المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

في صلاة المغرب بـ"حم الدخان")) رواه النسائي مرسلاً. ‌ ‌(13) باب الركوع ‌ ‌{الفصل - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٣

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(10) باب صفة الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(11) باب ما يقرأ بعد التكبير

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(12) باب القراءة في الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(13) باب الركوع

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(14) باب السجود وفضله

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(15) باب التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(16) باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(17) باب الدعاء في التشهد

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(18) باب الذكر بعد الصلاة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(20) باب السهو

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(21) باب سجود القرآن

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(22) باب أوقات النهي

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(23) باب الجماعة وفضلها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: في صلاة المغرب بـ"حم الدخان")) رواه النسائي مرسلاً. ‌ ‌(13) باب الركوع ‌ ‌{الفصل

في صلاة المغرب بـ"حم الدخان")) رواه النسائي مرسلاً.

(13) باب الركوع

{الفصل الأول}

875-

(1) عن أنس، قال: ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقيموا الركوع والسجود، فوالله إني لأراكم من

بعدي) .

ــ

وجماعة. قال ابن سعيد: كان ثقة رفيعاً، كثير الحديث والفتيا، فقيهاً. مات في ولاية بشر في العراق سنة (74)، وقيل:(73) . قال ابن عبد البر: ذكره العقيلي في الصحابة فغلط، إنما هو تابعي من كبار التابعين بالكوفة، هو والد عبيد الله بن عبد الله بن عتبة الفقيه المدني الشاعر، شيخ ابن شهاب. استعمله عمر بن الخطاب على السوق. قال: وولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى به فمسحه بيده ودعا له. (بـ"حم الدخان") أي كلها في الركعتين. قال القاري: وفي أصل السيد جمال الدين ضبط بكسر ميم. (حم) وجر "الدخان" ووجه الأول تحريكه بالكسر لالتقاء الساكنين، ووجه الثاني أنه مضاف إليه، أو بدل؛ أو بيان. وفي نسخة بفتح الميم؛ لأن الفتحة أخف الحركات. وفي أخرى بنصب "الدخان" بتقدير أعني. (رواه النسائي مرسلاً) ؛ لأن الراوي تابعي وحذف الصحابي، كلنه اعتضد بما تقدم من قراءة السور الطويلة كالأعراف والطور والمرسلات في المغرب.

(باب الركوع) هو ركن بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. وهو لغة: الانحناء، وقد يراد به الخضوع. قيل: هو من خصائص هذه الأمة لقول بعض المفسرين في قوله تعالى: {واركعوا مع الراكعين} [2: 43] إنما قال لهم ذلك؛ لأن صلاة اليهود والنصارى لا ركوع فيها. والراكعون محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، ومعنى قوله تعالى:{واركعي مع الراكعين} [3: 43] صلي مع المصلين. قيل: حكمة تكرير السجود دونه، أنه وسيلة ومقدمة للسجود الذي هو الخضوع الأعظم، لما فيه من مباشرة أشرف ما في الإنسان لمواطئ الأقدام والنعال، فناسب تكريره؛ لأنه لمتكفل بالمقصود حيث ورد: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. وقيل غير ذلك. والأظهر أنه تعبد محض.

875-

قوله: (أقيموا الركوع والسجود) أي أكملوها، من أقام العود، إذا قومه. وفي رواية "أتموا" بدل "أقيموا". (لأراكم) بفتح اللام المؤكدة والهمزة، أي أبصركم. (من بعدي) أي من خلفي إذا ركعتم وسجدتم. قال الحافظ في الفتح: الصواب أنه محمول على ظاهره، وأن هذا الإبصار إدراك حقيقي خاص به صلى الله عليه وسلم انخرقت له العادة. وعلى

ص: 181

متفق عليه.

876-

(2) وعن البراء، قال:((كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، وسجوده، وبين السجدتين، وإذا رفع من الركوع، وما خلا القيام والقعود، قريباً من السواء)) .

ــ

هذا عمل البخاري، فأخرج هذا الحديث في علامات النبوة، وكذا نقل عن الإمام أحمد وغيره، ثم ذلك الإدراك يجوز أن يكون برؤية عينه، انخرقت له العادة فيه أيضاً فكان يرى بها من غير مقابلة؛ لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلاً عضو مخصوص ولا مقابلة ولا قرب، وإنما تلك أمور عادية يجوز حصول الإدراك مع عدمها عقلاً، ولذلك حكموا بجواز رؤية الله تعالى في الدار الآخرة، خلافاً لأهل البدع لوقوفهم مع العادة. وقيل كانت له عين خلف ظهره يرى بها من ورائه دائماً. وقيل: كان بين كفيه عينان مثل سم الخياط يبصر بهما لا يحجبهما ثوب ولا غير-انتهى. وظاهر الحديث أن ذلك يختص بحالة الصلاة، ويحتمل أن يكون ذلك واقعاً في جميع أحواله. وقد نقل ذلك عن مجاهد. وحكى بقي بن مخلد أنه صلى الله عليه وسلم كان يبصر في الظلمة كما يبصر في الضوء. وسبب هذه المقالة كما تدل عليه الروايات أنهم قصروا في الصلاة وأساءوها بتفويت الخشوع، ونقصان الركوع والسجود، وعدم إحسان الصلاة، ففي الحديث الحث على الخشوع في الصلاة، والمحافظة على إتمام أركانها وأبعاضها، وأنه ينبغي للإمام أن ينبه الناس على ما يتعلق بأحوال الصلاة، ولا سيما إن رأى منهم ما يخالف الأولى. وقد سئل عن الحكمة في تحذيرهم من النقص في الصلاة برؤيته أياهم دون تحذيرهم برؤية الله تعالى لهم، وهو مقام الإحسان المبين في سؤال جبريل كما تقدم في كتاب الإيمان: اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. فأجيب: بأن في التعليل برؤيته صلى الله عليه وسلم لهم تنبيهاً على رؤية الله تعالى لهم؛ فإنهم إذا أحسنوا الصلاة لكون النبي صلى الله عليه وسلم يراهم، أيقظهم ذلك إلى مراقبة الله تعالى، مع ما تضمنه الحديث من المعجزة له صلى الله عليه وسلم بذلك، ولكونه يبعث شهيداً عليهم يوم القيامة، فإذا علموا أنه يراهم يحفظوا في عبادتهم، ليشهد لهم بحسن عبادتهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي.

876-

قوله: (كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم) اسم كان. (وسجوده) عطف عليه. (وبين السجدتين) أي وجلوسه بينهما. (وإذا رفع) أي اعتدل، وفي رواية: وإذا رفع رأسه. (من الركوع) أي قيامه وقت رفع رأسه من الركوع؛ لأن "إذا" إذا انسلخت عن معنى الاستقبال تكون للوقت المجرد. وقال الطيبي: قوله "وبين السجدتين" و"إذا رفع" معطوفان على اسم كان، أي ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، على تقدير المضاف، أي زمان ركوعه وسجوده، وبين السجدتين، ووقت رفع رأسه من الركوع. (ما خلا) بمعنى إلا. (القيام القعود) بالنصب فيهما لا غير. (قريباً) خبر كان. (من السواء) بفتح السين والمد. أي كان قريباً من المساواة والمماثلة، ولاستثناء ههنا من المعنى فإن مفهوم ذلك: كانت أفعال صلاته

ص: 182

متفق عليه.

ــ

كلها قريبة من السواء، ما خلا القيام الذي هو للقراءة، والقعود الذي هو للتشهد، فإنه كان يطولهما. وفيه إشعار بأن فيها تفاوتاً لكنه لم يعينه، وهو دال على الطمأنينة في الاعتدال وبين السجدتين، لما علم من عاداته من تطويل الركوع والسجود. قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث يدل على أن الاعتدال ركن طويل، وحديث أنس يعني الذي بعده أصرح في الدلالة على ذلك، بل هو نص فيه، فلا ينبغي العدول عنه لدليل ضعيف ذكر في أنه ركن قصير، وهو ما قيل: إنه لم يسن فيه تكرار التسبيحات على الاسترسال، كما سنة القراءة في القيام، والتسبيحات في الركوع والسجود مطلقاً. ووجه ضعفه: أنه قياس في مقابلة النص وهو فاسد، وأيضاً فالذكر المشروع في الاعتدال أطول من الذكر المشروع في الركوع، فتكرير "سبحان ربي العظيم" ثلاثا يجيء قدر قوله: اللهم ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. وقد شرع في الاعتدال ذكر أطول كما أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفي، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس بعد قوله: حمداً كثيراً طيباً "ملأ السموات وملأ الأرض، وملأ ما شئت من شيء بعد" زاد في حديث ابن أبي أوفي: اللهم طهرني بالثلج، الخ، وزاد في حديث الآخرين: أهل الثناء والمجد، الخ. كذا في الفتح. وفي رواية لمسلم: رمقت الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم، فوجدت قيامه، فركعته، فاعتداله بعد ركوعه، فسجدت، فجلسته بين السجدتين، فسجدته، فجلسته ما بين التسليم والانصراف، قريباً من السواء. وهذه الرواية تدل على عدم خروج حالة القيام والقعود عن بقية حالات أركان الصلاة خلافاً لرواية الباب، فقيل في وجه الجمع: إن رواية مسلم هذه محمولة على بعض الأحوال والأوقات، فكان فعل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك مختلفا فتارة يستوي الجميع، وفي أكثر الأحوال يستوي ما عدا القيام والقعود. وقيل: ليس المراد بقوله قريباً من السواء أنه كان يركع بقدر قيامه، وكذا السجود والاعتدال، بل المراد أن صلاته كانت قريباً معتدلة، فكان إذا أطال القراءة أطال بقية الأركان، وإذا أخفها أخف بقية الأركان، فقد ثبت أنه قرأ في الصبح بـ (الصافات) وثبت في السنن عن أنس: أنهم حزروا في السجود قدر عشر تسبيحات، فيحمل على أنه إذا قرأ بدون (الصافات) اقتصر على دون العشر، وأقله كما ورد في السنن أيضاً ثلاث تسبيحات. ولا يخفى ما في هذا الجمع من التكلف، ويزيفه بل يرده حديث عوف بن مالك الآتي في الفصل الثالث بلفظ: فلما ركع مكث قدر سورة البقرة، الخ. وحديث حذيفة في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة بـ. (البقرة) أو غيرها، ثم ركع نحو مما قرأ، ثم قام بعد أن قال"ربنا ولك الحمد" قياماً طويلاً قريباً مما ركع. فالراجح في الجمع هو الوجه الأول، وهو أن تحمل رواية مسلم المتقدمة على بعض الأحيان والحالات، والله أعلم. (متفق عليه) أي على أصل الحديث وإلا فقوله "ما خلا القيام والقعود" من أفراد البخاري. والحديث أخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي.

ص: 183

877-

(3) وعن أنس، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قام حتى نقول: قد أوهم،

ــ

877-

قوله: (حتى نقول) بالنصب على أن "حتى" بمعنى "إلى" و"أن" مضمرة، أي إلى أن نقول. و"حتى" إنما ينصب بعدها المضارع إذا كان مستقبلاً، وهذا قد وقع ومضى. والجواب أنه على حكاية الحال. وقيل بالرفع على أن يكون التقدير: قام. (أي أطال القيام) فقلنا، فإطالة القيام سبب القول، وكلا الفعلين ماض، فلم تعمل فيه حتى. وقيل: الرفع على أن الفعل بعدها حال مقارن لما قبلها، والحال لا ينصب بعد حتى ولا غيرها؛ لأن الناصب مخلص للاستقبال فتنافيا. و"حتى" المرفوع بعدها الفعل ابتدائية لا جارة؛ لأنها إنما تدخل على مفرد أو مؤول به. قال التوربشتي: نصب "نقول" بـ"حتى" وهو الأكثر. ومنهم من لا يعمل "حتى" إذا حسن "فعل" موضع "يفعل" كما يحسن في هذا الحديث: حتى قلنا قد أوهم. وأكثر الرواة على ما علمنا على النصب، وكان تركه من حيث المعنى أتم وأبلغ- انتهى. واعلم أن "حتى" إذا وقع بعدها فعل فإما أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، فإن وقع حالاً رفع، نحو: مرض زيد حتى لا يرجونه، أي في الحال. وإن كان مستقبلاً نصب نحو: سرت حتى أدخل البلد وأنت لم تدخلها. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثم حكايتك له إما أن تكون بحسب كونه حالاً بأن يقدر أنه حال فترفعه على حكاية هذا الحال، وإما أن تكون بحسب كونه مستقبلاً فتنصبه على حكاية الحال المستقبلة، فالرفع والنصب على حكاية الحال بمعنيين مختلفين، قال ابن هشام: لا ينتصب الفعل بعد "حتى" إلا إذا كان مستقبلاً، ثم إن كان استقباله بالنظر إلى زمن التكلم فالنصب واجب نحو:{لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [20: 91] . وإن كان بالنسبة إلى ما قبلها خاصة فالوجهان نحو: {وزلزلوا حتى يقول الرسول} [2: 214] الآية. فإن قولهم "إنما هو مستقبل" بالنظر إلى الزلزال، لا بالنظر إلى زمن قص ذلك علينا. وكذلك لا يرتفع الفعل بعد حتى إلا إذا كان حالاً، ثم إن كانت حاليته بالنسبة إلى زمن التكلم فالرفع واجب كقولك: سرت حتى أدخلها، إذا قلت ذلك وأنت في حالة الدخول. وإن كانت حاليته ليست حقيقية بل كانت محكية رفع، وجاز نصبه إذا لم تقدر الحكاية نحو:{وزلزلوا حتى يقول الرسول} قراءة نافع بالرفع بتقدير: حتى حالتهم حينئذٍ أن الرسول والذين آمنوا معه يقولون كذا وكذا. واعلم أنه لا يرتفع الفعل بعد "حتى" إلا بثلاثة شروط: أحدها أن يكون حالاً أو مؤولاً بالحال كما مثلنا. والثاني أن يكون مسبباً عما قبلها. والثالث أن يكون فضله- انتهى. ومعنى الحديث: يطيل القيام، أو إطالة حتى نظن، إذا القول قد جاء بمعناه. (قد أوهم) بفتح الهمزة والهاء، فعل ماض مبني للفاعل. قال الجزري:"أوهم في صلاته" أي أسقط منها شيئاً. يقال أوهمت الشيء إذا تركته، وأوهمت في الكلام والكتاب، إذا أسقطت منه شيئاً. ووهم ـ يعني بكسر الهاء ـ يوهم وهما ـ بالتحريك ـ إذا غلط. يعني كان يلبث في حال الاستواء من الركوع زمانا نظن أنه أسقط الركعة التي ركعها، وعاد إلى ما كان عليه من القيام. قال ابن الملك: ويقال: أوهمته، إذا أوقعته في الغلط. وعلى هذا يكون أوهم على صيغة المجهول، أي

ص: 184

ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أوهم)) . رواه مسلم.

878-

(4) وعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول

ــ

أوقع عليه الغلط ووقف سهواً – انتهى. قيل: ويحتمل أن يكون معناه: نسى وجوب الهوى إلى السجود، أو نسى أنه في صلاة، أو ظن أنه وقت القنوت حيث كان معتدلاً، أو وقت التشهد حيث كان جالسا. ويؤيد التفسير بالنسيان التصريح به في الرواية الأخرى كما سنذكرها. (يقعد بين السجدتين) أي يطيل القعود بينهما. (حتى نقول: قد أوهم) أي نظن أنه أسقط السجدة الثانية. والحديث نص صريح في تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين. وقد ترك الشافعية والحنفية هذه السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة من عالم، وفقيه، وإمام، ومنفرد، وصغير، وكبير، والأعظم من ذلك أنهم إذا رأوا من يطيل الاعتدال من الركوع والجلوس بين السجدتين شغبوا عليه، وجهلوه، وسفهوه، وتركوا الاقتداء به. قال بعض الحنفية معتذرا عن أمثال هذا الحديث: إن فيها مبالغة الراوي. قلت: قال شيخنا رداً عليه: كلا، ثم كلا، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا لا يبالغون من عند أنفسهم في وصف صلاته، وحكاية أفعاله في الصلاة وغيرها، ولا يقصرون بل يحكون على حسب ما يرون، فحمله على مبالغة الراوي باطل مردود عليه. وحمل بعضهم حديث أنس على ابتداء الأمر حين كان يطول صلاته، قال: ثم أمر بالتخفيف بعده. وهذا ادعاء محض لا دليل على كون ما في هذا الحديث حكاية لابتداء الأمر فلا يلتفت إليه. وقال بعضهم: كانت هذه الإطالة في صلاة النافلة. وهذا الحمل أيضاً يحتاج إلى دليل، ولا دليل على ذلك، بل يرده إطلاق ما روي عن ثابت، قال: كان أنس ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يصلي، فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول: قد نسي، أخرجه البخاري. وقال بعضهم: لم يذكر هذه الصفة إلا أنس من بين الصحابة الذين رووا صفة صلاته. وفيه: أنه لم يتفرد بذلك أنس، بل وافقه البراء وحذيفة كما تقدم. ولو سلم أنه لم يذكر هذه الصفة غير أنس، لا يضر من قال بمشروعيتها، فكم من صفة من صفات الصلاة تفرد بذكرها بعض الصحابة وقد أخذها الأئمة وعملوا بها وعدوها من سنن الصلاة. وقال بعضهم: فعله في الفرائض أحياناً لبيان الجواز، ولفظه "كان" للرابطة، لا لبيان المواظبة. قلت: لا مانع من حملها على التكرار، فالظاهر أن حاله صلى الله عليه وسلم كان مختلفا، فتارة كان يطيل، وتارة كان يخفف. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وأخرج الشيخان عن ثابت، عن أنس، قال: إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال ثابت: فكان أنس يصنع شيئاً لا أراكم تصنعوه، وكان إذا رفع رأسه من الركوع انتصب قائماً حتى يقول القائل: قد نسى، وإذا رفع رأسه من السجدة مكث حتى يقول القائل: قد نسي.

878-

قوله: (يكثر) من الإكثار. (أن يقول) قد ورد في رواية البخاري في التفسير بيان ابتداء هذا الفعل.

ص: 185

في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي. يتأول القرآن. متفق عليه.

879-

(5) وعنها، ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: سبوح، قدوس، رب الملائكة

والروح)) .

ــ

وأنه واظب عليه صلى الله عليه وسلم، ولفظها: ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه {إذا جاء نصر الله والفتح} إلا يقول فيها: سبحانك- الحديث. قيل: اختار النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة لهذا القول مع أنه لم يقيد بحال من الأحوال؛ لأن حالها أفضل من غيرها، فاختار أفضل الأحوال لأداء هذا الواجب، ليكون أكمل وأبلغ في الامتثال. قال الحافظ: وليس في الحديث أنه لم يكن يقول ذلك خارج الصلاة أيضاً، بل في بعض طرقه عند مسلم ما يشعر بأنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على ذلك داخل الصلاة وخارجها. (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك) تقدم الكلام فيه. (يتأول القرآن) أي يعمل بما أمر به فيه. وقد تبين من الرواية المذكورة أن المراد بالقرآن بعضه، وهو السورة المذكورة، والذكر المذكور، وقوله "يتأول" حال من فاعل "يقول" أي يكثر قول ذلك حال كونه متأولاً للقرآن، أي مبنياً ما هو المراد من قوله:{فسبح بحمد ربك واستغفره} [110: 3] آتياً بمقتضاه. وأصل الأول الرجوع والانصراف، والمآل ما يرجع إليه الأمر. وقال القرطبي، معناه: يمتثل ما آل إليه معنى القرآن في قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} [110: 1] الخ. والحديث يؤخذ منه إباحة الدعاء في الركوع، وإباحة التسبيح في السجود، ولا يعارضه قوله الآتي صلى الله عليه وسلم:"أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا فيه من الدعاء"؛ لأنه لا مفهوم له، فلا يمتنع الدعاء في الركوع كما لا يمتنع التعظيم في السجود؛ لأن تعظيم الرب فيه لا ينافي الدعاء كما أن الدعاء في السجود لا ينافي التعظيم. قال ابن دقيق العيد: ويمكن أن يحمل حديث الباب على الجواز، وذلك على الأولوية، ويحتمل أن يكون أمر في السجود بتكثير الدعاء لإشارة قوله فاجتهدوا، والذي وقع في الركوع من قوله: اللهم اغفر لي، ليس كثيراً، فلا يعارض ما أمر به في السجود- انتهى. وأراد بنفي الكثرة عدم الزيادة على قوله: اللهم اغفر لي، في الركوع الواحد، فهو قليل بالنسبة إلى السجود المأمور فيه بالاجتهاد في الدعاء المشعر بتكثير الدعاء. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وابن ماجه.

879-

قوله: (سبوح قدوس) بضم أولهما وفتحهما، والضم أكثر استعمالاً وأفصح. قال ثعلب: كل اسم على "فعول" فهو مفتوح الأول إلا السبوح والقدوس، فإن الضم فيهما أكثر، وهما من صفات الله تعالى، والمراد المسبح والمقدس، فعول لمبالغة المفعول، فكأنه يقول مسبح مقدس. ومعنى "سبوح" المبرأ من النقائص والشريك، وكل ما لا يليق بالإلهية، و"قدوس" المطهر من كل ما لا يليق بالخالق، ولعل التكرير للتأكيد، أو أحدهما لتنزيه الذات، والآخر لتنزيه الصفات. وهما خبران مبتدءهما محذوف تقديره: ركوعي وسجودي لمن هو سبوح قدوس، أي منزه عن أوصاف المخلوقات، أو أنت سبوح أو هو سبوح. (رب الملائكة والروح) هو من عطف الخاص على العام؛ لأن

ص: 186

رواه مسلم.

880-

(6) وعن ابن عباس، قال:((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني نهيت أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً، فأما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقمن أن يستجاب لكم))

ــ

الروح من الملائكة، وهو ملك عظيم يكون إذا وقف كجميع الملائكة. وقيل المراد به "جبريل" لقوله تعالى:{يوم يقوم الروح والملائكة صفاً} [78: 38]، وقوله تعالى:{نزل به الروح الأمين} [26: 193] وقوله تعالى: {تنزل الملائكة والروح فيها} [97: 4] وغير ذلك، خص بالذكر تفضيلا. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي.

880-

قوله: (ألا) كلمة تنبيه. (إني نهيت) بضم النون وكسر الهاء على بناء المجهول. (أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً) أي عن قراءة القرآن في هاتين الحالتين. والنهي له صلى الله عليه وسلم نهي لأمته كما يشعر بذلك قوله في الحديث "فأما الركوع" الخ. قال الطيبي: أمره إياهم بالتعظيم للرب في الركوع، وبالدعاء في السجود، يدل على أن النهي عن القراءة ليس مخصوصاً به عليه السلام، بل الأمة داخلون معه فيه. قلت: ويشعر به أيضاً ما في صحيح مسلم وغيره أن علياً قال: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً. وهذا النهي يدل على تحريم قراءة القرآن في الركوع والسجود؛ لأن الأصل في النهي التحريم. وفي بطلان الصلاة بالقراءة حال الركوع والسجود خلاف. وحكمة النهي أن الركوع والسجود حالان دالان على غاية الذل والخضوع، ويناسبهما الدعاء والتسبيح، فنهي عن القراءة فيهما تعظيماً للقرآن الكريم؛ لأن كلام الله لكونه في غاية العظمة والجلالة لا يناسب قراءته في حالة الذلة والاستكانة، والله اعلم. (فأما الركوع) كأنه قيل: فماذا نقول فيهما؟ فقال: فأما الركوع. (فعظموا فيه الرب) أي سبحوه، ونزهوه، ومجدوه، وقد بين صلى الله عليه وسلم كيفية هذا التعظيم، واللفظ الذي يقع به هذا التعظيم في حديثي عائشة قبل هذا، وفي أحاديث عقبة بن عامر، وابن مسعود، وحذيفة، وعوف بن مالك الآتية في هذا الباب، وفي حديث أبي هريرة، وعائشة في باب السجود وفضله. (وأما السجود فاجتهدوا) أي بالغوا. (في الدعاء) قال السندي: قوله: "فعظموا فيه الرب" أي اللائق به في تعظيم الرب، فهو أولى من الدعاء، وإن كان الدعاء جائزاً أيضاً، فلا ينافي أنه كان يقول في ركوعه: اللهم اغفرلي، وقوله فاجتهدوا في الدعاء، أي أنه محل لاجتهاد الدعاء، وأن الاجتهاد فيه جائز بلا ترك أولوية، وكذلك التسبيح فإنه محل له أيضاً- انتهى. والحديث دليل على مشروعية الدعاء حال السجود بأي دعاء كان من طلب خير الدنيا والآخرة، والاستعاذة من شرهما. وقد بين بعض الأدعية ما أفاده حديث عائشة السابق. (فقمن) هو بفتح القاف وفتح الميم وكسرها، لغتان مشهورتان، فمن فتح فهو عنده مصدره لا يؤنث، ولا يثنى، ولا يجمع، ومن كسر فهو وصف يؤنث ويثنى ويجمع، وفيه لغة ثالثة "قمين" – بزيادة الياء وفتح القاف وكسر الميم – وهو مثل القمن – بكسر الميم – في كونه وصفاً، ومعناه: جدير وحقيق. (أن يستجاب لكم) ؛

ص: 187

رواه مسلم.

881-

(7) وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا:

اللهم ربنا ولك الحمد،

ــ

لأن السجود أقرب ما يكون العبد فيه إلى ربه، فيكون الدعاء في تلك الحالة أقرب إلى الإجابة. وفي الحديث الحث على الدعاء في السجود، وأنه محل الإجابة، وقد ورد الأمر بالإكثار من الدعاء فيه في حديث أبي هريرة الآتي في باب السجود وفضله. قال الحافظ: الأمر بإكثار الدعاء في السجود يشمل الحث على تكثير الطلب لكل حاجة، كما جاء في حديث أنس: ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله، أخرجه الترمذي. ويشمل التكرار للسؤال الواحد، والاستجابة تشمل استجابة الداعي بإعطاء سؤله واستجابة المثنى بتعظيم ثوابه-انتهى. وظاهر الحديث وجوب تسبيح الركوع، ووجوب الدعاء في السجود للأمر بهما. وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، وطائفة من المحدثين. وقال الجمهور: إنه مستحب لحديث المسيء صلاته، فإنه لم يعلمه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، ولو كان واجباً لأمره به. وفيه نظر لا يخفى على المتأمل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي.

881-

قوله: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد) قال القسطلاني: وللأصيلي "ولك الحمد" بالواو-انتهى. قال ابن القيم: لم يرد الجمع بين لفظ "اللهم" وبين "الواو" في حديث صحيح. قال الشوكاني: قد ثبت الجمع بينهما في صحيح البخاري من حديث أنس بلفظ: وإذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا ولك الحمد. وقد تطابقت على هذا اللفظ النسخ الصحيحة من صحيح البخاري-انتهى. واستدل بهذا الحديث وما في معناه لمالك وأبي حنيفة على أن الإمام يكتفي بالتسميع ولا يقول "ربنا لك الحمد"، وأن المأموم يكتفي بالتحميد ولا يقول "سمع الله لمن حمده" لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية، وأنه عليه السلام قسم التسميع والتحميد، فجعل التسميع الذي هو طلب التحميد للإمام، والتحميد الذي هو طلب الإجابة للمأموم، والتقسيم ينافي الشركة. ورد هذا الاستدلال بأنه ليس المقصود منه التقسيم، بل ذكر وقت تحميد المقتدي أنه عند قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، وهو ساكت عن تحميد الإمام إثباتاً نفياً. قال الحافظ في الفتح: وفي الاستدلال به على ذلك نظر؛ لأنه ليس فيه ما يدل على النفي، بل فيه أن قول المأموم "ربنا لك الحمد" يكون عقب قول الإمام "سمع الله لمن حمده"، والواقع في التصوير ذلك؛ لأن الإمام يقوله في حال انتقاله، والمأموم يقول التحميد في حال اعتداله، فقوله يقع عقب قول الإمام كما في الخبر، وهذا الموضع يقرب من مسألة التأمين كما تقدم من أنه لا يلزم من قوله: إذا قال الإمام {ولا الضالين} فقولوا: آمين. أن الإمام لا يؤمن بعد قوله {ولا الضالين)) . وليس فيه أن الإمام يؤمن، كما أنه ليس في هذا أنه يقول "ربنا لك الحمد"، لكنها مستفادان من أدلة أخرى صحيحة صريحة-انتهى. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في السعاية

ص: 188

(ص186) : فإن قلت آخذاً من فتح التقدير: السكوت في معرض البيان بيان، فلو كان التحميد أيضاً مشروعاً للإمام لبينه، فلما سكت عنه علم أنه ليس مشروعاً له. قلت: هذا إنما يستقيم لو كان الموضع موضع بيان أذكار الإمام والمؤتم، وهو ممنوع، فإن الظاهر من التعليق أنه موضع بيان وقت ذكر المقتدي أنه حين قول الإمام: سمع الله لمن حمده، فلا ينافيه مشروعية الذكر الآخر بعده للإمام، على أن اعتبار السكوت في موضع البيان إنما هو إذا لم يوجد حكم المتنازع فيه من موضع آخر، وأما إذا وجد حكمه صريحاً موافقاً أو مخالفاً فلا اعتبار له، كما صرحوا به في مواضع، وههنا قد وجدت مشروعية التحميد بدليل آخر، وهو ما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، والبخاري من حديث ابن عمر، ومسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى، ومن حديث علي بن أبي طالب أنهم قالوا في وصف صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه كان حين يرفع رأسه من الركوع يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. فهذا صريح في مشروعية التحميد للإمام. فإن قلت: آخذاً من فتح القدير: إن أحاديث الجمع فعلية، وحديث القسمة قولي، والقول النبوي مقدم على فعله كما هو مقرر في مقره. قلت: هذا إذا كان القول دالاً صراحة على خلاف الفعل، وههنا ليس كذلك. وأي ضرورة دعت إلى حمل الحديث السابق على القسمة حتى ينافي حديث الفعل. فإن قلت: لعل زيادة التحميد كانت في النوافل. قلت: هذا مقام لا يكفي فيه ليت ولعل. والحمل بمجرد الاحتمال مستبعد جداً مع كون غالب أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإمامة. وبالجملة فالاكتفاء بالتسميع وإن كان مشى عليه أرباب المتون لكونه قول أبي حنيفة، لكن الدليل يساعد الجمع، فهو الأحق بالاختيار خصوصاً إذا وجد اختياره من جماعة من المتأخرين. وذهب إليه الصاحبان، وروي مثله عن الإمام-انتهى كلام الشيخ اللكنوي. قلت: ذهب أحمد، والشافعي، وأبويوسف، ومحمد، والجمهور إلى أن الإمام يقول: ربنا لك الحمد، بعد التسميع كالمنفرد، واختاره الفضلي، والطحاوي، والشرنبلاني، وصاحب المنية، وعامة المتأخرين من الحنفية، وهو الأصح الموافق لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي بالتحميد بعد قوله: سمع الله لمن حمده. قال الحافظ في الفتح: الأحاديث الصحيحة تشهد له. وأما المنفرد فحكى الطحاوي، وابن عبد البر الإجماع على أنه يجمع بينهما، وجعله الطحاوي حجة لكون الإمام يجمع بينهما؛ للاتفاق على إتحاد حكم الإمام والمنفرد، لكن أشار صاحب الهداية إلى خلافه عندهم في المنفرد. وأما المأموم فقال الشافعي، وإسحاق، وعطاء، وابن سيرين، وغيرهم: هو كالإمام والمنفرد، يجمع بينهما، وذهب أحمد، ومالك، وأبوحنيفة، وصاحباه إلى أنه لا يأتي بالتسميع. واستدل الشافعي ومن وافقه بما رواه الشيخان من حديث أبي هريرة:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة" وفيه "ثم يقول: سمع الله لمن حمده، حين يرفع صلبه من الركعة. ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد" بانضمام قوله صلى الله عليه وسلم "صلوا كما رأيتموني أصلي". وبما رواه الدارقطني عن أبي هريرة، قال: كنا إذا صلينا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: سمع الله لمن حمده،

ص: 189

فإنه من وافق قوله قول الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه)) متفق عليه.

882-

(8) وعن عبد الله بن أبي أوفى، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع ظهره من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد))

ــ

قال من وراءه: سمع الله لمن حمده. لكن صرح الدارقطني بأن المحفوظ لفظ: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فليقل من وراءه: ربنا ولك الحمد. وبما رواه الدارقطني أيضاً عن بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بريدة! إذا رفعت رأسك من الركوع فقل: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد. وظاهره عدم الفرق بين كونه إماماً، أو منفرداً، أو مأموماً. ولكن سنده ضعيف. وليس في جمع المأموم بين التسميع والتحميد حديث صحيح صريح. قال الحافظ: زاد الشافعي: أن المأموم يجمعهما أيضاً، لكن لم يصح في ذلك شيء. (فإنه) أي الشأن. (من وافق قوله) وهو قوله: ربنا لك الحمد، بعد قول الإمام: سمع الله لمن حمده،. (قول الملائكة) أي في الزمان. (غفر له ما تقدم من ذنبه) أي من الصغائر. قال الخطابي: في هذا دلالة على أن الملائكة يقولون مع المصلي هذا القول، ويستغفرون ويحضرون بالدعاء والذكر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً مالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي.

882-

قوله: (إذا رفع ظهره) أي حيث شرع في رفعه. (من الركوع قال: سمع الله لمن حمده) أي وإذا انتهى إلى الاعتدال قال قبل أن يميل إلى السجود. (اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات) بكسر الميم وبنصب الهمزة بعد اللام، وهو الأكثر والأشهر على أنه صفة مصدر محذوف. وقيل على أنه حال، أي مالئاً. وقيل على نزع الخافض، أي بملء السموات، وبرفع الهمزة على أنه صفة الحمد، أو على أنه خبر مبتدأ محذوف، والملء اسم ما يأخذه الإناء إذا امتلأ، وهو مجاز عن الكثرة، قال المظهر: هذا تمثيل وتقريب، إذا الكلام لا يقدر بالمكائيل ولا تسعه الأوعية، وإنما المراد منه تكثير العدد حتى لو قدر أن تلك الكلمات تكون أجساماً تملأ الأماكن لبلغت من كثرتها ما تملأ السموات والأرضين. وقيل: المراد بذلك تعظيم القدر كما يقال: هذه الكلمة تملأ طباق الأرض. وقيل: المراد بذلك أجرها وثوابها. (وملء ما شئت من شيء بعد) أي بعد ذلك، أو غير ما ذكر كالعرش والكرسي ونحوهما مما في مقدور الله تعالى. قال التوربشتي: هذا أي "ملء ما شئت" يشير إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ الجهد، فإنه حمده ملء السموات والأرض، وهذا نهاية إقدام السابقين، ثم ارتفع وترقى فأحال الأمر فيه على المشيئة، إذ ليس وراء ذلك للحمد منتهي، ولهذه الرتبة التي لم يبلغها أحد من خلق الله استحق عليه الصلاة والسلام أن يسمى أحمد-انتهى. وفي هذا الحديث وحديثي أبي سعيد ورفاعة الآتيين دليل على مشروعية تطويل الاعتدال من الركوع، والذكر

ص: 190

رواه مسلم.

883-

(9) وعن أبي سعيد الخدري، قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))

ــ

المذكور في هذه الأحاديث، ولا دليل لمن حملها على النافلة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وابن ماجه.

883-

قوله: (اللهم) لم أجد هذا اللفظ في مسلم في رواية أبي سعيد، ووجدتها في رواية ابن عباس. (أهل الثناء والمجد) بالنصب على الاختصاص أو المدح، أو بتقدير: يا أهل الثناء، أو بالرفع بتقدير: أنت أهل الثناء. والثناء: الوصف الجميل، والمدح. والمجد: العظمة، ونهاية الشرف. (أحق ما قال العبد) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وما موصولة، أو موصوفة، أو مصدرية، و"ال" للجنس، أو للعهد، والمعهود النبي صلى الله عليه وسلم، أي أنت أحق بما قال العبد لك من المدح من غيرك، أو يكون التقدير: هذا الكلام، أي ما سبق من قوله: ربنا لك الحمد، الخ. أحق ما قاله العبد، أو أحق قول العبد. قال الأمير اليماني: وإنما لم يجعل "لا مانع لما أعطيت" خبراً و"أحق" مبتدأ؛ لأنه محذوف في بعض الروايات، فجعلناه جملة استئنافية إذا حذف تم الكلام من دون ذكره-انتهى. وقيل: الأظهر والأولى أن يجعل "أحق" مبتدأ وخبره "لا مانع لما أعطيت"، و"كلنا لك عبد" اعتراض بين المبتدأ والخبر، ومثل هذا الاعتراض كثير في القرآن وأشعار العرب، وإنما يعترض ما يعترض من هذا الباب للاهتمام به، وارتباطه بالكلام السابق، وتقديره هنا: أحق قول العبد: لا مانع لما أعطيت، وكلنا لك عبد، فينبغي لنا أن نقوله. وإنما كان أحق ما قاله العبد، لما فيه من التفويض إلى الله تعالى والإذعان له، والاعتراف بوحدانيته، والتصريح بأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأن الخير والشر منه، والحث على الزهادة في الدنيا، والإقبال على الأعمال الصالحة. (لا مانع) من أحد. (لما أعطيت) أي لعبد شيئاً من العطاء. (ولا معطي) من أحد. (لما منعت) أي للشيء الذي منعته من الأشياء، أو من الإعطاء أحد، وهو مقتبس من قوله تعالى:{ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} [35: 2] . (ولا ينفع ذا الجد) المشهور فيه فتح الجيم، ومعناه الحظ والغنى والعظمة والسلطان، منك بمعنى عند، والمعنى: لا ينفع ذا الحظ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان والغنى منك، أي عندك حظه وغناه، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح. وقيل: المعنى: لا يسلمه من عذابك غناه، أي لا يمنع عظمة الرجل وغناه عذابك إن شئت عذابه. وقيل:

ص: 191

رواه مسلم.

884-

(10) وعن رفاعة بن رافع، قال: ((كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة، قال: سمع الله لمن حمده. فقال رجل وراءه: ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه. فلما انصرف قال: من المتكلم آنفاً؟ قال: أنا.

ــ

"من" بمعنى بدل، أي لا ينفع ذا الحظ والإقبال بذلك- أي بدل طاعتك وتوفيقك- حفظه وإقباله. وروى الجد- بالكسر للجيم-، أي لا ينفع ذا الاجتهاد منك جده واجتهاده، وعمله، وإنما ينفعه رحمتك، وفضلك، والقبول منك بعمله. وقد ضعفت رواية الكسر. والحديث دليل على مشروعية هذا الذكر في هذا الركن لكل مصل. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي، وأخرج مسلم، والنسائي نحوه عن ابن عباس أيضاً.

884-

قوله: (كنا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم) أي في يوم من الأيام. وظاهر السياق يدل على أنه كان في صلاة الجماعة، ومن المعلوم أن المعتاد في الصلاة جماعة هو الفرض لا النفل. ونقل الحافظ في الفتح أن في رواية بشر بن عمران الزهراني، عن رفاعة بن يحيى: أن تلك الصلاة كانت المغرب، وهي صريحة في الرد على من زعم أنه التطوع. (فلما رفع رأسه) أي فلما شرع في رفع رأسه. (من الركعة) أي الركوع. (قال: سمع الله لمن حمده) وأتمه في الاعتدال. (فقال رجل) هو رفاعة بن رافع راوي الخبر، قاله ابن بشكوال، وبه جزم الحافظ. واستدل على ذلك بما رواه الترمذي وغيره عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة، قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فعطست، فقلت: الحمد لله- الحديث. قيل: هذا التفسير فيه نظر لاختلاف سياق السبب والقصة. وأجب: بأنه لا تعارض بينهما لاحتمال أنه وقع عطاسه عند رفع رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر نفسه في حديث الباب، بل كنى عنها لقصد إخفاء عمله وطريق التجريد. ويجوز أن يكون بعض الرواة نسي اسمه وذكره بلفظ "الرجل"، وأما ما عدا ذلك من الاختلاف فلا يتضمن إلا زيادة لعل الراوي اختصرها، فلا يضر ذلك. (وراءه) أي وراء النبي صلى الله عليه وسلم. (ولك الحمد) أي لك النعمة، ولك الحمد. (حمداً) منصوب بفعل مضمر دل عليه قوله: لك الحمد. (طيباً) أي خالصا عن الرياء والسمعة. (مباركاً فيه) أي كثير الخير. وأما قوله في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي "مباركاً عليه" فالظاهر أنه تأكيد للأول. وقيل: الأول بمعنى الزيادة، والثاني بمعنى البقاء، وزاد أيضاً في الرواية المذكورة "كما يحب ربنا ويرضى"، وفيه من حسن التفويض إلى الله تعالى ما هو الغاية في القصد. (فلما انصرف) أي النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته. (من المتكلم؟) زاد في رواية رفاعة بن يحيى: في الصلاة، فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يتكلم أحد، ثم قالها الثالثة: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع: أنا يا رسول الله! قال: كيف قلت؟ فذكره، فقال: والذي نفسي بيده- الحديث. (قال: أنا) أي قال الرجل: أنا المتكلم

ص: 192

قال: رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدونها أيهم يكتبها أول)) رواه البخاري.

ــ

بذلك، أرجو الخير. فإن قلت: لم أخر رفاعة إجابة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى كرر سؤاله ثلاثا؟ مع وجوب إجابته عليه؛ بل وعلى غيره ممن سمع، فإنه عليه الصلاة والسلام عم السؤال حيث قال: من المتكلم؟ أجيب: بأنه لما يعين واحدا بعينه لم تتعين المبادرة بالجواب من المتكلم، ولا من واحد بعينه، وكأنهم انتظروا بعضهم ليجيب، وحملهم على ذلك خشية أن يبدو في حقه شيء، ظناً منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجوا أن يقع العفو عنه، ويدل له ما في رواية سفيان، عن عبد الجبار، عن رفاعة بن يحيى عند ابن قانع: قال رفاعة: فوددت أني خرجت من مالي، وأني لم أشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة، وكأنه صلى الله عليه وسلم لما رأى سكوتهم فهم ذلك، فعرفهم أنه لم يقل بأساً، ويدل لذلك حديث مالك بن ربيعة عند أبي داود: قال: من القائل الكلمة؟ فإنه لم يقل بأساً، فقال: أنا قلتها، لم أرد بها إلا خيرا. والحكمة في سؤاله صلى الله عليه وسلم له عمن قال، أن يتعلم السامعون كلامه فيقولوا مثله. (بضعة) بكسر الباء وتاء التأنيث، وهي من الثلاث إلى تسع. (يبتدرونها) أي يسارعون في كتابة هذه الكلمات. (أيهم) بالرفع على أنه مبتدأ، وخبره هو قوله "يكتبها" قاله الطيبي وغيره. و"أي" استفهامية، وتعلقت هذه الجملة الاستفهامية بمحذوف دل عليه "يبتدرونها" والتقدير: يبتدرونها ليعلموا أيهم يكتبها أول. ويجوز في "أيهم" النصب بأن يقدر المحذوف أي فينظرون أيهم. (يكتبها) أي هذه الكلمات، وأي موصولة عند سيبويه، والتقدير: يبتدرون الذي هو يكتبها أول. وأنكر جماعة من البصريين ذلك. (أول) مبني على الضم؛ لأنه ظرف قطع عن الإضافة لفظاً لا معنى، أي أولهم، والمعنى: أن كل واحد منهم يسرع ليكتب هذه الكلمات قبل الآخر ويصعد بها إلى حضرة الله تعالى لعظم قدرها. ويروى "أول" بالفتح، ويكون حالاً وهو غير منصرف. وقال ابن الملك: أول بالنصب هو الأوجه، أي أول مرة. قال في المفاتيح: نصبه على الحال أو الظرف. وفي رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي: أيهم يصعد بها، ولا تعارض بين الروايتين؛ لأنه يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها. وأورد المصنف هذا الحديث في باب الركوع ليستدل به على مشروعية الذكر المذكور فيه الاعتدال من الركوع، وعلى جواز تطويل الاعتدال، ورفع الصوت به ما لم يشوش على من معه. لكن لا يتم هذا الاستدلال إلا إذا قيل: إن القصة المذكورة فيه غير قصة العطاس المذكورة في رواية رفاعة بن يحيى عند الترمذي. وأما إذا قيل باتحاد القصة والواقعة كما جزم به الحافظ وابن بشكوال، يكون الذكر المذكور ذكر العطاس الذي اتفق وقوعه عند رفع الرأس من الركوع، لا ذكر الاعتدال، ويكون الحديث دليلاً على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، وأن المتلبس بالصلاة لا يتعين عليه تشميت العاطس. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً أبوداود، والنسائي. والعجب أن الحاكم روى حديث رفاعة بن رافع هذا في مستدركه على الصحيحين، وهو في البخاري، ورجال الحاكم رجاله، إلا أن في المستدرك من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك، وفي البخاري، عن القعنبي، عن مالك، وقيل: إنه يكفي هذه المغايرة بينهما للاستدراك.

ص: 193