المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌(14) باب السجود وفضله ‌ ‌{الفصل الأول} 894- (1) عن ابن عباس، قال: - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(10) باب صفة الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(11) باب ما يقرأ بعد التكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(12) باب القراءة في الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(13) باب الركوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(14) باب السجود وفضله

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(15) باب التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(17) باب الدعاء في التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(18) باب الذكر بعد الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(20) باب السهو

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(21) باب سجود القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(22) باب أوقات النهي

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(23) باب الجماعة وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌(14) باب السجود وفضله ‌ ‌{الفصل الأول} 894- (1) عن ابن عباس، قال:

(14) باب السجود وفضله

{الفصل الأول}

894-

(1) عن ابن عباس، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: على الجبهة، واليدين،

ــ

الدارمي هذا الحديث عن النعمان بن مرة لا باللفظ المذكور ولا بمعناه، نعم رواه من حديث أبي قتادة في باب "الذي لا يتم الركوع والسجود"، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5: ص310) .

(باب السجود) أي كيفيته (وفضله) أي ما ورد في فضيلته؛ لأنه بانفراد عبادة بخلاف الركوع. والسجود في الأصل: تذلل مع تطامن وانحناء، وفي الشرع: عبارة عن وضع الوجه على الأرض على وجه مخصوص. وقيل: عبارة عن وضع الجبهة على الأرض على قصد العبادة.

894-

قوله: (أمرت) بضم الهمزة على صيغة المجهول، والآمر هو الله جل جلاله. وفي رواية للبخاري: أمرنا –بضم الهمزة ونون الجمع- أي أنا وأمتي، وهو دال على أن الخطاب لعموم الأمة لا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، واللفظ يقتضي الوجوب، قيل: وفيه نظر؛ لأنه ليس فيه صيغة "أفعل". قال الشوكاني: هذا النظر ساقط؛ لأن لفظ "أمر" أدل على المطلوب من صيغة "افعل" كما تقرر في الأصول، وعرف ابن عباس هذا بإخبار صلى الله عليه وسلم له أو لغيره (سبعة أعظم) جمع عظم، وفي رواية: سبعة أعضاء. قال ابن دقيق العيد: سمي كل من هذه الأعضاء عظما وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة، ويحتمل أن يكون ذلك من باب تسمية الجملة باسم بعضها (على الجبهة) بدل بإعادة الجار. والجبهة: مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية. وقيل: هي ما بين الجبينين، وهما قرنا الرأس وجانباه، وقدمها لكونها أشرف الأعضاء المذكورة، أو أشهرها في تحصيل هذا الركن. قيل: والأنف تبع للجبهة، وقد وقع في رواية لمسلم والنسائي: أمرت أن أسجد على سبع، ولا أكفت الشعر ولا الثياب: الجبهة والأنف، الخ. قال السندي: قوله: "الجبهة والأنف" لكونهما من أجزاء الوجه فعدهما بمنزلة عدتا واحدة من السبعة، وإلا يلزم الزيادة على السبعة – انتهى. وفي رواية للشيخين: على الجبهة وأشار بيده على أنفه. قال السندي: أي إلى الأنف وما يتصل به من الجبهة ليوافق الأحاديث السابقة-انتهى. وفي رواية للنسائي في آخرها: قال ابن طاووس: ووضع يده على جبهته وأمرها على أنفه، وقال: هذا واحد. وهذه رواية مفسرة. قال القرطبي: هذا يدل على أن الجبهة الأصل في السجود، والأنف تبع (واليدين) أي الكفين، فقد وقع في رواية لمسلم بلفظ:"الكفين" وقال ابن حجر: أي بطونهما لخبر البيهقي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا

ص: 203

والركبتين، وأطراف القدمين،

ــ

سجد ضم أصابعه وجعل يديه حذو منكبيه، ويرفع مرفقيه، ويعتمد على راحتيه. قيل: ويندب ضم أصابع اليدين؛ لأنها لو انفرجت انحرفت رؤوس بعضها عن القبلة. (وأطراف القدمين) بأن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما وعقباه مرتفعان فيستقبل بظهور قدميه القبلة. والحديث يدل على وجوب السجود على هذه الأعضاء السبعة جميعاً؛ لأن الأمر للوجوب، وإليه ذهب طاووس، وإسحاق، وأحمد، وزفر، والشافعي في أحد قولية. وقال مالك، وأبوحنيفة، والشافعي في القول الآخر: أنه لا يجب السجود على غير الوجه. والراجح عندي ما ذهب إليه الأولون، وهو الأصح الذي رجحه الشافعي لحديث الباب، ولحديث العباس بن عبد المطلب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب- الحديث. رواه الجماعة إلا البخاري. ولحديث البراء الآتي: إذا سجدت فضع كفيك، الخ. ولحديث ابن عمر رفعه: أن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفعه فليرفعهما. رواه أحمد وأبوداود والنسائي. واحتج من قال: إن الواجب الجبهة دون غيرها بحديث المسيء صلاته حيث قال فيه: "ويمكن جبهته"، فكان قرينة على حمل الأمر ههنا على غير الوجوب. وأجيب عنه: بأن هذا لا يتم إلا بعد معرفة تقدم هذا على حديث المسيء صلاته ليكون قرينة على حمل الأمر على الندب، وأما لو فرض تأخره لكان في هذا زيادة شرع، ويمكن أن تتأخر شرعيته، ومع جهل التاريخ يرجح العمل بالموجب لزيادة الاحتياط. وقال ابن دقيق العيد: هذا غايته أن تكون دلالته. (أي دلالة حديث المسيء صلاته) دلالة مفهوم لقب أو غاية، والمنطوق الدال على وجوب السجود على هذه الأعضاء مقدم عليه، وليس هذا من باب تخصيص العموم بالمفهوم. قال: وأضعف من هذا استدلالهم بحديث: "سجد وجهي"، قالوا: فأضاف السجود إلى الوجه، فإنه لا يلزم من إضافة السجود إلى الوجه انحصار السجود فيه. وقال ابن قدامة: سجود الوجه لا ينفي سجود ما عداه. قال ابن دقيق العيد: وأضعف من هذا الاستدلال على عدم الوجوب بأن مسمى السجود يحصل بوضع الجبهة، فإن هذا الحديث يدل على إثبات زيادة على المسمى فلا تترك. وأضعف من هذا المعارضة بقياس شبهي ليس بقوي مثل أن يقال: أعضاء لا يجب كشفها فلا يجب وضعها كغيرها من الأعضاء سوى الجبهة. قال ابن قدامة: سقوط الكشف لا يمنع وجوب السجود، فإنا نقول كذلك في الجبهة على رواية، وعلى الرواية الأخرى فإن الجبهة هي الأصل وهي مكشوفة عادة بخلاف غيرها- انتهى. قال ابن دقيق العيد: وظاهر الحديث أنه لا يجب كشف شيء من هذه الأعضاء؛ لأن مسمى السجود يحصل بوضعها دون كشفها، ولم يختلف في أن كشف الركبتين غير واجب لما يحذر فيه من كشف العورة، وأما عدم وجوب كشف القدمين فلدليل لطيف، وهو أن الشارع وقت المسح على الخف بمدة تقع فيها الصلاة بالخف، فلو وجب كشف القدمين لوجب نزع الخف المقتضي لنقض الطهارة فتبطل الصلاة- انتهى. ويمكن أن يخص ذلك بلابس الخف لأجل الرخصة، وأما كشف اليدين والجبهة، فقيل: يجب،

ص: 204

وقيل: لا يجب، والأحاديث من الجانبين غير ناهضة كما قال البيهقي، والأولى أن يكشف المصلي اليدين والجبهة، ويباشر بهما ليخرج من الخلاف، ويأخذ بالعزيمة. ثم إنه يجب أن يجمع الجبهة والأنف في السجود عند أحمد في رواية، وابن حبيب من المالكية، وسعيد بن جبير، وإسحاق، وأبي خيثمة، وهو قول للشافعي فلا يجوز عندهم الاقتصار على أحدهما. وقال أحمد في رواية أخرى، ومالك، والشافعي، وعطاء، وطاووس، وابن سيرين، وصاحبا أبي حنيفة: أبويوسف ومحمد: لا يجب السجود على الأنف بل يجوز الاقتصار على الجبهة، ولا يجزىء الاقتصار على الأنف. وقال أبوحنيفة: يجوز الاقتصار على الأنف وحدها. والحق ما ذهب إليه الأولون من وجوب السجود على مجموع الجبهة والأنف لما تقدم من حديث ابن عباس عند مسلم والنسائي، فإن فيه ذكر الجبهة والأنف معاً. ولما تقدم أيضاً من رواية ابن عباس بلفظ: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه. فإن إشارته إلى أنفه تدل على أنه أراده. ولما روى عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لم يلزق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته. رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط" ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2: ص126) وقال: رجاله موثقون وإن كان في بعضهم اختلاف من أجل التشيع-انتهى. ولما روى أحمد من حديث وائل قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على الأرض واضعاً جبهته وأنفه في سجوده. ولما روى عن أبي حميد أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض. أخرجه الترمذي، وأبوداود، وابن خزيمة في صحيحه، وصححه الترمذي. ولما روى عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبهة. رواه الأثرم والإمام أحمد، ورواه أبوبكر بن عبد العزيز، والدارقطني في الأفراد متصلاً عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه مرسل، قاله ابن قدامة في المغني (ج1: ص560) وقال ابن حجر: هو مرسل، ورفعه لا يثبت-انتهى. قال القاري: والمرسل حجة عندنا. وهو في حكم المرفوع؛ لأنه لا يقال مثل هذا بالرأي. ولما روى إسماعيل بن عبد الله المعروف بسمويه في فوائده عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إذا سجد أحدكم فليضع أنفه على الأرض، فإنكم قد أمرتم بذلك. ولما روى عن أبي سعيد في حديث طويل، قال: حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه. قال الخطابي: فيه دليل على وجوب السجود عليهما، ولولا ذلك لصبانهما عن لوث الطين. واستدل للجمهور بحديث ابن عباس الذي أورده المؤلف، فإنه لم يذكر الأنف فيه. وفيه: أنه قد ذكرها في رواية مسلم والنسائي، فتحمل رواية الباب على الاختصار. وبحديث جابر، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر. رواه تمام في فوائده وغيره، وإذا سجد بأعلى الجبهة لم يسجد على الأنف، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسجد على جبهته مع قصاص الشعر. قال: رواه أبويعلى والطبراني في الأوسط إلا أنه قال: على جبهته على قصاص الشعر. وفيه أبوبكر

ص: 205

ولا نكفت الثياب والشعر))

ــ

ابن عبد الله بن أبي مريم، وهو ضعيف لاختلاطه. واستدل لأبي حنيفة بما في رواية للشيخين: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم: الجبهة، وأشار بيده على أنفه، فإنه سمى الجبهة وأشارة إلى الأنف، والتسمية إذا تعارضت بالإشارة فالعبرة عند الحنفية بالإشارة، فإنها أبلغ في التعيين، وحينئذٍ لما كانت الإشارة إلى الأنف دلت على أن الاقتصار عليه كافٍ. وتعقب بأن قوله "على الأنف" تعبير من الراوي لا تحاد جهة الأنف والجبهة، فكيف تعين كونها إلى الأنف؟ لم لا يجوز أن يكون أشار إلى الجبهة؟ ولما كانت جهته جهة الأنف عبر عنه الراوي بما ترى. وقال ابن دقيق العيد: الحق أن الإشارة لا تعارض التصريح بالجبهة؛ لأنها قد لا تعين المشار إليه فإنها إنما تتعلق بالجهة، فإذا تقارب ما في الجهة أمكن أن لا يعين المشار إليه يقيناً، وأما اللفظ فإنه معين لما وضع له فتقديمه أولى-انتهى. وقد رأيت أن لفظ الحديث إنما عين الجبهة فلا يجزئ الأنف وحدها، وإلا لزم تقديم الأضعف دلالة وهو الإشارة على الأقوى وهي العبارة. واستدل أيضاً لأبي حنيفة بالرواية التي جمع فيها ذكر الجبهة والأنف معاً، ووجه الاستدلال أنه جعلهما كعضو واحد، فإنه لو كان كل واحد منهما عضواً مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية، وإذا كان كعضو واحد لزم منه أن يكتفي بالسجود على الأنف وحدها؛ لأن كل واحد منهما بعض العضو، والعضو الواحد يجزيه السجود على بعضه. وأنت خبير بأن المشي على الحقيقة هو المتحتم. والمناقشة بالمجاز بدون موجب للمصير إليه غير ضائرة، ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع، ولا خلاف أن السجود على مجموع الجبهة والأنف مستحب. قال في الشرح الكبير (ج1: ص561) بعد ذكر قول أبي حنيفة: هذا قول يخالف الحديث الصحيح والإجماع الذي قبله. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً سبق إلى هذا القول-انتهى. وكذا قال ابن قدامة في المغني. واعلم أن ابن الهمام اختار أن وضع السبعة واجب، والمشهور في كتب الحنفية وجوب وضع الجبهة وإحدى الرجلين فقط، لكن ذكر ابن عابدين في وضع القدمين ثلاث روايات: فرضية وضعهما، وفرضية وضع إحدهما، وعدم الفرضية أي سنية الوضع، ثم ذكر بعد بسط الروايات في المذهب: الحاصل أن المشهور في كتب المذهب اعتماد الفرضية، والأرجح من حيث الدليل والقواعد عدم الفرضية. (ولا نكفت) بفتح النون وسكون الكاف وكسر الفاء، آخره مثناة فوقية، روي بالنصب عطفاً على المنصوب السابق وهو "يسجد" أي أمرت أن لا نكفت، ويجوز رفعه على أن الجملة مستأنفة. من كفت الشئ إليه، ضمه وجمعه. ومنه قوله تعالى:{ألم نجعل الأرض كفاتاً} [77: 25] أي كافتة، اسم لم يكفت أي يضم ويجمع. وفي رواية لمسلم: ولا أكف، من الكف بلفظ الواحد، وهو أنسب لقوله: أمرت أن أسجد. (الثياب والشعر) وفي بعض النسخ: ولا الشعر، بزيادة "لا" للتأكيد، والمراد شعر الرأس، والمعنى: أمرت أن نرسل الثياب والشعر، ولا نضمهما إلى أنفسنا وقاية لهما من التراب، بل نتركهما حتى يقعا على الأرض لنسجد بجميع الأعضاء والثياب. وكفتهما: أن يعقص الشعر ويعقده خلف القفا، أو يضمه تحت

ص: 206

متفق عليه.

895-

(2) وعن أنس، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه

انبساط الكلب)

ــ

عمامته، أو يشده بشيء، وأن يشمر ثوبه، أو يشد وسطه، أو يغرز عذبته. قيل: النهي ههنا محمول على التنزيه. والحكمة فيه أن الشعر والثوب يسجدان معه، وفي رفعهما نقص الأجر الذي يترتب على سجود الثياب والشعر. وقيل: إنه إذا رفع شعره أو ثوبه عن مباشرة الأرض أشبه المتكبرين، وجاء في حكمة النهي عن ضم الشعر أن غرزة الشعر يقعد فيها الشيطان حالة الصلاة، كما في سنن أبي داود بإسناد جيد أن أبا رافع رأى الحسن بن علي يصلي قد غرز ضفيرته في قفاه فحلها، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك مقعد الشيطان. وظاهر الحديث يقتضي أن النهي في حال الصلاة، وإليه مال الداوودي، ورده القاضي عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور، فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخلها. قال النووي: وهو المختار الصحيح، وهو الظاهر المنقول عن الصحابة وغيرهم-انتهى. قال الحافظ: واتفقوا على أنه لا يفسد الصلاة، لكن حكى ابن المنذر عن الحسن وجوب الإعادة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد، وللحديث ألفاظ عند الشيخين، وأحمد، وأصحاب السنن، وفي الباب عن العباس بن عبد المطلب، وأبي هريرة، وابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وغيرهم.

895-

قوله: (اعتدلوا في السجود) يعني توسطوا بين الافتراض والقبض بوضع الكفين على الأرض، ورفع المرفقين عنها وعن الجنبين، والبطن عن الفخذ رفعاً بليغاً بحيث تظهر بواطن آباطكم إذا لم تكن مستورة، إذ هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض، وأبعد من الكسالة. قال ابن دقيق العيد: لعل المراد بالاعتدال هنا وضع هيئة السجود على وفق الأمر؛ لأن الاعتدال الحسي المطلوب في الركوع لا يتأتى هنا، فإنه هناك استواء الظهر والعنق، والمطلوب هنا ارتفاع الأسافل على الأعالي. قال: وقد ذكر الحكم هنا مقروناً بعلته، فإن التشبه بالأشياء الخسيسة مما يناسب تركه في الصلاة-انتهى. والهيئة المنهي عنها أيضاً مشعرة بالتهاون بالصلاة وقلة الاعتناء بها، والإقبال عليها. قيل: وهذا في حق الرجل لا المرأة، فإنها تخالفة في ذلك، لما أخرجه أبوداود في مراسيله عن يزيد بن أبي حبيب: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على امرأتين تصليان فقال: إذا سجدتما فضما بعض اللحم إلى الأرض، فإن المرأة في ذلك ليست كالرجل. قال البيهقي: وهذا المرسل أحسن من موصولين فيه، يعني من حديثين موصولين ذكرهما البيهقي في سننه، وضعفهما؛ لأن في كل منهما متروكاً. وارجع للتفصيل إلى فتاوى (ص148) شيخ مشائخنا خاتمة الحفاظ الشيخ حسين بن محسن الأنصاري. (ولا يبسط) بضم السين من نصر، وهي نهي، وقيل نفي. (أحدكم ذراعيه) أي لا يجعل ذراعيه على الأرض كالبساط والفراش. (انبساط الكلب) بالنصب، أي مثل انبساط الكلب، وهو وضع الكفين مع المرفقين على الأرض، والانبساط

ص: 207

متفق عليه.

896-

(3) وعن البراء بن عازب، قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سجدت فضع كفيك، وارفع مرفقيك) رواه مسلم.

897-

(4) وعن ميمونة، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد جافى بين يديه، حتى لو أن بهمة

ــ

مصدر فعل محذوف تقديره: ولا يبسط ذراعيه فينبسط انبساط الكلب، ومثله قوله تعالى:{والله أنبتكم من الأرض نباتاً} [71: 17]، وقوله تعالى:{وأبنتها نباتاً حسناً} [3: 37] ، أي أنبتكم فنبتم نباتاً، وأنبتها فنبتت نباتاً حسناً. وروى أحمد، والترمذي، وابن خزيمة عن جابر مرفوعاً: إذا سجد أحدكم فليعتدل، ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب، وهو بمعنى حديث الباب. قال ابن العربي في شرح الترمذي (ج2: ص75، 76) : أراد به كون السجود عدلاً باستواء الاعتماد على الرجلين والركبتين واليدين والوجه، ولا يأخذ عضو من الاعتدال أكثر من الآخر، وبهذا يكون ممتثلاً لقوله: أمرت بالسجود على سبعة أعظم. وإذا فرش ذراعيه فرش الكلب كان الاعتماد عليهما دون الوجه، فيسقط فرض الوجه- انتهى. قال ابن حجر: فيكره ذلك لقبح الهيئة المنافية للخشوع إلا لمن أطال السجود حتى شق عليه اعتماد كفيه، فله وضع ساعديه على ركبتيه لخبر: اشتكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا. (أى باعدوا اليدين عن الجنبين ورفعوا البطن عن الفخذين في السجود) فقال: استعينوا بالركب. أخرجه الترمذي، وأبوداود من حديث أبي هريرة موصولاً. وروي مرسلاً، قال البخاري والترمذي: إرساله أصح من وصله. قيل: هذا الإعلال غير قادح؛ لأنه أسنده الليث عن ابن عجلان، وهو زيادة ثقة، وتفرده غير ضائر، فتقبل زيادته. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود، والنسائي وابن ماجه.

896-

قوله: (فضع أي على الأرض. (كفيك) أي مضمومتي الأصابع، مكشوفتين حذاء المنكبين أو حيال الأذنين، معتمداً عليهما، ولا يجب كشفهما لما روي عن عبد الله بن عبد الرحمن، قال: جاءنا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بنا في مسجد بني الأشهل، فرأيته واضعاً يديه في ثوبه إذا سجد. رواه أحمد وابن ماجه، وقال: على ثوبه. ففيه دليل على جواز ترك كشف اليدين، لكن الأولى والمستحب كشفهما ليخرج من الخلاف ويأخذ بالعزيمة. (وارفع) من الأرض، ومن جنيك. (مرفقيك) بكسر الميم وفتح الفاء ويعكس. والحديث دليل على وجوب هذه الهيئة للأمر بها، وحمله العلماء على الاستحباب. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد.

897-

قوله: (جافى) أي أبعد وفرق. (بين يديه) أي وما يحاذيهما، وفي رواية النسائي وابن ماجه: جافى يديه، أي نحاهما عما يليهما من الجنب. (بهمة) بفتح فسكون الموحدة، من أولاد الغنم. يقال للذكر والأنثى، والتاء للوحدة،

ص: 208

أرادت أن تمر تحت يديه مرت. هذا لفظ أبي داود، كما صرح في شرح السنة بإسناده.

ولمسلم بمعناه: قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد لو شأت بهمة أن تمر بين يديه لمرت.

898-

(5) وعن عبد الله بن مالك ابن بحينة، قال:((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد فرج بين يديه حتى يبدوا بياض إبطيه))

ــ

والبهم بلا تاء يطلق على الجمع. قال في القاموس: البهمة أولاد الضان والمعز، وقال أبوعبيد وغيره من أهل اللغة: البهمة واحدة البهم، وهي أولاد الغنم من الذكور والإناث، وجمع البهمة بهام ـ بكسر الباء ـ وقال الجوهري: البهمة من أولاد الضان خاصة، ويطلق على الذكر والأنثى، قال: والسخال أولاد المعز. (تحت يديه) وفي رواية ابن ماجة: بين يديه. (مرت) جواب "لو". (هذا) أي هذا اللفظ. (كما صرح) أي البغوي. (ولمسلم) أي لفظ هذا الحديث لمسلم. (بمعناه) أي بمعنى لفظ أبي داود وهو (قالت) أي ميمونة. (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد) الخ. فالاعتراض على صاحب المصابيح واقع في الجملة حيث ذكر لفظ أبي داود في الصحاح.

898-

قوله: (عن عبد الله بن مالك) بالتنوين. (ابن بحينة) بضم الباء الموحدة وفتح الحاء المهملة بعدها ياء ساكنة، ثم نون مفتوحة وتاء تأنيث، اسم امرأة مالك بن القشب الأزدي. و"ابن بحينة" صفة "عبد الله"؛ لأن "بحينة" أم عبد الله، و"مالكاً" أبوه، ولهذا لا يحذف التنوين لفظاً، والألف كتابة، كما يحذفان في العلم الموصوف بابن. قال النووي: الصواب أن ينون "مالك" ويكتب "ابن" بالألف؛ لأن "ابن بحينة" ليس صفة لمالك بل صفة لعبد الله؛ لأن اسم أبيه" مالك" واسم أمه"بحينة" امرأة مالك. قال الحافظ: عبد الله بن مالك بن القشب ـ بكسر القاف وسكون المعجمة بعدها موحدة ـ الأزدي أبومحمد، حليف بن المطلب المعروف"بابن بحينة" وهي أمه. قال محمد بن سعد: أبوه مالك بن قشب، حالف المطلب بن عبد مناف فتزوج بحينة بنت الحارث بن عبد المطلب، فولدت له عبد الله، فأسلم قديماً، وكان ناسكاً فاضلاً، يصوم الدهر، ومات ببطن ريم على ثلاثين ميلاً من المدينة في عمل مروان بن الحكم، وكان ينزل به، وكان ولاية مروان على المدينة من سنة. (54) إلى سنة. (58) . (فرج) بفتح الفاء وتشديد الراء آخره جيم، أي وسع، وفرق، وباعد (بين يديه) أي بينهما وبين ما يليهما من الجنب، وإلا لا يستقيم قوله "حتى يبدو" فليس المتعدد الذي يضاف إليه "بين" لفظ "يديه" بل هو أحد طرفي المتعدد، والطرف الثاني محذوف، وهذا معنى قول الحافظ في شرح صحيح البخاري، أي نحى كل يد عن الجنب الذي يليها (حتى يبدو) أي (يظهر إبطيه) بسكون الباء وتكسر، قال القرطبي: الحكمة في استحباب هذه الهيئة في السجود أنه يخف بها اعتماده على وجهه، ولا يتأثر أنفه ولا جبهته، ولا يتأذى بملاقاة الأرض. وقال غيره: هو أشبه بالتواضع، وأبلغ في تمكين الجبهة والأنف من الأرض مع مغايرته لهيئة الكسلان. وقال ابن المنير: الحكمة

ص: 209

متفق عليه.

899-

(6) وعن أبي هريرة، قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقة وجله،

ــ

في ذلك أن يظهر كل عضو بنفسه، ويتميز حتى يكون الإنسان الواحد في سجوده كأنه عدد، ومقتضى هذا أن يستقبل كل عضو بنفسه، ولا يعتمد بعض الأعضاء على بعض في سجوده، وهذا ضد ما ورد في الصفوف من التصاق بعضهم ببعض؛ لأن المقصود هناك إظهار اتحاد المسلمين، حتى كأنهم جسد واحد، وأخرج الطبراني وغيره من حديث ابن عمر بإسناد صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال: لا تفترش افتراش السبع، وادعم على راحتيك، وابد ضبعيك، فإذا فعلت ذلك سجد كل عضو منك. وظاهر هذا مع حديث ابن بحينة، وما تقدم من حديث ميمونة، والبراء، وأنس وما في معناه من الأحاديث الدالة على التفريج والتخوية، والنهي عن افتراش السبع، يقتضي وجوب التفريج في السجود، ولكن حمل العلماء هذه الأحاديث على الاستحباب. قلت: الظاهر أن التفريج في السجود واجب عند عدم المشقة فيه، وأما عند وجود المشقة فيه فيجوز ترك التفريج والاستعانة بالركب، أي وضع المرفقين على الركبتين، يدل على ذلك ما قدمنا من حديث أبي هريرة: اشتكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا تفرجوا، فقال: استعينوا بالركب. واستدل بقوله: "حتى يرى بياض إبطيه" على أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم لابساً لقميص. وتعقب باحتمال أن يكون القميص واسع الأكمام، وقيل: قد يبدو منه أطراف إبطيه مع كونه لابساً للقميص؛ لأنها كانت قمصان أهل ذلك العصر غير طويلة، فيمكن أن يرى الإبط من كمها. واستدل به أيضاً على أنه لم يكن على إبطيه شعر، وفيه نظر؛ لأنه يمكن أن المراد يرى أطراف إبطيه لا باطنهما حيث الشعر، فإنه لا يرى إلا بتكلف. وأيضاً لا يلزم من ذكر الراوي رؤية بياض إبطيه أن لا يكون له شعر، فإنه إذا نتف بقي المكان أبيض، وإن بقى فيه آثار الشعر، ولذلك ورد في حديث حسنه الترمذي: كنت أنظر إلى عفرتي إبطيه إذا سجد، والعفرة بياض ليس بالناصع كلون عفرة الأرض، أي وجهها، وهو يدل على أن آثار الشعر هو الذي جعل المحل أعفر، إذ لو خلا عنه جملة لم يكن أعفر. وإن صح ما قيل: إن من خصائصه أنه ليس على إبطيه شعر، فلا إشكال، لكن قال العراقي في تقريب الأسانيد: إن ذلك لم يثبت، بل لم يرد في كتاب معتمد، والخصائص لا تثبت بالاحتمال، نعم إن الذي نعتقد فيه عليه السلام أنه لم يكن لإبطيه رائحة كريهة، بل كان نظيفاً طيب الرائحة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي.

899-

قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده) أي أحياناً مع التسبيح أو بدونه. (كله) للتأكيد، وما بعده تفصيل لأنواعه، أو بيانه، ويمكن نصبه بتقدير "أعني". (دقه) بكسر الدال، أي دقيقة وصغيرة. (وجله) بكسر الجيم وقد تضم، أي جليلة وكبيرة. قيل: إنما قدم "الدق" على "الجل"؛ لأن السائل يتصاعد في مسألته، أي يترقى، ولأن الكبائر تنشأ غالباً من الإصرار على الصغائر، وعدم المبالاة بها، فكأنها وسائل إلى الكبائر، ومن حق الوسيلة أن تقدم إثباتاً ورفعاً.

ص: 210

وأوله وآخره، وعلانيته وسره)) . رواه مسلم.

900-

(7) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: اللهم أني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك،

ــ

(وأوله وآخره) المقصود الإحاطة. (وعلانيته) بفتح العين وكسر النون وخفة الياء، مصدر "علن" أي ظاهره. (وسره) أي عند غيره تعالى، وإلا فهما سواء عنده تعالى، فإنه يعلم السر وأخفى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود.

900-

قوله: (من الفراش) متعلق بفقدت، والمعنى: استيقظت فلم أجده على الفراش. (فالتمسته) وفي رواية للنسائي: فجعلت أطلبه بيدي. (فوقعت يدي) بالإفراد. (على بطن قدميه) بالتثنية، وفي صحيح مسلم "قدمه" بالإفراد، وفي رواية للنسائي، وفي الترمذي: على قدميه، وفي ابن ماجه "على بطن قدميه" كما في الكتاب. واستدل به على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، وأجاب من ذهب إلى كونه ناقضاً بأن الملموس لا يفسد وضوئه، وحمل من اختار انتقاض وضوء الملموس على أنه كان بين اللامس والملموس حائل فلا يضر، وظاهر الحديث يوافق من قال بعدم انتقاض الوضوء مطلقاً، وهو الراجح، وقد أسلفنا الكلام فيه مفصلاً. (وهو في المسجد) بفتح الجيم، أي في السجود، فهو مصدر ميمي، أو في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. وفي نسخة بكسر الجيم، وهو يحتمل مسجد البيت بمعنى معبده، والمسجد النبوي، قاله القاري. وفي رواية أبي داود: فلمست المسجد فإذا هو ساجد، وهذه الرواية تدل على أن المراد مسجد البيت أي الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرته. (وهما) أي قدماه. (منصوبتان) أي قائمتان ثابتتان، وفيه أن السنة نصب القدمين في السجود. (أعوذ برضاك من سخطك) أي متوسلاً برضاك أن تسخط وتغضب. وقيل: أي من فعل يوجب سخطك على أو على أمتي. (وبمعافاتك) أي بعفوك، وأتى بالمغالبة للمبالغة أي بعفوك الكثير. (من عقوبتك) إذ هي أثر من آثار السخط، وإنما استعاذ بصفات الرحمة لسبقها وظهورها من صفات الغضب، (وأعوذ بك منك)، أي بذاتك من آثار صفاتك. وقيل: أعوذ بصفات جمالك من صفات جلالك، فهذا إجمال بعد شيء من التفصيل، وتعوذ بتوسل جميع صفات الجمال عن صفات الجلال، وإلا فالتعوذ من الذات مع قطع النظر عن شيء من الصفات لا يظهر. وقيل: هذا من باب مشاهدة الحق والغيبة عن الخلق، وهذا محض المعرفة الذي لا يحيطه العباد. (لا أحصي ثناء عليك) قال الطيبي: الأصل في الإحصاء العد بالحصى، أي لا أطيق أن أثني عليك كما تستحقه، وقيل: أي لا أستطيع فرداً من ثناءك على شيء من نعمائك. وهذا بيان لكمال عجز البشر عن أداء حقوق الرب تعالى. وقال السيوطي: أي لا أطيقه، أي لا أنتهي إلى غايته، ولا أحيط بمعرفته، كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن.

ص: 211

أنت كما أثنيت على نفسك)) رواه مسلم.

901-

(8) وعن أبي هريرة، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه

ــ

وروي عن مالك، أنه قال: لا أحصى نعمتك، وإحسانك، والثناء بها عليك، وإن اجتهدت في ذلك، والأول أولى لما ذكرناه، ولقوله في الحديث: أنت كما أثنيت على نفسك. ومعنى ذلك اعتراف بالعجز عندما ظهر له من صفات جلاله تعالى، وكماله، وصمديته، وقدوسيته، وعظمته، وكبريائه، وجبروته، مالا ينتهي إلى عده، ولا يوصل إلى حده، ولا يحمله عقل، ولا يحيط به فكر، وعند الانتهاء إلى هذا المقام انتهت معرفة الأنام. وقال الجزري في النهاية: بدأ في هذا الحديث بالرضا، وفي رواية بدأ بالمعافاة ثم بالرضا، وإنما ابتدأ بالمعافاة من العقوبة؛ لأنها من صفات الأفعال كالإحياء والإماتة، والرضا والسخط من صفات الذات، وصفات الأفعال أدنى مرتبة من صفات الذات، فبدأ بالأدنى مترقياً إلى الأعلى، ثم لما ازداد يقيناً وارتقاء ترك الصفات وقصر نظره على الذات، فقال:"وأعوذ بك منك". ثم لما ازداد قربا استحيى معه من الاستعاذة على بساط القرب، فالتجأ إلى الثناء فقال: لا أحصي ثناء عليك، ثم علم أن ذلك قصور، فقال: أنت كما أثنيت على نفسك، وأما على الرواية الأولى فإنما قدم الاستعاذة بالرضا من السخط؛ لأن المعافاة من العقوبة تحصل بحصول الرضا، وإنما ذكرها لأن دلالة الأول عليها دلالة تضمن، فأراد أن يدل عليها دلالة مطابقة، فكنى عنها أولاً، ثم صرح بها ثانياً، ولأن الراضي قد يعاقب للمصلحة أو لاستيفاء حق الغير- انتهى. . (أنت كما أثنيت على نفسك) أي أنت الذي أثنيت على ذلك ثناء يليق بك، فمن يقدر على أداء حق ثنائك؟ فالكاف زائدة، والخطاب في عائد الموصول بملاحظة المعنى نحو: أنا الذي سمتني أمي حيدرة. ويحتمل أن الكاف بمعنى "على" والعائد إلى الموصول محذوف، أي أنت ثابت دائم على الأوصاف الجليلة التي أثنيت بها على نفسك. والجملة على الوجهين في موضع التعليل، وفيه إطلاق لفظ النفس على ذاته تعالى بلا مشاكلة. وقيل:"أنت" تأكيد المجرور في "عليك" فهو من استعارة المرفوع المتصل موضع المجرور المنفصل، إذ لا منفصل في المجرور، و"ما" في "كما" مصدرية، والكاف بمعنى مثل صفة ثناء، ويحتمل أن يكون ما على هذا التقدير موصولة أو موصوفة، والتقدير: مثل ثناء أثنيته، أو مثل الثناء الذي أثنيته، على أن العائد المقدر ضمير المصدر، ونصبه على كونه مفعولاً مطلقاً، وإضافة المثل إلى المعرفة لا يضر في كونه صفة نكرة؛ لأنه متوغل في الإبهام فلا يتعرف بالإضافة. وقيل: أصله ثناءك المستحق كثنائك على نفسك، فحذف المضاف من المبتدأ فصار الضمير المرفوع مجروراً. قال الخطابي: معنى الحديث الاستغفار من التقصير من بلوغ الواجب من حق عبادته والثناء عليه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً الترمذي في الدعوات، وأبوداود، والنسائي في الصلاة، وابن ماجه في الدعاء.

901-

قوله: (أقرب ما يكون العبد من ربه) الظاهر أن "ما" مصدرية و"كان" تامة والجار متعلق بأقرب،

ص: 212

وهو ساجد فأكثروا الدعاء) رواه مسلم.

902-

(9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قرأ ابن آدم السجدة،

ــ

وليست من تفضيلية، والمعنى شاهد كذلك، فلا يرد أن اسم التفضيل لا يستعمل إلا بأحد أمور ثلاثة لا بأمرين كالإضافة ومن، فكيف استعمل ههنا بأمرين؟ فافهم. وخبر "أقرب" محذوف أي "حاصل له" وجملة "وهو ساجد" حال من ضمير "حاصل" أو من ضمير "له". والمعنى: أقرب أكوان العبد من ربه تبارك وتعالى حاصل له حين كونه ساجداً. ولا يرد على الأول أن الحال لابد أن يرتبط بصاحبه، ولا ارتباط ههنا؛ لأن ضمير "هو ساجد" للعبد لا لأقرب؛ لأنا نقول: يكفي في الارتباط وجود الواو من غير حاجة إلى الضمير، مثل: جاء زيد والشمس طالعة. وقال الطيبي: التركيب من الإسناد المجازي، أسند القرب إلى الوقت، وهو للعبد مبالغة، فإن قلت: أين المفضل عليه، ومتعلق أفعل في الحديث؟ قلت: محذوف، وتقديره: إن للعبد حالتين في العبادة: حال كونه ساجداً لله تعالى، وحال كونه متلبساً بغير السجود، فهو في حالة السجود أقرب إلى ربه من نفسه في غير تلك الحالة- انتهى. قيل وجه الأقربية أن العبد في السجود داع؛ لأنه أمر به، والله تعالى قريب من السائلين بقوله تعالى:{وإذا سألك عبادي عني فإني قريب} [2: 186] ؛ ولأن السجود غاية في الذل، والانكسار، وتعفير الوجه، وهذه الحالة أحب أحوال العبد كما رواه الطبراني في الكبير بإسناد حسن عن ابن مسعود، ولأن السجود أول عبادة أمر الله تعالى بها بعد خلق آدم، فالمتقرب بها أقرب، ولأن فيه مخالفة لإبليس في أول ذنب عصى الله به. وقيل: لأن العبد بقدر ما يبعد عن نفسه يقرب من ربه، والسجود غاية التواضع، وترك التكبر، وكسر النفس؛ لأنها لا تأمر الرجل بالمذلة، ولا ترضى بها، ولا بالتواضع، بل بخلاف ذلك، فإذا سجد فقد خالف نفسه، وباعد عنها، فإذا باعد عنها قرب من ربه. قال القرطبي: هذا أقرب بالرتبة، والمكانة، والكرامة، لا بالمسافة والمساحة؛ لأنه تعالى منزه عن المكان والزمان. (فأكثروا الدعاء) أي في السجود؛ لأنه حالة قرب، وحالة قرب مقبول دعاءها؛ لأن السيد يحب عبده الذي يطيعه، ويتواضع له، ويقبل منه ما يقوله، وما يسأله. وقال ابن الملك: وهذا لأن حالة السجود تدل على غاية تذلل، واعتراف عبودية نفسه وربوبية ربه، فكان مظنه الإجابة، فأمرهم بإكثار الدعاء في السجود. والحديث يدل على مشروعية الاستكثار من السجود، ومن الدعاء فيه، ولا دليل فيه لمن قال: إن السجود أفضل من القيام؛ لأنه لا يلزم من كون العبد أقرب إلى ربه حال سجوده أفضليته على القيام؛ لأن ذلك إنما هو باعتبار إجابة الدعاء. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي.

902-

قوله: (إذا قرأ ابن آدم) ذكر تلميحاً لقصة أبيه آدم مع الشيطان التي هي سبب العداوة بينهما. (السجدة)

ص: 213

فسجد اعتزل الشيطان يبكي، يقول: يا ويلتي! أمر ابن آدم بالسجود، فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت، فلي النار)) رواه مسلم.

903-

(10) وعن ربيعة بن كعب، قال: ((كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة. قال: أو غير ذلك؟

ــ

أي آيتها. (فسجد) أي سجود التلاوة. (اعتزل) أي تباعد عنه. (الشيطان) قيل: المراد به إبليس فقط. (يبكي، يقول) قال الطيبي: هما حالان من فاعل "اعتزل" مترادفتان، أي باكياً وقائلاً، أو متداخلتان، أي باكياً قائلاً. (يا ويلتى) قال ابن الملك: أصله "يا ويلي" فقلبت ياء المتكلم تاء، وزيدت بعدها ألف للندبة. والويل الحزن والهلاك، كأنه يقول: يا حزني! ويا هلاكي! احضر، فهذا وقتك وأوانك. قال الطيبي: نداء الويل للتحسر على ما فاته من الكرامة، وحصول اللعن والخيبة للحسد على ما حصل لابن آدم بيانه. (أمر ابن آدم بالسجود فسجد) امتثالاً لأمر ربه. (فله الجنة) أي على الطاعة. (فأبيت) أي امتنعت تكبراً. (فلي النار) قال المناوي: نار جهنم خالداً فيها لعصيانه واستكباره. والحديث دليل على فضل السجود. واستدل به من قال بوجوب سجدة التلاوة. وأجيب عنه: بأن الذم والوعد متعلق بترك السجود إباء وإنكاراً واستكباراً كما يدل عليه لفظ "أبيت" صراحة فلا يخالف الحديث من يقول بسنتيه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وابن ماجه.

903-

قوله: (وعن ربيعة بن كعب) بن مالك الأسلمي، يكنى أبا فراس المدني، صحابي من أهل الصفة، ويقال: كان خادماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صحبه قديماً، وكان يلزمه سفراً وحضراً، ومنهم من فرق بين ربيعة وأبي فراس الأسلمي، وصوب الحاكم أي وأحمد وابن عبد البر تبعاً للبخاري التفريق بينهما. مات ربيعة سنة. (63) بعد الحرة، وليس له في الأدب المفرد للبخاري، وصحيح مسلم، وسنن الأربعة غير هذا الحديث. (كنت أبيت) من البيتوتة أي أكون في الليل. (مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولعل هذا وقع له في سفر. وقال ابن حجر: أي إما في السفر أو الحضر، والمراد بالمعية القرب منه بحيث يسمع نداءه إذا ناداه لقضاء حاجته. (فأتيته) وفي بعض النسخ "فآتيه" موافقاً لما في صحيح مسلم. (بوضوئه) بفتح الواو أي ماء وضوءه وطهارته. (وحاجته) أي سائر ما يحتاج إليه من نحو سواك وغيره. (فقال لي: سل) أي اطلب مني حاجة. قال ابن حجر: أتحفك به في مقابلة خدمتك لي؛ لأن هذا هو شأن الكرام، ولا أكرم منه صلى الله عليه وسلم. وفيه جواز قول الرجل لأتباعه ومن يتولى خدمته: سلوني حوائجكم. (أسألك مرافقتك) أي كوني رفيقاً لك. (في الجنة) بأن أكون قريباً منك متمتعاً بنظرك. (أو غير ذلك) يحتمل فتح الواو، أي أتسأل ذلك وغيره أم تسأله وحده؟ وسكونها، أي تسأل ذلك أم غيره؟ وقال بعضهم: يروى بسكون الواو وبفتحها، وعلى التقدير فغير إما مرفوع أو منصوب،

ص: 214

قلت: هو ذاك. قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود)) رواه مسلم

904-

(11) وعن معدان بن طلحة، قال: لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: أخبرني بعمل أعمله يدخلني الله به الجنة، فسكت، ثم سألته، فسكت،

ــ

والتقدير على الأول: فمسؤولك هذا أو غير ذلك؟ وعلى الثاني: أتسأل هذا وغير ذلك أنسب بحالك. وأما في صورة نصب "غير" فالمعنى على تقدير سكون الواو. تسأل ذلك أو غير ذلك؟ وقيل المعنى: سل غير ذلك. وعلى تقدير فتحها: أتسأل هذا وهو شاق وتترك ما هو أهون منه؟ (هو ذاك) أي مسئولي ذلك لا غير. (فأعني على نفسك) أي على تحصيل حاجة نفسك التي هي المرافقة. (بكثرة السجود) في الدنيا حتى ترافقني في العقبى، والمراد تعظيم تلك الحاجة وأنها تحتاج إلى معاونة منك، ومجرد السؤال مني لا يكفي فيها، أو المعنى: فوافقني بكثرة السجود قاهراً بها على نفسك. وقيل: أعني على قهر نفسك بكثرة السجود، كأنه أشار إلى أن ما ذكرت لا يحصل إلا بقهر نفسك التي هي أعدى عدوك، فلا بد لي من قهر نفسك بصرفها عن الشهوات، ولابد لك أن تعاونني فيه، ففيه تلويح إلى أن نفسه بمثابة العدو المناوئ، فاستعان بالسائل إلى قهر النفس، وكسر شهواتها بالمجاهدة والمواظبة على الصلاة، والاستعانة بكثرة السجود حسماً للطمع الفارغ عن العمل، والاتكال على مجرد التمني. وقيل المعنى: كن لي عوناً في أصلاًح نفسك، وجعلها طاهرة مستحقة لما تطلب، فإني أطلب إصلاح نفسك من الله تعالى، وأطلب منك أيضاً إصلاحها بكثرة السجود لله، فإن السجود كاسر للنفس ومذل لها، وأي نفس انكسرت وذلت استحقت الرحمة، وهذا كقول الطبيب للمريض: أعالجك بما يشفيك، ولكن أعني بالاحتماء وامتثال أمري. وفي الحديث دليل على أن السجود من أعظم القرب التي تكون بسببها ارتفاع الدرجات عند الله تعالى إلى حد لا يناله إلا المقربون، وأن مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة لا تحصل إلا بقرب من الله تعالى بكثرة السجود، والمراد به السجود في الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود، والنسائي. قال المنذري: وأخرج الترمذي وابن ماجه طرفاً منه.

904-

قوله: (معدان) بفتح الميم وسكون العين المهملة. (بن طلحة) ويقال: ابن أبي طلحة اليعمري- بفتح الياء التحتية، وسكون العين المهملة، وفتح الميم- شامي ثقة من كبار التابعين. رجح الترمذي أن اسمه معدان بن أبي طلحة، وكذلك سماه ابن سعد في الطبقات (ج7: ص154) ورجح يحيى بن معين "معدان بن طلحة" فقد قال: أهل الشام يقولون: ابن طلحة، وقتادة وهؤلاء يقولون: ابن أبي طلحة، وأهل الشام أثبت فيه. (أعمله) بالرفع على صفة العمل وكذلك. (يدخلني الله به الجنة) قال الطيبي: ويجوز أن يكون "أعمله" جوابا للأمر، و"يدخلني" بدلا منه، وذلك لأن معدان لما كان معتقدا لكون الإخبار سبباً لعمله صح ذلك. (فسكت) أي ثوبان، ولعل سكوته لامتحان حال القائل في

ص: 215