المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الفصل الأول} 1494- (1) عن عائشة قالت: إن الشمس خسفت ــ وانخسفا بصيغة - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(46) باب صلاة الخوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(47) باب صلاة العيدين

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(48) باب في الأضحية

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(49) باب العتيرة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(50) باب صلاة الخسوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(51) باب في سجود الشكر

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌(52) باب الاستسقاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(53) باب في الرياح

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) كتاب الجنائز

- ‌(1) باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌{الفصل الأول}

- ‌((الفصل الثاني))

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب تمنى الموت وذكره

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب غسل الميت وتكفينه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب دفن الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب البكاء على الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب زيارة القبور

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{الفصل الأول} 1494- (1) عن عائشة قالت: إن الشمس خسفت ــ وانخسفا بصيغة

{الفصل الأول}

1494-

(1) عن عائشة قالت: إن الشمس خسفت

ــ

وانخسفا بصيغة انفعل، ومعنى المادتين واحد أو يختص ما بالكاف بالشمس وما بالخاء بالقمر، وهو المشهور على ألسنة الفقهاء، واختاره ثعلب، وادعى الجوهري أفصحيته، ونقل عياض عن بعضهم عكسه، وعورض بقوله تعالى:{وخسف القمر} [القيامة: 8] ، ويدل للقول الأول إطلاق اللفظين في المحل الواحد في الأحاديث، قال المنذري، وقبله ابن العربي: حديث الكسوف رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم سبعة عشر نفساً، رواه جماعة منهم بلفظ الكاف وجماعة بالخاء وجماعة باللفظين جميعاً – انتهى. لكن لم يرد في الأحاديث نسبة الكسوف إلى القمر على جهة الانفراد. قال القسطلاني نقلاً عن الحافظ وغيره: ولا ريب أن مدلول الكسوف لغة غير مدلول الخسوف؛ لأن الكسوف لغة تغير إلى سواد، والخسوف النقص والذل كما مر، فإذا قيل في الشمس: كسفت أو خسفت؛ لأنها تتغير ويلحقها النقص ساغ ذلك، كذلك القمر. ولا يلزم من ذلك أن الكسوف والخسوف مترادفان، وقيل: بالكاف في الابتداء، وبالخاء في الانتهاء، وقيل: بالكاف لذهاب جميع الضوء، بالخاء لبعضه، وقيل: بالخاء لذهاب كل اللون، وبالكاف لتغيره، واعلم أنه لا خلاف في مشروعية صلاة الكسوف والخسوف، وأصل مشروعيتها بالسنة وإجماع الأمة لكن اختلفوا في حكمها وصفتها، فقال الشافعي وأحمد: صلاة كسوف الشمس سنة مؤكدة لفعله صلى الله عليه وسلم لها وجمعه الناس مظهراً لذلك، وهذه أمارة الاعتناء والتأكيد وللأمر بها، والصارف عن الوجوب ما سبق من قوله صلى الله عليه وسلم:((لا إلا أن تطوع)) ، وعند أبي حنيفة سنة غير مؤكدة، وصرح أبوعوانة في صحيحه بوجوبها، وإليه ذهب بعض الحنفية واختاره أبوزيد الدبوسي صاحب الأسرار، قال ابن الهمام: للأمر بها، والظاهر أن الأمر للندب؛ لأن المصلحة دفع الأمر المخوف فهي مصلحة تعود إلينا دنيوية إلى آخر ما قال. وعن مالك أنه أجراها مجرى الجمعة، وفي الشرح الكبر للمالكية: أنها سنة عين، وأما صلاة خسوف القمر فهي سنة مؤكدة عند الشافعي وأحمد ككسوف الشمس، ومستحبة عند أبي حنيفة ومالك، لكن قالا: يصلون فرادى من غير جماعة، وقال ابن دقيق العيد: تردد في صلاة الخسوف مذهب مالك وأصحابه ولم يلحقها بكسوف الشمس في قول. وقال ابن قدامة: قال مالك: ليس في كسوف القمر سنة، وحكى ابن عبد البر عنه وعن أبي حنيفة أنهما قالا: يصلي الناس لخسوف القمر وحداناً ركعتين ركعتين ولا يصلون جماعة، قال العيني: أبوحنيفة لم ينف الجماعة بل قال: الجماعة فيها غير سنة بل هي جائزة – انتهى. والراجح: ما ذهب إليه الشافعي وأحمد، وأما الصفة فسيأتي الكلام عليها قريباً.

1494-

قوله (إن الشمس خسفت) بفتح الخاء والسين، وفي إسناد الخسوف إلى الشمس رد على من

ص: 122

على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً: الصلاة جامعة، فتقدم فصلى أربع ركعات في ركعتين وأربع سجدات. قالت عائشة: ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه.

ــ

قال: إنه يتعين الخسوف للقمر، وعلى من قال: إن استعمال الخسوف للشمس خلاف الأفصح. (على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في زمانه يوم مات ابنه إبراهيم كما سيأتي. (فبعث منادياً) يقول (الصلاة جامعة) يعني ينادي بهذه الجملة، قال الطيبي: الصلاة مبتدأ وجامعة خبره، أي الصلاة تجمع الناس، ويجوز أن يكون التقدير الصلاة ذات جماعة، أي تصلى جماعة لا منفرداً كالسنن الرواتب، فالإسناد مجازي كطريق سائر – انتهى. ويجوز نصب الصلاة على الإغراء، وجامعة على الحال، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة للجماعات أو للناس، وهو من الأحوال المقدرة، وفيه تقادير أخرى، وهو يدل على أنه يسن أن ينادى لصلاة الكسوف: الصلاة جماعة، قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك، وقد اتفقوا على أنه لا يؤذن لها ولا يقام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بغير أذان ولا إقامة، وقاس بعضهم صلاة العيدين على الكسوف في مشروعية النداء بالصلاة جامعة، وهو محل نظر؛ لأنه لم يرد الأمر بهذا اللفظ عنه صلى الله عليه وسلم إلا في هذه الصلاة مع الحاجة إلى ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم، فالاقتصار عليه هو المشروع (فتقدم) أي هو صلى الله عليه وسلم (فصلى) وفي رواية مسلم: فاجتمعوا وتقدم وكبر وصلى، وفي رواية للنسائي: فاجتمعوا واصطفوا فصلى. (أربع ركعات) أي ركوعات (وأربع سجدات) قال العيني والقسطلاني: بنصب أربع عطفاً على أربع ركعات. قال القاري: فائدة ذكره أن الزيادة منحصرة في الركوع دون السجود (قالت عائشة) اعلم أن هذا الحديث إلى قوله: وأربع سجدات، رواه الشيخان والنسائي أيضاً من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن عائشة أن الشمس خسفت

الخ، وأما قوله: قالت عائشة: ما ركعت

الخ فليس في هذا الحديث ولا هو مروي من هذا الطريق، بل هو تتمة حديث عبد الله بن عمر، وأخرجه هؤلاء الثلاثة من رواية يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمر، وبنحو حديث عائشة المذكور، وفي آخره فقالت عائشة: ما ركعت

الخ، فالراوي لذلك عنها هو غير الراوي حديث عائشة المتقدم المرفوع وهو أبوسلمة، ويحتمل أن يكون عبد الله بن عمرو، فيكون من رواية صحابي عن صحابية، قال الحافظ: ووهم من زعم أنه معلق، فقد أخرجه مسلم وابن خزيمة وغيرهما من رواية أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو، وفيه قول عائشة – انتهى. (ما ركعت ركوعاً قط ولا سجدت سجوداً قط كان أطول منه) أي كان ذلك الركوع والسجود أطول من ركوع الخسوف وسجوده، وهذا لفظ مسلم، واقتصر البخاري على ذكر السجود، ولفظه: قالت عائشة: ما سجدت سجوداً قط كان أطول منها، أي من سجدة الكسوف، أو هو على حذف مضاف أي من سجود صلاة الكسوف، وقد ثبت طول الركوع والسجود في الكسوف في أحاديث كثيرة، منها أحاديث ابن عباس وعائشة وأبي موسى المذكورة

ص: 123

........................

ــ

في الباب، ومنها حديث أبي هريرة عند النسائي، ومنها حديث سمرة عند أبي داود والنسائي، ومنها حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود، ومنها حديث أسماء عند أحمد والبخاري وأبي داود وابن ماجه، وإلى مشرعية التطويل في الركوع والسجود في صلاة الكسوف كما يطول القيام ذهب أحمد وأبوحنيفة ومالك في المشهور عنه، والشافعي في أحد قوليه، وبه جزم أهل العلم بالحديث من أصحابه. والحديث يدل على مشروعية الجماعة لصلاة الكسوف، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور العلماء. وقال ابن حبيب: الجماعة فيها شرط. وقيل: لا تقام إلا في جماعة واحدة. قال الترمذي: ويرى أصحابنا يعني أصحاب الحديث أن يصلي صلاة الكسوف في جماعة في كسوف الشمس والقمر. وبوب البخاري باب صلاة الكسوف جماعة. قال الحافظ: أي إن لم يحضر الإمام الراتب فيؤم لهم بعضهم. وبه قال الجمهور. وعن الثوري إن لم يحضر الإمام صلوا فرادى – انتهى. قلت: وقال الحنفية أيضاً بأنه إن لم يحضر إمام الجمعة والعيدين صلوا فرادى، وقالوا: لا جماعة في صلاة خسوف القمر، ففي شرح الوقاية: عند الكسوف يصلي إمام الجمعة بالناس ركعتين، وإن لم يحضر – أي إمام الجمعة – صلوا فرادى كالخسوف – انتهى مختصراً. وقال في الدر المختار: يصلي بالناس من يملك إقامة الجمعة ركعتين. قال ابن عابدين: بيان للمستحب، يعني فعلها بالجماعة إذا وجد إمام الجمعة وإلا فلا تستحب الجماعة بل تصلى فرادى، هذا ظاهر الرواية، وعن الإمام في غير رواية الأصول لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعة في مسجده – انتهى. قال في البدائع: والصحيح ظاهر الرواية. قلت: والراجح عندي أنه يجوز الأمر إن الانفراد والتجميع فيهما؛ لأنه لم يرد ما يقتضي اشتراط التجميع؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم لا يدل على الوجوب فضلاً عن الشرطية، لكن لا شك أن التجميع أفضل بل أوكد، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر المنادي بالإعلام بالصلاة جامعة ليجتمع الناس وصلاها جماعة، وقد أمر بالصلاة للكسوف والخسوف أمراً واحداً، فيسن الجماعة للخسوف كما تسن للكسوف، وعن ابن عباس أنه صلى بأهل البصرة في خسوف القمر ركعتين وقال: إنما صليت لأني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، ولأن خسوف القمر أحد الكسوفين فأشبه كسوف الشمس، وسيأتي مزيد الكلام في صلاة خسوف القمر قريباً، وأما إذا لم يحضر الإمام الراتب للجمعة والعيدين أو إمام الحي فيؤم لهم بعضهم ولا يكون احتمال الفتنة والخلل إذا اتفقوا على أحد للإمامة وتراضوا به. وفي الحديث أيضاً دليل على أن المشروع في صلاة الكسوف ركعتان في كل ركعة ركوعان، والأحاديث الواردة في وصفها مختلفة جداً. فمنها هذا المذكور أي ركعتان في كل ركعة ركوعان، روي هذا من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو متفق عليهم، وأسماء بنت أبي بكر عند أحمد، والبخاري والنسائي وابن ماجه وجابر عند أحمد، ومسلم وأبي داود وأبي هريرة عند النسائي، وابن عمر عند البزار وابن جرير، قال الهيثمي: في سنده مسلم بن خالد، وهو ضعيف، وقد وثق – انتهى. وله حديث آخر عند البيهقي (ج3 ص324) من طريق الشافعي

ص: 124

............................

ــ

عن يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال البيهقي: تفرد به يحيى بن سليم عن عبيد الله بن عمر، وروي ذلك أيضاً من حديث أم سفيان عند الطبراني كما في الفتح، وأبي موسى الأشعري، وسمرة بن جندب كما في التلخيص، وأبي شريح الخزاعي عن عثمان من فعله بالمدينة وبها عبد الله بن مسعود، أخرجه أحمد والبيهقي (ج3 ص324) وأبويعلى والطبراني في الكبير والبزار. قال الهيثمي: رجاله موثقون، واختار هذه الكيفية مالك والشافعي وأحمد والجمهور. ومنها في كل ركعة ثلاث ركوعات، روي هذا من حديث عائشة عند أحمد ومسلم والنسائي، وابن عباس عند الترمذي وصححه، وفيه حبيب بن أبي ثابت، وهو مدلس، وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان، ولم يبين سماعه من طاوس، وروي ذلك أيضاً من حديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص326) ، وروي ذلك أيضاً من فعل ابن عباس وحذيفة كما في المحلى (ج5 ص99) . ومنها في كل ركعة أربع ركوعات، روي هذا من حديث ابن عباس عند أحمد ومسلم وأبي داود والنسائي والبيهقي، وقد أعله البيهقي (ج3 ص327) ، ومن حديث حذيفة عند البزار واليهقي (ج3 ص329) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن حبيب بن أبي ثابت عن صلة بن زفر عن حذيفة، قال البيهقي: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى لا يحتج به، ومن حديث علي عند أحمد (ج1 ص143) والبيهقي (ج3 330) ، وروي أيضاً من فعل علي وابن عباس، واختاره حبيب بن أبي ثابت كما في المحلى (ج5 ص100) . ومنها في كل ركعة خمس ركوعات، روي هذا من حديث أبي بن كعب عند أبي داود، والحاكم والبيهقي وعبد الله بن أحمد، وهو حديث معلول كما ستعرف، ومن حديث علي عند البزار كما في الفتح ومجمع الزوائد، وذكر البيهقي في المعرفة وفي السنن (ج3 ص329) وابن حزم في المحلى (ج5 ص100) عن الحسن أن علي بن أبي طالب صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات. قال البيهقي: رواية الحسن عن علي لم تثبت، وأهل العلم بالحديث يرويها مرسلة. ومنها أن يصلى ركعتين ويسلم ثم ركعتين ويسلم هكذا حتى ينجلي الكسوف، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند أحمد (ج4 ص269)، وفيه: وكان يصلي ركعتين ثم يسأل ثم يصلي ركعتين ثم يسأل حتى انجلت الشمس

الخ. وأخرجه البيهقي (ج3 ص333) بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم حتى انجلت الشمس، قال في هامشه: كذا في المصرية. وفي المدراسية: ويصي ركعتين ويسلم ويصلي ركعتين ويسلم مرتين – انتهى. وهو عند الطحاوي بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ويسلم ويسأل حتى انجلت. وأخرجه أبوداود بلفظ: فجعل يصلي ركعتين ركعتين ويسأل عنها حتى انجلت، ورواه النسائي من حديث قبيصة الهلالي بلفظ: فصلى ركعتين ركعتين حتى انجلت. واختار هذا إبراهيم النخعي والحسن كما في المحلى، وروى الحسن عن أبي حنيفة: إن شاءوا صلوا ركعتين وإن شاءوا صلوا أربعاً وإن شاءوا صلوا أكثر من ذلك، ذكره في المحيط والبدائع.

ص: 125

..............................

ــ

واستدلت الحنفية بحديث النعمان وقبيصة على ما ذهبوا إليه من أن صلاة الكسوف ركعتان كسائر النوافل بلا تكرار الركوع، وسيأتي الجواب عنه. ومنها كأحدث صلاة، روي هذا من حديث النعمان بن بشير عند النسائي وابن حزم (ج5 ص97) والبيهقي (ج3 ص332) بلفظ:((إذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) ، وروي أيضاً من حديث قبيصة الهلالي عند أحمد (ج5 ص60) وأبي داود والنسائي والبيهقي والحاكم والطحاوي والبغوي، وقوله ((كأحدث صلاة)) يعني كأقرب صلاة. قال ابن حزم محتجاً بهذا الحديث: يصلي لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوعها إلى أن يصلي الظهر ركعتين، وإن كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر ولاعصر، وفي كسوف القمر خاصة إن كسفت بعد صلاة المغرب إلى أن يصلي العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب، وإن كسفت بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعاً كصلاة العتمة – انتهى. وعليه حمله السندي حيث قال في حاشية النسائي: قوله ((كأحدث صلاة)) فيه أنه ينبغي أن يلاحظ وقت الكسوف فيصلي لأجله صلاة هي مثل ما صلاها من المكتوبة قبيلها، ويلزم منه أن يكون عدد الركعة على حسب تلك الصلاة، وأن يكون الركوع واحداً – انتهى. وحمله الحنفية على صلاة الصبح خاصة، قالوا: المراد أنه يصلي ركعتين كصلاة الصبح بركوعين وأربع سجدات. وقيل: التشبيه فيه محمول على بعض الصفات لا على جميعها، يعني أن التشبيه ههنا في عدد الركعات والقراءة فقط لا من كل الجهات، فيصلي ركعتين ويجهر بالقراءة كصلاة الصبح، لكن كل ركعة بركوعين، وهذا لئلا يعارض القول ما رواه الشيخان من فعله بتثنية الركوع في كل ركعة. وقيل: معناه إذا وقع الكسوف عقب صلاة جهرية يصلي ويجهر فيها بالقراءة، وإن وقع عقب صلاة سرية يصلي ويخافت فيها بالقراءة. ومنها: ركعتان في كل ركعة ركوع. روي هذا من حديث عبد الله بن عمر، وعند أحمد (ج2 ص198) وأبي داود والنسائي والترمذي في الشمائل، والطحاوي والحاكم (ج1 ص329) وأبي حنيفة في مسنده، كلهم من طريق عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمر. وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجاه من أجل عطاء بن السائب، وقال تقي الدين في الإمام: كل من روى عن عطاء بن السائب روى عنه في الاختلاط إلا شعبة وسفيان – انتهى. قلت: أخرجه أبوداود عن حماد بن سلمة عن عطاء، والترمذي عن جرير عن عطاء، والحاكم عن الثوري عن عطاء، والطحاوي عن حماد بن سلمة والثوري وغيرهما عن عطاء، وأخرج النسائي في رواية عن شعبة عن عطاء به، لكن ليس متنه بصريح في الركعتين، وحكى العراقي في التقييد والإيضاح (ص392) عن ابن معين أنه قال: حديث سفيان وشعبة وحماد بن سلمة عن عطاء بن السائب مستقيم – انتهى. وروي ذلك أيضاً من حديث سمرة بن جندب عند أحمد (ج5 ص16) وأبي داود

ص: 126

...............................

ــ

والنسائي والحاكم (ج1 ص330) والبيهقي (ج3 ص339) وصححه الحاكم، وروي أيضاً من حديث محمود بن لبيد عند أحمد (ج5 ص428)، قال الهيثمي (ج2 ص207) : رجاله رجال الصحيح – انتهى. واختار هذه الصفة الحنفية، واستدلوا بهذه الأحاديث الثلاثة، وبما ورد من قوله "صلى ركعتين" في بيان صلاته صلى الله عليه وسلم لكسوف الشمس في حديث أبي بكرة عند البخاري والنسائي وعبد الرحمن بن سمرة عند مسلم وأبي داود والنسائي والحاكم، وابن مسعود عند ابن خزيمة، والنعمان بن بشير عند الحاكم، وقبيصة عند أبي داود والنسائي وغيرهما على عدم تعدد الركوع في الركعة. قال الزيلعي: ظاهر قوله "صلى ركعتين" إن الركعتين بركوع واحد. وأجيب بأن ذكر ركوع في ركعة لا يدل على نفي الزائد، فكان ذكر الركوع الثاني حذف فيها كما حذفت السجدة الثانية في ذكر السجدة، وبأن أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأكثر وأشهر، فتقدم على هذه الأحاديث، وبأن فيها زيادة فهي أولى بالقبول؛ لأنها أثبتت ما لم يثبت حديث عبد الله بن عمرو وسمرة ومحمود بن لبيد وغيرهم، وبأنها مثبتة فتقدم على غيرها مما يدل على عدم تعدد الركوع، وبأن معنى قوله "صلى ركعتين" أي ركوعين في ركعة فصار أربع ركوعات في ركعتين، قال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة، وسكت عن الأخرى، وبأن قوله "صلى ركعتين" مطلق، وفي أحاديث تثنية الركوع زيادة، فيحمل هذا المطلق على الروايات المقيدة، والمعنى: صلاها ركعتين بزيادة ركوع في كل ركعة. وقد ظهر بما ذكرنا أن جملة ما ورد في صفة صلاة الكسوف سبع صفات: ركوع في كل ركعة، وركوعان في كل ركعة، وثلاثة في كل ركعة، وأربعة في كل ركعة، وخمسة في كل ركعة، وكأحدث صلاة، وأن يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم هكذا حتى تنجلي الشمس، وكثير من الأحاديث الواردة فيها صحيح، وأصحها أحاديث تثنية الركوع، فإن هذه هي الثابتة في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ثم دونها في الصحة مع كونه صحيحاً أحاديث تثليث الركوع، وكذا أحاديث تربيع الركوع فإن ذلك قد انفرد به مسلم، ثم دون هذا حديث تخميس الركوع، وكذا أحاديث وحدة الركوع، وللعلماء فيها مسلكان؛ أحدهما مسلك الجمع: بحملها على تعدد الكسوف وتعدد صلاته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب إليه إسحاق بن راهويه وابن خزيمة والخطابي، واستحسنه ابن المنذر، وقواه النووي، ورجحه ابن رشد في البداية وابن حزم في المحلى وابن جرير الطبري وغيرهم. وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة في الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء في أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعاً، وحين زاد في الإبطاء زاد ثالثاً، وهكذا إلى غاية ما ورد في ذلك، وتعقب

ص: 127

.............................

ــ

بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم في أول الحال ولا في الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع في الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود في نفسه منوى من أول الحال. والمسلك الثاني: الترجيح فرجح القائلون بكونها ركعتين في كل ركعة ركوعان أحاديث تثنية الركوع لكونها أكثر وأصح. قال الحافظ في الفتح بعد ذكر من روى من الصحابة تثنية الركوع في كل ركعة ما لفظه: وفي رواياتهم زيدة رواها الحفاظ الثقات، فالأخذ بها أولى من إلغائها. وبذلك قال جمهور أهل العلم من أهل الفتيا، وقد وردت الزيادة في ذلك من طرق

، فذكر من روي عنه أحاديث تثليث الركوع وتربيعه وتخميسه ثم قال: ولا يخلو إسناد منها عن علة، وقد أوضح ذلك البيهقي وابن عبد البر، ونقل صاحب الهدي عن الشافعي وأحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين غلطاً من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم – عليه السلام، وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح، والراجح قطعاً هو حديث عائشة وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو وأسماء بنت أبي بكر وجابر وغيرهم الذي فيه ركوعان في كل ركعة. وقال الشوكاني في السيل الجرار: إذا تقرر لك أن القصة واحدة عرفت أنه لا يصح ههنا أن يقال كما قيل في صلاة الخوف أنه يأخذ بأي الصفات شاء، بل الذي ينبغي ههنا أن يأخذ بأصح ما ورد وهو ركوعان في كل ركعة لما في الجمع بين هذه الروايات من التكلف البالغ. وقال ابن تيمية في التوسل والوسيلة (ص69-70) : لا يبلغ تصحيح مسلم تصحيح البخاري، بل كتاب البخاري أجل ما صنف في هذا الباب، والبخاري من أعرف خلق الله بالحديث وعلله مع فقهه فيه، قال: ولهذا كان جمهور ما أنكر على البخاري مما صححه يكون قوله فيه راجحاً على قول من نازعه بخلاف مسلم فإنه نوزع في عدة أحاديث مما خرجها، وكان الصواب فيها مع من نازعه، كما روى في حديث الكسوف أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بثلاث ركوعات وبأربع ركوعات كما روى أنه صلى بركوعين، والصواب أنه لم يصل إلا بركوعين وأنه لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة يوم مات إبراهيم، وقد بين ذلك الشافعي، وهو قول البخاري وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، والأحاديث التي فيها الثلاث والأربع فيها أنه صلاها يوم مات إبراهيم، ومعلوم أنه لم يمت في يومي كسوف ولا كان له إبراهيمان، ومن نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب – انتهى. وقال في منهاج السنة: حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأكثر في مسلم من المواضع المنتقدة بلا ريب، وإلى ترجيح روايات تثنية الركوع ذهب أيضاً صاحب فيض الباري من الحنفية حيث قال: لم تنكسف الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة، والروايات في تعدد الركوع بلغت إلى ست ركوعات في ركعتين، والأرجح عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين في ركعة، والباقي أوهام كانت فتاوى الصحابة فاختلطت بالمرفوع، وإذن لا أتمسك من روايات ورد فيها ركوع

ص: 128

.............................

ــ

واحد، بل أحملها على الاختصار – انتهى. قلت: وفي تاريخ الخميس وأوائل الثقات لابن حبان: أن الشمس كسفت في عهده صلى الله عليه وسلم مرتين: الأولى في السنة السادسة، والثانية في السنة العاشرة يوم توفي إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما القمر ففي شرح الإحياء ذكر صاحب جمع العدة: أن خسوف القمر وقع في السنة الرابعة في جمادى الآخرة ولم يشتهر أنه صلى الله عليه وسلم جمع له الناس، وذكر في الهدي وفي تاريخ الخميس (ج1 ص469) عن السيرة لابن حبان أنه وقع في السنة الخامسة في جمادى الآخرة، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وكانت أول صلاة كسوف في الإسلام، وقد جزم به مغلطائي في سيرته. والظاهر عندي ما ذهب إليه ابن تيمية وغيره من جمهور أهل العلم أنه لم يصلي صلاة كسوف الشمس في عهده صلى الله عليه وسلم بالمدينة إلا مرة. قال الشيخ أحمد شاكر في حاشية المحلى (ج5 ص104، 105) : لقد حاولت كثيراً أن أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وتكون ؤيتها بها ممكنة، وطلبت ذلك من بعضهم مراراً، فلم أوفق إلى ذلك، إلا أني وجدت للمرحوم محمود باشا الفلكي جزءاً صغيراً سماه نتائج الأفهام في تقويم العرب قبل الإسلام، وقد حقق فيه بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل فيه السنة العاشرة، وهو اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام، ومنه اتضح أن الشمس كسفت في المدينة في يوم الاثنين 29 شوال سنة (10) ، الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحاً، وهو يرد أكثر الأقوال التي نقلت في تحديد يوم موت إبراهيم، وعسى أن يكون هذا البحث والتحقيق حافزاً لبعض النبهاء من العالمين بالفلك إلى حساب الكسوفات الي حصلت بالمدينة في السنين العشر الأولى من الهجرة النبوية، أي إلى وقت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 11 أو الاثنين 13 منه الموافقان ليومي 7 يونية سنة 632 و8 منه، فإذا عرف بالحساب عدد الكسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين. إما حمل الروايات على تعدد الوقائع، وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة، وأنا أميل جداً إلى الظن بأن صلاة الكسوف ما صليت إلا مرة واحدة، فقد علمنا من رسالة محمود باشا الفلكي أنه حصل خسوف للقمر في المدينة في يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من السنة الرابعة للهجرة الموافق 20 نوفمبر سنة 625، ولم يرد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الناس فيه لصلاة الخسوف، ويؤيد هذا أن الأحاديث الواردة في صلاة الكسوف دالة بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وأن الصحابة لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها، وأنهم ظنوا أنها كسفت لموت إبراهيم، وأن المدة بين موت إبراهيم – عليه السلام – وبين موت أبيه صلى الله عليه وسلم لم تزد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف حصل مرة أخرى وقاموا للصلاة لظهر ذلك واضحاً في النقل لتوفر الدواعي إلى نقله، كما نقلوا ما قبله بأسانيد كثيرة، والله أعلم بالصواب – انتهى كلام الشيخ أحمد. هذا وقد تقدم أن الحنفية اختاروا وحدة الركوع في كل ركعة كسائر

ص: 129

.......................

ــ

الصلوات ثم اختلفوا. فقال بعضهم: الأرجح أن النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين في كل ركعة والباقي أوهام وروايات وحدة الركوع محمولة على الاختصار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن ركع ركوعين لكنه لم يعلمنا إلا أن نأتي بها كأحدث صلاة صلاها وفيها ركوع واحد، فتعدد الركوع مخصوص به صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أراد بقوله:((صلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة)) أن لا تصلوا أنتم، كما رأيتم من تعدد الركوع، ولكن صلوا كصلاة الصبح – انتهى مختصراً محصلاً. وأجيب عنه بأن كل ما صح وثبت من فعله صلى الله عليه وسلم يكون سنة لنا ما لم يقم دليل على اختصاصه به ولا دليل على كون تعدد الركوع في صلاة الكسوف مختصاً به صلى الله عليه وسلم، فدعوى الاختصاص مردودة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كأحدث صلاة

)) الخ فليس بصريح ولا بظاهر فيما قالوا به فإنه يحتمل معاني أخرى كما تقدم عن السندي وابن حزم وغيرهما مفصلاً وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال والتشبيه لا يجب أن يكون من جميع الجهات فلا يترك به الأحاديث الصريحة التي هي أصح منه لكونها مروية في الصحيحين وغيرهما. وقال بعضهم أحاديث الفعل متعارضة فيطرح الكل ويؤخذ بالأصل، والأصل في الركوع الاتحاد دون التعدد وقد جاء في بعض الروايات كذلك. وفيه إن من شرط التعارض التساوي في الثبوت والقوة وهو منتفٍ ههنا، فإن أحاديث الفعل ليست بمتساوية بل روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى وأشهر لاتفاق الشيخين على تخريجها، فيجب تقديمها وترجيحها ويتعين الأخذ بها ولا يجوز طرحها. وقال بعضهم: أحاديث وحدة الركوع مرجحة بوجوه: منها أن روايات تعدد الركوع متعارضة، وهي مع ذلك تخالف قوله صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كأحدث صلاة

)) الخ والعبرة للقول إذا خالف الفعل. وفيه أنه لا تعارض بين روايات التعدد لكون أحاديث تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فتقدم على غيرها ولا تخالف بينها وبين القول المذكور فإن المقصود منه التشبيه في بعض الصفات وهي عدد الركعات والجهر بالقراءة لا في جميعها وإلا فينبغي للحنفية أن يقولوا باستنان الجهر بالقراءة في صلاة كسوف الشمس وأن لا يقولوا باستحباب تطويل القراءة والركوع والسجود بل يكرهوا الإطالة، لكنهم قد صرحوا بأن صلاة الكسوف مستثناة من كراهة التطويل وقالوا: يطيل فيها الركوع والسجود والقراءة، واستدلوا لذلك بروايات الفعل، ولو فرضنا التعارض بين روايات الفعل والقول فالقول إنما يقدم ويرجح على الفعل إذا لم يمكن الجمع بينهما وكان القول مساوياً للفعل في القوة والثبوت، والأمر ههنا ليس كذلك. ومنها أن روايات وحدة الركوع موافقة للقياس أي موافقة للأصول المعهودة فزيادة ركن في الصلاة لم تعهد. قال الحافظ: أشار الطحاوي إلى أن قول أصحابه أجري على القياس في صلاة النوافل لكن اعترض بأن القياس مع وجود النص يضمحل، وبأن صلاة الكسوف أشبه بصلاة العيد وبنحوها مما يجمع فيه من طلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيدين بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال

ص: 130

...............................

ــ

الكثيرة واستدبار القبلة، فلذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالأخذ به جامع بين العمل بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به – انتهى. وقد رد على هذا الوجه ابن حزم أيضاً فأجاد، فعليك أن ترجع إلى المحلى (ج5 ص101) . ومنها أن روايات التعدد متعارضة مضطربة. قال ابن الهمام: أحاديث تعدد الركوع مضطربة، والاضطراب موجب للضعف فوجب تركها. وفيه أن الاختلاف الواقع في روايات الفعل ليس اضطراباً قادحاً مورثاً للضعف فإن الاختلاف في الحديث من جهة الإسناد أو المتن إنما يورث الاضطراب الموجب للضعف إذا استوت وجوه الاختلاف وتساوت الروايات المختلفة، وأما إذا ترجحت إحداها بوجه من وجوه الترجيح قدمت ولا يعل الراجح بالمرجوح، يعني يكون العبرة للراجح، وههنا روايات تثنية الركوع أصح وأرجح وأقوى فيكون لها الاعتبار لا لروايات الزيادة على الركوعين ولا لروايات وحدة الركوع. هذا وتأول بعضهم أحاديث تعدد الركوع بتأويلات كلها أضاحيك نذكرها عبرة للناظرين وفي ذكرها غنى عن الرد. فمنها ما ذكره الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه – عليه الصلاة والسلام – كان يرفع رأسه ليختبر حال الشمس هل انجلت أم لا فظنه بعضهم ركوعاً فأطلق عليه اسمه فلا يعارض ما روينا يعني من أحاديث وحدة الركوع – انتهى. قال الحافظ في الفتح: أجاب بعض الحنفية عن زيادة الركوع بحمله على رفع الرأس لرؤية الشمس هل انجلت أم لا، فإذا لم يرها انجلت رجع إلى ركوعه ففعل ذلك مرة أو مراراً فظن بعض من رآه يفعل ذلك ركوعاً زائداً. وتعقب بالأحاديث الصحيحة الصريحة في أنه أطال القيام بين الركوعين، ولو كان الرفع لرؤية الشمس فقط لم يحتج إلى تطويل ولا سيما الأخبار الصريحة بأنه ذكر ذلك الاعتدال ثم شرع في القراءة، فكل ذلك يرد هذا الحمل، ولو كان كما زعم هذا القائل لكان فيه إخراج لفعل الرسول عن العبادة المشروعة، أو لزم منه إثبات هيئة في الصلاة لا عهد بها وهو ما فر منه – انتهى كلام الحافظ. ومنها ما ذكره صاحب المحيط البرهاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ركع ركوعين على وجه الصورة لا على وجه الحقيقة؛ لأنه قربت إليه الجنة والنار، وإنما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من الركوع فزعاً حين قربت منه النار، وكان ذلك رفعاً على وجه الصورة لا الحقيقة. ورد بما وقع من التصريح في الأحاديث الصحيحة بتطويل القيام الثاني وتطويل الركوع الذي بعده، وكذا تطويل الاعتدال الذي يليه السجود، وهذا كالصريح في أنه صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين ركوعاً حقيقة لا صورياً، وأن رفع الرأس لم يكن فزعاً على وجه الصورة، بل كان قياماً حقيقياً قرأ فيه قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى، ولو كان الرفع أي القيام فزعاً والركوع لأنه قربت إليه الجنة لم يقع التطويل فيهما كما لم يقع في تقدمه وتأخره، ويرد ذلك أيضاً أن الذي وقع منه صلى الله عليه وسلم حين قربت إليه الجنة والنار

ص: 131

................................

ــ

إنما هو التقدم والتأخر كما صرح به في رواية مسلم وغيره لا الركوع ورفع الرأس منه. ومنها ما ذكره صاحب العرف الشذى: أن الركوع الثاني لم يكن ركوعاً صلوياً بل كان ركوع آية وتخشع وتضرع يعني كان بدل السجود للآيات مما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من الجنة والنار ممثلتين في جدار القبلة، فتعدد الركوع كتعدد السجود في الصلاة عند تلاوة آية السجدة، فكما تتعدد السجدة لداعية كذلك يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ركع ركوعين؛ لأنه شاهد فيما ما لم يكن يشاهد في عامة الصلوات والسجود عند ظهور آية معروف. قال أبوعبد الله البلخي: إن الزيادة ثبتت في صلاة الكسوف لا للكسوف بل لأحوال اعترضت حتى روي أنه صلى الله عليه وسلم تقدم في الركوع حتى كان كمن يأخذ شيئاً ثم تأخر كمن ينفر عن شيء، فيجوز أن تكون الزيادة منه باعتراض تلك الأحوال، كذا في البدائع، وحاصل هذا كله أنه تعدد الركوع مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا نحو ما تقدم من المحيط البرهاني، وقد تقدم جوابه، ويزاد عليه أنه لا فرق بين الركوعين في الصورة، فكما أن الركوع الأول كان ركوع صلاة لا ركوع آية وتخشع كذلك كان الركوع الثاني ركوع صلاة لا ركوع آية، ومن يدعي الفرق بينهما فليأت بدليل صريح قوي على ذلك، ولا يكفي في مثل هذا الإمكان والاحتمال والتجويز، ويدل على بطلان هذا القول ودعوى الاختصاص عمل الصحابة بتعدد الركوع بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويبطله أيضاً أن التقدم والتأخر إنما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في حال قيامه الثاني من الركعة الثانية كما رواه سعيد بن منصور في سننه لا في الركوع كما قال البلخي. ومنها ما قال الفخر الزيلعي في شرح الكنز: أنه صلى الله عليه وسلم طول الركوع فيها فمل بعض القوم فرفعوا رؤوسهم أو ظنوا أنه – عليه الصلاة والسلام – رفع رأسه فرفعوا رؤوسهم أو رفعوا رؤوسهم على عادة الركوع المعتاد، فوجدوا النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً فركعوا ثم فعلوا ثانياً وثالثاً كذلك ففعل من خلفهم كذلك ظناً منهم أن ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى كل واحد منهم على ما وقع في ظنه، ومثل هذا الاشتباه قد يقع لمن كان في آخر الصفوف، فعائشة في صفوف النساء، وابن عباس في صفوف الصبيان، وحكى الطحطاوي على المراقي هذا التأويل عن الإمام محمد، وقال فروى كل واحد على حسب ما عنده من الاشتباه، قال بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا: هذا أوجه؛ لأنه تجمع به الروايات كلها – انتهى. قلت: بل هو أسخف من جميع ما تأولوا به روايات تعدد الركوع فضلاً عن أن يكون وجيهاً أو أوجه، لا يخفى ركاكته وسخافته على من له أدنى فهم، ولله در صاحب فيض الباري حيث اعترف بركاكته فقال: وما قالوا – أي في تأويل أحاديث تعدد الركوع – أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركع فيه ركوعاً طويلاً وكان الصحابة يرفعون رؤوسهم يرون أنه هل قام منه أم لا فتوهم المتأخرون منهم تعدد الركوع فإنه ركيك عندي وإن كان أصله من المبسوط للسرخسي – انتهى. قلت: ويبطل هذا التأويل أن عائشة وأسماء – وهما ممن روى تثنية الركوع – لم تكونا في صفوف النساء، بل صلتا في حجرة

ص: 132

متفق عليه.

1495-

(2) وعنها قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف بقراءته.

ــ

عائشة قريباً من القبلة، وابن عباس لم يكن في صفوف الصبيان، بل صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم، كما رواه الطبراني والبيهقي في المعرفة، علاوة أن الزيادة في الركوع قد رويت من حديث جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة وأبي بن كعب وابن عمر وحذيفة وعلي وغيرهم، وهؤلاء كانوا رجالاً لا صبياناً ولا نساء، ولا دليل على أنهم قاموا في آخر الصفوف، أو كانوا خلف الصف الأول أو الثاني، فنسبة اشتباه الأمر إلى جميع هؤلاء غلط بلا شك. ومنها ما ذكر بعض من كتب على الموطأ من أهل عصرنا أنه يحتمل أن الركوع كان بدل سجود التلاوة، لما ورد في الروايات من قراءة سورة الحج، وفيها سجدتان عندهم، والركوع بدل السجود كافٍ. قلت: هذا تأويل فاسد باحتمال غير ناشيء عن دليل فهو مردود، وأما الرواية التي أشار إليها هذا البعض فأخرجها البيهقي في السنن (ج3 ص330) عن علي موقوفاً عليه من فعله، وفيه حنش بن ربيعة، وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة كما تقدم في باب الأضحية في ترجمة حنش، وفيه أيضاً أن علياً قرأ سورة الحج ويس في الركعة الأولى ثم ركع أربع ركعات ثم سجد – أي بعد الركوع الرابع -، ثم قام فقرأ سورة الحج ويس ثم صنع كما صنع في الركعة الأولى، ثمان ركعات وأربع سجدات، فلو كانت الركوعات الزائدة بدل السجدتين في سورة الحج لم يزد عددها على ست ركوعات مع ضم ركوعي الصلاة، وههنا قد صرح بأنه ركع ثمان ركعات، وهذا يبطل الاحتمال الذي اخترعها هذا البعض، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد (ج1 ص143) وابن خزيمة والطحاوي وابن جرير وأبوالقاسم بن منده في كتاب الخشوع والبيهقي أيضاً (ج3 ص330، 331) عن علي مرفوعاً من طريق حنش، وليس فيه ذكر سورة الحج، بل في رواية أحمد: فقرأ يس أو نحوها، وفي لفظ عند غير أحمد: بالحجر أو يس، وفي لفظ: يس والروم، وفي لفظ: سورة من المئين أو نحوها، وأما ما ذكر في كفاية الركوع عن سجدة التلاوة فهو دعوى بلا برهان فلا يلتفت إليها، وقد تقدم الكلام عليه في باب سجدة التلاوة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج4 ص320) وأخرجه أبوداود مختصراً، وأخرجه البخاري ومسلم أيضاً من حديث عبد الله بن عمرو.

1495-

قوله (جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخسوف) أي خسوف الشمس، كما صرح في رواية الإسماعيلي، وإسحاق بن راهويه وابن حبان، وفي رواية لأحمد (ج6 ص76) وفيه رد على من فسر لفظ الصحيحين بخسوف القمر (بقراءته) هذا نص في أن قراءته صلى الله عليه وسلم في صلاة كسوف الشمس كانت جهراً لا سراً، وهو يدل على أن السنة في صلاة الكسوف هي الجهر بالقراءة لا الإسرار، ويدل لذلك أيضاً حديث أسماء عند البخاري، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص232) ، والحافظ في الدراية (ص137) ، وابن الهمام في فتح

ص: 133

............................

ــ

القدير، والعيني في البناية: وللبخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر قالت: جهر النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف – انتهى. ويدل له أيضاً ما روى ابن خزيمة والطحاوي عن علي مرفوعاً وموقوفاً من الجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، قال الطحاوي بعد رواية الحديث عن علي موقوفاً: ولو لم يجهر النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى علي معه لما جهر علي أيضاً؛ لأنه علم أنه السنة فلم يترك الجهر، والله أعلم، ذكره العيني. وقد اختلفت الأئمة في ذلك، فقال بالجهر أبويوسف ومحمد صاحبا أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثي الشافعية وابن العربي من المالكية، وقال الطبري: يخير بن الجهر والإسرار، وقال الأئمة الثلاثة: يسر في الشمس ويجهر في القمر، كذا في الفتح، قلت: وحكى الترمذي عن مالك الجهر، وقال القاضي عياض والقرطبي: إن معن بن عيسى والواقدي رويا عن مالك الجهر، قيل: هي رواية شاذة، والمشهور عنه هو الإسرار، وقال ابن العربي في العارضة: اختلف قول مالك، فروى المصريون أنه يسر، وروى المدنيون أنه يجهر، والجهر عندي أولى – انتهى. واحتج للشافعي ومن وافقه بقول ابن عباس: قرأ نحواً من سورة البقرة، أخرجه الشيخان. قال الشافعي: لو جهر بالقراءة لم يحتج إلى تقديره. وذكر البيهقي عنه أنه قال: فيه دليل على أنه لم يسمع ما قرأ؛ لأنه لو سمعه لم يقدر بغيره، وقال القرطبي: هذا دليل لمن قال يخفي القراءة؛ لأنه لو جهر لعلم ما قرأ، وقال المنذري: هذا الحديث يدل على الإسرار. وتعقب باحتمال أن يكون بعيداً منه في صفوف الصبيان، لكن ذكر الشافعي تعليقاً عن ابن عباس أنه صلى بجنب النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف فلم يسمع منه حرفاً، ورواه الطبراني في معجمه موصولاً قال: ثنا علي بن المبارك، ثنا زيد بن المبارك، ثنا موسى بن عبد العزيز، ثنا الحكيم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس، وأخرجه البيهقي أيضاً في المعرفة من طريق الحكم بن أبان، وقال: يدفع حمله على البعد رواية الحكم بن أبان: صليت إلى جنبه – انتهى. قلت: موسى بن عبد العزيز صدوق سيء الحفظ، والحكم بن أبان صدوق له أوهام، قاله الحافظ في التقريب. فرواية الطبراني لا تقاوم روايات الجهر الصحيحة الصريحة. واحتج له أيضاً بقول عائشة عند أبي داود: فحزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة. قال الخطابي: هذا يدل على أنه لم يجهر بالقراءة فيها، ولو جهر لم تحتج فيها إلى الحزر والتخمين، وبحديث ابن عباس قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الكسوف فلم أسمع منه فيها حرفاً، أخرجه أحمد (ج1 ص293، 350) وأبويعلى وأبونعيم في الحلية، والطحاوي (ج1 ص197) ، والبيهقي (ج3 ص335) ، وفيه ابن لهيعة، وبحديث سمرة الآتي في الفصل الثاني، وبأنها صلاة نهار فلا يجهر فيها كصلاة الظهر، وأجيب عن هذا كله بأن روايات الجهر نصوص صريحة صحيحة، والأحاديث المذكورة ليست بنص في السر ونفي الجهر، فكيف تعارض روايات الجهر

ص: 134

متفق عليه.

ــ

بمثل هذا! قال ابن قدامة: هذا نفي محتمل لأمور كثيرة، فكيف يترك من أجله الحديث الصحيح الصريح! وقياسهم منتقض بالجمعة والعيدين والاستسقاء، وقياس هذه الصلاة على هذه الصلوات أولى من قياسها على الظهر لبعدها منها وشبهها بهذه – انتهى. وقال ابن التركماني في الجوهر النقي: حديث عائشة صحيح صريح في الجهر، وأحاديث هذا الباب – يعني أحاديث عائشة وابن عباس وسمرة – فيها دلالة على الإسرار، فكان المصير إلى ذلك الحديث أولى – انتهى. وقال العيني: روايات الجهر أصح. وقال ابن حزم: ليس لهم فيه – أي في حديث سمرة – حجة؛ لأنه ليس فيه أنه – عليه السلام – لم يجهر، وإنما فيه لا نسمع له صوتاً، وصدق سمرة في أنه لم يسمعه، ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعت عائشة – رضي الله عنها – التي كانت قريباً من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق، ثم لو كان فيه لم يجهر لكان خبر عائشة زائداً على ما في خبر سمرة، والزائد أولى – انتهى. وقال الزيلعي (ج2 ص234) : واعلم أن الحديث يعني حديث ابن عباس بلفظ: نحواً من سورة البقرة، وما في معناه غير صريح في الإخفاء، وإن كان العلماء كلهم يحملوه عليه، ولكن قد ينسى الإنسان الشيء المقروء بعينه، وهو مع ذلك ذاكر لقدره، فيقول: قرأ فلان نحو سورة البقرة وهو قد سمع ما قرأ ثم نسيه، والله أعلم – انتهى. وقال البخاري: حديث عائشة في الجهر أصح من حديث سمرة – انتهى. وقال الحافظ: حديث عائشة مثبت للجهر ومعه قدر زائد، فالأخذ به أولى، وحديث سمرة إن ثبت لا يدل على نفي الجهر. قال ابن العربي: الجهري عندي أولى؛ لأنها صلاة جامعة ينادى لها ويخطب ـ فأشبهت العيد والاستسقاء، والله أعلم. وقال الشوكاني في النيل: إن كانت صلاة الكسوف لم يقع منه صلى الله عليه وسلم إلا مرة واحدة، كما نص على ذلك جماعة من الحفاظ، فالمصير إلى الترجيح متعين، وحديث عائشة أرجح لكونه في الصحيحين، ولكونه متضمناً للزيادة، ولكونه مثبتاً، ولكونه معتضداً بما أخرجه ابن خزيمة وغيره عن علي مرفوعاً من إثبات الجهر. وقال في السيل الجرار: رواية الجهر أصح وأكثر، وراوي الجهر مثبت وهو مقدم على النافي – انتهى. وسيأتي شيء من الكلام فيه في شرح حديث سمرة. وتأول بعض الحنفية حديث عائشة بأنه صلى الله عليه وسلم جهر بآية أو آيتين. قال في البدائع: نحمل ذلك على أنه جهر ببعضها اتفاقاً، كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع الآية والآيتين في صلاة الظهر أحياناً – انتهى. وهذا تأويل باطل؛ لأن عائشة كانت تصلي في حجرتها قريباً من القبلة، وكذا أختها أسماء، ومن كان كذلك لا يخفى عليه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كانت قراءته في صلاة الكسوف سراً وكان يجهر بآية وآيتين أحياناً، كما فعل كذلك في صلاة الظهر، لما عبرت عن ذلك بأنه كان يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، كما لم يقل أحد ممن روى قراءته في صلاة الظهر أنه جهر فيها بالقراءة (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي

ص: 135

1496-

(3) وعن عبد الله بن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول،

ــ

وأبوداود وابن حبان والحاكم (ج1 ص334) وأبوداود الطيالسي والطحاوي والبيهقي (ج3 ص336) والدارقطني.

1496-

قوله (انخسفت الشمس) بنون بعد ألف الوصل ثم خاء، كذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة، وفي مسلم: انكسفت، وفي الموطأ: خسفت، وكذا عند البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح. (فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه) أي صلى صلاة الكسوف بالجماعة (فقام قياماً طويلاً) صفة لقياما أو لزماناً مقدر (نحواً) أي تقريباً، وبيانه قوله (من قراءة سورة البقرة) أي من مقدار قراءتها، وفي مسلم: قدر نحو سورة البقرة، وفي النسائي: قرأ نحواً من سورة البقرة، وفي رواية لعائشة: خسفت الشمس في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه فكبر فاقترأ قراءة طويلة، وفي رواية: فقرأ بسورة طويلة، وفيه دليل على مشروعية تطويل القيام بقراءة سورة طويلة في صلاة الكسوف، وهو مستحب عند الجميع، وحكى الزبيدي في شرح الإحياء عن الشافعية استحباب الإطالة وإن لم يرض بها الناس، وعن ابن الهمام أنها مستثناة من كراهة التطويل. (ثم ركع ركوعاً طويلاً) وهو الركوع الأول، قال الحافظ: لم أر في شيء من الطرق بيان ما قال فيه، إلا أن العلماء اتفقوا على أنه لا قراءة فيه، وإما فيه الذكر من تسبيح وتكبير ونحوهما – انتهى. قال ابن دقيق العيد: لم يجد فيه حداً، وقد ذكر أصحاب الشافعي فيه أنه نحو من مائة آية، واختار غيرهم عدم التحديد إلا بما يضر بم خلفه، وقال القسطلاني: يسبح قدر مائة آية من البقرة، وقال ابن قدامة: يسبح قدر مائة. وقال المالكية: يركع كالقيام الذي قبله، ويؤيده ما في حديث جابر عند مسلم: ثم ركع نحواً مما قام. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع (فقام قياماً طويلاً) وهو الاعتدال الأول (وهو دون القيام الأول) وفي رواية لعائشة: ثم كبر فركع ركوعاً طويلاً، ثم قال: سمع الله لمن حمده فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة هي أدنى من القراءة الأولى. وقدرها الشافعية والحنابلة بنحو سورة آل عمران، لكن في رواية لعائشة عند أبي داود: أنها حزرت قراءته بآل عمران بعد القيام من السجدتين أي في قيام الركعة الثانية. وزاد في رواية لعائشة عند البخاري: ربنا ولك الحمد بعد قوله: سمع الله لمن حمده، قال الحافظ: استدل به على استحباب الذكر المشروع في الاعتدال في أول القيام الثاني من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخري الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال بدليل اتفاق العلماء ممن

ص: 136

ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول،

ــ

قال بزيادة الركوع في كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكي خالف فيه، والجواب أن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعاً؛ لأنها أصل برأسه، وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة حتى منع من زيادة الركوع فيها – انتهى. وقال العيني: وأجاب عن ذلك شيخنا العراقي بقوله: في استشكاله نظر لصحة الحديث فيه، بل لو زاد الشارع عليه ذكراً آخر لما كان مستشكلاً – انتهى. (ثم ركع ركوعاً طويلاً) وهو الركوع الثاني (وهو دون الركوع الأول) قال القسطلاني: وقدروه بثمانين آية، وقال ابن قدامة: يركع بقدر ثلثي ركوعه الأول – انتهى. واختلف في أن أي الركوعين من الركعتين فرض، وبإدراك أي الركوعين يكون مدركاً للركعة؟ فذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الأصل والفرض هو الركوع الأول وقيامه، وأما الركوع الثاني وقيامه فتابع وزائد وسنة كتكبيرات العيد، فمن أدرك الإمام في الركوع الأول من الركعة الأولى أو الثانية أدرك الركعة، كما في سائر الصلوات، ومن أدركه في الركوع الثاني من أي ركعة فلا يدرك شيئاً، وعكسه المالكية فقالوا: الزائد والتابع والسنة في كل من الركعتين القيام الأول والركوع الأول، والفرض إنما هو الركوع الثاني والقيام الثاني في كل ركعة، فمن أدرك الإمام في الركوع الثاني من الركعة الأولى أدرك الركعة ولم يقض شيئاً، وإن أدرك الركوع الثاني من الركعة الثانية يقضي الأولى بقيامها فقط ولا يقضي القيام الثالث. وقال ابن قدامة في المغني: إذا أدرك الإمام في الركوع الثاني احتمل أنه تفوته الركعة، قال القاضي: لأنه قد فاته من الركعة ركوع أشبه ما لو فاته الركوع من غير هذه الصلاة، ويحتمل أن تصح صلاته؛ لأنه يجوز أن يصلي هذه الصلاة بركوع واحد، فاجتزئ به في حق المسبوق – انتهى. واعلم أنه لم يرد تعيين ما قرأ به صلى الله عليه وسلم إلا في حديث لعائشة عند الدارقطني (ص188) أنه قرأ في الركعة الأولى بالعنكبوت أو الروم، وفي الثانية بـ"يس"، وأخرجه البيهقي (ج3 ص236) وفيه أنه قرأ في الركعة الأولى بـ"العنكبوت"، وفي الثانية بـ"لقمان" أو "الروم"، وفي حديث علي عند البيهقي (ج3 ص330) أنه قرأ بـ"يس" ونحوها، وفي آخره ثم حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك فعل، وفي رواية عنده: أنه قرأ في الركعة الأولى سورة الحج ويس ثم ركع أربع ركعات ثم سجد في الرابعة ثم قام فقرأ بسورة الحج ويس وهو موقوف من فعله، ويأتي حديث أبي بن كعب أنه صلى الله عليه وسلم قرأ بسورة من الطوال، وتقدم الإشارة إلى حديث عائشة عند أبي داود والبيهقي (ج3 ص335) أنها قالت: حزرت قراءته فرأيت أنه قرأ سورة البقرة ثم سجد سجدتين ثم قام فأطال القراءة، فحزرت فرأيت أنه قرأ سورة آل عمران، وهذا كله يدل على أنه لا تعيين في القراءة في صلاة الكسوف، فيختير

ص: 137

ثم رفع، ثم سجد،

ــ

المصلي من القرآن ما شاء، وإن التطويل أولى، والله تعالى أعلم. قال الشوكاني: لا بد من القراءة بالفاتحة في كل ركعة لما تقدم من الأدلة الدالة على أنها لا تصح ركعة بدون الفاتحة. قال النووي: واتفق العلماء على أنه يقرأ الفاتحة في القيام الأول من كل ركعة، واختلفوا في القيام الثاني، فمذهبنا ومذهب مالك وجمهور أصحابه أنها لا تصح الصلاة إلا بقراءتها فيه، وقال محمد بن مسلمة من المالكية: لا تتعين الفاتحة في القيام الثاني – انتهى. قال الباجي: يستفتح القراءة في الركعة الأولى والثالثة بأم القرآن، وأما الثانية والرابعة فإنه يقرأ فيهما بالسورة، وهل يقرأ الفاتحة أم لا؟ قال مالك: نعم، وقال محمد بن مسملة: لا، وجه الأول أنها ركعة بقراءة، فوجب الفاتحة كالأولى، ووجه الثاني: أن الركعتين في حكم الركعة الواحدة، بدليل أن المأموم يجزيه إدراك أحدهما، فالقراءتان في حكم القراءة الواحدة، فوجب أن لا يتكرر الفاتحة – انتهى. وقال ابن دقيق العيد في شرح العمدة (ج2 ص139) : كأنه رآها ركعة واحدة زيد فيها ركوع، والركعة الواحدة لا تثنى الفاتحة فيها، وهذا يمكن أن يؤخذ من الحديث، كما سننبه عليه في موضعه – انتهى. وقال في شرح حديث عائشة بلفظ: فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات (ج2 ص142) . أطلق الركعات على عدد الركوع، وجاء في موضع آخر في ركعتين، وهذا هو الذي أشرنا إلى أنه متمسك من قال من أصحاب مالك إنه لا يقرأ الفاتحة في الركوع الثاني من حيث أنه أطلق على الصلاة ركعتين، والله أعلم. (ثم رفع) أي رأسه من الركوع الثاني (ثم سجد) أي سجدتين، لم يذكر فيه تطويل الاعتدال الذي يتعقبه السجود، ووقع في حديث جابر عند مسلم تطويل هذا الاعتدال، ولفظه: ثم رفع فأطال ثم سجد. قال النووي: هي رواية شاذة مخالفة لرواية الأكثرين، فلا يعمل بها، أو المراد زيادة الطمأنينة في الاعتدال لا إطالته نحو الركوع. وتعقب بما رواه النسائي وابن خزيمة وغيرهما من حديث عبد الله بن عمرو أيضاً ففيه: ثم ركع فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فأطال حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع، ثم رفع فجلس فأطال الجلوس حتى قيل: لا يسجد، ثم سجد. لفظ ابن خزيمة من طريق الثوري عن عطاء بن السائب عن أبيه عنه. قال الحافظ: والثوري سمع من عطاء قبل الاختلاط، فالحديث صحيح – انتهى. قلت: قد صرح الشافعية والحنابلة في فروعهم بعدم تطويل الاعتدال الذي يلي السجود، وهو مقتضى مذهب الحنفية والمالكية، وكأنهم اتفقوا على عدم مشروعية هذا الاعتدال، وهذا ليس بشيء بعد ما ثبت بالسنة الصحيحة الصريحة، وعدم ذكره في باقي الروايات أي السكوت عنه لا يدل على شذوذه، ولم يذكر في حديث ابن عباس تطويل السجود، ولكنه مذكور في حديث عائشة وغيرها، وقد تقدم الكلام في هذا، قال الحافظ: ولم أقف في شيء من الطرق على تطويل الجلوس بين السجدتين إلا في حديث عبد الله بن عمرو، وقد

ص: 138

ثم قام فقام قياماً طويلاً، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً،

ــ

نقل الغزالي الاتفاق على ترك إطالته، فإن أراد الاتفاق المذهبي فلا كلام وإلا فهو محجوج بهذه الرواية – انتهى. وقال النووي في الأذكار: قال أصحابنا: لا يطول الجلوس بين السجدتين، بل يأتي به على العادة في غيرها، وهذا الذي قالوه فيه نظر، فقد ثبت في حديث صحيح إطالته، وقد ذكرت ذلك واضحاً في شرح المهذب، فالاختيار استحباب إطالته – انتهى. قال صاحب الأوجز: وهكذا ينبغي للحنفية أن يصرحوا باستحباب تطويله؛ لأن الرواية التي استدلوا بها في الكسوف صريحة في تطويله، وفي مسند أبي حنيفة من حديث ابن عمر: فكان جلوسه بين السجدتين قدر سجوده

الحديث. (ثم قام) أي إلى الركعة الثانية (فقام قياما طويلاً) كذا في البخاري في باب كفران العشير من كتاب النكاح، وفي مسلم: ثم قام قياماً طويلاً، أي من غير تكرار قام، وكذا في البخاري في باب صلاة الكسوف جماعة. (وهو دون القيام الأول) يحتمل أن يراد منه القيام الأول من الركعة الأولى أو القيام الذي يليه. قال ابن عبد البر: أي ذلك كان فلا حرج إن شاء الله تعالى. وفي المدونة قال مالك: إنما يعني دون القيام الذي يليه، وكذلك قال في الركوع إنما يعني دون الركوع الذي يليه، وقال ابن بطال: لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعيها تكون أطول من الركعة الثانية بقيامها وركوعيها، وقال النووي: اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أقصر من القيام الأول وركوعه فيهما، واختلفوا في القيام الأول من الثانية وركوعه هل هما أقصر من القيام الثاني من الأولى وركوعه أو يكونان سواء؟ قيل: وسبب هذا الخلاف فهم معنى قوله: وهو دون القيام الأول، هل المراد به الأول من الثانية أو يرجع إلى الجميع؟ فيكون كل قيام دون الذي قبله، ورواية الإسماعيل لحديث عائشة بلفظ: الأولى فالأولى أطويل، تعين هذا الثاني ويرجحه أيضاً أنه لو كان المراد من قوله: القيام الأول، أول قيام من الأولى فقط لكان القيام الثاني والثالث مسكوتاً عن مقدارهما فالأول أكثر فائدة، كذا في الفتح. قلت: وقدر الشافعية هذه القيام الثالث بنحو سورة النساء، والرابع بنحو المائدة، وأشكل بأن الراجح المختار أن القيام الثالث أقصر من الثاني، والنساء أطول من آل عمران، وأجاب الزرقاني بأنه إذا أسرع بقراءتها ورتل آل عمران كانت أطول، وقال السبكي في شرح المنهاج: قد ثبت بالأخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث، ثم الثالث على الرابع. وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شيء فيما أعلم فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه وآل عمران في الثاني، نعم إذا قلنا بزيادة ركوع ثالث فيكون أقصر من الثاني. ذكره القسطلاني. (ثم ركع ركوعاً) ثالثاً طويلاً (وهو دون الركوع الأول) قدروه بنحو سبعين آية (ثم رفع) رأسه من الركوع الثالث (فقام قياماً) رابعاً (طويلاً) وقدروه بنحو المائدة

ص: 139

وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً، وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم انصرف وقد تجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد

ــ

(وهو دون القيام الأول) أي الثالث (ثم ركع ركوعاً) رابعاً (طويلاً) وقدروه بنحو خمسين آية تقريباً (وهو دون الركوع الأول) أي الثالث (ثم رفع) رأسه للقومة (ثم سجد) أي سجدتين كذلك (ثم انصرف) من الصلاة (وقد تجلت الشمس) بفوقية وشد لام أي انكشفت، وفي حديث جابر عند مسلم: فانصرف وقد آضت الشمس، وعند أبي داود: فقضى الصلاة وقد طلعت الشمس، وفي حديث قبيصة عند النسائي: فوافق انصرافه انجلاء الشمس، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أبي داود ففرغ من صلاته وقد امحصت الشمس، والمراد أنه انصرف من الصلاة بالسلام بعد التشهد، والحال أن الشمس انجلت بين جلوسه للتشهد والسلام، كما في حديث عبد الله بن عمر، وعند البخاري: ثم جلس ثم جلى عن الشمس، وفي حديث سمرة عند أبي داود والنسائي: فوافق تجلي الشمس جلوسه في الركعة الثانية ثم سلم، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند النسائي: ثم رفع رأسه – أي من السجدة – وانجلت الشمس، وفي حديث أبي بن كعب الآتي: ثم جلس كما هو مستقبل القبلة يدعو حتى انجلى كسوفها، فهذه الروايات كلها تدل على أن الانجلاء كان في الجلوس آخر الصلاة، وحديث عبد الرحمن بن سمرة عند مسلم يدل بظاهره أن انجلاء الشمس وقع قبل الشروع في الصلاة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ابتدأ صلاة الكسوف بعد الانجلاء، وهو خلاف جميع الروايات وخلاف ما ذهب إليه العلماء، وسيأتي توجيهه. (فقال) بإلفاء، وللأصيلي: وقال. ذكره القسطلاني يعني أنه خطب فقال في خطبته بعد الحمد والثناء على الله. (إن الشمس والقمر) فيه إيماء إلى أن حكم صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر واحد. (آيتان) أي علامتان (من آيات الله) أي الدالة على وحدانيته وقدرته وعظمته أو على تخويف عباده من بأسه وسطوته، ويؤيده قوله تعالى:{وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} [الإسراء: 59]، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة وأبي موسى عند البخاري: يخوف الله بهما عباده)) أو أنهما مسخران لقدرة الله وتحت حكمه ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (لا يخسفان) بفتح فسكون فكسر على أنه لازم، ويجوز ضم أوله على متعدٍ أي لا يذهب الله نورهما، وأتى بالتذكير تغليباً للقمر طبق القمرين. (لموت أحد) من العظماء كما توهمه بعض الناس تبعاً لما كان يعتقده أهل الجاهلية أن كسوف الشمس والقمر لا يكون إلا لموت عظيم، وقد وقع في رواية للبخاري من حديث أبي بكرة بيان سبب هذا القول، ولفظها: وذلك أن ابناً للنبي صلى الله عليه وسلم يقال له إبراهيم مات، فقال الناس في ذلك، وعند ابن حبان: فقال الناس: إنما كسفت الشمس لموت إبراهيم، وفي حديث النعمان بن بشير الآتي: ثم

ص: 140

ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله، قالوا: يا رسول الله! رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تعكعكت، فقال: إني رأيت الجنة،

ــ

قال: إن أهل الجاهلية كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا ينخسفان إلا لموت عظيم

الخ، وفي هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب في الأرض، وهو نحو قوله في الحديث المشهور: ((يقولون مطرنا بنوء كذا

)) ، قال الخطابي: كانوا في الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير في الأرض من موت أو ضرر، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران ليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع عن أنفسهما. (ولا لحياته) أي لولادته، وهي تتمة للتقسيم وإلا فلم يدع أحد أن الكسوف لحياة أحد أو ذكر لدفع توهم من يقول: لا يلزم من نفي كونه سبباً للفقدان لا يكون سبباً للإيجاد، فعمم الشارع النفي لدفع هذا التوهم. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحد منهما لاستحالة كسوفهما معاً في وقت واحد عادة، واستدل به على مشروعية صلاة خسوف القمر (فاذكروا الله) بالصلاة والتسبيح والتكبير والدعاء والتهليل والاستغفار وسائر الأذكار (تناولت شيئاً) أي قصدت تناول شيء وأخذه كذا للأكثر: تناولت، بصيغة الماضي، وفي رواية الكشمهيني: تناول، بحذف إحدى التائين تخفيفاً وضم اللام بالخطاب من المضارع، ويروى تتناول على الأصل بإثباتها (في مقامك هذا) أي في الموضع الذي صليت فيه (تكعكعت) بتاء مثناة فوقية في أوله وكافين مفتوحتين ومهملتين ساكنتين بعد كل منهما، أي تأخرت أو تقهقرت، وفي رواية: كعكعت، بحذف التاء أوله، وهو يقتضي مفعولاً أي رأيناك كعكعت نفسك، قال أبوعبيد: كعكته فتكعكع، وهو يدل على أن كعكع متعدٍ وتكعكع لازم، واختلف في أنه ثلاثي مزيد أو رباعي مجرد، وقول الجوهري وغيره يدل على أنه ثلاثي مزيد فيه؛ لأنه نقل عن يونس كع يكع بالضم. وقال سيبويه: بالكسر أجود كمد وفر إذا نكص على عقيبه، وفي رواية مسلم: رأيناك كففت أي نفسك بفائين خفيفتين من الكف وهو المنع (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (إني رأيت الجنة) أي رؤية عين بأن الحجب كسفت له دونها فرآها على حقيقتها وطويت المسافة بينهما حتى أمكنه أن يتناول منها كبيت المقدس حيث وصفه لقريش، وهذا أشبه بظاهر هذا الحديث، ويؤيده ما روى البخاري من حديث أسماء في أوائل صفة الصلاة بلفظ:((دنت مني الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها)) . ومنهم من حمله على أنه مثلت له في الحائط كما تنطبع الصورة في المرآة فرأى جميع ما فيها، ويؤيده حديث أنس عند البخاري في كتاب التوحيد:((لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط وأنا أصلي)) ، وفي رواية:((لقد مثلت)) ، ولمسلم (لقد صورت)) ، ولا يقال: إن الانطباع إنما هو في الأجسام

ص: 141

فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار

ــ

الصقيلة؛ لأن ذلك شرط عادي فيجوز أن تنخرق العادة خصوصاً للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن هذه قصة أخرى وقعت في صلاة الظهر، ولا مانع أن يرى الجنة والنار مرتين بل مراراً على صور مختلفة، وأبعد من قال: إن المراد بالرؤية رؤية العلم، قال القرطبي: لا إحالة في بقاء هذه الأمور على ظواهرها، ولاسيما على مذهب أهل السنة أن الجنة والنار قد خلقتا، وهما موجودتان الآن، فيرجع إلى أن الله تعالى خلق لنبيه إدراكاً خاصاً به أدرك الجنة والنار على حقيقتهما (فتناولت) بين سعيد بن منصور في سننه من وجه آخر أن التناول كان حين قيامه الثاني من الركعة الثانية، ذكره الحافظ. (منها) أي من الجنة (عنقوداً) بضم العين، وهو من العنب ونحوه ما تراكم من حبه، وقيل: المراد قطعة من العنب (ولو أخذته) وفي رواية أخرى للبخاري: ((ولو أصبته)) ، واستشكل هذا مع قوله:((فتناولت)) ، وأجيب بأنه يحمل التناول على تكلف الأخذ لا حقيقة الأخذ. وقيل: المراد تناولت لنفسي، ولو أخذته لكم وأعطيتكم، حكامه الكرماني وليس بجيد. وقيل: المراد بقوله: تناولت، وضعت يدي عليه بحيث كنت قادراً على تحويله، لكن لم يقدر لي قطفه ولو أخذته أي لو تمكنت من قطفه، يدل عليه قوله في حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة: أهوى بيده ليتناول شيئاً، وفي حديث أسماء المذكور: حتى لو اجترأت عليها، وكأنه لم يؤذن له في ذلك فلم يجترئ عليه. وقيل: الإرادة مقدرة، أي أردت أن أتناول ثم لم أفعل، ويؤيده حديث جابر عند مسلم:((ولقد مددت يدي وأنا أريد أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليه ثم بدا لي أن لا أفعل)) ، ومثله للبخاري من حديث عائشة في آخر الصلاة بلفظ:((حتى لقد رأيتني أريد أن آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني جعلت أتقدم)) ، ولعبد الرزاق من طريق مرسلة:((أردت أن آخذ منها قطفاً لأريكموه فلم يقدر)) ، ولأحمد من حديث جابر ((فحيل بيني وبينه)) ، كذا في الفتح (لأكلتم منه) أي من العنقود (ما بقيت الدنيا) وجه ذلك أنه يخلق الله تعالى مكان كل حبة تقتطف حبة أخرى كما هو المروي في خواص ثمر الجنة، والخطاب عام في كل جماعة يتأتى منهم السماع والأكل إلى يوم القيامة لقوله ((ما بقيت الدنيا)) ، وسبب تركه صلى الله عليه وسلم تناول العنقود، قال ابن بطال: لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفني والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. وقيل: لأنه لو تناوله ورآه الناس لكان إيمانهم بالشهادة لا بالغيب فيخشى أن يقع رفع التوبة والتكليف فلا ينفع نفساً إيمانها. وقيل: لأن الجنة جزاء الأعمال والجزاء بها لا يقع إلا في الآخرة. (ورأيت النار) كانت رؤيته صلى الله عليه وسلم النار قبل رؤيته للجنة لما وقع في رواية عبد الرزاق المذكورة ((عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم النار فتأخر عن مصلاه حتى أن الناس ليركب بعضهم بعضاً، وإذا رجع عرضت عليه الجنة فذهب يمشي حتى وقف في مصلاه)) ، ولمسلم من حديث جابر:((لقد جيء بالنار حين رأيتموني تأخرت مخافة أن يصيبني من لفحها)) ، وفيه: ((ثم جيء بالجنة

ص: 142

فلم أر كاليوم منظراً قط أفظع،

ــ

وذلك حين رأيتموني تقدمت حتى قمت في مقامي)) ، وزاد فيه ((ما من شيء توعدونه إلا قد رأيته في صلاته هذه)) ، واللام في النار للعهد أي رأيت نار جهنم (فلم أر كاليوم) أي مثل اليوم، والمراد من اليوم الوقت الذي هو في (منظراً) منصوب بلم أر (قط) بتشديد الطاء ظرف للماضي أي أبداً، قال القاري: أي لم أر منظراً مثل منظر اليوم، فقوله كاليوم صفة منظراً فلما قدم نصب على الحال (أفظع) أي أقبح وأبشع وأشنع وأسوأ، كذا وقع في جميع النسخ الموجودة للمشكاة، وكذا في النسخ الموجودة للموطأ من طبعات الهند، ولفظ المصابيح فلم أر كاليوم منظراً أفظع قط منها، ولفظ البخاري في النكاح من طريق عبد الله بن يوسف عن مالك عن زيد بن أسلم والنسائي من طريق ابن القاسم عن مالك ومسلم من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم بلفظ: فلم أر كاليوم منظراً قط أي بدون لفظ أفظع، وكذا وقع في نسخ الموطأ من طبعات مصر، ورواه البيهقي من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر كاليوم منظراً أفظع منها، قال البيهقي: ورواه الشافعي أي عن مالك ولم يذكر قوله أفظع منها والباقي سواء – انتهى. ورواه البخاري في صلاة الكسوف من طريق القعنبي بلفظ: فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص116) قال الحافظ: أي لم أر منظراً مثل منظر رأيته اليوم فحذف المرئي وأدخل التشبيه على اليوم لبشاعة ما رأى فيه وبعده عن النظر المألوف، وقيل: الكاف اسم، والتقدير: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظراً، وقال القسطلاني: منظراً نصب بأر وأفظع صفة للمنصوب وكاليوم قط اعتراض بين الصفة والموصوف، وأدخل كاف التشبيه عليه لبشاعة ما رأى فيه، وجوز الخطابي في أفظع وجهين: أن يكون بمعنى فظيع كأكبر بمعنى كبير، وأن يكون أفعل تفضيل على بابه على تقدير منه فصفة فعل التفضيل محذوفة. قال ابن السيد: العرب تقول: ما رأيت كاليوم رجلاً، وما رأيت كاليوم منظراً، والرجل والمنظر لا يصح أن يشبها باليوم، والنحاة تقول معناه ما رأيت كرجل أراه اليوم رجلاً وما رأيت كمنظر رأيته اليوم منظراً، وتلخيصه: ما رأيت كرجل اليوم رجلاً وكمنظر اليوم منظراً، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وجازت إضافة الرجل والمنظر إلى اليوم لتعلقهما به وملابستهما له باعتبار رؤيتهما فيه، وقال غيره: الكاف هنا اسم، وتقديره: ما رأيت مثل منظر هذا اليوم منظراً، ومنظراً تمييز، ومراده باليوم الوقت الذي هو فيه، ذكره الدماميني والبرماوي، لكن تعقب الدماميني الأخير وهو قوله وقال غيره

الخ بأن اعتباره في الحديث يلزم منه تقديم على عامله، والصحيح منعه. فالظاهر في إعرابه أن منظراً مفعول أرَ وكاليوم ظرف مستقر صفة له، وهو بتقدير مضاف محذوف، كما تقدم أي كمنظر اليوم، وقط ظرف لأر وأفظع حال من اليوم على

ص: 143

ورأيت أكثر أهلها النساء، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؟ قال: يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر

ــ

ذلك التقدير، والمفضل عليه، وجارٌ ومجرور محذوفان، أي كمنظر اليوم حال كونه أفظع من غيره – انتهى. (ورأيت أكثر أهلها النساء) استشكل مع حديث أبي هريرة أن أدنى أهل الجنة منزلة من له زوجتان من الدنيا، ومقتضاه أن النساء ثلثا أهل الجنة، وأجيب بحمل حديث أبي هريرة على ما بعد خروجهن من النار، وما قيل: إنه خرج مخرج التغليظ والتخويف فهو لغو؛ لأنه إخبار عن الرؤية الحاصلة، وفي حديث جابر:((وأكثر من رأيت فيها النساء اللاتي إن اؤتمنّ أفشين، وإن سئلن بخلن، وإن سألن إلحفن، وإن أعطين لم يشكرن)) فدل على أن المرئى في النار منهم من اتصف بصفات ذميمة، قال الحافظ: حديث ابن عباس يفسر وقت الرؤية في قوله صلى الله عليه وسلم لهن في خطبة العيد: ((تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار)) ، قال النووي: فيه دليل على أن بعض الناس اليوم معذب في جهنم. (قالوا) أي الصحابة (بم) كذا في البخاي في صلاة الكسوف بالباء أصله بما بالألف وحذفت تخفيفاً، أي بسبب أي شيء من الأعمال، وللبخاري في النكاح ((لم)) باللام، وكذا في مسلم والنسائي (قيل: يكفرن) بحذف همزة الاستفهام، والقائل أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء كما يدل عليه رواية البيهقي والطبراني من طريق شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد (قال يكفرن العشير) قال الحافظ: كذا للجمهور عن مالك بلا واو، وكذا عند مسلم من رواية حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم، ووقع في موطأ يحيى بن يحيى قال: ويكفرن العشير بزيادة واو، وقال ابن عبد البر: هكذا ليحيى وحده بالواو، ولم يزدها غيره، والمحفوظ عن مالك من رواية سائر الرواة بلا واو، قال الحافظ: ورواية يحيى وإن كانت شاذة، لكن معناها صحيح؛ لأن الجواب طابق السوال وزاد، وذلك أنه أطلق لفظ النساء فعم المؤمنة والكافرة، فلما قيل: أيكفرن بالله؟ فأجاب ويكفرن العشير

الخ، وكأنه قال: نعم، يقع منهن الكفر بالله وغيره؛ لأن منهن من يكفر بالله، ومنهن من يكفر الإحسان، وقال ابن عبد البر: وجه رواية يحيى أن يكون الجواب لم يقع على وفق سؤال السائل لإحاطة العلم بأن من النساء من يكفر بالله فلم يحتج إلى جوابه؛ لأن المقصود في الحديث خلافه – انتهى. والعشير الزوج وحمله بعضهم على العموم، وقال: أراد به كل من يعاشرها من زوج أو غيره، والألف واللام على الأول للعهد، وعلى الثاني للجنس، قيل: لم يعد كفر العشير بالباء كما عدى الكفر بالله؛ لأن كفر العشير لا يتضمن معنى الاعتراف بخلاف الكفر مبينة للجملة الأولى على طريق أعجبني زيد وكرمه، وكفر الإحسان تغطيته وعدم الاعتراف به أو جحده وإنكاره، كما يدل عليه قوله (لو أحسنت إلى إحداهن الدهر) بالنصب على الظرفية، زاد في رواية البخاري في صلاة

ص: 144

ثم رأت منك شيئاً قالت: ما رأيت منك خيراً قط)) متفق عليه.

1497-

(4) وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس،

ــ

الكسوف كله أي تمام عمر الرجل أو الزمان جميعه لقصد المبالغة والخطاب في أحسنت لكل من يصلح لذلك من الرجال فهو خطاب خاص لفظاً عام معنى (شيئاً) أي ولو حقيراً لا يوافق هواها من أي نوع كان، وقيل: التنوين فيه للتقليل أي شيئاً قليلاً لا يوافق غرضها (خيراً) قليلاً (قط) أي في جميع ما مضى من العمر، وفي الحديث المبادرة إلى الطاعة عند رؤية ما يحذر منه واستدفاع البلاء بذكر الله وأنواع طاعته وتحريم كفران الحقوق ووجوب شكر المنعم وغير ذلك من الفوائد الكثيرة التي ذكرت في شرحي البخاري للحافظ والعيني وشرح مسلم للنووي (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1 ص298، 358) ومالك وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص321) .

1497-

قوله (وعن عائشة نحو حديث ابن عباس) برفع نحو أي مثل حديثه في المعنى (ثم سجد فأطال السجود) كالركوع (ثم انصرف) عن الصلاة بالسلام بعد التشهد (وقد انجلت الشمس) بنون بعد ألف الوصل أي صفت وانكشفت (فخطب الناس) هذا ظاهر في الدلالة على أن لصلاة الكسوف خطبة، قال العيني: حديث الباب صريح في الخطبة، وبها قال الشافعي وإسحاق وابن جرير وفقهاء أصحاب الحديث، وقال أبوحنيفة ومالك وأحمد: لا خطبة فيها. قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالصلاة والتكبير والصدقة ولم يأمرهم بالخطبة، ولو كانت سنة لأمرهم بها، وإنما خطب صلى الله عليه وسلم بعد الصلاة ليعلمهم حكمها فكأنه مختص به. وقيل: خطب بعدها لا لها بخصوصها بل ليردهم عن قولهم: إن الشمس كسفت لموت إبراهيم وليخبرهم بما رأى في الصلاة من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما في الحديث، ولذا خطب بعد الانجلاء، ولو كانت سنة لخطب قبله كالصلاة والدعاء. وأجيب عن الأول بأن المشروعية والسنية لا تتوقف على البيان بالقول بل تثبت بفعله صلى الله عليه وسلم أيضاً، وههنا قد ورد ذكر الخطبة بعد صلاة الكسوف في أحاديث كثيرة صحيحة فلا شك في مشروعيتها واستحبابها، وعن الثاني بما في الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف والإخبار بما رأى من الجنة والنار وغيرهما من الآيات، كما لا يخفى على من تأمل في حديث أسماء وحديث عائشة متفق عليهما، وحديث جابر عند مسلم وحديث سمرة عند أحمد والحاكم، والأصل مشروعية الاتباع والخصائص لا تثبت إلا بدليل، وقال ابن دقيق العيد: العذر المذكور

ص: 145

فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا

ــ

ضعيف؛ لأن الخطبة لا تنحصر مقاصدها في شيء معين بعد الإتيان بما هو المطلوب منها من الحمد والثناء والموعظة، وقد يكون بعض هذه الأمور داخلاً في مقاصدها مثل ذكر الجنة والنار وكونهما من آيات الله، بل هو كذلك جزماً – انتهى. قال الحافظ: وجميع ما ذكر من سبب الكسوف وغيره هو من مقاصد خطبة الكسوف فينبغي التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيذكر الإمام ذلك في خطبة الكسوف – انتهى. وذكر الزيلعي كلام ابن دقيق العيد بتمامه ولم يتعقبه بشيء. قال صاحب الهداية من الحنفية: ليس في الكسوف خطبة؛ لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث قد ثبتت فيه، وهي ذات كثرة، قال الزيلعي في نصب الراية (ج2 ص236) بعد ذكر كلام صاحب الهداية المذكور: هذا غلط، ثم ذكر أحاديث أسماء وابن عباس وعائشة متفق عليها، وحديث جابر عند مسلم، وحديث سمرة عند أحمد وحديث عمرو بن العاص عند ابن حبان، وكلها مشتمل على ذكر الخطبة، وما قال فيها، وقال الحافظ في الدراية (ص138) بعد ذكر كلام صاحب الهداية: وهذا النفي مردود بما في الصحيحين عن أسماء: ثم انصرف بعد أن تجلت الشمس فقام فخطب الناس فحمد الله تعالى وأثنى عليه....الحديث، وفي المتفق أيضاً عن ابن عباس وعائشة، ولمسلم عن جابر ولأحمد والحاكم عن سمرة ولابن حبان عن عمرو بن العاص – انتهى. قال بعض الحنفية: لعل مراد صاحب الهداية بقوله: "لم ينقل" أي الأمر بها كما نقل الأمر بالصلاة والذكر والدعاء وغير ذلك. قلت: صاحب الهداية قد نفى نقل الخطبة مطلقاً، وهو الذي فهمه الزيلعي والحافظ، ولذلك اتفقا على تغليطه والرد عليه، والاحتمال الذي ذكره هذا البعض خلاف الظاهر فهو مردود. واحتج بعض أصحاب مالك على ترك الخطبة بأنه لم ينقل في الحديث أنه صعد المنبر. وقد زيفه ابن المنير بأن المنبر ليس شرطاً، ثم لا يلزم من أنه لم يذكر أنه لم يقع، قلت: ورد ذكر صعود المنبر صريحاً في حديث عائشة عند النسائي وحديث أسماء عند أحمد (ج6 ص354)، قال الحافظ: صرح أحمد والنسائي وابن حبان في روايتهم بأنه صعد المنبر، وكذا قال الزيلعي في نصب الراية (فحمد الله وأثنى عليه) زاد النسائي والبيهقي والحاكم في حديث سمرة وشهد أنه عبد الله ورسوله. (فإذا رأيتم ذلك) أي الكسوف في أحدهما (فادعوا الله) قال القسطلاني: وللحموي والمستملي: ((فاذكروا الله)) ، بدل رواية الكشمهيني ((فادعوا الله)) انتهى. قال ابن الملك: إنما أمر بالدعاء لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق للعادة تكون معرضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العلياء فتكون أقرب إلى الإجابة (وكبروا) أي عظموا الرب أو قولوا: الله أكبر (وصلوا) أي صلاة الكسوف والخسوف كما صليتم الآن، وروى البخاري عن أبي مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

ص: 146

وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أمته،

ــ

إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله، فإذا رأيتموها (أي الآية) فقوموا فصلوا، قال الحافظ: استدل به على أنه لا وقت لصلاة الكسوف معين؛ لأن الصلاة علقت برؤية الكسوف، وهي ممكنة في كل وقت من النهار، وبهذا قال الشافعي ومن تبعه، واستثنى الحنفية أوقات الكراهة، وهو مشهور مذهب أحمد، وعن المالكية وقتها من حل النافلة إلى الزوال، وفي رواية إلى صلاة العصر. ورجح الأول بأن المقصود إيقاع هذه العبادة قبل الانجلاء، وقد اتفقوا على أنها لا تقضى بعد الانجلاء، فلو انحصرت في وقت لأمكن الانجلاء قبله فيفوت المقصود، ولم أقف في شيء من الطرق مع كثرتها على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها الأضحى لكن ذلك وقع اتفاقاً، ولا يدل على منع ما عداه، واتفقت الطرق على أنه بادر إليها – انتهى. (وتصدقوا) لأن الصدقة تطفئ غضب الرب، وفي الحديث المبادرة بالصلاة وسائر ما ذكر من الدعاء والتكبير والصدقة عند الكسوف، قال الشاه ولي الله الدهلوي في حجة الله: الأصل فيها إن الآيات إذا ظهرت انقادت لها النفوس والتجأت إلى الله تعالى وانفكت عن الدنيا نوع انفكاك، فتلك الحالة غنيمة للمؤمن ينبغي أن يبتهل في الدعاء والصلاة وسائر أعمال البر، وأيضاً فإنها وقت قضاء الله الحوادث في عالم المثال، ولذلك يستشعر فيها العارفون الفزع وفزع رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها لأجل ذلك، وهي أوقات سريان الروحانية في الأرض، فالمناسب للمحسن أن يتقرب إلى الله في تلك الأوقات، وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان:((فإذا تجلى الله لشيء من خلقه خشع له)) ، وأيضاً فالكفار يسجدون للشمس والقمر فكان من حق المؤمن إذا رأى آية عدم استحقاقهما العبادة أن يتضرع إلى الله ويسجد له، وهو قوله تعالى:{لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن} [فصلت: 37] ليكون شعاراً للدين وجواباً مسكتاً لمنكريه – انتهى. (يا أمة محمد) فيه ذكر الباعث لهم على الامتثال وهو نسبتهم إليه صلى الله عليه وسلم، قاله القاري، وقيل: خاطبهم بذلك إظهاراً لمعنى الشفقة، كما يقول أحد: يا بني، وعدل عن يا أمتي لأن المقام مقام تخويف وتحذير، وفي قوله:((أمتي)) إشعار بالتكريم (والله) أتى باليمين لإرادة التأكيد لخبره، وإن كان لا يرتاب في صدقه (ما من أحد أغير) أي أشد غيرة (من الله أن يزني عبده أو تزني أمته) أي على زنا عبده أو أمته، قال القسطلاني: برفع أغير صفة لأحد باعتبار المحل، والخبر محذوف منصوب أي موجوداً على أن ما حجازية – وهي تعمل عمل ليس -، أو يكون أحد مبتدأ وأغير خبره على أن ما تميمية، ويجوز نصب أغير على أنه خبر ما الحجازية، و"من" زائدة للتأكيد وأن يكون مجروراً بالفتحة على الصفحة للمجرور باعتبار اللفظ والخبر المحذوف مرفوع على أن ما تميمية، وقوله ((أن يزني)) متعلق بأغير

ص: 147

يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) .

ــ

وحذف الجار من أن قياس مستمر. قال الحافظ: أغير أفعل تفضيل من الغيرة بفتح الغين المعجمة، وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة، وأصلها في الزوجين والأهلين وكل ذلك محال على الله تعالى؛ لأنه منزه عن كل تغير ونقص فيتعين حمله على المجاز، فقيل: لما كانت ثمرة الغيرة صون الحريم ومنعم وزجر من يقصد إليهم أطلق عليه ذلك لكونه منع من فعل ذلك وزجر فاعله وتوعده فهو من باب تسمية الشيء بما يترتب عليه. وقال ابن فورك: المعنى ما أحد أكثر زجراً عن الفواحش من الله تعالى. وقال غيره: غيرة الله ما يغير من حال العاصي بانتقامه منه في الدنيا والآخرة أو في أحدهما، ومنه قوله تعالى:{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]، وقال ابن دقيق العيد: أهل التنزيه في مثل هذا على قولين إما ساكت وإما مؤول، على أن المراد بالغيرة شدة المنع والحماية، فهو من مجاز الملازمة، وقال الطيبي: وجه اتصال هذا المعنى بما قبله من قوله: ((فادعوا الله وكبروا

)) الخ، من جهة أنهم لما أمروا باستدفاع البلاء بالدعاء والذكر والتكبير والصلاة والتصدق ناسب ردعهم عن المعاصي التي هي من أسباب جلب البلاء وخص منها الزنا؛ لأنه أعظمها في ذلك. وقيل: لما كانت هذه المعصية من أقبح المعاصي وأشدها تأثيراً في إثارة النفوس وغلبة الغضب ناسب ذلك تخويفهم في هذا المقام من مؤاخذة رب الغيرة وخالقها سبحانه وتعالى. ولعل تخصيص العبد والأمة بالذكر رعاية لحسن الأدب مع الله تعالى لتنزيهه عن الزوجة والأهل ممن يتعلق بهم الغيرة غالباً – انتهى كلام الحافظ، وقيل: الغيرة من صفات الكمال، فتثبت لله تعالى كما هو مدلول اللغة، ولا دليل على صرفه عن ظاهر معناه، وما ذكروه من حقيقته فهو بالنسبة إلينا، والله جل وعلا منزه عن مماثلة المخلوقات، فكما إن ذاته ليست كذواتنا فصفاته ليست كصفاتنا ولله المثل الأعلى. (لو تعلمون ما أعلم) قال الباجي: يريد أنه – عليه الصلاة والسلام – خصه الله تعالى بعلم لا يعلمه غيره، ولعله ما أراه في مقامه من النار وشناعة منظرها. وقال النووي: لو تعلمون من عظم انتقام الله تعالى من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال القيامة وما بعدها ما علمت، وترون النار كما رأيت في مقامي هذا وفي غيره لبكيتم كثيراً ولقل ضحككم لفكركم فيما علمتموه – انتهى. ولا يخفى أنهم علموا بواسطة خبره إجمالاً، فالمراد التفصيل كعلمه صلى الله عليه وسلم، فالمعنى لو تعلمون ما أعلم كما أعلم، وقيل: المعنى لو دام علمكم كما دام علمي، فإن علمه صلى الله عليه وسلم متواصل بخلاف علم غيره. (لضحكتم قليلاً) أي زماناً قليلاً أو مفعول مطلق، وقيل: القلة ههنا بمعنى العدم كما في قوله: قليل التشكي أي عديمه، والتقدير لتركتم الضحك ولم يقع منكم إلا نادراً لغلبة الخوف واستيلاء الحزن. (ولبكيتم كثيراً) خوفاً من الله تعالى أو لتفكركم فيما علمتموه، وقيل: المعنى لو علمتم من سعة

ص: 148

متفق عليه.

1498-

(5) وعن أبي موسى قال: خسفت الشمس، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً يخشى أن تكون الساعة،

ــ

رحمة الله وحلمه وغير ذلك ما أعلم لبكيتم على ما فاتكم من ذلك، وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم الزجر عن كثرة الضحك والحث على كثرة البكاء والاعتبار بآيات الله، وفيه الرد على من زعم أن للكواكب تأثيراً في الأرض لانتفاء ذلك عن الشمس والقمر فكيف بما دونهما. ومن حكمة وقوع الكسوف، تبيين أنموذج ما سيقع في القيامة، وصورة عقاب من لم يذنب فكيف بمن له ذنب، والتنبيه على سلوك طريق الخوف مع الرجاء لوقع الكسوف بالكوكب ثم كشف ذلك عنه؛ ليكون المؤمن من ربه على خوف ورجاء، والإشارة إلى تقبيح من يعبد الشمس أو القمر (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج6 ص164) ومالك والنسائي والبيهقي، وأخرجه أبوداود مختصراً على قوله:((الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد – إلى قوله – وتصدقوا)) .

1498-

قوله (خسفت الشمس) بفتح الخاء والسين (فقام النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً) بكسر الزاي صفة مشبهة أو بفتحها مصدر بمعنى الصفة أو مفعول مطلق لفعل مقدر (يخشى) بالبناء للفاعل في محل النصب على الحال (أن تكون) في موضع النصب مفعول يخشى (الساعة) بالرفع على أن تكون تامة أو على أنها ناقصة، والخبر محذوف أن أن تكون الساعة قد حضرت أو نصب على أنها ناقصة واسمها محذوف أي تكون هذه الآية الساعة أي علامة حضورها. قال ابن دقيق العيد: فيه إشارة إلى دوام المراقبة لفعل الله وتجريد الأسباب العادية عن تأثيرها لمسبباتها، وفيه جواز الإخبار بما يوجبه الظن من شاهد الحال؛ لأن سبب الفزع يخفى عن المشاهدة لصورة الفزع فيحتمل أن يكون الفزع لغير ما ذكر، فعلى هذا فيشكل هذا الحديث من حيث أن للساعة مقدمات كثيرة لم تكن وقعت كفتح البلاد واستخلاف الخلفاء وخروج الخوارج ثم الأشراط كطلوع الشمس من مغربها والدابة والدجال والدخان وغير ذلك. ويجاب عن هذا بأجوبة: منها أن غلبة الخشية والدهشة وفجاءة الأمور العظام تذهل الإنسان عما يعلم. ومنها احتمال أن يكون الأمور المعلومة وقوعها بينه وبين الساعة كانت مقيدة بشرط يعني أن حالة استحضار إمكان القدرة غلبت على استحضار ما تقدم من الشروط؛ لاحتمال أن تكون تلك الأشراط كانت مشروطة بشرط لم يتقدم ذكره، فيقع المخوف بغير أشراط لفقد الشرط، ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر وقوع الممكن لولا ما أعمله الله تعالى بأنه لا يقع قبل الأشراط، وجعل ما سيقع كالواقع إظهاراً لتعظيم شأن الكسوف

ص: 149

فأتى المسجد، فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله، وقال:

ــ

وتنبيهاً لأمته أنه إذا وقع بعده يخشون أمر ذلك، لاسيما إذا وقع لهم ذلك بعد حصول الأشراط أو أكثر ويفزعون إلى ذكر الله والصلاة والصدقة ليدفع عنهم البلايا. ومنها أن راويه ظن أنه صلى الله عليه وسلم خشي أن تكون الساعة، وليس يلزم من ظنه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم خشي ذلك حقيقة، بل خرج النبي صلى الله عليه وسلم مستعجلاً مهتماً بالصلاة وغيرها من أمر الكسوف مبادراً إلى ذلك، وربما خاف أن يكون نوع عقوبة تحدث كما كان يخاف عند هبوب الريح، فظن الراوي خلاف ذلك ولا اعتبار بظنه. وفيه أن تحسين الظن بالصحابي يقتضي أنه لا يجزم ذلك إلا بتوقيف. ومنها لعله خشي أن يكون ذلك بعض المقدمات يعني خشي أن يكون الكسوف مقدمة لبعض الأشراط كطلوع الشمس من مغربها، ولا يستحيل أن يتخلل بين الخسوف والطلوع المذكور أشياء مما ذكر، وتقع متتالية بعضها أثر بعض مع استحضار قوله تعالى:{وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب} [النحل: 77] ، ومنها أن هذا تخييل من الراوي وتمثيل منه كأنه قال فزع فزعاً كفزع من يخشى أن تكون الساعة، وإلا فالنبي صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأن الساعة لا تقوم وهو فيهم، وقد وعده الله مواعد لم تتم ولم تقع بعد، وإنما كان فزعه عند ظهور الآيات كالخسوف والزلازل والريح الصواعق شفقاً على أهل الأرض أن يأتيهم عذاب الله كما أتى من قبلهم من الأمم لا عن قيام الساعة (فأتى المسجد) أي مسجد المدينة، قال ابن دقيق العيد: في الحديث دليل على أن سنة صلاة الكسوف في المسجد وهو المشهور عن العلماء، وخير بعض أصحاب مالك بين المسجد والصحراء، والصواب: المشهور الأول، فإن هذه الصلاة تنتهي بالانجلاء، وذلك مقتض لأن يعتني بمعرفته ويراقب حال الشمس، فلولا أن المسجد أرجح لكانت الصحراء أولى؛ لأنها أقرب إلى إدراك حال الشمس في الانجلاء وعدمه، وأيضاً فإنه يخاف من تأخيرها فوات إقامتها بأن يشرع الانجلاء قبل اجتماع الناس وبروزهم – انتهى. (ما رأيته قط يفعله) أي ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يفعل مثله، كذا في جميع النسخ الموجودة للمشكاة بذكر كلمة ما قبل رأيته، وهكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7 ص118) وفي نسخ البخاري من طبعات الهند ومصر الحاضرة عندنا رأيته قط يفعله أي بدون حرف النفي قبل رأيته، لكن قال العيني في كثير من النسخ أي للبخاري وقعت على الأصل وهو ما رأيته قط يفعله – انتهى. ولفظ مسلم والنسائي والبيهقي: ما رأيته يفعله في صلاة قط، قال العيني: كلمة "قط" لا تقع إلا بعد الماضي المنفي، ووجه النسخة التي هي بغير لفظ ما أن يقدر حرف النفي كما في قوله تعالى:{تالله تفتؤ تذكر يوسف} [يوسف 85] ، أي لا تفتؤ ولا تزال تذكره تفجعاً، فحذف لا أو أن لفظ أطول فيه معنى عدم المساواة أي بما لم يساو قط قياماً رأيته يفعله، أو قط بمعنى حسب أي صلى في تلك اليوم فحسب بأطول قيام رأيته يفعله أو تكون بمعنى أبداً لكن إذا كانت بمعنى حسب تكون القاف مفتوحة والطاء ساكنة (وقال) أي في خطبته بعد فراغه من

ص: 150

هذه الآيات التي يرسل الله، لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوف الله بها عباده،

ــ

صلاة الكسوف (هذه الآيات) أي كسوف النيرين والزلزلة وهبوب الريح الشديدة (ولكن يخوف الله بها) أي بالآيات (عباده) قال الله تعالى: {وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً} قال القسطلاني: فالكسوف من آياته تعالى المخوفة، إما أنه آية من آيات الله فلأن الخلق عاجزون عن ذلك، وإما أنه من الآيات المخوفة فلأن تبديل الطاعا بعد الإيمان الصلاة. وفيه رد على أهل الهيئة حيث قالوا: إن الكسوف أمر عادي لا تأخير فيه ولا تقديم؛ لأنه لو كان كما زعموا لم يكن فيه تخويف ولا فزع، ولم يكن للأمر بالصلاة والصدقة معنى. ولئن سلمنا ذلك فالتخويف باعتبار أنه يذكر القيامة لكونه أنموذجاً قال الله تعالى:{فإذا برق البصر. وخسف القمر} الآية [القيامة: 7] ، ومن ثم قام – عليه السلام – فزعاً فخشي أن تكون الساعة، وكان – عليه السلام – إذا اشتد هبوب الرياح تغير ودخل وخرج خشية أن تكون الريح كريح عاد، وإن كان هبوب الرياح أمراً عادياً، وقد كان أرباب الخشية والمراقبة يفزعون من أقل من ذلك، إذ كل ما في العالم علويه وسفليه دليل على نفوذ قدرة الله تعالى وتمام قهره. وقد وقع في حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعمه أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجه وصححه ابن خزيمة والحاكم بلفظ:((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له)) ، وقد استشكل الغزالي هذه الزيادة، وقال: إنها غير صحيحة نقلاً، فيجب تكذيب ناقلها، وبنى ذلك على أن قول الفلاسفة في باب الكسوف والخسوف حق لما قام عليه من البراهين القطعية، وهو أن خسوف القمر عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس والأرض كرة، والسماء محيطة بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض انقطع عنه نور الشمس، وأن كسوف الشمس معناه وقوع جرم القمر بين الناظر والشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة. قال ابن القيم: إسناد هذه الرواية لا مطعن فيه ورواته ثقات حفاظ، ولكن لعل هذه اللفظة مدرجة في الحديث من كلام بعض الرواة، ولهذا لا توجد في سائر أحاديث الكسوف، فقد روى حديث الكسوف عن النبي صلى الله عليه وسلم بضعة عشر صحابياً فلم يذكر أحد منهم في حديثه هذه اللفظة، فمن ههنا نشأ احتمال الإدراج، وقال السبكي: قول الفلاسفة صحيح كما قال الغزالي، لكن إنكار الغزالي هذه الزيادة غير جيد، فإنه مروي في النسائي وغيره، وتأويله ظاهر فأي بعد في أن العالم بالجزئيات ومقدر الكائنات سبحانه يقدر في أزل الأزل خسوفهما بتوسط الأرض بين الشمس والقمر، ووقوف جرم القمر بين الناظر والشمس

ص: 151

فإذا رأيتم شيئاً من ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره)) متفق عليه.

1499-

(6) وعن جابر قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم،

ــ

ويكون ذلك وقت تجليه سبحانه وتعالى عليهما، فالتجلي سبب لكسوفهما، قضت العادة بأنه يقارن توسط الأرض ووقوف جرم القمر، لا مانع من ذلك ولا ينبغي منازعة الفلاسفة فيما قالوا إذا دلت عليه براهين قطعية – انتهى. قال السندي: ويحتمل أن المراد إذا بدا – هذا لفظ أحمد والنسائي – أي بدو الفاعل للمفعول أي إذا تصرف في شيء من خلقه بما يشاء خشع له أي قبل ذلك ولم يأب عنه – انتهى. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: ((يخوف الله بهما عباده)) وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب الأسباب العادية، وأفعالاً خارجة عن تلك الأسباب، وقدرته حاكمة على كل سبب ومسبب، فيقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فأصحاب المراقبة لله ولأفعاله الذين عقدوا أبصار قلوبهم بوحدانيته وعموم قدرته على خرق العادة واقتطاع المسببات عن أسبابها وأنه يفعل ما يشاء، إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة اعتقادهم المذكور، وذلك لا يمنع أن يكون ثمة أسباب تجرى عليها العادة إلى يشاء الله تعالى خرقها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم عند اشتداد هبوب الريح يتغير ويدخل ويخرج خشية أن تكون كريح عاد، وإن كان هبوب الريح موجوداً في العادة، وحاصله أن الذي يذكره أهل الحساب إن كان حقاً في نفس الأمر لا ينافي كون ذلك مخوفاً لعباد الله تعالى، وذكر ابن القيم في كتاب مفتاح السعادة توجيهاً آخر لذلك، وقد نقله السيوطي في حاشية النسائي فارجع إليها. (فإذا رأيتم شيئاً من ذلك) أي مما ذكر من الآيات (فافزعوا) بفتح الزاي أي التجأوا من عذابه أو توجهوا (إلى ذكره) ومنه الصلاة (ودعاء واستغفاره) يقال: فزعت إلى الشيء أي لجأت إليه، ويقال: فزعت إلى فلان فأفزعني أي لجأت إليه فألجأني واستعنت به فأعانني، في الحديث إشارة إلى المبادرة إلى ما أمر به، وتنبيه على الالتجاء إلى الله تعالى عند المخاوف بالدعاء والاستغفار، وإشارة إلى أن الذنوب سبب البلايا والعقوبات العاجلة أيضاً، وأن الاستغفار والتوبة سببان للمحو يرجى بهما زوال المخاوف. قال الحافظ: استدل بالحديث على أن الأمر لمبادرة إلى الذكر والدعاء والاستغفار وغير ذلك لا يختص بالكسوفين؛ لأن الآيات أعم من ذلك، ولم يقع في هذه الرواية ذكر الصلاة، فلا حجة فيه لمن استحبها عند كل آية، وقال العيني: قوله ((فافزعوا إلى ذكر الله)) حجة لمن قال ذلك؛ لأن الصلاة يطلق عليها ذكر الله؛ لأن فيها أنواعاً من ذكر الله تعالى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً النسائي والبيهقي (ج3 ص340) .

1499-

قوله (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم) وأمه

ص: 152

فصلى بالناس ست ركعات بأربع سجدات.

ــ

مارية قبطية سرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أهداها إليه المقوقس صاحب الاسكندرية ومصر، ولد في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، وتوفي وهو ابن ستة عشر شهراً، وقيل: سبعة عشر، وقيل: ثمانية عشر، وهو أصح، ودفن بالبقيع، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن له مرضعاً يتم رضاعه في الجنة)) ، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات بالمدينة في السنة العاشرة من الهجرة، ثم اختلفوا، فقيل: في ربيع الأول، وقيل: في رمضان، وقيل: في ذي الحجة، قيل: في عاشر الشهر، وعليه الأكثر، وقيل: في رابعه، وقيل: في رابع عشرة، ولا يصح شيء منها على قول ذي الحجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة في الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته وكانت بالمدينة بلا خلاف، نعم قيل: إنه مات سنة تسع، فإن ثبت يصح، وذكر الواقدي أنه مات يوم الثلاثاء لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة عشر، وتقدم قول ابن تيمية: أنه من نقل أنه مات عاشر الشهر فقد كذب، وتقدم أيضاً الإشارة إلى تحقيق المرحوم محمود باشا الفلكي ليوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة يوم مات فيه إبراهيم – عليه السلام. وحاصله أن الشمس كسفت بالمدينة في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحاً يوم الاثنين 29 شوال سنة 10 الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية، وعلى هذا يكون ولادته في جمادى الأولى سنة 9، وعمره ثمانية عشر شهراً أو سبعة عشر أو ستة عشر على اختلاف في الروايات بإدخال شهري الميلاد والوفاة على الأول وإخراجهما على الثالث وإدخال أحدهما على الثاني (فصلى بالناس ست ركعات) أي ركوعات إطلاقاً للكل وإرادة الجزء (بأربع سجدات) أي في ركعتين فيكون في كل ركعة ثلاث ركوعات وسجدتان، قال الطيبي: أي صلى ركعتين كل ركعة بثلاث ركوعات – انتهى. والحديث قد اختلف فيه على جابر، فروى عنه عطاء كما ترى فصلى بالناس ست ركعات، وروى عنه أبوالزبير أنه صلى ركعتين بأربع ركوعات، أخرجه مسلم وأحمد والنسائي، ورواية عطاء مع كونها في صحيح مسلم قد أعلها البيهقي، إذ قال (ج 3 ص326) بعد رواية حديث جابر من طريق عطاء مطولاً ما لفظه: من نظر في هذه القصة وفي القصة التي رواها أبوالزبير عن جابر علم أنه قصة واحدة، وأن الصلاة التي أخبر عنها إنما فعلها يوم توفي إبراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اتفقت رواية عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، ورواية عطاء بن يسار وكثيرة بن عباس عن ابن عباس، ورواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر، ورواية أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعين، وفي حكاية أكثرهم قوله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله

)) الخ دلالة على أنه صلاها يوم توفي ابنه فخطب، وقال هذه المقالة رداً لقولهم: إنما كسفت لموته، وفي اتفاق هؤلاء العدد مع فضل حفظهم دلالة على أنه لم يزد في كل ركعة على ركوعين، كما ذهب إليه الشافعي ومحمد بن إسماعيل البخاري – رحمهما الله تعالى – انتهى. وحاصله أن رواية أبي الزبير عن جابر أرجح لاتفاق الشيخين على

ص: 153

رواه مسلم.

1500-

(7) وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثمان ركعات في أربع سجدات. وعن علي مثل ذلك.

ــ

تخريجها، ورواية عطاء مرجوحة لانفراد مسلم بها، وقد تقدم منا أن رواية تثليث الركوع وتربيعه في كل ركعة صحيحة، لكن رواية الركوعين في كل ركعة أصح وأكثر وأشهر فيجب ترجيحها وتتعين هي للعمل؛ لأنه إنما يؤخذ بالأصح، فالأصح من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والبيهقي (ج3 ص326) .

1500-

قوله (ثمان ركعات) أي ركوعات (في أربع سجدات) يعني ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد في كل ركعة سجدتين، وقد رواه مسلم من طريق آخر بلفظ: أنه صلى في كسوف قرأ ثم ركع ثم قرأ ثم ركع ثم قرأ ركع ثم قرأ ثم ركع ثم سجد، قال: والأخرى مثلها، والحديث يدل على أنه من جملة صفات صلاة الكسوف ركعتين في كل ركعة أربع ركوعات، وهو مع كونه في صحيح مسلم قد أعله البيهقي فقال (ج3 ص327) بعد روايته: وأما محمد بن إسماعيل البخاري فإنه أعرض عن هذه الروايات التي فيها خلاف رواية الجماعة، وقد روينا عن عطاء بن يسار وكثير بن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلاها ركعتين في كل ركعة ركوعان، وحبيب بن أبي ثابت وإن كان من الثقات فقد كان يدلس – وصفه بذلك ابن خزيمة والدارقطني وابن حبان وغيرهم -، ولم أجده ذكر سماعه في هذا الحديث عن طاوس، قال: وقد روى سليمان عن طاوس عن ابن عباس من فعله أنه صلاها ست ركعات في أربع سجدات، فخالفه في الرفع والعدد جميعاً – انتهى. وفيه أن إخراج مسلم لحديث حبيب بن أبي ثابت في صحيحه دليل على أنه ثبت عنده أنه متصل وأنه لم يدلس فيه. قال النووي: ما في الصحيحين عن المدلس بعن ونحوها فمحمول على ثبوت السماع من جهة أخرى، فالحديث صحيح، وأما رواية سليمان الموقوفة فلا تعلل بها الرواية المرفوعة الصحيحة؛ لأن العبرة لما روى الراوي لا لما رأى كذا قيل، وقد تقدم كلام ابن تيمية أن الصواب مع من أنكر على مسلم ونازعه في إخراجه حديث صلاة الكسوف بثلاث ركوعات وأربع ركوعات، وأن هذا من المواضع المنتقدة بلا ريب، وبالجملة هذا الحديث وإن كان مخرجاً في صحيح مسلم لكن العمل على روايات الركوعين لكونها أكثر وأصح وأشهر وأرجح، والله تعالى أعلم. (وعن علي مثل ذلك) أي وروي عنه مثل رواي ابن عباس، كذا أحاله على حديث ابن عباس ولم يذكر لفظه. وقد أسلفنا أن حديث علي في تربيع الركوع أخرجه أحمد والبيهقي عنه مرفوعاً من طريق

ص: 154

رواه مسلم.

1501-

(8) وعن عبد الرحمن بن سمرة قال: كنت أرتمي بأسهم لي بالمدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ كسفت الشمس، فنبذتها، فقلت: والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس؟ قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة، رافع يديه، فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو

ــ

الحسن بن حر عن الحكم عن حنش عن علي، وقيل: المراد من قوله: وعن علي مثل ذلك، أي من فعله؛ لأنه لو كان من فعل النبي صلى الله عليه وسلم لجعله حديثاً على حدة. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص327) .

1501-

قوله (وعن عبد الرحمن بن سمرة) - بفتح السين المهملة وضم الميم وسكونها - ابن حبيب بن عبد شمس العبشمي يكنى أباسعيد، أسلم يوم فتح مكة، وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، يقال: كان اسمه عبد كلال، وقيل غير ذلك، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وشهد غزوة تبوك مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم شهد فتوح العراق، وهو الذي افتتح سجستان وكابل وغيرهما في خلافة عثمان، ثم نزل البصرة ومات بها سنة (50) أو بعدها. (كنت أرتمي) افتعال من الرمي، أي أرمي كما وقع في رواية أخرى لمسلم: كنت أرمي أي باب ضرب، وفي أخرى له: بينما أتَرَمّى أي من باب التفعل، وفي بعض النسخ: أترامي، أي من باب التفاعل، قال في المجمع (ج2 ص40) : خرجت أرتمي بأسهمي، وروي أترامى رميت بالسهم، وارتميت وتراميت وراميت إذا رميت به عن القسي، وقيل: خرجت أرتمي إذا رميت القنص، وأترمى إذا خرجت ترمي في الأهداف ونحوها – انتهى. وقال النووي: قوله: كنت أرتمي بأسهم، أي أرمي، كما قاله في الرواية الأولى، يقال: أرمي وأرتمي وأترامي وأترَمّى كما قاله في الرواية الأخيرة (بأسهم) جمع سهم (في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي امتثالاً لقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: 40] ، فإنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها بالرمي، وقال:((من تعلم الرمي فتركه فليس منا)) ، (فنبذتها) أي وضعت السهام وألقيتها (فقلت) أي في نفسي (لأنظرن) أي لأبصرن (إلى ما حدث) أي تجدد من السنة (لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس) زعم عبد الرحمن أنه لابد أن يقرر النبي صلى الله عليه وسلم في الكسوف شيئاً من السنن، فأراد أن ينظره (وهو قائم في الصلاة رافع يديه) قال النووي: فيه دليل لأصحابنا في رفع اليدين في القنوت، ورد على من يقول لا ترفع الأيدي في دعوات الصلاة

ص: 155

حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين، رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن سمرة.

ــ

(حتى حسر عنها) على بناء المفعول أي أزيل الكسوف عن الشمس، ويحتمل أن لا يكون في "حسر" ضمير، ويكون مسنداً إلى الجار والمجرور، أي أزيل وكشف ما بها (فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين) هذا صريح في أنه شرع في الصلاة بعد الانجلاء، وهو خلاف لسائر الروايات، فقال بعضهم: إن هذه الصلاة كانت تطوعاً مستقلاً بعد انجلاء الكسوف، لا أنها صلاة الكسوف، وهذا مخالف لظاهر قوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة

الخ، وقال في اللمعات: صلى ركعتين، أي أتم صلاته التي كان شرع فيها وحسر عنها في أثنائها، وقال الطيبي: يعني دخل في الصلاة ووقف في القيام الأول وطول التسبيح والتهليل والتكبير والتحميد حتى ذهب الخسوف، ثم قرأ القرآن وركع ثم سجد، ثم قام في الركعة الثانية وقرأ فيها القرآن وركع وسجد وتشهد وسلم – انتهى. وقال النووي بعد ذكر رواية مسلم بلفظ: فانتهيت إليه وهو رافع يديه يدعو ويكبر ويحمد ويهلل حتى جلي عن الشمس، فقرأ سورتين وركع ركعتين ما لفظه: هذا مما يستشكل ويظن أن ظاهره أنه ابتدأ صلاة الكسوف بعد انجلاء الشمس، وليس كذلك، فإنه لا يجوز ابتداء صلاتها بعد انجلائها، وقوله: فانتهيت إليه وهو رافع يديه، محمول على أنه وجده في الصلاة، كما في الرواية الأخرى: فأتيته وهو قائم في الصلاة، ثم جمع الراوي جميع ما جرى في الصلاة من دعاء وتكبير وتهليل وتحميد وتسبيح وقراءة سورتين في القيامين الأخيرين للركعة الثانية، وكانت السورتان بعد الانجلاء تتميماً للصلاة فتمت جملة الصلاة ركعتين، أولها في حال الكسوف، وآخرها بعد الانجلاء، وهذا الذي ذكرته من تقديره لابد منه جمعاً بين الروايتين؛ لأنه مطابق للرواية الثانية ولقواعد الفقه ولروايات باقي الصحابة – انتهى. لكن هذا الجواب لا يوافق رواية النسائي لحديث عبد الرحمن بن سمرة بلفظ: فأتيته مما يلي ظهره وهو في المسجد، فجعل يسبح ويكبر ويدعو حتى حسر عنها، قال: ثم قام فصلى ركعتين وأربع سجدات – انتهى. وعلى هذا فالترجيح لسائر الروايات التي تدل على أن انجلاء كان في جلوس التشهد بعد الركعة الثانية وقبل السلام، وظاهر هذا الحديث أنه صلى ركعتين كل ركعة بركوع، وهو أيضاً مستبعد بالنظر إلى سائر الروايات، وتأوله المازري على أنها كانت صلاة تطوع بعد الانجلاء لا صلاة كسوف فإنه إنما صلى بعد الانجلاء وابتداءها بعد الانجلاء لا يجوز، وضعفه النووي بمخالفة لقوله: فأتيته وهو قائم في الصلاة

الخ، فتأوله هو على أن قوله: صلى ركعتين يعني في كل ركعة قيامان وركوعان – انتهى. وقال القرطبي: يحتمل أنه إنما أخبر عن حكم ركعة واحدة وسكت عن الركعة الأخرى – انتهى. وهذا يرده لفظ النسائي: فصلى ركعتين أو أربع سجدات، فالصواب أن يقال: إن الترجيح لروايات الركوعين في كل ركعة لكونها صريحة، ولكونها أصح وأشهر وأكثر، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم في صحيحه عن عبد الرحمن بن سمرة) وأخرجه أيضا أحمد

ص: 156