الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(19) باب مالا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه
{الفصل الأول}
985-
(1) عن معاوية بن الحكم، قال. ((بينا أنا أصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أُمياه!
ــ
(باب مالا يجوز من العمل في الصلاة) يعم المحرمات والمكروهات والمفسدرات وغيرها. (وما يباح منه) أي من العمل فيها.
985-
قوله: (عن معاوية بن الحكم) بفتحتين، السلمي، صحابي، قال ابن عبد البر: كان ينزل المدينة ويسكن في بنى سليم له عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في الكهانة والطيرة والخط وتشميت العاطس وعتق الجارية. أحسن الناس له سياقة يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء عنه، ومنهم من يقطعه فيجعله أحاديث. قال الحافظ: وله حديث آخر من طريق ابنه كثير بن معاوية عنه-انتهى. يعني بذلك ما أخرجه البغوي والطبراني وابن السكن وابن مندة من طريق كثير بن معاوية بن الحكم السلمي عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأنزى أخي علي بن الحكم فرساً له خندقاً-الحديث. وقد ذكره الحافظ في ترجمة علي بن الحكم في القسم الأول من حرف العين من الإصابة (ج2:ص506-507) وقال الخزرجي في الخلاصة: له ثلاثة عشر حديثاً، انفرد له مسلم بحديث. (إذا عطس) بفتح الطاء من نصر وضرب. (فقلت) أي وأنا في الصلاة. (يرحمك الله) ظاهره أنه في جواب قوله الحمدلله. (فرماني القوم بأبصارهم) أي نظروا إليّ حديداً انكاراً وزجراً وتشديداً كما يرمي بالسهم. قال الطيبي: المعنى أشاروا إلى بأعينهم من غير كلام ونظروا إلى نظر زجر كيلا أتكلم في الصلاة. (واثكل أمياه)"وا" حرف للندبة، و"ثكل" بضم المثلثة وإسكان الكاف وبفتحهما جميعاً، لغتان كالبخل والبخل حكاهما الجوهري وغيره، وهو فقدان المرأة ولدها وحزنها عليه لفقده، و"أمياه" بكسر الميم أصله أمي، والثكل مضاف إلى أم المضاف إلى يا المتكلم زيدت عليه ألف الندبة لمد الصوت وأردفت بهاء السكت، نحو وا أمير المؤمنيناه، يستعمله العرب عند التعجب من أمر واستبعاده.
ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شمتني قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس،
ــ
والمعنى: وافقدها لي فاني هلكت، وفي بعض الروايات: وأثكل أماه أي من غير زيادة الياء. (ما شأنكم) أي ما حالكم وأمركم. (تنظرون إلى) نظر الغضب. (فجعلوا) أي شرعوا. (يضربون بأيديهم على أفخاذهم) أى زيادة في الإنكار علي، وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته للرجال والتصفيق للنساء، وفيه دليل على أن الفعل في الصلاة لا تبطل به الصلاة. (يصمتونني) بتشديد الميم من التصميت أي يسكتونني يعني يأمرونني بالصمت والسكوت ويشيرونني إليه. (لكني سكت) لا بد من تقدير جواب لما ومستدرك لكن ليستقيم المعنى، فالتقدير: فلما رأيتهم يصمتونني غضبت وتغيرت ولكن سكت ولم أعمل بمقتضى الغضب، قاله الطيبي: وقيل: المعنى لما عرفت أنهم يأمرونني بالصمت عجبت لجهلي بقبح ما ارتكبت ومبالغتهم في الإنكار على وأردت أن أخاصمهم لكن سكت امتثالاً؛ لأنهم أعلم مني، ولم أعمل بمقتضى غضبي ولم أسأل عن السبب. (فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) أى فرغ من الصلاة، وجوابه قوله قال إن هذه الصلاة، وقوله: فيأبى وأمي إلى قوله: قال معترضة بين لما وجوابه، والفاء فيه كما في قوله تعالى. {ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مرية من لقائه، وجعلناه هدى لبنى إسرائيل} [32: 23] ، فإنه عطف وجعلناه على أتينا وأوقعها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، كذا قاله الطيبي: وتبعه ابن حجر، وقال: واعترض بينهما بما فيه غاية الإلتئام والمناسبة لهما. وقال ميرك: الأولى أن يقال جواب قوله "فلما صلى" محذوف، وهو ما دل عليه جملة. (فبأبى هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) أي أشتغل بتعليمي بالرفق وحسن الكلام، تم كلامه. وضمير "هو" يعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي هو مفدى بهما، وفي رواية: فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاني بأبي وأمي هو ما ضربني الخ. (فوالله ما كهرني) أي ما انتهرني وزجرني، أو ما استقبلني بوجه عبوس. قال الطيبي: الكهر والقهر والنهر أخوات. وقال الجزري: يقال كهره إذا زبره واستقبله بوجه عبوس. (ولا ضربني ولا شتمني) أي لا أغلط لي في القول. قال القاري: أراد نفي أنواع الزجر والعنف واثبات كمال الإحسان واللطف. (قال) جواب لما، على ما قاله الطيبي، واستئناف مبين لحسن التعليم، على مختار غيره. (إن هذه الصلاة) إشارة إلى جنس الصلاة فيشمل الفرائض وغيرها. (لا يصلح) وفي رواية لا يحل. (فيها شيء من كلام الناس) أي ما يجري في مخاطباتهم ومحاوراتهم. قال الشوكاني: الظاهر أن المراد بكلام الناس ههنا التكليم للغير، وهو الخطاب للناس بشهادة السبب وقال القاضي: أضاف الكلام إلى الناس ليخرج منه الدعاء والتسبيح والذكر فإنه لا يراد بها خطاب الناس
إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني حديث عهد بجاهلية وقد جاءنا الله بالإسلام
ــ
وأفهامهم، واستدل بإطلاق الحديث على تحريم الكلام في الصلاة مطلقاً، أي سواء كان لحاجة أو غيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها وسواء كان عمداً أو نسياناً أو جهلاً وسواء كان قليلاً أو كثيراً، وإليه ذهبت الحنفية، قالوا: لا فرق بين كلام العامد والناسي والجاهل، والحق ما ذهب إليه مالك من الفرق بين كلام العامد لغير مصلحة الصلاة وبين كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فيحرم الأول ويفسد الصلاة به، وهذا هو محمل قوله صلى الله عليه وسلم: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وأما كلام العامد لمصلحة الصلاة وكلام الناسي والجاهل فلا يفسد الصلاة به لحديث ذي اليدين المشهور، ولحديث معاوية هذا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة لكن علمه تحريم الكلام فيما يستقبل، فيكون حديث ذي اليدين وحديث معاوية هذا وما في معناهما مخصصين لعموم قوله: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وبناء العام على الخاص متعين، وسيأتي بسط الكلام في هذه المسألة في شرح حديث ذي اليدين إن شاء الله، وفي الحديث النهي عن تشميت العاطس في الصلاة، وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة وتفسد به إذا أتى به عالماً عامداً، وأن من فعله جاهلاً لم تبطل صلاته حيث لم يأمره بالإعادة، وأما الحمد للعاطس في الصلاة فيجوز؛ لأنه ليس من كلام الناس. (إنما هي) أي الصلاة، وفي رواية: إنما هو، أي ما يحل فيها من الكلام. (التسبيح والتكبير وقراءة القرآن) قال النووي: معناه هذا ونحوه، فإن التشهد والدعاء والتسليم من الصلاة، وغير ذلك من الأذكار مشروع فيها، فمعناه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم، وإنما هي التسبيح وما في معناه من الذكر والدعاء وأشباههما مما ورد به الشرع. وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الاحرام فرض من فروض الصلاة وجزء منها. وقد تمسك بالحديث الحنفية والحنابلة على منع الدعاء في الصلاة بما لم يشبه المأثور من القرآن والسنة من ملاذ الدنيا وحوائجها الجائزة المباحة، قالوا: لأن ذلك من كلام الناس. وفيه أن المراد بكلام الناس في الحديث مخاطبتهم بتوجيه الكلام إليهم، لا مخاطبة الله تعالى بالدعاء المأذون به في الأحاديث الصحيحة بدليل سبب الحديث، وإن سلمنا أنه يدخل في عمومه ما ذكروا خلافاً للظاهر المتبادر كان لنا أن نقول إن الأحاديث الصحيحة بالأدعية المعينة والمطلقة وبتخيير الدعاء قد خصصت هذا العموم، وقد كان تحريم الكلام بمكة، وأكثر الأدعية وكذا الأمر بتخيير الدعاء كان في المدينة. (أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) للشك من الراوي، أي عين هذا الكلام قال أو مثله. (إني حديث عهد) أي جديدة. (بجاهلية) متعلق بعهد، وما قبل ورود الشرع يسمى جاهلية لكثرة جهالاتهم وفحشها، يعني انتقلت عن الكفر إلى الإسلام ولم أعرف بعد أحكام الدين. (وقد جاءنا الله بالإسلام) هذا لا يتعلق بما قبله، بل شروع في ابتداء سؤال منه عليه السلام، كما يدل عليه رواية النسائي وبعض
وإن منا رجالاً يأتون الكهان، قال: فلا تأتهم، قلت: ومنا رجال يتطيرون، قال: ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم.
ــ
روايات أحمد (ج5:ص448) . (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) بضم الكاف جمع كاهن، وهو من يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويدعي معرفة الأسرار، ومن الكهنة من يزعم أن له تابعاً من الجن يلقي عليه الأخبار، ومنهم من يدعي إدراك الغيب بفهم أعطيه، ومنهم من يدعي معرفة الأمور بمقدمات وأسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، وهذا القسم يسمى عرافاً، كمن يدعي معرفة المسروق ومكان السرقة والضالة ونحوهما، والمنجم من ينظر في النجوم أي الكواكب ويحسب سيرها ومواقيتها ليعلم بها أحوال العالم، ومنهم من يسمي المنجم كاهناً. وقوله:(فلا تأتهم) يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم والرجوع إليهم وتصديقهم فيما يدعونه. قال العلماء: وإنما نهى عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب بذلك، ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم فيما يقولون. (ومنا رجال يتطيرون) التطير أخذ الفأل الشؤم، من الطيرة بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن. قال في القاموس: الطيرة والطيرة الطورة ما يتشاءم به من الفأل الردئ-انتهى. وأصله أنهم كانوا يأتون الطير أو الظبي فينفرونه، فإن أخذ ذات اليمين مضوا إلى ما قصدوا وعدوه حسناً، وإن أخذ ذات الشمال انتهوا عن ذلك وتشاءموا به، وكذا إن عرض في طريقهم، فإن مر عن يمينهم إلى الشمال تشاءموا، وإن مر من الشمال إلى اليمين مضوا، والتفاؤل يجيء للتطير وغيره، وأكثر ما يستعمل في الفأل الحسن، وهو غير ممنوع جداً. قال الجزري في النهاية: الطيرة هي التشاءم بالشيء، وهي مصدر تطير طيرة، كما تقول تخير خيرة، ولم يجئ من المصادر غيرهما، وأصل التطير التفاؤل بالطير، واستعمل لكل ما يتفاءل ويتشأم به، وقد كانوا في الجاهلية يتطيرون بالصيد كالطير والظبي فيتيمنون بالسوانح ويتشأمون بالبوارح، والبوارح على ما في القاموس من الصيد ما مر من ميامنك إلى مياسرك، والسوانح ضدها. وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، ويمنع السير إلى مطالبهم، فنفاه الشرع وأبطله ونهاهم عنه. (قال: ذاك) أي التطير. (شيء يجدونه في صدورهم) أي ليس له أصل يستند إليه، ولا له برهان يعتمد عليه، ولا هو في كتاب نازل من لديه. وقيل: معناه أنه معفو؛ لأنه يوجد في النفس بلا اختيار، نعم المشي على وقفه منهي عنه، لذلك قال. (فلا يصدنهم) أي لا يمنعهم عما هم فيه، ولا يخفى أن التفريع على هذا المعنى يكون بعيداً، قاله السندي. قلت: المعنى الثاني هو الذي ذكره عامة العلماء. قال النووي: قال العلماء معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك؛ لأنه غير مكتسب لكم فلا تكليف به، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم، فهو الذي تقدرون عليه وهو مكتسب لكم فيقع به التكليف. فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن العمل بالطيرة ولامتناع من تصرفاتهم
قال قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق خطه فذاك)) رواه مسلم.
قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي،
ــ
بسببها. وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهي محمولة على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير عمل على مقتضاه- انتهى. وقال القاري: يعني هذا وهم ينشأ من نفوسهم ليس له تأثير في اجتلاب نفع وضر، وإنما هو شيء يسوله الشيطان ويزينه حتى يعملوا بقضيته ليجرهم بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح، فلا يمنعهم التطير من مقاصدهم؛ لأنه لا يضرهم ولا ينفعهم ما يتوهمونه. وقال الطيبي: أي لا يمنعهم عما يتوجهون إليه من المقاصد أو من سواء السبيل ما يجدون في صدورهم من الوهم، فالنهي وارد على ما يتوهمونه ظاهراً، وهم منهيون في الحقيقة عن مزاولة ما يوقعهم من الوهم في الصد. (ومنا رجال يخطون) يشير إلى علم الرمل والخط عند العرب، فيما فسره ابن الأعرابي، أن يأتي الرجل العراف وبين يديه غلام، فيأمره بأن يخط في الرمل خطوطاً كثيرة وهو يقول: ابني عيان أسرعا البيان، ثم يأمره أن يمحو منها اثنين اثنين، ثم ينظر إلى أخر ما يبقى من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها زوجاً فهو دليل الفلج والظفر، وإن كان فردا فهو دليل الخيبة والبأس، وقد طول الكلام في ذلك في لسان العرب. (كان نبي من الأنبياء يخط) قيل: هو إدريس أو دانيال عليهما الصلاة والسلام. (فمن وافق) ضمير الفاعل راجع إلى "من"، أي فمن وافق فيما يخطه. (خطه) بالنصب على الأصح المشهور، وروي مرفوعاً، فيكون المفعول محذوفاً أي من وافق خطه، خطه أي خط ذلك النبي في الصورة والحالة. (فذاك) أي هو المصيب، وهو كالتعليق بالمحال. قال النووي: اختلف العلماء في معناه، فالصحيح أن معناه من وافق خطه فهو مباح له، ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا بيقين بالموافقة، وليس لنا يقين بها. وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن وافق خطه فذاك، ولم يقل حرام بغير تعليق على الموافقة، لئلا يتوهم متوهم إن هذا النهي يدخل فيه ذاك النبي الذي كان يخط، فحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على حرمة ذاك النبي، مع بيان الحكم في حقنا، فالمعنى أن ذلك النبي لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته، ولكن لا علم لكم بها. وقال الخطابي في المعالم (ج1ص222) : يشبه أن يكون أراد به الزجر عنه وترك التعاطي له، إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي؛ لأن خطه كان علماً، أي معجزة لنبوته وقد تقطعت نبوته فذهبت معالمها-انتهى. وقال ابن حجر: قال المحرمون لعلم الرمل - وهم أكثر العلماء - لا يستدل بهذا الحديث على إباحته؛ لأنه علق الأذن فيه على موافقة خط ذلك النبي، وموافقته غير معلومة، إذ لا تعلم إلا من تواتر ونص منه عليها الصلاة السلام أو من أصحابه أن الأشكال التي لأهل علم الرمل كانت كذلك، ولم يوجد ذلك، فاتضح تحريمه. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج5 ص447- 448) وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2 ص249) . (قوله: لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي) أي الجمع بين الصحيحين.
وصحح في جامع الأصول بلفظه كذا فوق لكني.
986-
(2) وعن عبد الله بن مسعود، قال: ((كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا، فلما رجعنا من عند النجاشي
ــ
(وصحح في جامع الأصول) لابن الأثير الجزري. (بلفظه كذا) أي بكتابة لفظه كذا. (فوق لكني) قال القاري: أي كذا في الرواية لفظ لكني مسطور، دفعاً لوهم أنه ليس في الحديث بمذكور، والحاصل أن لكني ثابت في الأصول، لكنه ساقط في المصابيح-انتهى. قلت: غرض المصنف من هذا الكلام أن لفظه لكني في قوله: لكني سكت، صحيحة رواية ومعنى، ثابتة في الأصول، لا ينبغي الشك في صحتها وثبوتها، ولفظه كذا علامة للتصحيح، فإنهم كما يكتبون لفظ صح على كلام صح رواية ومعنى، وهو عرضة للشك أو الخلاف، هكذا يكتبون لفظه كذا فوق اللفظ الذي هو محل الشك أو الخلاف ومظنة لعدم الصحة، ويعنون به أن هذا اللفظ صحيح ثابت في الأصول، فلفظه كذا تصحيح لمثل هذا اللفظ، كما أن قولهم "صح" علامة ورمز للتصحيح، وسبب كون لفظه لكني، في قوله: لكني سكت، عرضة للشك في صحته أن في ذكرها ههنا إشكالاً، كما لا يخفى، وأيضاً لم تقع هذه اللفظة في بعض روايات أحمد، ولفظها: فلما رأيتهم يصمتونني سكت حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني.
986-
قوله: (كنا نسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة فيرد علينا) أي السلام بالقول واللفظ حين كان الكلام مباحاً في الصلاة. وفي رواية لأبي داود: كنا نسلم في الصلاة ونأمر بحاجتنا. (فلما رجعنا من عند النجاشي) بفتح النون وتكسر وتخفيف الجيم وبالشين المعجمة وتخفيف الياء وتشدد كياء النسب، في القاموس: النجاشي بتشديد الجيم، وتخفيفها أفصح وبكسر النون وقيل: هو أفصح، وقال الجزري: الياء مشددة، وقيل: الصواب تخفيفها، وأفاد ابن التين أنه بسكون الياء، يعني أنها أصلية لا ياء النسبة، وحكى غيره تشديد الياء أيضاً، وحكى ابن دحية كسر نونه، وهو لقب لملك الحبشة، كقيصر لملك الروم، وكسرى لملك فارس، وفرعون لملك مصر. واسمه أصحمة، أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ومات سنة تسع من الهجرة عند الأكثر، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالمدينة اعلم أن جماعة من الصحابة كانت هاجرت من مكة إلى أرض الحبشة، حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فراراً بدينهم من الفتنة، ثم بلغهم أن المشركين أسلموا فرجعوا إلى مكة فوجدوا الأمر بخلاف ذلك، واشتد الأذى عليهم فخرجوا إليها أيضاً، فكانوا في المرة الثانية أضعاف الأولى، وكان ابن مسعود مع الفرقتين، ولما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وبلغهم مهاجرته إليها رجعوا من الحبشة إلى المدينة، حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لغزوة بدر. واختلف في مراد قول ابن مسعود: فلما رجعنا هل أراد الرجوع الأول أي إلى مكة من الهجرة الأولى، أو الرجوع الثاني أي إلى المدينة من الهجرة الثانية، فمال إلى كل منها فرقة، والراجح أن ابن مسعود أراد رجوعه الثاني. وقد ورد
سلمنا عليه فلم يرد علينا، فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا، فقال: إن في الصلاة لشغلاً))
ــ
أنه قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز لبدر. وفي مستدرك الحاكم عن ابن مسعود قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ثمانين رجلاً، فذكر الحديث بطوله، وفي آخره: فتعجل عبد الله بن مسعود فشهد بدراً، وفي السير لابن إسحاق: أن المسلمين بالحبشة لما بلغهم أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة رجع منهم إلى مكة ثلاثة وثلاثون رجلاً، فمات منهم رجلان بمكة، وحبس منهم سبعة، وتوجه إلى المدينة أربعة وعشرون رجلاً، فشهدوا بدراً، فعلى هذا كان ابن مسعود من هؤلاء، فظهر أن اجتماعه بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه كان بالمدينة قبل بدر، وعلى هذا لا يكون في حديث ابن مسعود دلالة على أن نسخ الكلام في الصلاة كان بمكة قبل الهجرة، بل هو يتفق مع حديث زيد بن أرقم على أن النهي عن الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد الهجرة بمدة يسيرة، ولفظه قال: كنا نتكلم في الصلاة، يكلم الرجل منا صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة، حتى نزلت:{وقوموا لله قانتين} [2: 238] فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وأبوداود والنسائي، وللترمذي: كنا نتكلم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة، وحديث زيد هذا ظاهر في أن نسخ الكلام في الصلاة وقع بهذه الآية، فيقتضى أن النسخ وقع بالمدينة؛ لأن الآية مدنية بالاتفاق، وصحبة زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بالمدينة فإنه ممن لم يدخل مكة قط، مع أنه يروي أنه وجد زمان جواز الكلام في الصلاة ونسخه كليهما، فدل على أن الكلام كان جائزا بالمدينة أيضاً إلى زمن أدركه زيد بن أرقم ثم أنه نسخ، كما رواه هو، فلو كان نسخ الكلام بمكة لم يكن لزيد بن أرقم أن يدرك جوازه ويرويه ويروي نسخه أيضاً. ويقوي ذلك ما زاد في رواية كلثوم الخزاعي عن ابن مسعود عند النسائي: أن الله أحدث في الصلاة أن لا تكلموا إلا بذكر الله وما ينبغي لكم فقوموا لله قانتين، فأمرنا بالسكوت، فإن هذه الرواية ظاهرة في أن كلاً من ابن مسعود وزيد بن أرقم حكى أن الناسخ قوله تعالى:{وقوموا لله قانتين} وقال: من مال إلى أن المراد بقوله فلما رجعنا الرجوع الأول: إن تحريم الكلام كان بمكة، وحمل حديث زيد بن أرقم على أنه وقومه لم يبلغهم النسخ، وقال لا مانع أن يتقدم الحكم ثم تنزل الآية بوفقه. وفيه أن قول زيد بن أرقم يكلم الرجل منا صاحبه وأن ذلك كان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرد هذا التأويل؛ لأن تكليم بعضهم بعضاً في الصلاة لا يخفى عليه صلى الله عليه وسلم لما قد صح عنه أنه كان يراهم في الصلاة من خلفه. (سلمنا عليه) أي وهو في الصلاة. (فلم يرد) بفتح الدال ويجوز ضمها وكسرها. (علينا) أي السلام باللفظ فيها، فقد روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة. (فقلنا) أي بعد الصلاة. (إن في الصلاة لشغلاً) بضم الشين وسكون الغين وبضمهما، قال الشوكاني: ههنا صفة محذوفة، والتقدير: لشغلاً كافياً عن غيره من الكلام. أو مانعاً من الكلام، وقال الطيبي: التنكير فيه للتنويع، أي بقراءة القرآن والذكر والدعاء لا الكلام، أو للتعظيم أي شغلاً وأي شغل؛ لأنها مناجاة مع الله تعالى، تستدعي
متفق عليه.
987-
(3) وعن معيقيب عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يسوى التراب حيث يسجد
ــ
الاستغراق بخدمته فلا تصلح للاشتغال بالغير، وقال النووي: معناه أن وظيفة المصلي الاشتغال بصلاته وتدبر ما يقوله، فلا ينبغي أن يعرج على غيرها من رد السلام ونحوه. وزاد في الرواية الآتية في الفصل الثاني: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة. والحديث استدل به على كراهة ابتداء السلام على المصلي، لكونه ربما شغل بذلك فكره واستدعى منه الرد، وهو ممنوع منه، وبذلك قال جابر وعطاء والشعبي ومالك في رواية ابن وهب. وقال في المدونة: لا يكره، وبه قال أحمد والجمهور. ثم اختلف هؤلاء فرخصت طائفة للمصلي في رد السلام قولاً ونطقاً، وهم سعيد بن المسيب والحسن البصري وقتادة وأبوهريرة، والحديث حجة عليهم لنفي الرد فيه صراحة، وقال أكثر الفقهاء لا يرد السلام لفظاً، قالوا يرد إذا فرغ من الصلاة باللفظ أو هو فيها بالإشارة. قال في شرح السنة: أكثر الفقهاء على أنه لا يرد بلسانه، ولو رد بطلت صلاته، ويشير بيده أو إصبعه-انتهى. وقال الخطابي: رد السلام في الصلاة قولاً ونطقاً محظور، ورده بعد الخروج من الصلاة سنة، والإشارة حسنة. وقال الشوكاني: مذهب الشافعي والجمهور أن المستحب أن يرد السلام في الصلاة بالإشارة، واستدلوا بحديث ابن عمر وصهيب في الفصل الثاني، وبما روي في معناه. وقال أبوحنيفة: لا يرد في الصلاة مطلقاً لا باللفظ ولا بالإشارة، واستدل له بحديث ابن مسعود هذا. وفيه أنه قد تقدم أن المراد بنفي الرد فيه نفي الرد بالكلام واللفظ، لما روى ابن أبي شيبة من مرسل ابن سيرين أنه صلى الله عليه وسلم رد على ابن مسعود في هذه القصة السلام بالإشارة، ولو لم ترد هذه الرواية لكان الواجب هو، ذلك جمعاً بينه وبين الأحاديث الصحيحة التي تدل على جواز رد السلام بالإشارة، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص248) .
987-
قوله: (وعن معيقيب) بضم الميم وفتح المهملة وسكون المثناة التحتية وكسر القاف بعدها مثناة تحتية ساكنة ثم موحدة، هو ابن أبي فاطمة الدوسي حليف بني عبد الشمس، شهد بدراً وكان أسلم قديماً بمكة وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وأقام بها حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، بالمدينة، وكان على خاتم النبي صلى الله عليه وسلم، واستعمله أبوبكر وعمر على بيت المال. قال ابن عبد البر: كان قد نزل به داء الجذام فعولج منه بأمر عمر بن الخطاب بالحنظل فتوقف، وتوفي في خلافة عثمان، وقيل: بل في خلافة علي سنة أربعين. له أحاديث اتفقا على هذا الحديث وانفرد مسلم بآخر. (عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل) ولفظ الشيخين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل أي في شأن الرجل حال كونه. (يسوى التراب) أي في الصلاة. (حيث) أي في المكان الذي. (يسجد) فيه، والحديث أخرجه الترمذي بلفظ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن مسح
قال: إن كنت فاعلاً فواحدة)) متفق عليه.
988-
(4) وعن أبي هريرة: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخصر في الصلاة)) متفق عليه.
ــ
الحصى في الصلاة، قال الحافظ: التقييد بالحصى وبالتراب خرج للغالب لكونه كان الموجود في فرش المساجد إذ ذاك، فلا يدل تعليق الحكم به على نفيه عن غيره مما يصلى عليه من الرمل والقذى وغير ذلك. وكذا ذكر الرجل للغالب وإلا فالحكم جار في جميع المكلفين. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إن كنت فاعلاً) أي لذلك ولا بد. (فواحدة) بالنصب بتقدير فامسح مسحة واحدة أو افعل فعلة واحدة أو فليكن واحدة، أو بالرفع مبتدأ وحذف خبره أي فمرة واحدة تكفيك، أو خبر مبتدأ محذوف أي المشروع فعلة واحدة، أو فالجائز واحدة أي لئلا يلزم العمل الكثير المبطل، أو عدم المحافظة على الخشوع، أو لئلا يجعل بينه وبين الرحمة التي تواجه حائلاً، وأبيح له المرة لئلا يتأذى به في سجوده. وروى ابن أبي شيبة عن أبي صالح السمان قال: إذا سجدت فلا تمسح الحصى فإن كل حصاة تحب أن يسجد عليها. فهذا تعليل آخر غير ما تقدم. وفي الحديث كراهة مسح الحصى والتراب في الصلاة مع الإذن بمسحة واحدة عند الحاجة. وحكى النووي اتفاق العلماء على كراهة مسح الحصى وغيره في الصلاة، وفيه نظر؛ فقد حكى الخطابي في المعالم وابن العربي في شرح الترمذي عن مالك: أنه لم ير به بأساً وكان يفعله، فكأنه لم يبلغه الخبر، وأفرط بعض أهل الظاهر فقال: أنه حرام إذا زاد على واحدة لظاهر النهي، ولم يفرق بين ما إذا توالى أولا مع أنه لم يقل بوجوب الخشوع، كذا في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج2 ص284) .
988-
قوله: (نهى عن الخصر) بفتح الخاء المعجمة وسكون الصاد المهملة من الخاصرة. (في الصلاة) قال التوربشتي: فسر الخصر بوضع اليد على الخاصرة وهو صنع اليهود، والخصر لم يفسر على هذا الوجه في شيء من كتب اللغة، ولم أطلع عليه إلى الآن، والحديث على هذا الوجه أخرجه البخاري، ولعل بعض الرواة ظن أن الخصر يرد بمعنى الاختصار، وهو وضع اليد على الخاصرة، وفي رواية أخرى له: نهى أن يصلي الرجل مختصراً، وكذا رواه مسلم والدارمي والترمذي والنسائي، وفي رواية لأبي داود: نهى عن الاختصار في الصلاة، فتبين أن المعتبر هو الاختصار لا الخصر، قال الطيبي: رده هذه الرواية على مثل هذه الأئمة المحدثين بقوله: لم يفسر الخصر بهذا الوجه في شيء من كتب اللغة، لا وجه له؛ لأن ارتكاب المجاز والكناية لم يتوقف على السماع بل على العلاقة المعتبرة، وبيانه: أن الخصر وسط الإنسان والنهي لما ورد عليه علم أن النهي عن أمر يتعلق به، ولما اتفقت الروايات على أن المراد وضع اليد على الخاصرة وجب حمله عليه وهو من الكناية، فإن نفي الذات أقوى من نفي الصفة ابتداء-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل متخصراً،
989-
(5) وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: ((سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة،
ــ
أي من التخصر، قال الحافظ: وفي رواية الكشمهيني مخصراً بتشديد الصاد، وللنسائي مختصراً بزيادة المثناة، قال النووي: اختلف العلماء في معنى الاختصار، فالصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والغريب والمحدثين: 1- أن المختصر هو الذي يصلي ويده على خاصرته، وقال الهروي: قيل: 2- هو أن يأخذ بيده عصا يتوكأ عليها، وقيل: 3- أن يختصر سورة فيقرأ من آخرها آية أو آيتين، وقيل: 4- هو أن يحذف الطمأنينة فلا يمد قيامها وركوعها وسجودها وحدودها، وقيل: 5- الاختصار أن يحذف الآية التي فيها السجدة إذا مر بها في قراءته حتى لا يسجد في الصلاة لتلاوتها، وهذه الأقوال الثلاثة الأخيرة وإن كان أخذها ممكنا من الاختصار لكن رواية التخصر والخصر تأباها، قال النووي: والصحيح الأول، وقال العراقي: والقول الأول هو الصحيح الذي عليه المحققون والأكثرون من أهل اللغة والحديث والفقه، والحديث يدل على تحريم الاختصار في الصلاة، وقد ذهب إلى ذلك أهل الظاهر، وذهب ابن عمر وابن عباس وعائشة ومالك والشافعي وأبوحنيفة والأوزاعي وآخرون إلى أنه مكروه، والظاهر ما قاله أهل الظاهر لعدم قيام قرينة تصرف النهي عن التحريم الذي هو معناه الحق كما هو الحق. واختلف في حكمة النهي عن ذلك، فقيل: لأن إبليس أهبط متخصراً، قاله حميد بن هلال في رواية ابن أبي شيبة عنه، وقال الترمذي: يروى أن إبليس إذا مشى يمشي مختصراً، وقيل: لأن اليهود تكثر من فعله فنهى عنه كراهة للتشبه بهم، أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل عن عائشة، وقيل: إنه راحة أهل النار، كما سيأتي في الفصل الثالث، وقيل: إنه فعل المختالين والمتكبرين، وقيل: لأنه شكل من أشكال أهل المصائب يضعون أيديهم على الخواصر إذا قاموا في المآتم، وقيل: لأنها صفة الراجز حين ينشد، قال الحافظ بعد سرد هذه الأقوال والعزو إلى قائليها: وقول عائشة أعلى ما ورد في ذلك، ولا منافاة بين الجمع. (متفق عليه) . قال ميرك: الأولى أن يقال رواه البخاري فإن الحديث من أفراده عن مسلم، قلت: لما كانت رواية مسلم موافقة لرواية البخاري معنى كما تقدم صح إسناد الحديث إليهما، فالمراد بقوله "متفق عليه" أي على أصل الحديث ومعناه لا على اللفظ المذكور، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والحاكم والبيهقي (ج2 ص287) .
989-
قوله: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة) أي بالرأس يميناً وشمالاً من غير حاجة، والالتفات في الصلاة على ثلاثة أنحاء، الأول: الالتفات بطرف الوجه يميناً وشمالاً بلا حاجة من غير أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مكروه عند الجمهور، حرام عند الظاهرية، والثاني: الالتفات بطرف
فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد)) متفق عليه.
990-
(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لينتهين أقوام عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء
ــ
العين، وهذا لا بأس به، وإن كان خلاف الأولى، والثالث: الالتفات بحيث أن يتحول صدره عن القبلة، وهذا مبطل الصلاة بالاتفاق، والمراد في الحديث هو الأول. (فقال) صلى الله عليه وسلم (هو) أي الالتفات. (اختلاس) افتعال من الخلس، وهو السلب أي استلاب وأخذ بسرعة، وقيل: شيء يختلس به. (يختلسه الشيطان) قال القسطلاني: بإبراز الضمير المنصوب، وهو رواية الكشمهيني، وللأكثر يختلس الشيطان- انتهى. (من صلاة العبد) أي يحمله الشيطان على هذا الفعل لأجل نقصان صلاة العبد، أو يسلبه الشيطان من كمال صلاة العبد، وضمير يختلسه منصوب على المصدر، قال الطيبي: المعنى من التفت يميناً وشمالاً ذهب عنه الخشوع المطلوب بقوله تعالى. {الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 2] فاستعير لذهاب الخشوع اختلاس الشيطان تصويراً لقبح تلك الغفلة، أو أن المصلي حينئذٍ مستغرق في مناجاة ربه، وأنه تعالى مقبل عليه، والشيطان كالراصد ينتظر فوات تلك الحالة عنه، فإذا التفت المصلي اغتنم الفرصة فيختلسها منه- انتهى. والحديث يدل على كراهة الالتفات في الصلاة، وهو إجماع، لكن الجمهور على أنها كراهة تنزيه، مالا يبلغ إلى حد استدبار القبلة بالصدر. وقال المتولي: يحرم إلا للضرورة، وهو قول أهل الظاهر، وسبب الكراهة والتنفير عنه ما فيه من نقص الخشوع أو ترك استقبال القبلة ببعض البدن. (متفق عليه) فيه نظر، فإن الحديث لم يروه مسلم، وقد ذكر الحاكم في المستدرك (ج1 ص237) أيضاً أن الشيخين اتفقا على إخراجه، وكذا نسبه الجزري إليهما في جامع الأصول (ج6 ص325) . وهو سهو منهم جميعاً، فإن مسلما لم يروه، فلم أجده فيه، وكذلك نص العيني والحافظ في الفتح على انه من أفراد البخاري، ويدل عليه أيضاً أن المجد ابن تيمية في المنتقى والمنذري في الترغيب وتلخيص السنن نسباه إلى البخاري فقط، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن خزيمة والبيهقي وغيرهم.
990-
قوله: (لينتهين) اللام جواب قسم محذوف، وقيل للتأكيد، وهو خبر بمعنى أمر. (عن رفعهم أبصارهم عند الدعاء في الصلاة إلى السماء) قال القاري: أي خصوصاً وقت الدعاء، وإلا فرفع الأبصار مطلقاً في الصلاة مكروه. قلت: التقييد بقوله عند الدعاء في الصلاة يقتضي اختصاص الكراهة بالدعاء الواقع في الصلاة، لكن أخرجه البخاري وأبوداود والنسائي وابن ماجه من حديث أنس بغير تقييد، ولفظه: ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو ليخطفن أبصارهم، وأخرجه بغير
أو لتخطفن أبصارهم)) رواه مسلم.
991-
(7) وعن أبي قتادة، قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يؤم الناس وأمامة بنت أبي العاص
ــ
تقييد أيضاً ابن ماجه وابن حبان والطبراني من حديث ابن عمر، ولفظه: لا ترفعوا أبصاركم إلى السماء أن تلتمع يعني في الصلاة، وأخرجه أيضاً بغير تقييد مسلم والنسائي وابن ماجه من حديث جابر بن سمرة، والطبراني من حديث أبي سعيد الخدري وكعب بن مالك، وأخرج ابن أبي شيبة من رواية هشام بن حسان عن محمد بن سيرين: كانوا يلتفتون في صلاتهم حتى نزلت: {قد أفلح المؤمنون. الذين هم في صلاتهم خاشعون} [23: 1، 2] فاقبلوا على صلاتهم، ونظروا أمامهم، وكانوا يستحبون أن لا يجاوز بصر أحدهم موضع سجوده، وصله الحاكم بذكر أبي هريرة فيه، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال في آخره: فطأطأ رأسه. وإطلاق هذه الأحاديث يقضي بأنه لا فرق بين أن يكون عند الدعاء أو عند غيره إذا كان في الصلاة، والعلة في ذلك أنه إذا رفع بصره إلى السماء خرج عن سمت القبلة وأعرض عنها وخرج عن هيئة الصلاة. (أو لتخطفن) بضم الفوقية وفتح الفاء على البناء للمفعول، أي لتسلبن بسرعة. (أبصارهم) إن لم ينتهوا عن ذلك، أي أن أحد الأمرين واقع لا محالة، إما الانتهاء منهم أو خطف أبصارهم من الله تعالى عقوبة على فعلهم، قال الطيبي: كلمة "أو "ههنا للتخيير تهديداً، أي ليكونن أحد الأمرين، كما في قوله تعالى:{تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين، أما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، وكما في قوله تعالى:{لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} [7: 88] أي ليكونن أحد الأمرين، أما إخراجكم وإما عودكم في الكفر، والمعنى ليكونن منكم الانتهاء عن الرفع أو خطف الأبصار من الله تعالى- انتهى. وفيه وعيد عظيم وتهديد شديد، وهو يدل على أن رفع البصر إلى السماء حال الصلاة حرام؛ لأن العقوبة بالعمى لا تكون إلا عن محرم، والمشهور عند الشافعية أنه مكروه، وبالغ ابن حزم فقال: تبطل الصلاة به، واختلف في رفع البصر إلى السماء حال الدعاء خارج الصلاة، فكرهه القاضي شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون؛ لأن السماء قبلة الدعاء، كما أن الكعبة قبلة الصلاة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي والبيهقي (ج2 ص282)
991-
قوله: (يؤم الناس) الجملة حال؛ لأن رأيت بمعنى النظر لا العلم، قاله الطيبي. (وأُمامة) بضم الهمزة وتخفيف الميمين: وهي ابنة زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت صغيرة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها علي بعد موت فاطمة بوصية منها. وقيل: كان أبوها أبوالعاص قد أوصى بها إلى الزبير بن العوام، فزوجها من علي، فلما قتل علي، وانقضت عدتها تزوجها المغيرة بن نوفل بن الحارث، زوجها منه الحسن بن علي، وماتت عند المغيرة. (بنت أبي العاص) بن الربيع بن عبد العزى بن عبدشمس بن عبدمناف بن قصي. اختلف في اسم أبي العاص اسمه لقيط، وقيل: مقسم، وقيل: القاسم، وقيل: مهشم، وقيل: هشيم، وقيل: ياسر، وهو مشهور بكنيته، وهو
على عاتقه، فإذا ركع وضعها، وإذا رفع من السجود أعادها))
ــ
ختن النبي صلى الله عليه وسلم، زوج ابنته زينب أكبر بناته، رضي الله عنهن. وأمه هالة بنت خويلد بن أسد أخت خديجة لأبيها وأمها، أسلم قبل الفتح، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كان أسر يوم بدر كافراً، ورد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب بالنكاح الأول، وماتت معه، وأثنى عليه في مصاهرته. وكانت وفاته في خلافة أبي بكر الصديق في ذي الحجة سنة اثني عشرة من الهجرة، وقد بسط قصة أسره يوم بدر وإسلامه ابن عبد البر والحافظ نقلاً عن ابن إسحاق. (على عاتقه) بكسر التاء وهو ما بين المنكبين إلى أصل العنق. وفي رواية لأحمد على رقبته. (فإذا ركع وضعها) هكذا في صحيح مسلم والنسائي وأحمد وابن حبان، ورواية البخاري: فإذا سجد وضعها. ولأبي داود: حتى إذا أراد أن يركع أخذها فوضعها ثم ركع وسجد، حتى إذا فرغ من سجوده وقام أخذها فردها في مكانها، وهذا صريح في أن فعل الحمل والوضع كان منه صلى الله عليه وسلم، لا أنها كانت تنزل وتركب بنفسها. وهذا يرد تأويل الخطابي، حيث قال: يشبه أن تكون الصبية قد ألفته، فإذا سجد تعلقت بأطرافه والتزمته، فينهض من سجوده فتبقى محمولة كذلك إلى أن يركع فيرسلها. (وإذا رفع) أي رأسه. (من السجود أعادها) ولأحمد: فإذا قام حملها فوضعها على رقبته. والحديث فيه دليل لصحة صلاة من حمل آدميا أو حيواناً طاهراً، وأن ثياب الصبيان وأجسادهم طاهرة حتى يتحقق نجاستها، وأن الفعل القليل لا يبطل الصلاة، وأن الأفعال إذا تعددت ولم تتوال بل تفرقت لا تبطل الصلاة. وفيه تواضع مع الصبيان وسائر الضعفة، ورحمتهم وملاطفتهم. وفيه دليل على جواز إدخال الصبيان في المساجد، وعلى أنه يجوز حمل الصبي والصبية في الصلاة من غير فوق بين الفريضة والنافلة والمنفرد والمؤتم والإمام؛ لأن قوله: يؤم الناس صريح، أو كالصريح في أنه كان في الفريضة. وأصرح من هذا ما أخرجه أبوداود بلفظ: بينما نحن ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر، وقد دعاه بلال إلى الصلاة، إذ خرج علينا، وأمامة على عاتقه، فقام في مصلاه، فقمنا خلفه فكبر فكبرنا وهي في مكانها. وإذا جاز ذلك في حال الإمامة في صلاة الفريضة جاز في غيرها بالأولى. وإليه ذهب الشافعي وأحمد. قال في الشرح الكبير (ج1 ص672) : وإن كان، أي العمل الذي من غير جنس الصلاة، متفرقاً لم تبطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمامة في الصلاة، إذا قام حملها، وإذا سجد وضعها، وهذا لو اجتمع كان كثيراً، وإن كان يسيراً لم يبطلها-انتهى. وذهب مالك إلى عدم جواز الحمل مطلقاً، وأجاب عن الحديث بأنه كان في النافلة، وهو مردود، لما تقدم من رواية أبي داود. ويرده أيضاً رواية مسلم؛ لأن إمامته بالناس في النافلة ليست بمعهودة. وأجاب أيضاً بأن ذلك كان للضرورة حيث لم يجد من يكفيه أمرها، وقال بعض أصحابه: لأنه لو تركها لبكت وشغلت سره أكثر من شغله بحملها. وقال الباجي: إن وجد من يكفيه أمرها جاز في النافلة دون الفريضة، وإن لم يجد جاز فيهما. وهذا أيضاً مردود؛ لأنه دعوى مجردة لا دليل
عليها ولا ضرورة إليها. وأجاب أيضاً بأنه منسوخ، قال ابن عبد البر: لعله نسخ بتحريم العمل في الصلاة. وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وبأن هذه القصة كانت بعد قوله صلى الله عليه وسلم: إن في الصلاة لشغلاً؛ لأن ذلك قبل الهجرة أو بعدها بمدة يسيرة، وهذه القصة كانت بعد الهجرة قطعاً بمدة مديدة. وأجاب بعض المالكية بأن ذلك كان من خصائصه صلى الله عليه وسلم لكونه معصوماً من أن تبول وهو حاملها. ورد بأن الأصل عدم الاختصاص، وبأنه لا يلزم من ثبوت الاختصاص في أمر ثبوته في غيره بغير دليل، ولا مدخل للقياس في مثل ذلك. وقال أبوحنيفة: بجوازه عند الضرورة، وبكراهته عند عدم الحاجة. وحمل الحديث على حال الضرورة كما حمل عليها مالك. وأول بعض الحنفية بأنه عليه السلام كان يشير بها بالنزول عند الركوع وبتعلقها بنفسها عند القيام، فلم يكن منه صلى الله عليه وسلم إلا الإشارة، فعبر الراوي عن تعلقها بنفسها وعن إشارته بالنزول والتعلق بأنه صلى وهو حامل لها وإذا ركع وضعها وإذا قام حملها، فهذا توسع من الراوي لا غير. وهذا تأويل بعيد غاية البعد، يرده ظاهر ألفاظ الحديث وطرقه وهو في الحقيقة تحريف للحديث لا توجيه له فلا يلتفت إليه. وقال الخطابي في المعالم (ج1 ص217) : بعد تأويل الحديث بنحو ذلك، وإذا كان علم الخميصة يشغله عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمر-انتهى. وتعقبه النووي فقال: وأما قضية الخميصة فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل إمامة لا نسلم أنه يشغل القلب، وإن شغله فيترتب عليه فوائد، وبيان قواعد مما ذكرنا وغيره، فاحتمل ذلك الشغل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة. فالصواب الذي لا معدل عنه أن الحديث كان لبيان الجواز، والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا، وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين-انتهى. قلت: هذا هو الصواب الذي لا يجوز العدول عنه، أن الحديث محمول على بيان الشرع والجواز. وإليه ذهب بعض الحنفية. قال في رد المحتار (ج1ص 612) : قد أطال المحقق ابن أمير حاج في الحلية في هذا المحل ثم قال: إن كونه للتشريع بالفعل هو الصواب الذي لا يعدل عنه، كما ذكره النووي فإنه ذكر بعضهم: أن البيان بالفعل أقوى من القول، ففعله ذلك لبيان الجواز، وأن الآدمي طاهر، وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، ثم ذكر بقية كلام النووي، وسنذكر تمامه. قال الحافظ: حمل أكثر أهل العلم هذا الحديث على أنه عمل غير متوال لوجود الطمأنينة في أركان الصلاة. وقال النووي بعد أن ذكر التأويلات المتقدمة ما لفظه: وكل هذه الدعاوي باطلة مردودة، فإنه لا دليل عليها ولا ضرورة إليها، بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك، وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدنه، وثياب الأطفال وأجسامهم على الطهارة، ودلائل الشرع متظاهرة على هذا،
متفق عليه.
992-
(8) وعن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم
ــ
أفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا بياناً للجواز-انتهى. وقال الفاكهاني: وكان السر في حمله أمامة في الصلاة دفعاً لما كانت العرب تألفه من كراهة البنات وحملهن، فخالفهم في ذلك حتى في الصلاة للمبالغة في ردعهم، والبيان بالفعل قد يكون أقوى من القول. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، والحديث أخرجه أيضاً مالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج2ص262) .
992-
قوله: (إذا تثاءب أحدكم) بالهمزة، وقيل: بالواو، ونسب إلى الغلط. قال الحافظ في الفتح: قال شيخنا في شرح الترمذي: وقع في رواية المحبوبي عن الترمذي- أي لحديث أبي هريرة- بالواو، وفي رواية السبخي بالهمز، ووقع عند البخاري وأبي داود بالهمز، وكذا في حديث أبي سعيد- أي الذي نحن بصدد شرحه - عند أبي داود. وأما عند مسلم فبالواو. قال: وكذا هو في أكثر نسخ مسلم، وفي بعضها بالهمز، وقد أنكر الجوهري كونه بالواو. قال: تقول تثاءبت على وزن تفاعلت، ولا تقل تثاوبت. قال: والتثاؤب أيضاً مهموز، وقد يقلبون الهمز المضمومة واواً، والاسم الثؤباء بضم، ثم همز، على وزن الخيلاء. وجزم ابن دريد وثابت بن قاسم في الدلائل: بأن الذي بغير واو بوزن تيممت، فقال ثابت: لا يقال تثاءب بالمد مخففاً، بل يقال تثأب بالتشديد. وقال ابن دريد: أصله من ثئب فهو مثؤب، إذا استرخى وكسل. وقال غير واحد: إنهما لغتان، وبالمد والهمز أشهر-انتهى. والتثاؤب التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات المحتقنة في عضلات القلب، وينشأ من امتلاء المعدة وثقل البدن واسترخائه وكدورة الحواس، فيورث الغفلة وسوء الفهم والكسل والنوم الداعي إلى إعطاء النفس شهواتها، ولذا كرهه الله وأحبه الشيطان، كما في الحديث الصحيح. قال القاري: أي فتح فاه لكسل أو فترة أو امتلاء أو غلبة نوم، وكل ذلك غير مرضي؛ لأنه يكون سبباً للكسل عن الطاعة والحضور فيها. (في الصلاة) هكذا قيده بحالة الصلاة، وكذا أخرجه الترمذي في الصلاة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة بلفظ: التثاؤب في الصلاة من الشيطان، فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع. قال العراقي في شرح الترمذي: أكثر روايات الصحيحين فيها إطلاق التثاؤب، ووقع في الرواية الأخرى تقييده بحالة الصلاة، فيحتمل أن يحمل المطلق على المقيد، وللشيطان غرض قوي في التشويش على المصلي في صلاته، ويحتمل أن تكون كراهته في الصلاة أشد، ولا يلزم من ذلك أن لا يكره في غير حالة الصلاة، ويؤيد كراهته مطلقاً كونه من الشيطان، وبذلك صرح النووي. وقال ابن العربي: ينبغي كظم التثاؤب في كل حالة، وإنما خص الصلاة؛ لأنها أولى الأحوال بدفعه لما فيه من الخروج من اعتدال الهيئة واعوجاج الخلقة. (فليكظم) بفتح ياء
ما استطاع، فإن الشيطان يدخل)) رواه مسلم.
993-
(9) وفي رواية البخاري عن أبي هريرة، قال: ((إذا تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع ولا يقل: ها، فإنما ذلكم من الشيطان
ــ
المضارعة وكسر الظاء، أي ليحبس التثاؤب وليدفعه وليمسكه بضم الشفتين وتطبيق السن، وإن لم يقدر فبوضع اليد على الفم. (ما استطاع) أي ما أمكنه. وفي رواية لأبي داود: فليمسك على فيه. وفي حديث أبي هريرة عند البخاري: فليرده ما استطاع. قال الحافظ: أي يأخذ في أسباب رده، وليس المراد به أنه يملك دفعه؛ لأن الذي وقع لا يرد حقيقة. وقيل: معنى إذا تثاءب إذا أراد أن يتثاءب. وجوز الكرماني: أن يكون الماضي فيه بمعنى المضارع- انتهى. وفي رواية الترمذي: فليضع يده على فيه. وهذا يتناول ما إذا انفتح بالتثاؤب فيغطي بالكف ونحوه، وما إذا كان منطبقاً حفظاً له عن الانفتاح بسبب ذلك، وفي معنى وضع اليد على الفم وضع الثوب ونحوه ما يحصل ذلك المقصود، ويستثنى ذلك من النهي عن وضع المصلي يده على فمه. ومما يؤمر به المتثاءب في الصلاة أن يمسك عن القراءة حتى يذهب عنه، لئلا يتغير نظم قراءته. وأسند ابن أبي شيبة نحو ذلك عن مجاهد وعكرمة والتابعين المشهورين. (فإن الشيطان يدخل) أي فيه. قال الحافظ: يحتمل أن يراد به الدخول حقيقة، وهو وإن كان يجري من الإنسان مجرى الدم لكنه لا يتمكن منه ما دام ذاكر الله تعالى، والمتثاءب في تلك الحالة غير ذاكر، فيتمكن الشيطان من الدخول فيه حقيقة، ويحتمل أن يكون أطلق الدخول وأراد التمكن منه؛ لأن من شأن من دخل في شيء أن يكون متمكناً منه. (رواه مسلم) في كتاب الزهد في أواخر صحيحه، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الأدب، والبيهقي.
993-
قوله: (وفي رواية البخاري) بالإضافة. (إذا تثاءب أحدكم) أي أحس بالتثاؤب. (فليكظم ما استطاع) أي بالضم أو الوضع. (ولا يقل: ها) بل يدفعه بالفعل. و"ها" مقصورة من غير همز حكاية صوت المتثاءب، والمعنى لا يصوت عند التثاؤب، كما يفعله بعض من لا يضبط حاله في التثاؤب. (فإنما ذلكم) أي التثاؤب وقيل: قولكم: "ها". (من الشيطان) أي من حمله عليه. قال ابن بطال: إضافة التثاؤب إلى الشيطان بمعنى إضافة الرضا والإرادة، أي إن الشيطان يحب أن يرى الإنسان متثائباً؛ لأنها حالة تتغير فيها صورته فيضحك منه، لا أن المراد أن الشيطان فعل التثاؤب. وقال ابن العربي: قد بينا أن كل فعل مكروه نسبه الشرع إلى الشيطان؛ لأنه واسطته، وأن كل فعل حسن نسبه الشرع إلى الملك؛ لأنه واسطته. قال: والتثاؤب من الامتلاء، وينشأ عنه التكاسل، وذلك بواسطة الشيطان. وقال النووي: أضيف التثاؤب إلى الشيطان؛ لأنه يدعوا إلى الشهوات، إذ يكون عن ثقل البدن
يضحك منه)) .
994-
(10) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن عفريتاً من الجن تفلّت
ــ
واسترخاءه وامتلاءه. والمراد التحذير من السبب الذي يتولد منه ذلك، وهو التوسع في المآكل. (يضحك) أي الشيطان، حقيقة أو كناية عن فرحه وسروره بكونه أغواه بتعاطي سبب التثاؤب، وهو كثرة الأكل فطاوعه واغتوى، والأصل الأول، إذ لا ضرورة تدعوا إلى العدول عن الحقيقة. (منه) أي من ذلك القول. قال الطيبي: أي يرضى بتلك الفعلة، والضمير في "منه" راجع إلى المشار إليه بذا "وكم" بيان لخطاب الجماعة، وليس بضمير. وقال ابن حجر: يضحك حال-انتهى. ويمكن أن يكون استئناف بيان. تنبيه: لم أجد حديث أبي هريرة عند البخاري باللفظ الذي ذكره المصنف، نعم روى أبوداود عن أبي هريرة بلفظ: إذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، ولا يقل: هاه هاه، فإنما ذلكم من الشيطان، يضحك منه. ولفظه عند البخاري في رواية: وأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان فليرده ما استطاع، فإذا قال:"ها" ضحك منه الشيطان، وفي أخرى: فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ضحك الشيطان، وفي أخرى: فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان. والظاهر أن المصنف أخذ الطرف الأول من حديث أبي سعيد عند مسلم، أي قوله: إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، وأخذ الطرف الآخر من حديث أبي داود، أي قوله: ولا يقل هاه، فإنما ذلكم الشيطان، يضحك منه. فجعل مجموعهما حديثاً واحداً من رواية أبي هريرة وعزاه للبخاري، ولا يخفى ما في هذا الصنيع. ثم رأيت جامع الأصول (ج7: ص398) للجزري وقد وقع فيه مثل ما في المشكاة، فلعل المصنف تبعه في ذلك. والله أعلم.
94-
قوله: (إن عفريتاً) بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء، أي جنياً خبيثاً منكراً مبالغاً في المردودة، مع دهاء وخبث. فعليت من العفر بكسر فسكون، وهو الخبث، قاله القاري. (من الجن) بيان له. قال ابن عبد البر: الجن على مراتب، فالأصل جني، فإن خالط الإنس، قيل: عامر، ومن تعرض منهم للصبيان قيل: أرواح، ومن زاد في الخبث قيل: شيطان، فإن زاد على ذلك قيل: مارد، فأن زاد على ذلك قيل: عفريت. وقال الراغب: العفريت من الجن هو العارم الخبيث، وإذا بولغ فيه قيل: عفريت نفريت. وقال ابن قتيبة: العفريت الموثق الخلق. وقال الزجاج: العفريت النافذ في الأمر المبالغ فيه من خبث ودهاء. (تفلت) أي عليّ، كما في رواية. وهو بفتحات وتشديد اللام، أي تعرض لي فلتة، أي بغتة في سرعة. وقال القزاز: يعني توثب، وقيل: تخلص فجأة. قال ابن حجر: أي من أسر سليمان عليه الصلاة والسلام الذي حرق الله له به عادة الأنبياء والملوك، حتى مكنه مما أراد بهم. وفي رواية: عرض لي فشد علي. فإن قلت: قد ثبت أن الشيطان يفر من ظل عمر، وأنه يسلك في غير فجه، ففراره من النبي صلى الله عليه وسلم أولى، فكيف شد عليه الصلاة والسلام وأراد قطع صلاته؟
البارحة ليقطع صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم،
ــ
أجيب بأنه ليس المراد حقيقة الفرار، بل بيان قوة عمر وصلابته على قهر الشيطان، وقد وقع التصريح بأنه صلى الله عليه وسلم قهره وطرده، كما سيأتي. (البارحة) هي أقرب ليلة مضت، وفي المنتهى: كل زائل بارح، ومنه سميت البارحة لأدنى ليلة زالت عنك. وانتصابها على الظرفية، والمعنى تعرض في صلاتي الليلة الماضية. (ليقطع علي) بتشديد الياء (صلاتي) أي يبطلها ويفسدها، إما بمروره بين يديه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بقطع الصلاة من مرور الكلب الأسود، فقيل: ما بال الأحمر من الأبيض من الأسود؟ فقال: الكلب الأسود شيطان، والجن يتصورون بصورته، أو بإلجائه إلى العمل الكثير، بأن يصدر من العفريت أفعال يحتاج إلى دفعها بأفعال كثيرة منافية للصلاة فيقطعها بتلك الأفعال. وقيل: المراد بالقطع قطع وصلة المناجاة بمروره بين يديه. وقيل: المراد قطع الخشوع وكمال الصلاة. (فأمكنني الله منه) أي أعطاني مكنة منه وقدرة عليه. (فأردت أن أربطه) بكسر الباء أي أشده. (على سارية) أي أسطوانة. (من سواري المسجد) الظاهر أنه المسجد النبوي. وفيه دليل على إباحة ربط الأسير في المسجد، وقد بوب البخاري على هذا الحديث "باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد". ومن هذا قال المهلب: إن في الحديث جواز ربط من خشي هروبه بحق عليه، أو دين والتوثق منه في المسجد، أو غيره. والمراد بالربط في الصلاة: أن يربطه بوجه كان شغلاً يسيراً فلا تفسد به الصلاة. وقال السندي: لا يلزم منه أن أخذه وربطه غير مفسد، لجواز أن يكون مفسداً، ويحمل له ذلك لضرورة أو بلا ضرورة، نعم يلزم أن تكون إرادته غير مفسدة، فليفهم-انتهى. (حتى تنظروا) وفي رواية حتى تصبحوا فتنظروا. (إليه) أي إلى الشيطان في حالة المذلة نظرة عبرة. (كلكم) أي صغاركم وكباركم. وهو بالرفع توكيد للضمير المرفوع. فيه دليل على جواز رؤية الجن. قال الخطابي: في الحديث دليل على أن رؤية الجن للبشر غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فدركه غير ممتنع أصلاً. وأما قوله تعالى:{إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} [7: 27] ، فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم ويطلبون الأمان من غائلتهم. ولا ينكر أن يكون حكم الخاص والنادر من المصطفين من عباده بخلاف ذلك. وقال الكرماني: لا حاجة إلى هذا التأويل، إذ ليس في الآية ما ينفي رؤيتنا إياهم مطلقاً، إذا المستفاد منها أن رؤيته إيانا مقيدة من هذه الحيثية، فلا نراهم في زمان رؤيتهم لنا قط، ويجوز رؤيتنا لهم في غير ذلك الوقت-انتهى. وفهم أكثر العلماء منها العموم، حتى قال الشافعي: من زعم أنه يرى الجن أي
فذكرت دعوة أخي سليمان: {رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي} ، فرددته خاسئاً)) .
ــ
على صورهم التي خلقوا عليها أبطلنا شهادته، واستدل بهذه الآية. وفيه دليل على أن الجن ليسوا باقين على عنصرهم الناري وإلا لأحرق إذا مس شيء من أعضاء ابن آدم، كما تحرق الآدمي النار الحقيقية بمجرد اللمس، فدل على أن تلك النارية انغمرت في سائر العناصر حتى صار إلى البرد، ويؤيد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عند النسائي من حديث عائشة: حتى وجدت برد لسانه على يدي. وفي رواية: برد لعابه. وقال ابن بطال: رؤيته صلى الله عليه وسلم للعفريت هو مما خص به، كما خص برؤية الملائكة، وقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، ورأى النبي صلى الله عليه وسلم الشيطان في هذه الليلة وأقدره الله عليه، ولكن ألقى في روعه ما وهب سليمان فلم ينفذ ما قوي عليه من حبسه، رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصاً على إجابة الله تعالى دعوته، وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من الناس فلا يمكن منه، ولا يرى أحد الشيطان على صورته غيره صلى الله عليه وسلم، لقوله تعالى:{إنه يراكم} الآية [7: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل في غير شكله، كما تشكل الذي طعنه الأنصاري حين وجده في بيته على صورة حية فقتله، فمات الرجل به، رواه مالك في الموطأ. وفيما ادعى ابن بطال من الفرق بينه صلى الله عليه وسلم وبين الناس في رؤية الشيطان على صورته الأصلية، عندي نظر، فإن هذه دعوى مجردة، فإن لم يصح لها مستند فهي مردودة. (فذكرت دعوة أخي) في النبوة. (سليمان) أي التي استجابها الله تعالى له. وهي قوله الآتي طلباً؛ لأن يميز بخصوصه لا يشاركه فيها غيره، كما وقع لغيره من الأنبياء، أو غيره على ملكه ونفوذ حكمه في الجن والإنس والهواء أن يناله غير نبي. (رب هب لي ملكاً) وقع في رواية البخاري: في باب الأسير أو الغريم يربط في المسجد: رب اغفرلي وهب لي ملكاً، أي كما في التلاوة. قال الحافظ في الفتح: كذا في رواية أبي ذر، وفي بقية الروايات هنا: رب هب لي. قال الكرماني: لعله ذكره على طريق الاقتباس من القرآن لا على قصد التلاوة. قال الحافظ: ووقع عند مسلم، كما في رواية أبي ذر على نسق التلاوة، فالظاهر أنه تغير من بعض الرواة. (لا ينبغي لأحد من بعدي) من البشر مثله. (فرددته) أي دفعت العفريت حال كونه. (خاسئاً) أي مبعداً مطروداً صاغراً ذليلاً، كأنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أن من أعظم ذلك الملك وأخصه التصرف في الشياطين والتمكين منهم، فيتوهم بربط الشياطين عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، وعدم استجابة دعائه، لما فيه من المشاركة معه في جملة ما هو من أخص أمور ذلك الملك، فترك الربط خشية ذلك التوهم الباطل، ولم يرد أن ربط الشياطين يوجب المشاركة معه في تمام ملكه، ويفضي إلى عدم خصوص ذلك الملك بسليمان، فإن التمكن من شيطان واحد، بل من ألف شيطان، لا يقدح في الخصوص قطعاً، فإن الخصوص كان بالنسبة إلى تمام الملك، كما لا يخفى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي في اللمعات: من جملة ملك سليمان تسخير الريح والجن والشياطين، وهو مخصوص بسليمان عليه السلام، فيلزم عدم إجابة دعائه لو ربط
متفق عليه.
995-
(11) وعن سهل بن سعد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من نابه شيء في صلاته فليسبح، فإنما التصفيق
ــ
العفريت، فتركه ليبقى دعاءه محفوظاً في حقه، ونبينا صلى الله عليه وسلم كان له القدرة على ذلك على الوجه الأتم والأكمل، ولكن التصرف في الجن في الظاهر كان مخصوصاً بسليمان، فلم يظهره صلى الله عليه وسلم لأجل ذلك. وقيل: يمكن أن يكون عموم دعاء سليمان عليه السلام مخصوصاً بغير سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم، بدليل إقداره على أخذه ليفعل فيه ما يشاء، ومع ذلك تركه على ظاهره رعاية لجانب سليمان. والله أعلم. ويحتمل أن تكون خصوصية سليمان استخدام الجن في جميع ما يريده، لا في هذا القدر فقط. قال ابن الملك: إن قلت يفهم من هذا الحديث أنه عليه السلام تذكر دعوة سليمان بعد أخذه، ومن الحديث الآتي في آخر الباب أنه تذكر قبله فيتنافيان. قلت: لا منافاة؛ لأن الحديثين صدرا في وقتين. قال القاري: أو يكون الأخذ للربط، فإنه المنافي للدعوة، فلا منافاة، وإن قلنا بوحدة القضية. وفي أخذه صلى الله عليه وسلم العفريت ثم رده إياه دليل على جواز العمل القليل في الصلاة، وأنه لا تبطل به الصلاة. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الصلاة في موضعين، وفي صفة إبليس، وفي أحاديث الأنبياء، وفي تفسير "ص"، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأخرجه النسائي في التفسير من سننه الكبرى، واللفظ المذكور للبخاري في أحاديث الأنبياء.
995-
قوله: (من نابه) أي من الرجال. قال الطيبي: النوب رجوع الشيء مرة بعد أخرى، ونابته نائبة أي حادثة من شأنها أن تنوب دائماً، ثم كثرت حتى استعمل في كل إصابة تصيب الإنسان، أي من أصابه. (شيء) أي عارض. (في صلاته) وفي بعض النسخ: في الصلاة، أي من عرض له ونزل به أمر في الصلاة، كتنبيه إمام على سهو، وإذن لمستأذن في الدخول، وإنذار أعمى أن يقع في بئر ونحوها. (فليسبح) أي فليقل سبحان الله، كما في رواية للبخاري زاد في رواية: فإنه إذا سبح التفت إليه. (فإنما التصفيق) بالقاف، وفي رواية مسلم وأبي داود وغيرهما: التصفيح بالحاء المهملة. قال العراقي: المشهور أن معناهما واحد. قال سهل بن سعد راوي الحديث: التصفيح هو التصفيق. وكذا قال عقبة وأبوعلي القالي والخطابي والجوهري وغيرهم. وادعى ابن حزم نفي الخلاف في ذلك، وتعقب بما حكاه عياض في الإكمال. والقرطبي في المفهم: أنه بالحاء الضرب بظاهر إحدى اليدين على الأخرى، وبالقاف بباطنها على باطن الأخرى. وقيل: بالحاء الضرب بإصبعين للإنذار والتنبيه. وبالقاف بجميعها للهو واللعب. وروى أبوداود في سننه عن عيسى بن أيوب: أن التصفيح الضرب بإصبعين من اليمين على باطن