الملك: ويحتمل أنه سمعه في الصلاة. (رب) بحذف ياء المتكلم. (قني) أمر من وقي يقي وقاية. (عذابك) أي احفظني منه بفضلك وكرمك وهو تعليم لأمته أو تواضع مع ربه. (يوم تبعث أو تجمع عبادك) شك من الراوي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي وأبوداود وابن ماجه وأبوعوانة في مسنده الصحيح.
955-
قوله: (قمن) أي خرجن إلى بيوتهن. (وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه بعد قيامهن ليتبعه الرجال في ذلك حتى تنصرف النساء إلى البيوت، فلا يقع اجتماع الطائفتين في الطريق، ويحصل الأمن من الفتنة باختلاط الرجال بالنساء في الطريق. (ومن صلى) عطف على "رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي وثبت من صلى معه. (ما شاء الله) أي زماناً شاء الله أن يلبثوا فيه. وزاد في بعض الروايات: قالت فنرى- والله أعلم- أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. والحديث فيه أنه يستحب للإمام مراعاة أحوال المأمومين، والاحتياط في اجتناب ما قد يفضي إلى المحذور. وفيه اجتناب مواقع التهم وكراهة مخالطة الرجال للنساء في الطرقات فضلاً عن البيوت، ومقتضى التعليل المذكور أن المأمومين إذا كانوا رجالاً فقط أن لا يستحب هذا المكث، وعليه حمل ابن قدامة حديث عائشة الآتي: