الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
1660-
(1) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله عليه وسلم: ((أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك
ــ
1660-
قوله: (أسرعوا) أمر من الإسراع، نقل ابن قدامة: أن الأمر بالإسراع للندب بلا خلاف بين العلماء، وشذ ابن حزم فقال بوجوبه، والمراد بالإسراع الإسراع المتوسط بين الخبب أي شدة السعي وبين المشي المعتاد، بدليل قوله في حديث أبي بكرة عند أحمد والنسائي: وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملاً، ومقاربة الرمل ليس بالسعي الشديد، قاله العراقي. وأما ما وقع في أبي داود بلفظ: ونحن نرمل رملاً، فقال العيني: مراده الإسراع المتوسط، ويدل عليه ما روى ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث عبد الله بن عمرو: إن أباه أوصاه قال: إذا أنت حملتني على السرير فامش مشياً بين المشيين-الحديث. قال البيهقي في المعرفة: قال الشافعي الإسراع بالجنازة هو فوق سجية المشي المعتاد، ويكره الإسراع الشديد. قال الحافظ: وهو قول الجمهور، والحاصل أنه يستحب الإسراع بها لكن بحيث لا ينتهي إلى شدة يخاف معها حدوث مفسدة بالميت أو مشقة على الحامل أو المشيع. وأما ما روى أحمد (ج4ص406) من حديث أبي موسى أنه قال: مرت برسول الله صلى الله عليه وسلم جنازة تمخض مخض الزق فقال: عليكم بالقصد، فالظاهر أنه كان يفرط في الإسراع بها، ولعله خشي انفجارها أو خروج شيء منها. (بالجنازة) أي بحملها إلى قبرها. قال السندي: ظاهره الأمر للحملة بالإسراع في المشي، ويحتمل الأمر بالإسراع في التجهيز وتعجيل الدفن بعد تيقن موته. وقال النووي: والأول هو المتعين لقوله: فشر تضعونه عن رقابكم، ولا يخفى أنه يمكن تصحيحه على المعنى الثاني بأن يجعل الوضع عن الرقاب كناية عن التبعيد عنه وترك التلبس به-انتهى. قيل: ويؤيده أن الكل لا يحملونه. قلت: ويؤيده أيضاً ما روى الطبراني. قال الحافظ: بإسناد حسن من حديث ابن عمر مرفوعاً: إذا مات أحدكم فلا تحبسوه وأسرعوا به إلى قبره، وما تقدم من حديث حصين بن وحوح مرفوعاً: لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله. (فإن تك) أصله فإن تكن حذفت النون للتخفيف، والضمير فيه للجنازة التي هي عبارة عن الميت. (صالحة) نصب على الخبرية. (فخير) خبر مبتدأ محذوف أي فهي خير أي الجنازة بمعنى الميت لمقابلته بقوله: فشر، فحينئذٍ لا بد من اعتبار الاستخدام في ضمير إليه الراجع إلى الخير أو هو مبتدأ خبره محذوف، والتقدير فلها خير، أو فهناك خير لكن لا تساعده المقابلة، قاله السندي. وقال القاري: فخير أي فحالها خير أو فعلها خير. (تقدمونها) بالتشديد. (إليه) قال القاري: أي فإن كان حال ذلك الميت حسناً طيباً فأسرعوا به حتى يصل إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. (وإن تك) أي الجنازة (سوى ذلك) أي غير صالحة.
فشر تضعونه عن رقابكم)) . متفق عليه.
1661-
(2) وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها
ــ
(فشر) أي فهو شر (تضعونه عن رقابكم) فلا مصلحة لكم في مصاحبتها؛ لأنها بعيدة من الرحمة، ويؤخذ منه ترك صحبة أهل البطالة وغير الصالحين. وفي الحديث دليل على ندب المبادرة بتجهيز الميت ودفنه لكن بعد تحقق موته، فإن من المرضى من يخفى موته ولا يظهر إلا بعد مضي زمان كالمسبوت ونحوه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه.
1661-
قوله: (إذا وضعت الجنازة) يحتمل أن المراد بالجنازة الميت، أي إذا وضع الميت على السرير، ويحتمل أن المراد بها السرير أي إذا وضع السرير على الكتف، والأول أولى؛ لقوله بعد ذلك: فإن تك صالحة قالت، فإن المراد هناك الميت، ويؤيده حديث أبي هريرة عند النسائي وأبي داود الطيالسي بلفظ: إذا وضع الرجل الصالح على سريره، كذا قيل. قال السندي: بل هو المتعين، إذ على الثاني يكون قوله: فاحتملها الرجال على أعناقهم تكراراً، ولا يمكن جعله تأكيداً إذ لا يناسبها الفاء فليتأمل، نعم ضمير احتملها بالسرير أنسب إذ هو المحمول أصالة والميت تبعاً، لكن يكفي في صحة إرادة الميت كونه محمولاً تبعاً، ويحتمل أن يكون المراد بالضمير السرير بالاستخدام-انتهى. قلت: وقع في رواية للبخاري واحتملها الرجال بالواو بدل الفاء فلا يبعد أن يكون تأكيداً، نعم التأسيس أولى من التأكيد. وقال القاري: إذا وضعت الجنازة أي بين يدي الرجال وهيئت ليحملوها. (قالت) حقيقة بلسان القال بحروف وأصوات يخلقها الله تعالى فيها. قال ابن بزيرة: قوله في آخر الحديث "يسمع صوتها كل شيء" دال على أنه قول بلسان القال لا بلسان الحال، قيل: يحتمل أن القائل الروح أو الجسد بواسطة رد الروح إليه، وقيل: دعوى إعادة الروح إلى الجسد قبل الدفن يحتاج إلى دليل، والله عزوجل قادر على أن يحدث نطقاً في الميت إذا شاء. (قدموني) أي لثواب العمل الصالح الذي عملته. قال السندي: كأنه يعتقد أنهم يسمعون قوله، فيقول لهم ذلك، أو أنه تعالى يجري على لسانه ذلك ليخبر عنه رسوله صلى الله عليه وسلم للناس، فتحصل الفائدة بواسطة ذلك الإخبار، والله تعالى اعلم. (قالت لأهلها) قال الطيبي: أي لأجل أهلها إظهاراً لوقوعها في الهلكة، وكل من وقع في الهلكة دعا بالويل. (يا ويلها) أي ويل الجنازة أي يا هلاكي احضر فهذا أوانك، وكان القياس أن يقول يا ويلي، فعدل إلى إضافة الويل إلى ضمير الغائب حملاً على المعنى، كراهة أن يضيف الويل إلى نفسه، أو كأنه لما أبصر نفسه غير صالحة نفر عنها وجعلها كأنها
أين تذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسان لصعق)) رواه البخاري.
1662-
(3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا،
ــ
غيره، ويؤيد الأول أن في رواية أبي هريرة عند النسائي: يا ويلتى أين تذهبون بي، فدل على أن ذلك من تصرف الرواة. (أين تذهبون بها) قالته لأنها تعلم أنها لم تقدم خيراً، وأنها تقدم على ما يسوءها فتكره القدوم عليه. (يسمع صوتها) المنكر بذلك الويل (كل شيء) أي حتى الجماد، وقيل أي من الحيوان. (إلا الإنسان) بالنصب على الاستثناء. (ولو سمع الإنسان) أي صوتها بالويل المزعج (لصعق) أي لغشي عليه أو مات من شدة هول ذلك، وهذا في غير الصالح؛ لأن الصالح من شأنه اللطف والرفق في كلامه، فلا يناسب الصعق من سماع كلامه، وقيل: يحتمل حصول الصعق من سماع كلام الصالح أيضاً لكونه غير مألوف. قال السندي: وهذا مبني على أن المراد لو سمعه أحياناً وإلا فلو سمعه على الدوام لما بقي غير مألوف، والله أعلم-انتهى. وفيه بيان حكمة عدم سماع الإنسان من أنه يختل نظام العالم ويكون الإيمان شهودياً لا غيبياً، واستدل البخاري بقوله: فاحتملها الرجال على منع النساء من حمل الجنازة وإن كان الميت امرأة، فقد بوب على هذا الحديث "باب حمل الرجال الجنازة دون النساء"، وقد استشكل ذلك لكونه إخباراً فلا يكون حجة في منع النساء؛ لأنه ليس فيه أن لا يكون الواقع إلا ذلك، وأجيب بأن كلام الشارع مهما أمكن حمله على التشريع لا يحمل على مجرد الإخبار عن الواقع. وقد روى أبويعلى من حديث أنس قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأى نسوة فقال: أتحملنه؟ قلن: لا، أتدفنه؟ قلن: لا، قال: فارجعن مأزورات غير مأجورات. ونقل النووي في شرح المهذب: أنه لا خلاف في هذه المسألة بين العلماء، والسبب فيه أن في الحمل على الأعناق والأمر بالإسراع مظنة الانكشاف غالباً، وهو مباين للمطلوب منهن من التستر، مع ضعف نفوسهن عن مشاهدة الموتى غالباً فكيف بالحمل، مع ما يتوقع من صراخهن عند حمله ووضعه، وأيضاً لا بد أن يشيع الجنازة الرجال، فلو حملها النساء لكان ذلك ذريعة إلى اختلاطهن بالرجال، فيفضي إلى الفتنة، نعم إن لم يوجد غيرهن تعين عليهن. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً النسائي.
1662-
قوله: (إذا رأيتم الجنازة فقوموا) فيه مشروعية القيام للجنازة إذا مرت بالمكلف القاعد وإن لم يقصد تشييعها، وظاهره عموم جنازة من مؤمن وغيره، ويؤيده قيامه صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودي مرت به، وقد علل ذلك بأن الموت فزع. وفي رواية: أليست نفساً، وسيأتي الكلام على ذلك. واختلف العلماء في حكم القيام للجنازة لمن مرت به، فذهب جماعة من السلف والخلف، كما قال ابن عبد البر في التمهيد إلى وجوبه. وقال مالك والشافعي وأبوحنيفة وصاحباه: أنه منسوخ. وذهب أحمد ومن وافقه إلى أنه مستحب. قال
فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع)) .
ــ
الشوكاني: ذهب أحمد وإسحاق بن راهويه وابن حبيب وابن الماجشون من المالكية: إلى أن القيام للجنازة لم ينسخ والقعود منه صلى الله عليه وسلم، كما في حديث الآتي إنما هو لبيان الجواز فمن جلس فهو في سعة ومن قام فله أجر، وكذا قال ابن حزم: أن قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب، ولا يجوز أن يكون نسخاً. قال النووي: والمختار أنه مستحب، وبه قال المتولي، وصاحب المهذب من الشافعية، وممن ذهب إلى استحباب القيام ابن عمر وأبومسعود وقيس بن سعد وسهل بن حنيف، كما يدل على ذلك الروايات المذكورة في الباب. (أي باب ما جاء في القيام للجنازة إذا مرت من كتاب المنتقى) . وقال أبوحنيفة ومالك والشافعي: أن القيام منسوخ بحديث علي الآتي، قال الشافعي: إما أن يكون القيام منسوخاً أو يكون لعلة، وأيهما كان فقد ثبت أنه تركه بعد فعله، والحجة في الآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد دل كلام الشوكاني على أن الإمام أحمد ذهب إلى استحباب القيام للجنازة. وقال عياض: ذهب أحمد إلى التوسعة والتخيير، ويؤيده ما حكاه الترمذي عن أحمد أنه قال: إن شاء قام وإن شاء قعد. وقال ابن قدامة: إذا مرت به جنازة لم يستحب له القيام لها لقول علي: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد. قال أحمد: إن قام لم أعبه وإن قعد فلا بأس، وذكر ابن أبي موسى والقاضي: أن القيام مستحب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالقيام. قال ابن قدامة: وقد ذكرنا أن آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك القيام بها، والأخذ بالآخر من أمره أولى-انتهى. وسيأتي بيان ما هو الراجح في ذلك في شرح حديث علي الآتي. (فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع) يحتمل أن المراد حتى توضع على الأرض أو توضع في اللحد، وقد روي عن أبي هريرة باللفظين إلا أنه أشار البخاري إلى ترجيح رواية حتى توضع بالأرض بقوله: باب من تبع جنازة فلا يقعد حتى توضع عن مناكب الرجال. وصرح أبوداود بترجيحها حيث قال بعد رواية حديث أبي سعيد من طريق سهيل بن أبي صالح بلفظ: إذا تبعتم الجنازة فلا تجلسوا حتى توضع، وروى الثوري هذا الحديث عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال فيه: حتى توضع بالأرض، ورواه أبومعاوية عن سهيل قال: حتى توضع في اللحد، وسفيان أحفظ من أبي معاوية-انتهى. وكذا قال الأثرم. قال الحافظ: ورواه جرير عن سهيل أي عن أبي صالح عن أبي سعيد فقال: حتى توضع حسب، وزاد قال سهيل ورأيت أبا صالح لا يجلس حتى توضع عن مناكب الرجال. أخرجه أبونعيم في المستخرج بهذه الزيادة والبيهقي (ج4ص26) وهو في مسلم بدونها. قال الحافظ: ورجح رواية: حتى توضع بالأرض عند البخاري بفعل أبي صالح لأنه راوي الخبر، وهو أعرف بالمراد منه، ورواية أبي معاوية مرجوحة، كما قال أبوداود-انتهى. قلت: المختار عند القائلين باستحباب قيام التابع قبل الوضع هو أن المراد بالوضع وضعها بالأرض. وفي المحيط للحنفية: الأفضل أن لا يجلسوا حتى يسووا عليه التراب، وحجته رواية أبي معاوية. وفي البدائع والخانية والعناية وغيرها خلافه، حيث صرحوا بأنه لا بأس بالجلوس بعد الوضع بالأرض. والحديث
يفيد النهي عن جلوس المشيع أي الماشي مع الجنازة قبل أن توضع على الأرض. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعض السلف إلى أنه يجب القيام حتى توضع، واحتج له برواية سعيد عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع. أخرجه النسائي. قال الشوكاني: ولا يخفى أن مجرد الفعل لا ينتهض دليلاً للوجوب، فالأولى الاستدلال له بحديث أبي سعيد فإن فيه النهي عن القعود قبل وضعها، وهو حقيقة للتحريم وترك الحرام واجب، ومثل ذلك حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعاً: من صلى على جنازة ولم يمش معها فليقم حتى تغيب عنه، فإن مشى معها فلا يقعد حتى توضع-انتهى. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسين: يستحب له أن لا يجلس حتى توضع عن أعناق الرجال، حكى عنهم ذلك النووي، والحافظ في الفتح، ونقله ابن المنذر عن أكثر الصحابة والتابعين، وحكى في الفتح عن الشعبي والنخعي: أنه يكره القعود قبل أن توضع، وهو مذهب الحنفية والحنابلة، كما في كتب فروعهم. واختلف الشافعية في ذلك فقال بعضهم: قيام المشيع قبل وضع الجنازة بالأرض منسوخ كالقيام لمن مرت به، وهو الذي حكاه ابن قدامة عن الشافعي، وقال بعضهم كقول الجمهور: أنه يستحب له أن لا يقعد حتى توضع، واستدل للنسخ بما سيأتي من حديث عبادة بن الصامت. (عند الترمذي وأبي داود وابن ماجه والبيهقي) (ج4ص28) والبزار والحازمي (ص130) قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اتبع الجنازة لم يقعد حتى توضع في اللحد، فعرض له حبر فقال: هكذا نصنع يا محمد، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا وخالفوهم. وأجيب عنه بأنه حديث ضعيف كما ستعرف، فلا يسوغ الاستدلال به على نسخ السنة الثابتة بالأحاديث الصحيحة. قال الحافظ في الفتح: لو لم يكن إسناده ضعيفاً لكان حجة في النسخ. وقال الحازمي بعد روايته: هذا حديث غريب. ولو صح لكان صريحاً في النسخ، غير أن حديث أبي سعيد أصح وأثبت فلا يقاومه هذا الإسناد-انتهى. على أن هذا الحديث إنما يدل على نسخ القيام قبل الوضع في اللحد لا على نسخ القيام قبل الوضع بالأرض، والمطلوب إثبات هذا لا ذاك. قال القاري في شرح قوله "خالفوهم" فبقي القول بأن التابع لم يقعد حتى توضع عن أعناق الرجال هو الصحيح، مع أن قوله: حتى توضع في اللحد يرده ما في حديث البراء الطويل المتقدم كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد، فجلس فجلسنا حوله. واستدل للنسخ أيضاً بما سيأتي من حديث علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، أخرجه أحمد (ج1ص82) وابن حبان والحازمي (ص121) وأخرجه البيهقي (ج4ص27) بلفظ: ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود. وأجاب عنه الشوكاني بأن هذا الحديث إن صح صلح للنسخ لقوله فيه: وأمرنا بالجلوس، ولكنه لم يخرج هذه الزيادة مسلم ولا الترمذي ولا أبوداود (ولا ابن ماجه ولا أحمد في أكثر رواياته)، بل اقتصروا على قوله: ثم قعد.
متفق عليه.
ــ
(ومجرد الفعل لا يدل على نسخ القول؛ لاحتمال أن قعوده كان لبيان الجواز) قال: واقتصار جمهور المخرجين لحديث علي وحفاظهم على مجرد القعود بدون ذكر زيادة الأمر بالجلوس مما يوجب عدم الاطمينان إليها، والتمسك بها في النسخ لما هو من الصحة في الغاية. وأجاب عنه ابن حزم (ج5 ص154) بأن الأمر فيه للإباحة والتخفيف، قال: كنا نقطع بالنسخ بهذا الخبر، لولا ما روينا من طريق النسائي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة وأبي سعيد قالا جميعاً: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع، قال: فهذا عمله عليه السلام المداوم، وأبوهريرة وأبوسعيد ما فارقاه عليه السلام حتى مات، فصح أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف، وأمره بالقيام وقيامه ندب – انتهى. قلت: والظاهر أن المراد بالقيام المذكور في حديث علي هو القيام للجنازة إذا مرت به، لا قيام التابع والمشيع. وأما رواية الحازمي (ص130) بلفظ: قال علي: قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أول ما قدمنا، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يجلس حتى توضع الجنازة، ثم جلسب بعد وجلسنا معه، فكان يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي كونها صالحة للاستدلال نظر، قال الحازمي: هذا الحديث بهذه الألفاظ غريب أيضاً. قلت: وكذا رواية البيهقي (ج4 ص27) بلفظ: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجنائز حتى توضع وقام الناس معه، ثم قعد بعد ذلك وأمرهم بالقعود، غريب أيضاً. نعم يشكل رواية الترمذي والنسائي والبيهقي (ج4 ص27) بلفظ: عن علي بن أبي طالب أنه ذكر القيام على الجنازة حتى توضع، فقال علي بن أبي طالب: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد، ورواية البيهقي (ج4 ص28) بلفظ: رأى علي الناس قياماً ينتظرون الجنازة أن توضع، فأشار إليهم بدرة معه أو سوط أن اجلسوا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلس بعد ما كان يقوم؛ لأن هاتين الروايتين تدلان على أن المراد القيام مطلقاً، وأن الذي فهمه عليّ رضي الله عنه هو الترك مطلقاً، ولهذا أمر بالقعود من رأى قائماً ينتظر الجنازة أن توضع. ويمكن أن يجاب عن ذلك بأن الذي استند إليه عليّ في الأمر بقعود المنتظرين إنما هو فعله صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن مجرد الفعل لا يدل على النسخ؛ لأنه يحتمل أن قعوده كان لبيان الجواز، وأن النهي في حديث أبي سعيد للتنزيه لا للتحريم، فتأمل. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه الجمهور من أنه يستحب أن لا يجلس التابع والمشيع للجنازة حتى توضع بالأرض. وأن النهي في قوله: فلا يقعد، محمول على التنزيه. والله تعالى أعلم. ويدل على استحباب القيام إلى أن توضع ما رواه البيهقي (ج4 ص27) من طريق أبي حازم قال: مشيت مع أبي هريرة وابن عمر وابن الزبير والحسن بن علي أمام الجنازة حتى انتهينا إلى المقبرة، فقاموا حتى وضعت ثم جلسوا، فقلت لبعضهم، فقال: إن القائم مثل الحامل يعني في الأجر. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج4ص26) .
1663-
(4) وعن جابر، قال:((مرت جنازة، فقام لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقمنا معه، فقلنا: يا رسول الله! إنها يهودية، فقال: إن الموت فزع، فإذا رأيتم الجنازة فقوموا)) . متفق عليه.
ــ
1663-
قوله: (إنها) أي الميتة (يهودية) أو الجنازة جنازة يهودية، وهذا لفظ مسلم، ولفظ البخاري: إنها جنازة يهودي. (إن الموت فزع) بفتحتين. قال القرطبي: معناه أن الموت يفزع منه إشارة إلى استعظامه. ومقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت لما يشعر ذلك من التساهل بأمر الموت، فمن ثم استوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم. وقال غيره: جعل نفس الموت فزعاً مبالغة، كما يقال رجل عدل. قال البيضاوي: هو مصدر جرى مجرى الوصف للمبالغة، أو فيه تقدير الموت ذو فزع-انتهى. ويؤيد الثاني رواية النسائي بلفظ: إن للموت فزعاً. وعن أبي هريرة عند ابن ماجه وعن ابن عباس عند البزار مثله. قال البزار: وفيه تنبيه على أن تلك الحالة ينبغي لمن رآها أن يقلق من أجلها ويضطرب، ولا يظهر منه عدم الاحتفال والمبالاة. (فإذا رأيتم الجنازة فقوموا) أي تعظيماً لهول الموت وفزعه لا تعظيماً للميت، فلا يختص القيام بميت دون ميت. واعلم أنه اختلف الأحاديث في تعليل القيام بجنازة اليهودي أو اليهودية، ففي هذا الحديث التعليل بقوله: إن الموت فزع، وفي حديث سهل بن حنيف وقيس الآتي التعليل بكونها نفساً، وفي حديث أنس عند النسائي والحاكم: إنما قمنا للملائكة، ونحوه لأحمد من حديث أبي موسى، وسيأتي هذان الحديثان في الفصل الثالث، وفي حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد والحاكم والبيهقي: إنما تقومون للذي يقبض النفوس، وأخرجه ابن حبان بلفظ: إعظاماً لله الذي يقبض الأرواح. ولا معارضة في هذه التعليلات، إذ يجوز تعدد الأغراض والعلل، فيكون القيام مطلوباً تعظيما لأمر الموت والملائكة جميعاً وغير ذلك. قال الحافظ: لا منافاة فيها لأن القيام للفزع من الموت فيه تعظيم لأمر الله وتعظيم للقائمين بأمره في ذلك وهم الملائكة. وأما ما أخرجه أحمد من حديث الحسن بن علي: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تأذياً بريح اليهودي. زاد الطبراني من حديث عبد الله بن عياش: فآذاه ريح بخورها. وللنسائي والطبري من وجه آخر عن الحسن: كره أن تعلو رأسه جنازة يهودي، فإن ذلك لا يعارض الأخبار الأولى الصحيحة. أما أولاً فلأن أسانيدها لا تقاوم تلك في الصحة، وأما ثانياً فلأن التعليل بذلك راجع إلى ما فهمه الراوي، والتعليل الماضي صريح من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن الراوي لم يسمع بالتعليل منه فعلل باجتهاده، كذا في الفتح. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. ولفظ البخاري: مر بنا جنازة فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا، فقلنا يا رسول الله! إنها جنازة يهودي، قال:
1664-
(5) وعن علي، قال: ((رأينا رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قام فقمنا، وقعد فقعدنا،
ــ
إذا رأيتم الجنازة فقوموا. قال ميرك: في قوله: متفق عليه، نظر من وجهين أحدهما أن جملة إن الموت فرع من أفراد مسلم عن البخاري، والثاني أن لفظ البخاري: إنها جنازة يهودي-انتهى. والحديث أخرجه أبوداود والنسائي والبيهقي أيضاً.
1664-
قوله: (رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قام) أي لرؤية الجنازة. (فقمنا) أي تبعاً له. (وقعد فقعدنا) وفي رواية لمسلم: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد. قال البيضاوي: يحتمل قول علي: ثم قعد، أي بعد أن جاوزته وبعدت عنه. ويحتمل أن يريد كان يقوم في وقت ثم ترك القيام أصلاً، وعلى هذا يكون فعله الأخير قرينة في أن المراد بالأمر الوارد في ذلك الندب. ويحتمل أن يكون نسخاً للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر. والأول أرجح؛ لأن احتمال المجاز يعني في الأمر أولى من دعوى النسخ-انتهى. وقال الترمذي: معنى قول علي: قام النبي صلى الله عليه وسلم في الجنازة ثم قعد، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوم إذا رأى الجنازة ثم ترك ذلك بعد، فكان لا يقوم إذا رأى الجنازة، قال: وهذا الحديث ناسخ للحديث الأول: إذا رأيتم الجنازة فقوموا-انتهى. وكذا استدل به على النسخ كل من ذهب إلى نسخ القيام للجنازة لمن مرت به. وتعقبه النووي بأن حديث علي هذا ليس صريحاً في النسخ لاحتمال أن القعود فيه لبيان الجواز، فلا يصح دعوى النسخ؛ لأن النسخ إنما يكون إذا تعذر الجمع بين الأحاديث، ولم يتعذر بل هو ممكن، كما تقدم. وقال ابن حزم في المحلى (ج5ص154) : قعوده صلى الله عليه وسلم بعد بأمره بالقيام يدل على أن الأمر للندب. ولا يجوز أن يكون نسخاً؛ لأن النسخ لا يكون إلا بنهي أو بترك معه نهي-انتهى. وأما حديث علي الآتي بلفظ: أمرنا بالقيام في الجنازة، ثم جلس بعد ذلك وأمرنا بالجلوس، فقد تقدم جوابه عن الشوكاني وابن حزم في شرح حديث أبي سعيد. وأما ما رواه أحمد (ج1ص142) والحازمي (ص121) من طريق أبي معمر وهو عبد الله بن سخبرة قال: كنا مع علي فمر به جنازة فقام لها ناس، فقال علي: من أفتاكم هذا؟ فقالوا أبوموسى. قال إنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة، فكان يتشبه بأهل الكتاب، فلما نهي انتهى، لفظ أحمد، ولفظ الحازمي: فلما نسخ ذلك ونهي عنه انتهى. ففيه أنه لا يصلح النسخ ما ثبت بالأحاديث المخرجة في الصحيحين وغيرهما؛ لأن مداره على ليث بن أبي سليم وهو صدوق يهم، قاله البخاري. وقال الحافظ: صدوق اختلط أخيراً، ولم يتميز حديثه فترك-انتهى. ولا يغتر برواية الثوري هذا الحديث عن ليث، فإن رواية الثقات عن الضعفاء الواهمين لا يدل على كون الرواية صالحة للاحتجاج، كما لا يخفى. وقد روى هذا الحديث أحمد بأطول من هذا من طريق ليث في مسند أبي موسى الأشعري (ج4ص413) وفيه فإذا نهي انتهى، فما عاد لها بعد، ورواه النسائي من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أبي معمر قال: كنا عند علي فمرت به جنازة فقاموا
يعني في الجنازة)) . رواه مسلم، وفي رواية مالك، وأبي داود:((قام في الجنازة، ثم قعد بعد)) .
1665-
(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اتبع جنازة مسلم إيماناً واحتساباً، وكان معه حتى يصلي عليها
ــ
لها، فقال علي: ما هذا؟ قالوا أمر أبي موسى، فقال: إنما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجنازة يهودية ولم يعد بعد ذلك-انتهى. وهذا كما ترى، ليس فيه ذكر النسخ والنهي، وهو موافق لرواية مسلم والترمذي وأبي داود وأكثر روايات أحمد، فهو مقدم على رواية ليث، ولأن ابن نجيح اتفق الأئمة على توثيقه. ولعلك عرفت بما ذكرنا أنه لا يصلح شيء مما يذكره الجمهور لنسخ القيام للجنازة. والقول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد أنه مخير، إن قام فلا عيب عليه، وإن قعد فلا بأس به، والله تعالى اعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أحمد (ج1ص83، 131، 138) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج4ص27) . (وفي رواية مالك وأبي داود قام في الجنازة) أي لها. (ثم قعد بعد) هذا لفظ أبي داود. وسياق الموطأ: كان يقوم في الجنائز ثم جلس بعد. قال ميرك: وكأنه اعتراض على صاحب المصابيح، حيث أورد الحديث في الصحاح بلفظ مالك وأبي داود دون مسلم. والجواب من قبل صاحب المصابيح أنه يحتمل أنه اختار لفظ أبي داود؛ لأنه أصرح في النسخ. (على زعمه) من عبارة مسلم كما لا يخفى، وإنما أورده لبيان أن الأمر بالقيام للجنازة المفهوم من الحديث السابق منسوخ، لا لأنه المقصود من الباب، تأمل-انتهى.
1665-
قوله: (من اتبع) بتشديد التاء المثناة الفوقية من الإتباع. قال القاري: وفي نسخة صحيحة: من تبع أي بدون الألف. وكسر الباء. قلت: وقع في أكثر روايات البخاري: اتبع بالتشديد. وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: تبع بغير ألف وكسر الموحدة (جنازة مسلم) يقال: تبع القوم بالكسر يَتْبَعهم بالفتح تَبْعاً وتَبَاعةً إذا مشي خلفهم أو مروا به فمضى معهم، واتَّبَع القوم مثل تبعهم. (إيماناً) أي بالله ورسوله. وقيل أي تصديقاً بأنه حق. وقيل: تصديقاً بما وعد عليه من الأجر. (واحتساباً) أي طلباً للثواب لا مكافاة ومخافة، ونصبهما على العلة أو على أنهما حالان أي مؤمناً ومحتسباً. (وكان معه) أي استمر مع جنازته. (حتى يصلي عليها) بصيغة المعلوم. وضمير الفاعل يرجع إلى من. ويروي بفتح اللام على صيغة المجهول، وقوله: عليها، مفعول ناب عن الفاعل، فعلى الرواية الأولى لا يحصل الموعود به إلا لمن توجد منه الصلاة، وعلى الثانية قد يقال يحصل له ذلك ولو لم يصل. والصواب أنه لا يحصل له القيراطان بالدفن من غير صلاة؛ لأن المراد أن يصلي هو أيضاً جمعاً بين الروايتين وحملاً للمطلق على المقيد. قال الحافظ: رواية فتح اللام محمولة على رواية الكسر، فإن حصول القيراط
ويفرغ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أحد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط))
ــ
متوقف على وجود الصلاة من الذي يحصل له-انتهى. وقال ابن المنير: إن القيراط لا يحصل إلا لمن اتبع وصلى أو اتبع وشيع وحضر الدفن، لا لمن اتبع مثلاً وشيع ثم انصرف بغير صلاة، وذلك لأن الإتباع إنما هو وسيلة لأحد مقصودين إما الصلاة وإما الدفن، فإذا تجردت الوسيلة عن المقصد لم يحصل المترتب على المقصود وإن كان يترجى أن يحصل لذلك، فضل ما يحتسب. (ويفرغ من دفنها) بالبناء للفاعل، ويروى بالبناء للمفعول، والجار والمجرور نائب الفاعل، والفعلان منصوبان بأن مضمرة بعد حتى. (من الأجر) حال من قوله: بقيراطين. قال الطيبي: أي كائناً من الثواب، فمن بيانية تقدمت على المبين. (بقيراطين) مثنى قيراط أي بقسطين ونصيبين عظيمين، والباء تتعلق بيرجع. والقيراط بكسر القاف أصله قراط بتشديد الراء بدليل جمعه على قراريط فأبدل من أحد الرائين ياء، كما في الدينار أصله دنار بدليل جمعه على دنانير. قال الجوهري القيراط نصف دانق والدانق سدس الدرهم، فعلى هذا يكون القيراط جزءاً من اثني عشر جزءاً من الدرهم. وقال صاحب النهاية، القيراط جزء من أجزاء الدينار، وهو نصف عشره في أكثر البلاد. وأهل الشام يجعلونه جزءاً من أربعة وعشرين، وقد يطلق ويراد به بعض الشيء، وذكر القيراط تقريباً للفهم لما كان الإنسان يعرف القيراط ويعمل العمل في مقابلته، فضرب له المثل بما يعلم، ثم لما كان مقدار القيراط المتعارف حقيراً نبه على عظم القيراط الحاصل لمن فعل ذلك فقال:(كل قيراط مثل أحد) بضمتين، قال الحافظ: ذهب الأكثر إلى أن المراد بالقيراط ههنا جزء من أجزاء معلومة عند الله تعالى، وقد قربها النبي صلى الله عليه وسلم للفهم بتمثيله القيراط بأُحد. قال الطيبي: قوله: مثل أُحد، تفسير للمقصود من الكلام لا للفظ القيراط. والمراد منه على الحقيقة أنه يرجع بنصيب كبير من الأجر، وذلك لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله: من الأجر، وبين المقدار منه بقوله: مثل أحد. والحاصل أنه تمثيل واستعارة. والقيراط عبارة عن ثواب معلوم عند الله تعالى عبر عنه ببعض أسماء المقادير، وفسر بجبل عظيم تعظيماً له وهو أحد. وخص التمثيل بأحد لأنه كان قريباً من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته كما ينبغي، ولأنه كان أكثر الجبال إلى النفوس المؤمنة حبًّا؛ لأنه الذي قال في حقه: إنه جبل يحبنا ونحبه. ويجوز أن يكون على حقيقته بأن يجعل الله ذلك العمل يوم القيامة جسماً قدر جبل أحد ويوزن. وفي حديث واثلة عند ابن عدي: كتب له قيراطان أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد، فأفادت هذه الرواية بيان وجه التمثيل بجبل أحد، وأن المراد به زنة الثواب المرتب على ذلك العمل. ووقع في رواية للنسائي: كل واحد منهما أعظم من أحد. وعند مسلم: أصغرهما مثل أحد. ولا مخالفة فيها؛ لأن ذلك يختلف باختلاف أحوال المتبعين. (ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن) أي الجنازة. (فإنه يرجع بقيراط) أي من الأجر. قال النووي: اعلم أن
متفق عليه.
1666-
(7) وعنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى للناس النجاشي
ــ
الصلاة يحصل بها قيراط إذا انفردت، فإن انضم إليها الإتباع حتى الفراغ من الدفن حصل له قيراط ثان، فلمن صلى وحضر الدفن القيراطان، ولمن اقتصر على الصلاة قيراط واحد. ولا يقال: يحصل بالصلاة مع الدفن ثلاثة قراريط كما يتوهمه بعضهم من ظاهر بعض الأحاديث؛ لأن هذا النوع صريحاً، والحديث المطلق والمحتمل محمول عليه. وأما رواية من صلى على جنازة فله قيراط. ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان. فمعناه فله تمام قيراطين بالمجموع، قال وفي الحديث تنبيه على مسألة أخرى، وهي أن القيراط الثاني مقيد بمن اتبعها وكان معها في جميع الطريق حتى تدفن، فلو صلى وذهب إلى القبر وحده ومكث حتى جاءت الجنازة وحضر الدفن لم يحصل له القيراط الثاني-انتهى. وفي الحديث الحث على الصلاة على الميت واتباع جنازته وحضور دفنه. وفيه الحض على الاجتماع لذلك، والتنبيه على عظيم فضل الله، وتكريمه للمسلم في تكثير الثواب لمن يتولى أمره بعد موته. وفيه تقدير الأعمال بنسبة الأوزان إما تقريباً للأفهام، وإما على حقيقته بأن يجعلها أعياناً. قال الحافظ: قد تمسك بقوله: من أتبع من زعم أن المشي خلف الجنازة أفضل ولا حجة فيه؛ لأنه يقال تبعه إذا مشى خلفه وإذا مر به فمشى معه، وكذلك أتبعه بالتشديد وهو افتعل منه فإذا هو مقول بالاشتراك وبين المراد الحديث الآخر المصحح عند ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر بالمشي أمامها. وأما أتبعه بالإسكان فهو بمعنى لحقه إذا كان سبقه ولم تأت به الرواية ههنا-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في كتاب الإيمان والحديث أخرجه أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي أيضاً. وفي الباب عن جماعة من الصحابة ذكرهم الحافظ في الفتح.
1666-
قوله: (نعى للناس النجاشي) أي أخبرهم بموته. في القاموس. نعاه له نعواً ونعياً أخبره بموته. والنجاشي بفتح النون وتخفيف الجيم وبعد الألف شين معجمة ثم ياء ثقيلة كياء النسب. وقيل بالتخفيف ورجحه الصنعاني. وهو لقب لكل من ملك الحبشة. وحكى المطرزي تشديد الجيم عن بعضهم وخطأه، كذا في الفتح. وقال العيني: النجاشي بفتح النون وكسرها، كلمة للحبش تسمى بها ملوكها، والمتأخرون يلقبونه الأبحري. قال ابن قتيبة: هو بالنبطية، ذكره ابن سيدة، وكان اسمه أصحمة، كما في رواية للشيخين، وهو بفتح الهمزة وسكون الصاد وبفتح الحاء المهملتين على وزن أربعة، ووقع في مصنف ابن أبي شيبة صحمة بفتح الصاد وسكون الحاء، ووقع في بعض الروايات أصخمة بخاء معجمة وإثبات الألف. قال الإسماعيلي: وهو غلط. وحكى الكرماني أن في بعض النسخ صحبة بالموحدة بدل الميم. ومعنى أصحمة بالعربية عطية، قاله ابن قتيبة وغيره.
والنجاشي هذا هو الذي هاجر المسلمون إليه، وكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضمرى سنة ست أو سبع من الهجرة في المحرم. فأخذ كتاب النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه على عينيه، ونزل عن سريره فجلس على الأرض تواضعاً، ثم أسلم على يدي جعفر بن أبي طالب وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتوفي في رجب سنة تسع من الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من تبوك، ونعاه النبي صلى الله عليه وسلم يوم توفي، هكذا قال جماعة من أهل السير والتاريخ، منهم الواقدي وابن سعد وابن جرير وآخرون. قال في الخميس نقلاً عن المواهب: وأما النجاشي الذي ولى بعده وكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام فكان كافراً لم يعرف إسلامه ولا اسمه، وقد خلط بعضهم ولم يميز بينهما-انتهى. وقال ابن القيم: ليس الأمر كما قال الواقدي وغيره، فإن أصحمة النجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس هو الذي كتب إليه. (مع عمرو بن أمية) وهو الثاني، ولا يعرف إسلامه بخلاف الأول، فإنه مات مسلماً، وقد روى مسلم في صحيحه من حديث قتادة عن أنس قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي، وليس بالنجاشي الذي صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن حزم: إن هذا النجاشي الذي بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمرى لم يسلم. قال ابن القيم: والظاهر قول ابن حزم-انتهى. وأجاب أهل السير عن حديث أنس بأنه وهم من بعض الرواة، أو أنه عبر ببعض ملوك الحبشة عن الملك الكبير، أو يحمل على أنه لما توفي قام مقامه آخر فكتب إليه أي في سنة تسع، وهذا هو الراجح. وحاصله أنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى النجاشي الذي صلى عليه وإلى النجاشي الذي تولى بعده على يد عمرو بن أمية أو غيره، فيكون هذه الكتابة متأخرة عن الكتابة لأصحمة الرجل الصالح الذي آمن به صلى الله عليه وسلم، وأكرم أصحابه، وصلى هو عليه، فلا مخالفة بين رواية أهل السير ورواية مسلم، فتأمل. وفي الحديث دليل على جواز النعي أي الإعلام بالموت، وقد بوب عليه البخاري "باب الرجل ينعى إلى أهل الميت بنفسه". قال الحافظ: فائدة هذه الترجمة الإشارة إلى أن النعي ليس ممنوعاً كله، وإنما نهي عما كان أهل الجاهلية يصنعونه، فكانوا يرسلون من يعلن بخبر موت الميت على أبواب الدور والأسواق، ثم ذكر عن ابن سيرين أنه قال: لا أعلم بأساً أن يؤذن الرجل صديقه وحميمه، قال: وحاصله أن محض الإعلام بذلك لا يكره، فإن زاد على ذلك فلا، وقد كان بعض السلف يشدد في ذلك، حتى كان حذيفة إذا مات له الميت يقول: لا تؤذنوا أحداً، إني أخاف أن يكون نعياً، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني هاتين ينهى عن النعي، أخرجه الترمذي وابن ماجه بإسناد حسن. قال ابن العربي: يؤخذ من مجموع الأحاديث ثلاث حالات: الأولى إعلام الأهل والأصحاب وأهل الصلاح، فهذا سنة، الثانية دعوة الحفل للمفاخرة، فهذه تكره، الثالثة الإعلام بنوع آخر كالنياحة ونحو ذلك. فهذا يحرم.
اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى،
ــ
(اليوم) ظرف نعي أي في اليوم. (الذي مات فيه) وهو في رجب سنة تسع من الهجرة منصرفه من تبوك كما تقدم وذلك معجزة عظيمة منه صلى الله عليه وسلم حيث أعلمهم بموته في اليوم الذي توفي فيه مع بُعد عظيم ما بين المدينة والحبشة. (وخرج بهم إلى المصلى) وفي رواية ابن ماجه: فخرج وأصحابه إلى البقيع. قال الحافظ: والمراد بالبقيع بقيع بطحان، أو يكون المراد بالمصلي موضعاً معداً للجنائز ببقيع الغرقد غير مصلى العيدين، والأول أظهر، وقال في شرح حديث ابن عمر في رجم اليهوديين بلفظ "فأمر بهما فرجماً قريباً من موضع الجنائز عند المسجد". حكى ابن بطال عن ابن حبيب أن مصلى الجنائز بالمدينة كان لاصقاً بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم من ناحية جهة المشرق-انتهى. فإن ثبت ما قال، وإلا فيحتمل أن يكون المراد بالمسجد هنا المصلي المتخذ للعيدين والاستسقاء؛ لأنه لم يكن عند المسجد النبوي مكان يتهيأ فيه الرجم، وسيأتي في قصة ماعز "فرجمناه بالمصلي"-انتهى. وقد تمسك بهذا الحديث من قال بكراهة صلاة الجنازة في المسجد، سواء كان القوم والميت في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد، والقوم كلهم أو بعضهم في المسجد، وهذا لأنه صلى الله عليه وسلم خرج بأصحابه إلى المصلي فصف بهم وصلى عليه، ولو ساغ أن يصلي عليه في المسجد لما خرج بهم، والقول بالكراهة للحنفية والمالكية. واستدل لهم أيضاً ما رواه أبوداود وابن ماجه من حديث أبي هريرة مرفوعاً: من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له. وأجيب بأنه ليس فيه نهي عن الصلاة في المسجد. ويحتمل أن يكون خرج بهم إلى المصلي لغير المعنى الذي ذكروه، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل بن بيضاء في المسجد، فكيف يترك هذا الصريح لأمر محتمل، بل الظاهر أنه إنما خرج بالمسلمين إلى المصلي لقصد تكثير الجمع الذين يصلون عليه، ولتعظيم شأنه، ولإشاعة كونه مات على الإسلام، فقد كان بعض الناس لم يدر بكونه أسلم، كما روى ابن أبي حاتم في التفسير، والدارقطني في الأفراد، والبزار من حديث أنس. وأما حديث أبي هريرة فأجيب عنه بوجوه، منها أنه ضعيف ضعفه أحمد بن حنبل وابن حبان وابن عدي والبيهقي والخطابي وابن المنذر والنووي وغيرهم. قلت: في سنده صالح بن نبهان مولى التوأمة، وقد تفرد به وهو صدوق، اختلط بآخره، ورواه عنه ابن أبي ذئب، واختلفوا في أنه سمع هذا الحديث من صالح قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن معين: سمع منه ابن أبي ذئب قبل أن يخرف. وقال ابن المديني: سماع ابن أبي ذئب منه قبل الخرف. وقال الجوزجاني: تغير أخيراً، فحديث ابن أبي ذئب عنه مقبول لسنه وسماعه القديم. وقال ابن عدي: لا بأس به إذا روى عنه القدماء مثل ابن أبي ذئب وابن جريج. ويعارض هذا كله ما روى الترمذي عن البخاري عن أحمد بن حنبل قال: سمع ابن أبي ذئب من صالح أخيراً، وروى عنه منكراً، حكاه ابن القطان عن الترمذي. وما نقل الزيلعي عن ابن عدي أنه عد هذا
الحديث من منكرات صالح، والظاهر أن ابن أبي ذئب سمع منه قبل الاختلاط وبعده، ولم يدر أنه أخذ هذا الحديث منه قبل الاختلاط أو بعده. قال ابن حبان: اختلط حديثه الأخير بحديثه القديم ولم يتميز فاستحق الترك-انتهى. وعلى هذا لا يكون هذا الحديث صالحاً للاحتجاج، ومنها ما قال النووي: إن الذي في النسخ المشهورة المحققة المسموعة من سنن أبي داود "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء عليه" فلا حجة لهم حينئذٍ. ومنها ما قاله النووي أيضا: إنه لو ثبت الحديث بلفظ "فلا شيء له" لوجب تأويله بأن له بمعنى عليه ليجمع بين الروايتين، ولئلا يخالف قوله فعله في الصلاة على ابني بيضاء في المسجد، ومنها أن معنى قوله: فلا شيء له، أي فلا أجر له، كما في رواية، والروايات يفسر بعضها بعضاً، والمراد فلا أجر له كاملاً. قال القاري: الأظهر أن يحمل على نفي الكمال كما في نظائره، والدليل عليه ما في مسلم عن عائشة: والله لقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد سهيل وأخيه. وقال الخطابي: ثبت أن أبا بكر وعمر صلى عليهما في المسجد، ومعلوم أن عامة المهاجرين والأنصار شهدوا الصلاة عليهما، وفي تركهم الإنكار دليل الجواز-انتهى. قلت: وكذا يحمل على نفي الكمال رواية ابن ماجه: فليس له شيء. قال السندي: ظاهره أن المعنى فليس له أجر، كما في رواية، وسلب الأجر من الفعل الموضوع للأجر يقتضي عدم الصحة، ولذا جاء في رواية ابن أبي شيبة في مصنفه: فلا صلاة له، لكن يشكل بأن الصلاة صحيحة إجماعاً، فيحمل على أنه ليس له أجر كامل، ويمكن أن يقال: معنى فلا شيء فلا أجر له لأجل كونه صلى في المسجد، فالحديث لبيان أن صلاة الجنازة في المسجد ليس لها أجر لأجل كونها في المسجد كما في المكتوبات، فأجر أصل الصلاة باق، وإنما الحديث لإفادة سلب الأجر بواسطة ما يتوهم من أنها في المسجد، فيكون الحديث مفيداً لإباحة الصلاة في المسجد من غير أن يكون لها بذلك فضيلة زائدة على كونها خارجها، وينبغي أن يتعين هذا الاحتمال دفعاً للتعارض وتوفيقاً بين الأدلة بحسب الإمكان، وعلى هذا فالقول بكراهة الصلاة في لمسجد مشكل، نعم ينبغي أن يكون الأفضل خارج المسجد بناء على الغالب أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي خارج المسجد، وفعله في المسجد كان مرة أو مرتين-انتهى كلام السندي. وأما ما قال بعض الحنفية: إن العمل استقر على ترك الصلاة عليها في المسجد؛ لأن الناس قد أنكروا وعابوا على عائشة وغيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم صلاتهن على جنازة سعد بن أبي وقاص في المسجد النبوي، وكان هؤلاء المنكرون من الصحابة فمردود بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها، فدل على أنها حفظت ما نسوه، وقد روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره أن عمر صلى على أبي بكر في المسجد، وأن صهيباً صلى على عمر في المسجد، زاد في رواية ووضعت الجنازة في المسجد تجاه المنبر. قال الحافظ: وهذا يقتضى الإجماع على جواز ذلك-انتهى.
فصف بهم، وكبر أربع تكبيرات.
ــ
وقال ابن قدامة: كان هذا بمحضر من الصحابة فلم ينكر فكان إجماعاً-انتهى. وأما دعوى الطحاوي والعيني ومن تبعهما أن الجواز كان أولاً ثم بحديث أبي هريرة، أو أنه كان لعذر وضرورة مثل المطر أو الاعتكاف فمردودة، وكل ما ذكروه لإثبات النسخ فمما لا طائل تحته. قال البيهقي: لو كان عند أبي هريرة نسخ حديث عائشة لذكره يوم صلى على أبي بكر الصديق في المسجد ويوم صلى على عمر بن الخطاب في المسجد، ولذكره من أنكر على عائشة أمرها بإدخاله المسجد، أو ذكره أبوهريرة حين روت فيه الخبر، وإنما أنكره من لم يكن له معرفة بالجواز، فلما روت فيه الخبر سكتوا ولم ينكروه ولا عارضوه بغيره-انتهى. والحق أنه يجوز الصلاة على الجنائز في المسجد من غير كراهة، والأفضل الصلاة عليها خارج المسجد؛ لأن أكثر صلاته صلى الله عليه وسلم على الجنائز كان في المصلى. ولبعض أفاضل بلدة بنارس من أهل الحديث رسالتان لطيفتان في هذه المسألة، قد بسط في الثانية القول في الجواب عن حديث أبي هريرة بما لا مزيد عليه. (فصف بهم) لازم، والباء بمعنى مع، أي صف معهم، أو متعد والباء زائدة للتوكيد أي صفهم، قاله الزرقاني. وفيه دليل على أن من سنة هذه الصلاة الصف كسائر الصلوات، ويتقدمهم إمامهم، ففي رواية من حديث جابر: فصفوا خلفه. وفي أخرى: فصفنا وراءه. وفي أخرى: فقمنا فصفنا صفين. وفي أخرى: قال جابر كنت في الصف الثاني. وفي كل هذا رد على من استحب أن يكون المصلون على الجنازة سطراً واحداً، نقله ابن العربي عن مالك. (وكبر أربع تكبيرات) فيه دليل على أن المشروع في تكبير الجنازة أربع، وسيأتي الكلام في ذلك. وفي هذه القصة دليل على مشروعية الصلاة على الميت الغائب في بلد آخر، وفيه أقوال: الأول تشرع مطلقاً، سواء كان الميت في جهة القبلة أو لم تكن، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم تكن، وسواء كان بأرض لم يصل عليه فيها أو كان بأرض صلى عليه فيها، وبه قال الشافعي وأحمد وجمهور السلف حتى قال ابن حزم لم يأت عن أحد من الصحابة منعه. والثاني منعه مطلقاً وهو للحنفية والمالكية. والثالث يجوز في اليوم الذي مات فيه الميت أو ما قرب منه لا إذا طالت المدة، حكاه ابن عبد البر، والرابع يجوز ذلك إذا كان الميت في جهة القبلة، فلو كان بلد الميت مستدبر القبلة مثلاً لم يجز، قال به ابن حبان، وحجته حجة الذي قبله الجمود على قصة النجاشي. والخامس أنه يصلي على الغائب إذا كان بأرض لا يصلي عليه فيها كالنجاشي، فإنه مات بأرض لم يسلم أهلها واختاره ابن تيمية، ونقله الحافظ في الفتح عن الخطابي وإنه استحسنه الروياني من الشافعية. قال الحافظ: وهو محتمل إلا أنني لم أقف في شيء من الأخبار أنه لم يصل عليه في بلده أحد. وتعقبه الزرقاني بأن هذا مشترك الإلزام، فلم يرد في شيء من الأخبار
أنه صلى عليه أحد في بلده كما جزم به أبوداود، ومحله في اتساع الحفظ معلوم-انتهى. قال في عون المعبود: نعم ما ورد فيه شيء نفياً ولا إثباتاً، لكن من المعلوم أن النجاشي أسلم شاع إسلامه ووصل إليه جماعة من المسلمين مرة بعد مرة وكرة بعد كرة، فيبعد كل البعد أنه ما صلى عليه أحد في بلده. وقال ابن قدامة في المغني (ج2ص513) إن هذا بعيد؛ لأن النجاشي ملك الحبشة وقد أسلم وأظهر إسلامه، فيبعد أن يكون لم يوافقه أحد يصلي عليه-انتهى. واستدل بعضهم لما قال الخطابي وغيره بما روى الطيالسي وأحمد وابن ماجه والطبراني والضياء من حديث حذيفة بن أسيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج بهم، فقال: صلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم، قالوا: من هو؟ قال النجاشي، ولا حجة فيه لهم، بل فيه حجة عليهم، فإنه ليس فيه أنه لم يصل عليه أحد في بلده. والمراد بأرضكم أرض المدينة كان النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن النجاشي إن مات في أرضكم المدينة لصليتم عليه كما تصلون على من تشهدون جنازته. لكنه مات في غير أرضكم، فصلوا عليه صلاة الغائب، فهذا تشريع منه وسنة للأمة الصلاة على كل غائب. واعتذر من منع من صلاة الجنازة على الغائب مطلقاً عن هذه القصة بأن ذلك خاص بالنجاشي؛ لأنه كشف له صلى الله عليه وسلم ورفع الحجب عنه، حتى رآه كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته، فصلى عليه وهو يرأه صلاته على الحاضر المشاهد وإن كان على مسافة من البعد، فتكون صلاته كصلاة الإمام على ميت رآه ولم يره المأمومون، ولا خلاف في جوازها، واستندوا لذلك إلى ما ذكر الواقدي في أسبابه عن ابن عباس قال: كشف للنبي صلى الله عليه وسلم عن سرير النجاشي حتى رآه وصلى عليه، ولابن حبان من حديث عمران بن حصين: فقام وصفوا خلفه وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، ولأبي عوانة: فصلينا خلفه ونحن لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا، قالوا ويدل على الخصوصية أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب غيره، وقد مات من الصحابة خلق كثير وهم غايبون عنه وسمع بهم، فلم يصل عليهم إلا غائباً واحداً، ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره أو رفع له الحجاب حتى رآه، وهو معاوية بن معاوية المزني كما روى الطبراني وابن مندة والبيهقي وابن سعد وغيرهم من حديث أنس، والطبراني وأبوأحمد والحاكم من حديث أبي أمامة. وأجيب عن ذلك بأن الأصل عدم الخصوصية، ولو فتح باب هذا الخصوص؛ لأنسد كثير من أحكام الشرع. قال الخطابي: زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مخصوصاً بهذا الفعل فاسد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فعل شيئاً من أفعال الشريعة كان علينا إتباعه والإيتساء به، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل، ومما يبين ذلك أنه صلى الله عليه وسلم خرج بالناس إلى الصلاة فصف بهم وصلوا معه، فعلم أن هذا التأويل فاسد. وقال ابن قدامة: نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم ما لم يثبت ما يقتضي اختصاصه، ولأن الميت مع البعد لا تجوز الصلاة عليه
متفق عليه.
1667-
(8) وعن عبد الرحمن بن أبي ليلي، قال: كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا وإنه
كبر على جنازة، خمسا، فسألناه فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها.
ــ
وإن رئي. ثم لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم لاختصت الصلاة به. وقد صف النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم-انتهى. وأما الاستناد للتخصيص إلى ما ذكروه من حديث ابن عباس وحديث عمران بن حصين فليس بشيء، فإن حديث ابن عباس ذكره الواقدي في أسبابه بغير إسناد، كما قال الحافظ في الفتح فلا يلتفت إليه. وأما حديث عمران بن حصين المذكور بلفظ: وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه، وبلفظ: لا نرى إلا أن الجنازة قدامنا فلأن المراد به أنهم صلوا عليه كما يصلون على الميت الحاضر من غير فرق. ويدل عليه حديث عمران نفسه عند الترمذي وغيره بلفظ: فقمنا فصففنا كما يصف على الميت وصلينا عليه كما يصلي على الميت. ويؤيده أيضاً حديث مجمع عند الطبراني بلفظ: فصففنا خلفه صفين وما نرى شيئاً-انتهى. قال ابن العربي المالكي: قال المالكية ليس ذلك إلا لمحمد، قلنا: وما عمل به محمد تعمل به أمته يعني؛ لأن الأصل عدم الخصوصية، قالوا: طويت له الأرض وأحضرت الجنازة بين يديه، قلنا إن ربنا عليه لقادر، وإن نبينا لأهل ذلك، ولكن لا تقولوا إلا ما رويتم، ولا تخترعوا حديثاً من عند أنفسكم ولا تحدثوا إلا بالثابتات ودعوا الضعاف، فإنها سبيل تلاف إلى ما ليس له تلاف. وأما ما قالوا لإثبات الخصوصية من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على غائب غيره إلا غائباً واحداً، وهو معاوية بن معاوية المزني. ففيه أنه يكفي لثبوت مشروعية أمر واستحبابه ورود حديث صحيح قولي أو فعلي أو تقريري، ولا يلزم لذلك كون ذلك الأمر مروياً عن جماعة من الصحابة في وقائع متعددة، وإلا لارتفع كثير من الأحكام الشرعية التي معمول بها عند جماعة من الأئمة، كيف وقد صرح الحنفية بمشروعية صلاة الاستسقاء وجوازها جماعة مع زعمهم أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل للاستسقاء إلا مرة واحدة، هذا وقد بسط الكلام في هذه المسألة في عون المعبود، فعليك أن تراجعه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.
1667-
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها) أي الخمس أحياناً. وقد استدل به من قال: إن تكبيرات الجنازة خمس، واختلف السلف في ذلك، فحكي الخمس عن حذيفة كما سيأتي، وزيد بن أرقم كما في حديث الباب، وابن مسعود كما في الفتح والمحلى، وعيسى مولى حذيفة كما عند سعيد بن منصور، وأصحاب معاذ بن جبل كما في المحلى والمغني، وأهل الشام من الصحابة والتابعين كما في المحلى، وأبي يوسف من أصحاب أبي حنيفة،
كما في المبسوط، وهو مذهب الظاهرية. واستدل لهذا القول أيضاً بما روى ابن ماجه من طريق كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر خمساً، وكثير فيه كلام كثير إلا أن الترمذي صحح له غير حديث، والراوي عنه إبراهيم بن علي الرافعي ضعفه البخاري وابن حبان ورماه بعضهم بالكذب، وبما روى أحمد والطحاوي من طريق يحيى بن عبد الله الجابر عن عيسى مولى حذيفة عن حذيفة أنه صلى على جنازة فكبر خمساً، وفيه أنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وحكي عن بعض السلف ما يدل على أن الزيادة على الأربع تخصيص بأهل الفضل، فروى سعيد بن منصور وغيره عن علي أنه كبر على سهل بن حنيف ستاً، وقال: إنه بدري. وروى الطحاوي وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي عن عبد خير قال: كان علي يكبر على أهل بدر ستاً وعلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وعلى سائر المسلمين أربعاً. وروى البيهقي عن علي أنه صلى على أبي قتادة فكبر عليه سبعاً، وقال: إنه كان بدرياً، وحكى عن بعضهم التخيير والإقتداء بالإمام في عدد التكبير، فروى ابن المنذر عن ابن مسعود أنه قال: التكبير تسع وسبع وخمس وأربع، وكبر ما كبر الإمام، وروى ابن حزم عنه أنه قال: كبروا عليها ما كبر أئمتكم لا وقت ولا عدد، وحكى عن بعضهم أن التكبيرات ثلاث، روى ذلك عن ابن عباس وأنس كما في الفتح والمحلى، وعن محمد بن سيرين وجابر بن يزيد أبي الشعثاء كما في المحلى أيضاً. وذهب الجمهور من السلف والخلف منهم الأئمة الثلاثة إلى أنها أربع لا أقل ولا أكثر. قال ابن قدامة في المغني (ج2ص516) : أكثر أهل العلم يرون التكبير أربعاً، منهم عمر وابنه وزيد بن ثابت وجابر وابن أبي أوفى والحسن بن علي والبراء بن عازب وأبوهريرة وعقبة بن عامر ومحمد بن الحنفية وعطاء والأوزاعي، وهو قول مالك وأبي حنيفة والثوري والشافعي-انتهى. واستدل الجمهور لما ذهبوا إليه بما روي عن جماعة من الصحابة تكبيره صلى الله عليه وسلم أربعاً، فمنهم أبوهريرة وجابر أخرج حديثهما الشيخان في قصة الصلاة على النجاشي، ومنهم عثمان بن عفان أخرج حديثه ابن ماجه، وفيه خالد بن إلياس واتفقوا على تضعيفه، ومنهم ابن عباس عند الشيخين، وابن أبي أوفى عند أحمد وابن ماجه والطحاوي والبيهقي، ويزيد بن ثابت عند أحمد وابن ماجه والبيهقي أيضاً، وسهل بن حنيف عند الطحاوي والبيهقي، وأبوسعيد عند البزار والطبراني، وفيه عبد الرحمن بن مالك بن مغول وهو متروك، وأنس عند أبي يعلى، وفيه محمد بن عبيد الله العزرمي وهو متروك، وأبي بن كعب عند الطبراني والبيهقي، وجابر عند أحمد والطبراني والبيهقي، وعامر بن ربيعة عند الطبراني، وفيه القاسم بن عبد الله العمري وهو متروك، وأبوقتادة عند الطحاوي. قال الجمهور: إن ما فوق الأربع من التكبيرات منسوخ بحديث أبي هريرة في قصة النجاشي؛ لأن إسلام أبي هريرة متأخر، وموت النجاشي كان بعد إسلام أبي هريرة بمدة. وفيه ما قال ابن الهمام: إن هذا
مسلم لو علم التاريخ في أحاديث من أثبت أنه صلى الله عليه وسلم كبر خمساً أو غير ذلك. واستدلوا للنسخ أيضاً بما روي أنه صلى الله عليه وسلم كبر أربعاً في آخر صلاة صلاها، روي ذلك من حديث ابن عباس عند البيهقي والدارقطني والطبراني وأبي نعيم وابن حبان في الضعفاء، ومن حديث عمر عند الدارقطني والحازمي، ومن حديث ابن عمر عند الحارث بن أبي أسامة، ومن حديث أنس عند الحازمي. وأجيب عن ذلك بأن طرق هذه الأحاديث ضعيفة واهية كما بسطها الزيلعي. وقال الحازمي: قد روي آخر صلاته كبر أربعاً من عدة روايات كلها ضعيفة. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس من طريق النضر بن عبد الرحمن: قد روي هذا من وجوه أخر كلها ضعيفة-انتهى. وروى ابن عبد البر في الاستذكار بسنده عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنائز أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً فثمانياً، حتى جاءه موت النجاشي فخرج إلى المصلى فصف الناس وراءه وكبر عليه أربعاً، ثم ثبت النبي صلى الله عليه وسلم على أربع حتى توفاه الله عزوجل، ذكره الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص والدراية، ولم يتكلما عليه، فإن ثبت وصح هذا كان حجة على أن آخر الأمر كان أربعاً، لكن لا يكون رافعاً للنزع؛ لأن اقتصاره على الأربع لا ينفي مشروعية الخمس بعد ثبوتها عنه، وغاية ما فيه جواز الأمرين، قاله الشوكاني. ورجح الجمهور ما ذهبوا إليه بمرجحات: الأول أن الأربع ثبتت من طريق جماعة من الصحابة أكثر عدداً ممن روى عنهم الخمس كما تقدم، الثاني أنها في الصحيحين، الثالث أنه أجمع على العمل بها الصحابة، فروى البيهقي من طريق علي بن الجعد ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب يقول: إن عمر قال: كل ذلك قد كان أربعاً وخمساً، فاجتمعنا على أربع، ورواه ابن المنذر من وجه آخر عن شعبة، وروى البيهقي أيضاً عن أبي وائل قال: كانوا يكبرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعاً وخمساً وستاً وسبعاً، فجمع عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبر كل رجل منهم بما رأى، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات، ومن طريق إبراهيم النخعي اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي مسعود، فأجمعوا على أن التكبير على الجنازة أربع. واستدل بعضهم بإجماع الصحابة على الأربع على نسخ ما فوق الأربع. قال الطحاوي بعد رواية أثر إبراهيم النخعي بسنده: فهذا عمر قد رد الأمر في ذلك إلى أربع تكبيرات بمشورة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهم حضروا من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه حذيفة وزيد بن أرقم، فكأن ما فعلو من ذلك عندهم هو أولى مما قد كانوا علموا، فذلك نسخ لما قد كانوا علموا؛ لأنهم مأمونون على ما قد فعلوا كما كانوا مأمونين على ما رووا-انتهى. وقال البيهقي بعد رواية حديث ابن عباس في كون الأربع آخر أمره: قد روي هذا اللفظ من وجوه أخرى كلها ضعيفة، إلا أن اجتماع أكثر الصحابة على الأربع كالدليل على ذلك. وأجيب عن الأول من هذه المرجحات والثاني بأنه إنما يرجح بهما عند التعارض. ولا تعارض
رواه مسلم.
1668-
(9) وعن طلحة بن عبد الله بن عوف، قال: ((صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب، فقال:
ــ
بين الأربع والخمس، لأن الخمس مشتملة على زيادة غير معارضة، وعن الثالث بأن في ثبوت إجماع الصحابة على الأربع نظراً، حيث ثبت أن زيد بن أرقم كبر بعد عمر خمساً، وكذا ثبت الزيادة على الأربع عن علي وعن الصحابة بالشام، وثبت النقص عن الأربع عن أنس وابن عباس، وثبت التوسعة وعدم التوقيت عن ابن مسعود كما تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن هؤلاء الصحابة ما علموا بالنسخ، فكانوا يعملون بما عليه الأمر أولاً. وذهب أحمد إلى مشروعية الأربع، وقال: إذا كبر الإمام خمساً تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها. قال ابن قدامة (ج2ص514) : لا يختلف المذهب أنه لا يجوز الزيادة على سبع تكبيرات ولا أنقص من أربع، والأولى أربع لا يزاد عليها، واختلفت الرواية فيما بين ذلك. فظاهر كلام الخرقي أن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم ولا يتابعه في زيادة عليها، ورواه الأثرم عن أحمد. وروى حرب عن أحمد إذا كبر خمساً لا يكبر معه ولا يسلم إلا مع الإمام، قال الخلال: وكل من روى عن أبي عبد الله يخالفه، وممن لم ير متابعة الإمام في زيادة على أربع الثوري ومالك وأبوحنيفة والشافعي، واختارها ابن عقيل. قال ابن قدامة: ولنا ما روي عن زيد بن أرقم، فذكر حديث الباب وحديث حذيفة وأثر علي وغيره، ثم قال: ومعلوم أن المصلين مع زيد بن أرقم كانوا يتابعونه-انتهى. وفي المسألة أقوال أخرى. والراجح عندي أنه لا ينبغي أن يزاد على أربع؛ لأن فيه خروجاً من الخلاف، ولأن ذلك هو الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم، لكن الإمام إذا كبر خمساً تابعه المأموم؛ لأن ثبوت الخمس لا مرد له من حيث الرواية والعمل، وثبوت نسخ الزيادة على الأربع أو إجماع الصحابة على الأربع منظور فيه كما تقدم. ولا يجوز النقصان من الأربع؛ لأنه لم يرو شيء في النقص من أربع مرفوعاً، والله تعالى أعلم. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص367، 372) والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي والحازمي.
1668-
قوله: (وعن طلحة بن عبد الله بن عوف) الزهري المدني القاضي ابن أخي عبد الرحمن بن عوف، يلقب طلحة الندى، ثقة مكثر فقيه من أوساط التابعين، روى عن عمه عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وعثمان بن عفان وغيرهم، وعنه الزهري وسعد بن إبراهيم وغيرهما، مات سنة (97) وهو ابن (72) سنة. (صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ فاتحة الكتاب فقال) أي إنما قرأت الفاتحة أو رفعت بها صوتي كما في رواية.
لتعلموا أنها سنة)) .
ــ
(لتعلموا أنها) أي قرأة الفاتحة على الجنازة. (سنة) وفي رواية للنسائي: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وللحاكم من طريق ابن عجلان: أنه سمع سعيد بن أبي سعيد يقول: صلى ابن عباس على جنازة فجهر بالحمد لله، ثم قال إنما جهرت لتعلمون أنها سنة. والمراد بالسنة: الطريقة المألوفة عنه صلى الله عليه وسلم لا ما يقابل الفريضة، فإنه اصطلاح عرفي حادث. قال الأشرف: الضمير المؤنث لقراءة الفاتحة، وليس المراد بالسنة أنها ليست بواجبة بل ما يقابل البدعة، أي أنها طريقة مروية. وقال القسطلاني: إنها أي قراءة الفاتحة في الجنازة سنة. أي طريقة للشارع، فلا ينافي كونها واجبة. وقد علم أن قول الصحابي: من السنة كذا، حديث مرفوع عند الأكثر. قال الشافعي في الأم: وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يقولون: السنة إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شاء الله تعالى-انتهى. وليس في حديث الباب بيان محل القراءة، وقد وقع التصريح به في حديث جابر بلفظ: وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، أخرجه الشافعي في الأم، ومن طريقه الحاكم (ج1ص358) ، ومن طريق الحاكم البيهقي في سننه (ج4ص39) وسنده ضعيف، وفي حديث أبي أمامة عند النسائي بإسناد على شرط الشيخين بلفظ: قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. وفي رواية عزاها الحافظ في الفتح لعبد الرزاق والنسائي من حديث أي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يخلص الدعاء للميت، ولا يقرأ إلا في الأولى. قال الحافظ: إسناده صحيح. والحديث دليل على مشروعية قراءة فاتحة الكتاب في صلاة الجنازة. وقد حكى ابن المنذر ذلك عن ابن مسعود والحسن بن علي وابن الزبير والمسور بن مخرمة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، ونقل ابن المنذر أيضاً عن أبي هريرة وابن عمر أنه ليس فيها قراءة، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأصحابه وسائر الكوفيين، كذا في النيل. قلت: وممن كان يقرأ أيضاً من الصحابة أبوهريرة وأبوالدرداء وأنس بن مالك وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومن التابعين سعيد بن المسيب والحسن البصري ومجاهد والزهري، كما في المحلى. قال ابن التركماني: ومذهب الحنفية أن القراءة في صلاة الجنازة لا تجب ولا تكره، ذكره القدورى في التجريد-انتهى. ويكره القراءة عند المالكية إلا أن يقصد الخروج من الخلاف. قال الدسوقي: إن قصد بقراءة الفاتحة الخروج من خلاف الشافعي فلا كراهة، لكن لا بد من الدعاء قبلها أو بعدها-انتهى. واستدل مالك بعمل أهل المدينة، إذ قال: قراءة فاتحة الكتاب فيها ليست بمعمول بها في بلدنا بحال. وفيه أن عمل أهل المدينة ليس بحجة شرعية، وإنما الحجة هو قول الله وقول رسوله، على أنه قد روي عن أبي أمامة وسعيد وابن المسيب وغيرهم من علماء المدينة القراءة في الصلاة على الجنازة، وبما روى هو
عن نافع أن عبد الله بن عمر كان لا يقرأ في الصلاة على الجنازة. وفيه أنه معارض بعمل غيره من الصحابة. ويمكن أن يكون المراد لا يقرأ أي شيئاً من القرآن إلا فاتحة الكتاب، وأيضاً هو نفي يقدم عليه الإثبات، وأيضاً قول الصحابي لا يكون حجة بالاتفاق إذا نفاه السنة، وبأن صلاة الجنازة مشابهة للطواف في أنها لا ركوع فيها ولا سجود فلا تفتقر للقراءة. وفيه أنه قياس في مقابلة النص، على أنه قد أطلق عليها لفظ الصلاة فيكون لها حكم الصلاة في القراءة وغيرها إلا ما خص، وأيضاً اتفقوا على أنها تفتقر إلى التكبير والقيام والنية والتسليم واستقبال القبلة والطهارة، فشبهها بالصلاة أبين وأقوى منه بالطواف. واستدل الحنفية كما في البدائع وغيره بما روى أحمد عن ابن مسعود قال: لم يوقت لنا في الصلاة على الميت قراءة ولا قول. وفيه أنه إنما قال: لم يوقت أي لم يقدر، ولا يدل هذا على نفي أصل القراءة، وقد روي عنه أنه قرأ على جنازة بفاتحة الكتاب، ثم إنه لا يعارض ما روي من الأحاديث المرفوعة في القراءة؛ لأنه نفي فيقدم عليه الإثبات، وبأنها لما لم تقرأ بعد التكبيرة الثانية دل على أنها لا تقرأ فيما قبلها؛ لأن كل تكبيرة قائمة مقام ركعة، ولما لم يتشهد في آخرها دل على أنه لا قراءة فيهما، ذكره الطحاوي. وفيه أن هذا الاستدلال ليس بشيء؛ لأنه قياس في مقابلة النص فلا يلتفت إليه، وبأنها شرعت للدعاء، ومقدمة الدعاء الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لا القراءة. وفيه ما تقدم آنفاً أنه تعليل في مقابلة النص فهو مردود، على أن فاتحة الكتاب مشتملة على الحمد والثناء، فينبغي أن يكون افتتاح صلاة الجنازة بالفاتحة أولى وأحسن، فلا وجه لإنكارها والمنع عنها. وقوله لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب يتناول بإطلاقه صلاة الجنازة، فيكون لها في القراءة حكم الصلوات الأخر إلا ما خص منها. وأجاب الحنفية عن حديث ابن عباس وما في معناه بأن قراءة الفاتحة في الصلاة على الميت كانت بنية الدعاء والثناء لا بنية القراءة والتلاوة. قال الطحاوي: من قرأها من الصحابة يحتمل أن يكون على وجه الدعاء لا التلاوة. وفيه أن هذا ادعاء محض لا دليل عليه، واحتمال ناشيء من غير دليل، فلا يلتفت إليه. والحق والصواب أن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة واجبة، كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وإسحاق وغيرهم؛ لأنهم أجمعوا على أنها صلاة، وقد ثبت حديث لا صلاة، إلا بفاتحة الكتاب، فهي داخلة تحت العموم، وإخراجها منه يحتاج إلى دليل، ولأنها صلاة يجب فيها القيام فوجبت فيها القراءة كسائر الصلوات، ولأنه ورد الأمر بقراءتها صريحاً، فقد روى ابن ماجه بإسناد فيه ضعف يسير عن أم شريك قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب، وروى الطبراني في الكبير من حديث أم عفيف قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ على ميتنا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه عبد المنعم أبوسعيد وهو ضعيف-انتهى. والأمر من أدلة الوجوب. وروى الطبراني في
الكبير أيضاً من حديث أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا صليتم على الجنازة فاقرؤا بفاتحة الكتاب. قال الهيثمي: وفيه معلى بن حمران ولم أجد من ذكره، وبقية رجاله موثقون وفي بعضهم كلام، هذا وقد صنف حسن الشرنبلالي من متأخري الحنفية في هذه المسألة رسالة سماها "النظم المستطاب لحكم القراءة في صلاة الجنازة بأم الكتاب"، وحقق فيها أن القراءة أولى من ترك القراءة، ولا دليل على الكراهة، وهو الذي اختاره الشيخ عبد الحي اللكنوي في تصانيفه كعمدة الرعاية والتعليق الممجد وإمام الكلام، ثم إنه استدل بحديث ابن عباس على الجهر بالقراءة في الصلاة على الجنازة؛ لأنه يدل على أنه جهر بها حتى سمع ذلك من صلى معه. وأصرح من ذلك ما ذكرنا من رواية النسائي بلفظ: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة وجهر حتى أسمعنا، فلما فرغ أخذت بيده فسألته، فقال: سنة وحق. وفي رواية أخرى له أيضا: صليت خلف ابن عباس على جنازة فسمعته يقرأ فاتحة الكتاب الخ. ويدل على الجهر بالدعاء حديث عوف بن مالك الآتي، فإن الظاهر أنه حفظ الدعاء المذكور لما جهر به النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة على الجنازة. وأصرح منه حديث واثلة في الفصل الثاني. واختلف العلماء في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه يستحب الجهر بالقراءة والدعاء فيها. واستدلوا بالروايات التي ذكرناها آنفاً. وذهب الجمهور إلى أنه لا يندب الجهر بل يندب الإسرار. قال ابن قدامة: ويسر القراءة والدعاء في صلاة الجنازة، لا نعلم بين أهل العلم فيه خلافاً-انتهى. واستدلوا لذلك بما ذكرنا من حديث أبي أمامة قال: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة الأولى بأم القرآن مخافتة. الحديث أخرجه النسائي، ومن طريقه ابن حزم في المحلى (ج5ص129) . قال النووي في شرح المهذب: رواه النسائي بإسناد على شرط الصحيحين، وقال: أبوأمامة هذا صحابي-انتهى. وبما روى الشافعي في الأم (ج1ص239)، والبيهقي (ج4ص39 من طريقه) عن مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري قال: أخبرني أبوأمامة بن سهل أنه أخبره رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام، ثم يقرأ بفاتحة الكتاب بعد التكبيرة الأولى سراً في نفسه-الحديث. وضعفت هذه الرواية بمطرف، لكن قواها البيهقي بما رواه في المعرفة والسنن من طريق عبيد الله بن أبي زياد الرصافي عن الزهري بمعنى رواية مطرف، وبما روى الحاكم (ج1ص359)، والبيهقي من طريقه (ج4ص42) عن شرحبيل بن سعد قال: حضرت عبد الله بن عباس صلى على جنازة بالأبواء فكبر ثم قرأ بأم القرآن رافعاً صوته بها، صلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: اللهم عبدك وابن عبدك-الحديث. وفي آخره ثم انصرف، فقال: يا أيها الناس إني لم أقرأ علناً (أي جهراً) إلا لتعلموا أنها سنة. قال الحافظ في الفتح: وشرحبيل مختلف في توثيقه-انتهى. وأخرج ابن الجارود في المنتقى من طريق زيد بن طلحة التيمي قال: سمعت ابن عباس قرأ على جنازة فاتحة الكتاب وسورة وجهر بالقراءة، وقال: إنما جهرت
رواه البخاري.
1669-
(10) وعن عوف بن مالك، قال: ((صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه، واعف عنه،
ــ
لأعلمكم أنها سنة. وذهب بعضهم إلى أنه يخير بين الجهر والإسرار. وقال بعضهم أصحاب الشافعي: إنه يجهر بالليل كالليلية ويسر بالنهار. قال شيخنا في شرح الترمذي قول ابن عباس: إنما جهرت لتعلموا أنها سنة، يدل على أن جهره كان للتعليم أي لا لبيان أن الجهر بالقراءة سنة، قال: وأما قول بعض أصحاب الشافعي: يجهر بالليل كالليلية فلم أقف على رواية تدل على هذا-انتهى. وهذا يدل على أن الشيخ مال إلى قول الجمهور أن الإسرار بالقراءة مندوب، هذا ورواية ابن عباس عند النسائي بلفظ: فقرأ بفاتحة الكتاب وسورة، تدل على مشروعية قراءة سورة مع الفاتحة في الجنازة. قال الشوكاني: لا محيص عن المصير إلى ذلك؛ لأنها زيادة خارجة من مخرج صحيح. قلت: ويدل عليه أيضاً ما ذكره ابن حزم في المحلى (ج5ص129) معلقاً عن محمد بن عمرو بن عطاء أن المسور بن مخرمة صلى على الجنازة، فقرأ في التكبيرة الأولى بفاتحة الكتاب وسورة قصيرة رفع بهما صوته فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه الصلاة عجماء ولكن أردت أن أعلمكم أن فيها قراءة. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي وأبوداود والنسائي والشافعي وابن حبان والحاكم والبيهقي وابن الجارود.
1669-
قوله: (فحفظت من دعائه وهو يقول) وفي رواية لمسلم: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وصلى على جنازة يقول. وفي رواية النسائي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على ميت فسمعت في دعائه وهو يقول. قال الشوكاني: جميع ذلك يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالدعاء، وهو خلاف ما صرح به جماعة من استحباب الإسرار بالدعاء وقد قيل إن جهره صلى الله عليه وسلم بالدعاء لقصد تعليمهم، قال: والظاهر أن الجهر والإسرار بالدعاء جائزان-انتهى. وتأول النووي قوله حفظت من دعائه أي علمنيه بعد الصلاة فحفظته-انتهى. ويرد هذا التأويل قوله في رواية أخرى: سمعته صلى على جنازة يقول. قال الشوكاني: ليس في هذا الحديث تعيين الموضع الذي يقال فيه هذا الدعاء وغيره من الأدعية المأثورة فيقوله المصلي على الجنازة بعد أي تكبيرة أراد-انتهى. وإلى مشروعية الدعاء بعد كل تكبيرة ذهب المالكية وعند الحنابلة والشافعية والحنفية الدعاء بعد التكبيرة الثالثة. (اللهم اغفر له) بمحو السيئات. (وارحمه) بقبول الطاعات. وقال ابن حجر: تأكيد أو أعم. (وعافه) أمر من المعافاة، والهاء ضمير. وقيل: للسكت، والمعنى خلصه من المكروهات. وقال الطيبي: أي سلمه من العذاب والبلايا. (واعف عنه) أي عما وقع منه من التقصيرات. وقال ابن حجر: عافه أي سلمه من كل موذ واعف عنه تأكيداً وأخص أي سلمه من خطر
وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه،
ــ
الذنوب. (وأكرم نزله) بضمتين وقد يسكن الزاي أي أحسن نصيبه من الجنة، وهو في الأصل قرى الضيف يعني ما يعد ويقدم للضيف من طعام وشراب، والمراد هنا الأجر والثواب والرحمة والمغفرة. (ووسع) بكسر السين المشددة. (مدخله) بفتح الميم أي موضع دخوله الذي يدخل فيه، وهو قبره. قال ميرك: بفتح الميم، كذا في المسموع من أفواه المشائخ، والمضبوط في أصل سماعنا، وضبط الشيخ الجزري في مفتاح الحصن: بضم الميم، وكلاهما صحيح بحسب المعنى-انتهى؛ لأن معناه مكان الدخول أو الإدخال، وإنما اختار الشيخ الضم؛ لأن الجمهور من القراء قرؤا بالضم في قوله تعالى:{وندخلكم مدخلاً كريماً} [النساء: 31] وانفرد الإمام نافع بالفتح، والضم أيضاً بحسب المعنى أنسب؛ لأن دخوله ليس بنفسه بل بإدخال غيره. (واغسله) بهمزة وصل أي اغسل ذنوبه. (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين وهو حب الغمام، أي طهره من الذنوب والمعاصي أنواع الرحمة، كما أن هذه الأشياء أنواع المطهرات من الوسخ والدنس، فالغرض منه تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية والغفلة. (ونقه) بتشديد القاف المكسورة أمر من التقنية بمعنى التطهير، والهاء ضمير للميت أو للسكت. (من الخطايا كما نقيت) وفي رواية لمسلم: ينقى. (الثوب الأبيض من الدنس) بفتحتين، الوسخ تشبيه للمعقول بالمحسوس، وهو تأكيد لما قبله أراد به المبالغة في التطهير من الخطايا والذنوب. (وأبدله) أمر من الإبدال أي عوضه. (داراً) أي من القصور أو من سعة القبور. (خيراً من داره) أي في الدنيا الفانية. (وأهلاً خيراً من أهله) يشمل الزوجة والخدم. (وزوجاً خيراً من زوجه) هذا من عطف الخاص على العام. وقيل المراد بالأهل الخدم خاصة. قال القاري:(زوجاً) أي زوجة من الحور العين، أو من نساء الدنيا في الجنة. (خيراً من زوجة) أي من الحور العين، ونساء الدنيا أيضاً، فلا يشكل أن نساء الدنيا يكن في الجنة أفضل من الحور لصلاتهن وصيامهن، كما ورد في الحديث. وأما قول ابن حجر:"وخيراً" ليست على بابها من كونها أفعل تفضيل، إذ لا خيرية في الدنيا بالنسبة للآخرة، فليس على بابه إذ الكلام في النسبة الحقيقية لا في النسبة الإضافية. قال تعالى:{والآخرة خير وأبقى} [الأعلى:17] وقال: {والآخرة خير لمن اتقى} [النساء:77]-انتهى. قال السيوطي: قال طائفة من الفقهاء هذا خاص بالرجل، ولا يقال في الصلاة على المرأة: أبدلها زوجاً خيراً من زوجها، لجواز أن تكون لزوجها في الجنة، فإن المرأة لا يمكن الاشتراك فيها والرجل يقبل ذلك، كذا ذكر السندي في حاشية النسائي. وقال الشامي: المراد بالإبدال في الأهل والزوجة إبدال الأوصاف لا الذوات لقوله: {ألحقنا بهم ذريتهم} [الطور:21]
وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار)) . وفي رواية:((وقه فتنة القبر وعذاب النار، قال: حتى تمنيت أنا أكون ذلك الميت)) . رواه مسلم.
1670-
(11) وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن، ((أن عائشة لما توفي سعد بن أبي وقاص قالت: ادخلوا به المسجد حتى أصلي عليه،
ــ
ولخبر الطبراني وغيره: أن نساء الجنة من نساء الدنيا أفضل من الحور العين، وفيمن لا زوجة له على تقديرها له أن لو كانت، ولأنه صح الخبر بأن المرأة لآخر أزواجها أي إذا مات، وهي في عصمته. وفي حديث رواه جمع، لكنه ضعيف: المرأة منا ربما يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلان الجنة، لأيهما هي؟ قال: لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا، وتمامه في تحفة ابن حجر المكي-انتهى. (وأدخله الجنة) أي ابتداء. (وأعذه) أمر من الإعاذة أي أجره وخلصه. (وفي رواية وقه) بهاء الضمير أو السكت أمر من وقى يقي أي أحفظه. (فتنة القبر) أي التحير في جواب الملكين المؤدي إلى عذاب القبر. (قال) أي عوف. (أنا) تأكيد للضمير المتصل. (ذلك الميت) بالنصب على الخبرية أي لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً النسائي، وابن ماجه والبيهقي، وابن أبي شيبة، وأخرجه الترمذي مختصراً، ونقل عن البخاري أنه قال: أصح شيء في هذا الباب هذا الحديث.
1670-
قوله: (لما توفي سعد بن أبي وقاص) أي في قصره بالعقبق على عشرة أميال من المدينة سنة (55) على المشهور، وحمل إلى المدينة على أعناق الرجال ليدفن بالبقيع، وذلك في خلافة معاوية وعلى المدينة مروان. (ادخلوا به المسجد) قال الباجي: إنما أمرت بذلك لامتناعها هي وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج مع الناس إلى جنازته لكراهية خروجهن إلى الجنائز. (حتى أصلي عليه) فيه دليل على جواز صلاة النساء على الجنائز. قال الباجي: وهذا الذي يقتضيه مذهب مالك. وقال الشافعي: لا يصلي النساء على الجنائز، والدليل على صحة ذلك أن هذه صلاة يصح أن يفعلها الرجال، فصح أن يفعلها النساء كصلاة الجمعة. وهل يجوز أن يفعلها النساء دون الرجال؟ قال ابن القاسم وأشهب: يجوز ذلك وإن اختلفا في صفتهما-انتهى. وقال ابن قدامة: يصلي النساء جماعة إمامتهن في وسطهن. نص عليه أحمد، وبه قال أبوحنيفة. وقال الشافعي: يصلين مفردات لا يسبق بعضهن بعضاً وإن صلين جماعة جاز، ولنا أنهن من أهل الجماعة فيصلين جماعة كالرجال، وما ذكروه من كونهن منفردات لا يسبق بعضهن بعضاً تحكم لا يصار إليه إلا بنص أو إجماع، وقد صلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن أبي وقاص-انتهى. قلت: ويدل على صلاة النساء مع الرجال جماعة ما رواه الحاكم: أن أبا طلحة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمير
فأنكر ذلك عليها، فقالت: والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء في المسجد: سهيل وأخيه)) .
ــ
ابن أبي طلحة حين توفي فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه في منزلهم فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبوطلحة وراءه وأم سليم وراء أبي طلحة ولم يكن معهم غيرهم. قال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، وسنة غريبة في إباحة صلاة النساء على الجنائز، ووافقه الذهبي. (فأنكر ذلك) أي إدخاله في المسجد. (عليها) أي على عائشة. وفي رواية لمسلم: لما توفي سعد بن أبي وقاص أرسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين عليه. ثم أخرج به من باب الجنائز الذي كان إلى المقاعد، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فبلغ ذلك عائشة فقالت: ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به، عابوا علينا أن يمر بجنازة في المسجد الخ. (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء) لقب للأم، واسمها دعد بفتح الدال وسكون العين المهملتين بنت الجحدم الفهرية. (في المسجد) وفي رواية لمسلم: في جوف المسجد. (سهيل) بالتصغير. (وأخيه) سهل. وقيل: صفوان: واعلم أن المعروفين ببني البيضاء ثلاثة إخوة: سهل وسهيل وصفوان. وأمهم البيضاء اسمها دعد، والبيضاء وصف، وأبوهم وهب بن ربيعة القرشي الفهري. كان سهل ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم. قال أبوحاتم: كان ممن أظهر إسلامه بمكة. وقال ابن عبد البر: أسلم سهل بمكة، وأخفى إسلامه فأخرجته قريش معهم إلى بدر، فأسر يومئذٍ مع المشركين، فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه بمكة يصلي فخلى عنه، ومات بالمدينة، وبها مات أخوه سهيل، وصلى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فيما رواه ابن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن أبي النضر عن أبي سلمة عن عائشة قالت: والله ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء إلا في المسجد سهل وسهيل. وزعم الواقدي أن سهل بن بيضاء مات بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وأما سهيل فكان قديم الإسلام هاجر إلى الحبشة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأقام معه حتى هاجر وهاجر سهيل، فجمع الهجرتين جميعاً، ثم شهد بدراً والمشاهد كلها، ومات بالمدينة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من تبوك سنة تسع، ولا عقب له. وأما صفوان فقد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل يومئذٍ ببدر شهيداً، قتله طعيمة بن عدي فيما قاله ابن إسحاق وموسى بن عقبة وابن سعد وأبوحاتم، وجزم ابن حبان بأنه مات سنة (30)، وقيل: في شهر رمضان سنة (38) وبه جزم الحاكم أبوأحمد تبعاً للواقدي. واختلف في المراد بالأخ المذكور في الحديث، فقيل: سهل جزم به ابن عبد البر، وقيل: صفوان. قال أبونعيم: اسم أخي سهيل صفوان، ووهم من سماه سهلاً، ولم يزد مالك في روايته على سهيل. والحديث يدل على جواز إدخال الميت في المسجد والصلاة عليه
رواه مسلم.
1671-
(12) وعن سمرة بن جندب، قال:((صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة ماتت في نفاسها، فقام وسطها)) .
ــ
فيه، وبه قال الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والجمهور خلافاً لمالك في المشهور عنه وأبي حنيفة. وأجاب بعض من كره ذلك عن الحديث بأن الأمر استقر على ترك ذلك؛ لأن الذين أنكروا على عائشة كانوا من الصحابة، ورد بأن عائشة لما أنكرت ذلك الإنكار سلموا لها. فدل على أنها حفظت ما نسوه وأن الأمر استقر على الجواز، ويدل على ذلك الصلاة على أبي بكر وعمر في المسجد، كما تقدم، قاله الشوكاني. وقال السندي في حاشية النسائي: الحديث ظاهر في الجواز في المسجد، نعم كانت عادته صلى الله عليه وسلم خارج المسجد، فالأقرب أن يقال: الأولى أن تكون خارج المسجد مع الجواز فيه، والله تعالى أعلم-انتهى. وقد تقدم بسط الكلام فيه شرح حديث قصة النجاشي. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد، ومالك، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي، والطحاوي.
1671-
قوله: (صليت وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة) هي أم كعب الأنصارية، كما في مسلم. (ماتت في نفاسها) بكسر النون أي حين ولادتها. وقال القسطلاني:"في" هنا للتعليل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: إن امرأة دخلت النار في هرة، أي ماتت بسبب نفاسها. (فقام) أي وقف للصلاة. (وسطها) أي حذاء وسطها، وهو بسكون السين وفتحها بمعنى فلذا جوز الوجهان، وقد فرق بعضهم بينهما، قاله السندي. وقال الطيبي: الوسط بالسكون يقال فيما كان متفرق الأجزاء كالناس والدواب وغير ذلك، وما كان متصل الأجزاء والرأس فهو بالفتح. وقيل: كل منهما يقع موقع الآخر، وكأنه أشبه. وقال صاحب المغرب: الوسط بالفتح كالمركز للدائرة، وبالسكون داخل الدائرة، وقيل: كل ما يصلح فيه بين فبالفتح وما لا فبالسكون-انتهى. وقال القسطلاني: من سكن السين جعله ظرفاً، ومن فتح جعله اسماً، والمراد على الوجهين عجيزتها، وكون هذه المرأة في نفاسها وصف غير معتبر، وإنما هو حكاية أمر واقع، وأما كونها امرأة فالظاهر أنه معتبر، كما يدل عليه حديث أنس الآتي في آخر الفصل الثاني، والحديث فيه دليل على أن السنة أن يقوم الإمام، وكذا المنفرد في صلاة الجنازة حذاء وسط المرأة، أي عند عجيزتها. قال الأمير اليماني: وهذا مندوب، وأما الواجب فإنما هو استقبال جزء من الميت رجلاً أو امرأة. واختلف العلماء في حكم الاستقبال في حق الرجل والمرأة، فقال أبوحنيفة في المشهور عنه: إنهما سواء، فيقوم الإمام بحذاء صدرها. وقال مالك: يقوم حذاء الرأس منهما، ونقل عنه أن يقوم من الرجل عند وسطه
متفق عليه.
1672-
(13) وعن ابن عباس ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبر دفن ليلاً،
ــ
ومن المرأة عند منكبيها. وقال أحمد كما في المغني والخطابي: يقوم من المرأة حذاء وسطها ومن الرجل حذاء صدره. وحكى الترمذي عن أحمد: أنه ذهب إلى أنه يقوم من المرأة عند وسطها ومن الرجل عند رأسه، كما هو مقتضى حديث أنس آخر حديث الفصل الثاني، وهو مذهب الشافعي وإسحاق وأبي يوسف، وهو الحق لما يدل عليه حديث سمرة وحديث أنس الآتي، وهو رواية عن أبي حنيفة. قال في الهداية: وعن أبي حنيفة أنه يقوم من الرجل بحذاء رأسه ومن المرأة بحذاء وسطها؛ لأن أنساً فعل ذلك وقال: هو السنة-انتهى. ورجح الطحاوي قول أبي حنيفة هذا على قوله المشهور حيث قال في شرح الآثار: قال أبوجعفر: القول الأول أحب إلينا لما قد شده الآثار التي روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقال بعضهم: يقوم حذاء رأس الرجل وثدي المرأة، واستدل بفعل علي، وقال بعضهم: يستقبل صدر المرأة وبينه وبين السرة من الرجل. قال الشوكاني بعد ذكر هذه الأقوال: وقد عرفت أن الأدلة دلت على ما ذهب إليه الشافعي، وأن ما عداه لا مستند له من المرفوع إلا مجرد الخطأ في الاستدلال، أو التعويل على محض الرأي، أو ترجيح ما فعله الصحابي على ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم لا ينتهض مجرد الفعل دليلاً للوجوب، ولكن النزاع فيما هو الأولى والأحسن، ولا أحسن من الكيفية التي فعلها المصطفى صلى الله عليه وسلم انتهى كلام الشوكاني. قلت: وأجاب الحنفية عن حديث أنس وسمرة: بأنه لا ينافي كون الصدر وسطاً، بل الصدر وسط البدن باعتبار توسط الأعضاء، إذ فوقه يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه، أو يأوّل فيقال: يحتمل أنه وقف بحذاء صدر كل واحد منهما إلا أنه مال في أحد الموضعين إلى الرأس وفي الآخر إلى العجز أي العورة، فظن الراوي أنه فرق بين الأمرين لتقارب المحلين، كذا قال ابن الهمام في شرح الهداية، والكاساني في البدائع: ولا أدري أي شيء ألجأهم إلى هذا التأويل، وتكلف الجواب والتمحل، مع أنه لم يرد حديث مرفوع صحيح أو ضعيف يوافق مذهبهم بأن يدل على عدم الفرق بين الرجل والمرأة والقيام بحذاء صدرهما، بل ورد ما يخالفهم، ولذلك قال شيخنا في شرح الترمذي بعد ذكر كلام ابن الهمام: هذا مما لا يلتفت إليه بعد ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم حذاء رأس الرجل وحذاء عجيزة-انتهى. (متفق عليه) وأخرجه أحمد، والترمذي، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي.
1672-
قوله: (مر بقبر دفن) بضم الدال وكسر الفاء. (ليلاً) نصب على الظرفية أي دفن صاحبه فيه ليلاً، فهو من قبيل ذكر المحل وإرادة الحال. قيل: اسم صاحب القبر طلحة بن البراء بن عمير البلوى، حليف الأنصار،
فقال: متى دفن هذا؟ قالوا: البارحة، قال: أفلا آذنتموني؟ قالوا: دفناه في ظلمة الليل فكرهنا أن نوقظك، فقام فصففنا خلفه، فصلى عليه)) .
ــ
روى قصته أبوداود والبيهقي مختصراً من حديث حصين بن وحوح، وقد تقدم. (متى دفن) بصيغة المجهول. (هذا) الميت. (البارحة) أي دفن الليلة الماضية. (أفلا آذنتموني) بمد الهمزة أي أدفنتموه فلا أعلمتموني بموته حين مات. (فكرهنا أن نوقظك) أي ننبهك من النوم. (فصففنا) بفائين. (فصلى عليه) أي على قبره صبيحة دفنه، وفيه جواز الدفن بالليل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك ولم ينكره، بل أنكر عليهم عدم إعلامهم بأمره. ويدل عليه أيضاً حديث ابن عباس عند الترمذي: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل قبراً ليلاً فأسرج له سراج فأخذه من قبل القبلة-الحديث. وحديث جابر عند أبي داود والحاكم قال: رأى ناس ناراً في المقبرة فأتوها، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبر، وإذا هو يقول: ناولوني صاحبكم-الحديث. وحديث أبي ذر عند ابن أبي شيبة قال: كان رجل يطوف بالبيت يقول: أوه أوه، قال أبوذر: فخرجت ذات ليلة فإذا النبي صلى الله عليه وسلم في المقابر يدفن ذلك الرجل ومعه مصباح، ذكره العيني. وحديث أبي أمامة بن سهل عند مالك والبيهقي وابن عبد البر في دفن المسكينة ليلاً. وحديث أبي سعيد عند ابن ماجه وغير ذلك من الأحاديث: وقد دفن النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً، كما رواه أحمد عن عائشة. ودفن أبوبكر وعمر ليلاً، ودفن علي فاطمة ليلاً، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد في الأصح المشهور عنه، وأبوحنيفة وإسحاق والجمهور، وكرهه قتادة والحسن البصري وسعيد بن المسيب وأحمد في رواية. وقال ابن حزم: لا يجوز أن يدفن أحد ليلاً إلا عن ضرورة، وكل من دفن ليلاً منه صلى الله عليه وسلم ومن أزواجه وأصحابه فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك من خوف زحام أو خوف الحر على من حضر، وحر المدينة شديداً، وخوف تغير أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلاً، لا يحل لأحد أن يظن بهم خلاف ذلك. واستدل هؤلاء بحديث جابر عند أحمد ومسلم وأبي داود: إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوماً فذكر رجلاً من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل وقبر ليلاً فزجر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبر الرجل ليلاً حتى يصلى عليه، إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه، وأجاب الجمهور عنه بأن النهي ليس لأجل كراهة الدفن ليلاً، بل لأنهم كانوا يفعلون ذلك بالليل لرداءة الكفن وإساءته، كما يدل عليه أول الحديث وآخره. وقال الطحاوي: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الدفن ليلاً أن يصلي على جميع المسلمين؛ لما يكون لهم في ذلك من الفضل، يعني فيحتسب تأخير دفنه إلى الصباح إن رجي بتأخيره صلاة من ترجي بركته. وقيل: يحتمل أن يكون نهى عن ذلك أولاً ثم رخص. وقيل: المنهي عنه الدفن قبل الصلاة، وتعقب بأن الدفن قبل الصلاة منهي عنه مطلقاً سواء كان بالليل أو بالنهار. والظاهر أن النهي
عن الدفن بالليل ولو بعد الصلاة، ففي رواية ابن ماجه من حديث جابر مرفوعاً: لا تدفنوا موتاكم بالليل إلا أن تضطروا. وفي الحديث أيضاً دليل على صحة الصلاة على القبر بعد دفن الميت سواء صلى عليه قبل الدفن أم لا. وبه قال أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، روي ذلك عن أبي موسى وابن عمر وعائشة وعلى وابن مسعود وأنس وسعيد بن المسيب وقتادة، وإليه ذهب الأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وابن وهب وداود وسائر أصحاب الحديث، ويدل لهم أيضاً أحاديث من بين صحاح وحسان وردت في الباب عن جماعة من الصحابة، أشار إليها الحافظ في التلخيص (ص162)، وساق أكثرها بأسانيدها ابن عبد البر في التمهيد. وقال النخعي والثوري ومالك وأبوحنيفة: لا تعاد الصلاة على الميت إلا للولي إذا كان غائباً، ولا يصلى على القبر إلا كذلك، وعنهم إن دفن قبل أن يصلى عليه شرع الصلاة عليه وإلا فلا، وأحاديث الباب ترد عليهم مطلقاً، وقد اعتذر عنها مالك بأنه ليس عمل أهل المدينة عليها، ولا يخفى ما فيه، وأجاب غيره بأن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم، واحتجوا لهذا بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة عند مسلم: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وأن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم. قالوا: صلاته صلى الله عليه وسلم كانت لتنوير القبر، وذا لا يوجد في صلاة غيره، فلا يكون الصلاة على القبر مشروعاً. وأجاب ابن حبان عن ذلك بأن في ترك إنكاره صلى الله عليه وسلم على من صلى معه على القبر بيان جواز ذلك لغيره، وأنه ليس من خصائصه. وتعقب بأن الذي يقع بالتبعية لا ينتهض دليلاً للأصالة. ومن جملة ما أجاب به الجمهور عن قوله: إن هذه القبور مملوءة ظلمة الخ أنه مدرج، كما سيأتي. قلت: واستدل بعضهم للخصوصية بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث يزيد بن ثابت عند أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي: إن صلاتي له رحمة. قال السندي: قد أخذ منه الخصوص من ادعى ذلك، وهذه دلالة غير قوية. وقال الشوكاني: إن الاختصاص لا يثبت إلا بدليل، ومجرد كون الله ينور القبور بصلاته صلى الله عليه وسلم على أهلها لا ينفي مشروعية الصلاة على القبر لغيره، لا سيما بعد قوله صلى الله عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي. وقال ابن حزم: ليس في الكلام المذكور دليل على أنه خصوص له، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته صلى الله عليه وسلم وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهي غيره عن الصلاة على القبر أصلاً، بل قد قال الله تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [الأحزاب: 21] انتهى. قال الشوكاني: وهذا باعتبار من كان قد صلى عليه قبل الدفن، وأما من لم يصل عليه ففرض الصلاة عليه الثابت بالأدلة وإجماع الأمة باقٍ، وجعل الدفن مسقطاً لهذا الفرض محتاج إلى دليل-انتهى. هذا واختلف في المدة التي تشرع فيها الصلاة على القبر، فقال أحمد وإسحاق وأصحاب الشافعي: إلى شهر. قال أحمد: أكثر ما سمعنا أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر أم سعد بن عبادة بعد شهر. وقيل: يصلي عليه ما لم يبل
متفق عليه
1673-
(14) وعن أبي هريرة: ((أن امرأة سوداء كانت تقم المسجد، أو شاب، ففقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عنها، أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره،
ــ
جسده. وقال أبوحنيفة: يصلي عليه الولي إلى ثلاث ولا يصلي عليه غيره بحال. وقيل: يصلي عليه أبداً، واختاره ابن عقيل من الحنابلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على شهداء أحد بعد ثمان سنين، ولأن المراد من الصلاة عليه الدعاء، وهو جائز في كل وقت. قال الأمير اليماني: وهو الحق إذ لا دليل على التحديد بمدة-انتهى. ومال شيخنا إلى ترجيح قول أحمد، ومن وافقه، فقال: الظاهر الاقتصار على المدة التي تثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما القياس على مطلق الدعاء وتجويزه في كل وقت ففيه نظر، كما لا يخفى-انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري بألفاظ هذا أحدها، أورده في باب صفوف الصبيان مع الرجال على الجنائز، وأخرجه أيضاً ابن ماجه، وأخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، والدارقطني، والبيهقي مختصراً.
1673-
قوله: (أن امرأة سوداء) سماها البيهقي في روايته من حديث ابن بريدة عن أبيه: أم محجن. (كانت تقم المسجد) بضم القاف وتشديد الميم أي تكنسه وتطهره من القمامة أي الكناسة. وفي بعض الطرق: كانت تلقط الخرق والعيدان من المسجد. (أو شاب) أي كان يقم ورفعه على أنه عطف على محل اسم أن. وفي صحيح مسلم: أو شاباً أي بالنصب منوناً عطفاً على امرأة، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج7ص154) . وقد رواه ابن خزيمة من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة. فقال: امرأة سوداء من غير شك، وبه جزم أبوالشيخ في كتاب الصلاة، له بسند مرسل. قال القسطلاني: فالشك هنا من ثابت على الراجح، وسماها في رواية البيهقي: أم محجن. (ففقدها) أو ففقده أي لم يرها حاضرة في المسجد. (فسأل) أي النبي صلى الله عليه وسلم الناس. (عنها أو عنه) على الشك. (فقالوا) أي بعضهم، وفي حديث بريدة المتقدم: أن الذي باشر جواب النبي صلى الله عليه وسلم منهم هو أبوبكر الصديق رضي الله عنه. (مات) أو ماتت. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (أفلا كنتم آذنتموني) أي أخبرتموني بموته أو بموتها لأصلي عليه أو عليها. (قال) أي أبوهريرة حكاية عما وقع منهم في جواب قوله: أفلا الخ. (فكأنهم) أي المخاطبين (صغروا) أي حقروا. (أمرها أو أمره) أي وعظموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكليفه للصلاة عليه، ولابن خزيمة: قالوا مات من الليل فكرهنا أن نوقظك، وكذا في
فقال: دلوني على قبره، فدلوه فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم)) . متفق عليه. ولفظه مسلم.
1674-
(15) وعن كريب مولى ابن عباس، عن عبد الله بن عباس: ((أنه مات له ابن بقديد أو بعسفان، فقال: يا كريب! انظر ما اجتمع له من الناس،
ــ
حديث بريدة، ووقع في رواية للبخاري: فحقروا شأنه. قال القسطلاني: لا ينافي ما سبق من التعليل بأنهم كرهوا أن يوقظوه عليه الصلاة والسلام في الظلمة خوف المشقة، إذ لا تنافي بين التعليلين. (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم:(دلوني) بضم الدال أمر من الدلالة. (على قبره) أو قبرها. (فدلوه) بفتح الدال وضم اللام المشددة. (فصلى عليها) أو عليه، يعني على قبرها. فيه رد على الحنفية والمالكية حيث منعوا الصلاة على القبر. (إن هذه القبور) قال ابن الملك المشار إليها القبور التي يمكن أن يصلي عليها النبي صلى الله عليه وسلم. (ظلمة) بالنصب على التمييز. (على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم) قال الطيبي: وهو كأسلوب الحكيم، أي ليس النظر في الصلاة على الميت إلى حقارته ورفعة شأنه، بل هي بمنزلة الشفاعة، يعني فلا تختص بميت دون ميت. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه والبيهقي كلهم من رواية حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة. (ولفظه لمسلم) أخرجه من طريق أبي كامل الجحدري عن حماد بن زيد. اعلم أن جملة "إن هذه القبور" إلى آخر الحديث من أفراد مسلم وليس للبخاري. قال الحافظ: إنما لم يخرج البخاري هذه الزيادة؛ لأنها مدرجة في هذا الإسناد، وهي من مراسيل ثابت، بيّن ذلك غير واحد من أصحاب حماد بن زيد، وقد أوضحت ذلك بدلائله في كتاب بيان المدرج. قال البيهقي: الذي يغلب على القلب أن تكون هذه الزيادة في غير رواية أبي رافع عن أبي هريرة، فإما أن تكون عن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة، كما رواه أحمد بن عبدة ومن تابعه، أو عن ثابت عن أنس، كما رواه خالد بن خداش، وقد رواه غير حماد عن ثابت عن أبي رافع فلم يذكرها-انتهى. قال الحافظ: ووقع في مسند أبي داود الطيالسي عن حماد بن زيد وأبي عامر الخزاز كلاهما عن ثابت بهذه الزيادة، وفي الحديث فضل تنظيف المسجد، والسؤال عن الخادم والصديق إذا غاب، وفيه المكافأة بالدعاء والترغيب في شهود جنائز أهل الخير وندب الصلاة على الميت الحضر عند قبره لمن يصل عليه والإعلام بالموت.
1674-
قوله: (وعن كريب) بالتصغير) بالتصغير. (أنه مات له) أي لعبد الله. (بقديد) بالتصغير موضع قريب بعسفان. (أو بعسفان) بضم العين شك من الراوي. (ما اجتمع له) ما موصولة بينها. (من الناس) ويمكن أن يكون
قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له، فأخبرته، فقال: تقول هم أربعون؟ قال: نعم، قال: أخرجوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه)) . رواه مسلم
1675-
(16) وعن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ما من ميت تصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة، كلهم يشفعون له، إلا شفعوا فيه)) .
ــ
ما بمعنى من. (فأخبرته) أي بهم أو باجتماعهم. (فقال) أي ابن عباس. (تقول) بالخطاب أي تظن. وفي رواية أحمد قال: يقول أي قال كريب يقول لي ابن عباس. (هم أربعون قال) أي كريب. (نعم) وظاهر الكلام أن يقول "قلت" ففيه تجريد، وذكره الجزري في جامع الأصول (ج7ص161) بلفظ: قال: قلت: نعم. وفي رواية ابن ماجه فقال: ويحك كم تراهم أربعين؟ قلت: لا بل هم أكثر. (قال) أي ابن عباس. (أخرجوه) أي الميت. (فيقوم) أي للصلاة. (على جنازته أربعون رجلاً) أي فيصلون عليه ويدعون له. (لا يشركون بالله شيئاً) وفي رواية ابن ماجه: ما من أربعين مؤمن يشفعون لمؤمن (إلا شفعهم الله) بتشديد الفاء أي قبل شفاعتهم. (فيه) أي في حق ذلك الميت. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1ص277) وابن ماجه، وأخرج أبوداود والبيهقي من طريقه المسند منه فقط.
1675-
قوله: (ما من ميت) أي مسلم. (تصلي عليه أمة) أي جماعة. (من المسلمين) وفي رواية الترمذي والنسائي: لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين. (يبلغون) أي في العدد. (مائة كلهم يشفعون له) بسكون الشين وفتح الفاء أي يدعون له. (إلا شفعوا) بتشديد الفاء على بناء المفعول، أي قبلت شفاعتهم. (فيه) أي في حقه، وفي الحديث استحباب تكثير جماعة الجنازة، ويطلب بلوغهم إلى هذا العدد الذي يكون من موجبات الفوز. وقد قيد ذلك بأمرين: الأول: أن يكونوا شافعين فيه، أي مخلصين له الدعاء سائلين له المغفرة. الثاني: أن يكونوا مسلمين ليس فيهم من يشرك بالله شيئاً، كما في حديث ابن عباس المتقدم، ويأتي حديث مالك بن هبيرة بلفظ: من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد أوجب. ولا اختلاف في هذه الأحاديث الثلاثة. قال القاضي: قيل: هذه الأحاديث خرجت أجوبة لسائلين، سألوا عن ذلك، فأجاب كل واحد عن سؤاله. قال النووي: ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بقبول شفاعة مائة فأخبر به، ثم بقبول شفاعة أربعين، ثم ثلاثة صفوف وإن قل عددهم فأخبر به، قال: ويحتمل أيضاً أن يقال هذا مفهوم عدد، ولا يحتج به جماهير الأصوليين، فلا يلزم من
رواه مسلم
1676-
(17) وعن أنس، قال: ((مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً،
ــ
الإخبار عن قبول شفاعة مائة منع قبول ما دون ذلك. وكذا في الأربعين مع ثلاثة صفوف، وحينئذٍ كل الأحاديث معمول بها، وتحصل الشفاعة بأقل الأمرين من ثلاثة صفوف وأربعين-انتهى كلام النووي. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: لا تضاد بين حديث عائشة وحديث ابن عباس؛ لأن السبيل في أمثال هذا الحديث إن الأقل من العددين متأخر؛ لأن الله تعالى إذا وعد المغفرة لمعنى واحد لم يكن من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه فضلاً وتكرماً على عباده. فجعلنا حديث ابن عباس في أربعين متأخراً عن حديث عائشة في المائة للمعنى الذي ذكرنا-انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي والبيهقي، وروى ابن ماجه بمعناه عن أبي هريرة، ومسلم عن أنس، والطبراني في الكبير عن ابن عمر، وفيه مبشر بن أبي المليح، قال الهيثمي: لم أجد من ذكره.
1676-
قوله: (مروا) أي الصحابة، وفي رواية مر بضم الميم على البناء للمفعول. (فأثنوا عليها) أي ذكروها بأوصاف حميدة. فقوله: خيراً تأكيد أو دفع لما يتوهم من على (خيراً) صفة لمصدر محذوف فأقيمت مقامه فنصبت أي ثناء حسناً، أو هو منصوب بنزع الخافض أي أثنوا عليها بخير. وفي رواية الحاكم: فقالوا كان يحب الله ورسوله ويعمل بطاعة الله ويسعى فيها. وقال التي أثنوا عليها شراً فقالوا: كان يبغض الله ورسوله ويعمل بمعصية الله ويسعى فيها، ففيه تفسير ما أبهم من الخير والشر في رواية الشيخين. (وجبت) أي ثبتت له الجنة. (ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً) قال الطيبي: استعمال الثناء في الشر مشاكلة أو تهكم-انتهى. قال القاري: ويمكن أن يكون أثنوا في الموضعين بمعنى وصفوا، فيحتاج حينئذٍ إلى القيد، ففي القاموس الثناء وصف بمدح أو ضم أو خاص بالمدح-انتهى. وإنما مكنوا من الثناء بالشر مع الحديث الصحيح في البخاري في النهي عن سب الأموات؛ لأن النهي عن سبهم إنما هو في حق غير المنافقين والكفار وغير المتظاهر بالفسق أو البدعة، فأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بالشر للتحذير من طريقتهم ومن الإقتداء بآثارهم والتخلق بأخلاقهم، وهذا الحديث محمول على أن الذي أثنوا عليه شراً كان مشهوراً بنفاق أو نحوه، قاله النووي. قال الحافظ: يرشد إلى ذلك ما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً وصلى على الآخر-انتهى. وقيل النهي عن سب الأموات محمول على ما بعد الدفن، والجواز على ما قبله ليتعظ به من يسمعه من فساق الأحياء، وقيل: يحتمل أن
فقال: وجبت، فقال عمر: ما وجبت؟ فقال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض) .
ــ
يكون حديث أنس وما في معناه قبل ورود النهي العام. وقيل: إن هذا كان على معنى الشهادة، والمنهي عنه هو على معنى السب، وما كان على جهة الشهادة وقصد التحذير لا يسمى سباً في اللغة. (فقال النبي صلى الله عليه وسلم وجبت) أي حقت له النار. (فقال عمر ما وجبت) أي ما المراد بقولك وجبت في الموضعين، أراد التصريح بما يعلم من قيام القرينة. (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا) أي الآخر. (أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) قال الحافظ: المراد بالوجوب الثبوت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله والعقاب عدله، لا يسئل عما يفعل. وفي رواية مسلم: من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة، وهو أبين في العموم من رواية البخاري، وفيه رد على من زعم أن ذلك خاص بالميتين المذكورين لغيب اطلع الله نبيه عليه، وإنما هو خبر عن حكم أعلمه الله به. (أنتم شهداء الله في الأرض) قيل: الخطاب مخصوص بالصحابة؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة بخلاف من بعدهم. وقيل: بل المراد هم ومن كانوا على صفتهم من الإيمان. وقيل: الصواب أن ذلك يختص بالثقات والمتقين. ونقل الطيبي عن بعض شراح المصابيح: أنه قال ليس معنى قوله "أنتم شهداء الله" أن ما يقول الصحابة والمؤمنون في حق شخص يكون كذلك؛ لأن من يستحق الجنة لا يصير من أهل النار بقولهم "ولا من يستحق النار" يصير من أهل الجنة بقولهم، بل معناه أن الذي أثنوا عليه خيراً رأوا منه الصلاح والخيرات في حياته، والخيرات والصلاح علامة كون الرجل من أهل الجنة، والذي أثنوا عليه شراً رأوا منه الشر والفساد، والشر والفساد من علامة النار، فترجى الجنة لمن شهد له بالخير، ويخاف النار لمن شهد له بالشر وتعقبه. الطيبي بأن قوله "وجبت" بعد ثناء الصحابة حكم عقب وصفاً مناسباً، وهو يشعر بالعلية، وكذا الوصف بقوله "أنتم شهداء الله في الأرض"؛ لأن الإضافة للتشريف، وأنهم بمكان ومنزلة عالية عند الله، وهو أيضاً كالتزكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وإظهار عدالتهم بعد أداء شهادتهم لصاحب الجنازة، فينبغي أن يكون لها أثر ونفع في حقه، وأن الله تعالى يقبل شهادتهم ويصدق ظنونهم في حق المثنى عليه، كرامة لهم وتفضيلاً عليهم كالدعاء والشفاعة، فيوجب لهم الجنة والنار على سبيل الوعد والوعيد؛ لأن وعده حق لا بد من وقوعه، فهو كالواجب إذ لا أثر للعمل ولا الشهادة في الوجوب. وإلى معنى الحديث يرمز قوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} [البقرة: 143] أي جعلناكم عدولاً خيار الشهود لتشهدوا على غيركم، ويكون الرسول رقيباً عليكم ومزكياً لكم ويبين عدالتكم. وقال النووي: قيل:
متفق عليه. وفي رواية: ((المؤمنون شهداء الله في الأرض)) .
1677-
(18) وعن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة؟ قلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد) رواه البخاري.
ــ
هذا مخصوص بمن أثنى عليه أهل الفضل وكان ثناءه لهم مطابقاً لأفعاله فهو من أهل الجنة فإن كان غير مطابق فلا وكذا عكسه قال: والصحيح أنه على عمومه وإطلاقه، وإن كل مسلم مات فألهم الله الناس أو معظمهم الثناء عليه كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة سواء كانت أفعاله تقتضي ذلك أم لا إذ العقوبة غير واجبة بل هو في خطر المشيئة، فإذا ألهم الله الناس الثناء عليه استدللنا بذلك على أنه تعالى قد شاء المغفرة له، وبهذا تظهر فائدة الثناء، وإلا فإذا كانت أفعاله مقتضية للجنة لم يكن للثناء فائدة. وقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم له فائدة-انتهى. قال الحافظ: وهذا في جانب الخير واضح، ويؤيده ما رواه أحمد وابن حبان والحاكم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس مرفوعاً: ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له مالا تعلمون. وأما جانب الشر فظاهر الأحاديث أنه كذلك، لكن إنما يقع ذلك في حق من غلب شره على خيره، وقد وقع في رواية النضر بن أنس عن أبيه عند الحاكم في آخر الحديث: إن لله ملائكة تنطق على ألسنة بني آدم بما في المرء من الخير والشر-انتهى. (متفق عليه) واللفظ للبخاري في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. وأخرجه أحمد، وأبوداود، والنسائي، وابن ماجه عن أبي هريرة بنحوه. (وفي رواية) أي للبخاري في الشهادات:(المؤمنون) اللام للجنس. (شهداء الله في الأرض) الإضافة تشريفية، ومشعرة بأنهم عند الله بمنزلة في قبول شهادتهم.
1677-
قوله: (أيما مسلم شهد له أربعة) من المسلمين وظاهره العموم، كما اختاره النووي. (بخير) أي أثنوا عليه بحميل. (أدخله الله الجنة) بفضله، تصديقاً لظن المؤمنين في حقه. (قلنا) أي عمر وغيره:(وثلاثة) أي وما حكم ثلاثة. (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم: (وثلاثة) أي وكذلك ثلاثة، وقيل: هو وما قبله عطف تلقين. (ثم لم نسأله عن الواحد) قيل: الحكمة في الاقتصار على الاثنين؛ لأنهما نصاب الشهادة غالباً. وقال الزين بن المنير: إنما لم يسأل عمر عن الواحد استبعاداً منه أن يكتفي في مثل هذا المقام العظيم بأقل من النصاب. (رواه البخاري) في الجنائز والشهادات من طريق عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود الديلي التابعي الكبير المشهور
1678-
(19) وعن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا)) رواه البخاري.
1679-
(20) وعن جابر، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد،
ــ
عن عمر. قال الحافظ: لم أره من رواية عبد الله بن بريدة عن أبي الأسود إلا معنعناً، وقد حكى الدارقطني في كتاب التتبع عن علي بن المديني أن ابن بريدة إنما يروي عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود، ولم يقل في هذا الحديث: سمعت أبا الأسود. قال الحافظ: وابن بريدة ولد في عهد عمر، فقد أدرك أبا الأسود بلا ريب، لكن البخاري لا يكتفي بالمعاصرة، فلعله أخرجه شاهداً، واكتفى للأصل بحديث أنس الذي قبله والله أعلم-انتهى. والحديث أخرجه أيضاً أحمد، والترمذي، والنسائي، والبيهقي.
1678-
قوله: (لا تسبوا الأموات) ظاهره النهي عن سب الأموات على العموم، وقد خصص هذا العموم بما تقدم في حديث أنس أنه قال صلى الله عليه وسلم عند ثنائهم بالخير والشر: وجبت، أنتم شهداء الله في الأرض، ولم ينكر عليهم ولم ينههم عن الثناء بالشر، بل أقرهم على ذلك. وقيل: إن اللام في الأموات عهدية، والمراد بهم المسلمون. وقد ذكرنا توجيهات أخرى في شرح حديث أنس. قال الشوكاني: والوجه تبقية الحديث على عمومه إلا ما خصه دليل كالثناء على الميت بالشر. (على جهة الشهادة) وجرح المجروحين من الرواة أحياء وأمواتاً لإجماع العلماء على جواز ذلك، وذكر مساوي الكفار والفساق للتحذير منهم والتنفير عنهم. (فإنهم قد أفضوا) بفتح الهمزة والضاد أي وصلوا. (إلى ما قدموا) من التقديم أي لأنفسهم من الأعمال، والمراد جزاءها أي فلا ينفع سبهم فيهم، كما ينفع سب الحي في النهي والزجر حتى لا يقع في الهلاك، نعم قد يتضمن سبهم مصلحة الحي، كما إذا كان لتحذيره عن طريقهم مثلاً فيجوز كما تقدم. (رواه البخاري) في الجنائز، وفي الرقاق، وأخرجه أيضاً أحمد، والنسائي، والبيهقي.
1679-
قوله: (كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد) جمل قتيل أي شهداء غزوة أحد. (في ثوب واحد) أي من الكفن للضرورة، ولا يلزم منه تلاقي بشرتهما إذ يمكن حيلولتهما بنحو إذخر، ويحتمل أن الثوب كان طويلاً فقطعه بينهما نصفين وكفن كل واحد على حياله، ويؤيد الأول بل يعينه قول جابر في تمام الحديث عند البخاري: فكفن أبي وعمي في نمرة واحدة. وقال المظهر في شرح المصابيح قوله: في ثوب واحد، أي في قبر واحد، إذ يجوز تجريدهما في ثوب واحد بحيث تتلاقى بشرتاهما. قال السندي: نقله عنه غير واحد وأقروه عليه،
ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة، وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصل عليهم،
ــ
لكن النظر في الحديث يرده، بقي أنه ما معنى ذلك، والشهيد يدفن بثيابه التي كانت عليه، فكان هذا فيمن قطع ثوبه ولم يبق على بدنه أو بقي منه قليل لكثرة الجروح، وعلى تقدير بقاء شيء من الثوب السابق فلا إشكال، لكونه فاصلاً عن ملاقاة البشرة، وأيضاً قد اعتذر بعضهم عنه بالضرورة. وقال بعضهم: جمعهما في ثوب واحد هو أن يقطع الثوب الواحد بينهما-انتهى. (أيهم أكثر أخذاً للقرآن) بالنصب على التمييز في أخذاً. وفي رواية الترمذي: حفظاً للقرآن. (فإذا أشير له) أي للنبي صلى الله عليه وسلم (إلى أحدهما قدمه) أي ذلك الأحد. (في اللحد) بفتح اللام وسكون الحاء، أي الشق في عرض القبر جانب القبلة، سمى لحداً لأنه شق يعمل في ناحية القبر، مائلاً عن وسطه، قدر ما يوضع الميت في جهة القبلة، والإلحاد لغة الميل، وفيه دليل على جواز تكفين الرجل في ثوب واحد لأجل الضرورة، وفيه جمع الرجلين فصاعداً في لحد لأجل الضرورة، ففي رواية عبد الرزاق: كان يدفن الرجلين والثلاثة في قبر واحد. وروى أصحاب السنن عن هشام بن عامر الأنصاري قال: جاءت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فقالوا: أصابنا قرح وجهد، فقال: احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر. صححه الترمذي، ومثله المرأتان والثلاث. وفيه أنه يقدم الأكثر أخذاً للقرآن على غيره لفضيلة القرآن، كنظيره في الإمامة في الحياة، ويقاس عليه سائر جهات الفضل إذا جمعوا في اللحد. (وقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم:(أنا شهيد على هؤلاء) كلمة على في مثله تحمل على معنى اللام، أي أنا شفيع لهؤلاء وأشهد لهم بأنهم بذلوا أرواحهم وتركوا حياتهم لله تعالى، وفيه تشريف لهم وتعظيم وإلا فالأمر معلوم عنده تعالى. (ولم يصل عليهم) قال الحافظ في الفتح: هو مضبوط في روايتنا بفتح اللام، وهو اللائق بقوله بعد ذلك "ولم يغسلوا" وسيأتي من وجه آخر بلفظ: ولم يصل عليهم ولم يغسلهم، وهذه بكسر اللام، والمعنى ولم يفعل ذلك بنفسه ولا بأمره- انتهى. وفيه دليل على أنه لا يصلى على الشهيد المقتول في معركة الكفار، ويدل عليه أيضاً ما روى أحمد والترمذي وحسنه، وأبوداود والدارقطني والحاكم عن أنس: إن شهداء أُحد لم يغسلوا ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم-انتهى. وفي ذلك خلاف بين العلماء معروف، فقال مالك والشافعي وإسحاق وأحمد في المشهور عنه: بمنع الصلاة عليه عملاً بحديثي جابر وأنس. وقال الثوري وأبوحنيفة: يجب الصلاة عليه كسائر الأموات عملاً بعموم أدلة الصلاة على الميت، وبأحاديث رُويت في الصلاة على قتلى أحد حمزة وغيره من الشهداء، وقد سردها الزيلعي في نصب الراية، والحافظ في التلخيص، وبعضها حسن، وبما روى البخاري وغيره عن عقبة بن عامر: أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد، وبما روى أبوداود،
وسكت عنه هو والمنذري عن أبي سلام عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: طلب رجل من المسلمين رجلاً من جهينة فضربه فأخطأه وأصاب نفسه بالسيف، فابتدره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدوه قد مات، فلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثيابه ودمائه وصلى عليه -انتهى مختصراً. وبما روى النسائي والطحاوي والحاكم والبيهقي عن شداد بن الهاد الليثي الصحابي: أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمن به واتبعه
…
الحديث، وفيه أنه استشهد فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب أحمد في رواية إلى أن الصلاة عليه مستحبة، قال ابن قدامة: صرح بذلك أي بالاستحباب في رواية المروذي فقال: الصلاة عليه أجود وإن لم يصلوا عليه أجزأ- انتهى. وقال ابن حزم: إن صلى على الشهيد فحسن وإن لم يصل عليه فحسن، واستدل بحديثي جابر وعقبة، وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معاً ممكن في أحوال مختلفة، وأجاب الحنفية عن حديثي جابر وأنس: بأن النفي محمول على نفي الصلاة منفرداً، ولكنه كان يصلي على تسعة تسعة أو عشرة عشرة، وحمزة معهم، كما تدل عليه الروايات، أو المعنى أنه لم يصل على أحد كصلاته على حمزة حيث صلى عليه مراراً لمزيد الرحمة والرأفة والبركة، وصلى على غيره مرة، ثم أعاد الصلاة عليهم بأن صلى عليهم بعد ثمان سنين صلاته على الميت وكان توديعاً لهم. وقال بعضهم: إنه لم يصل عليهم يوم أحد أي حال الوقعة، وعليه يحمل رواية جابر وأنس: ثم صلى عليهم قبيل وفاته، استدراكاً لما فاته كما يشهد له حديث عقبة بن عامر عند البخاري وغيره: أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين، كالمودع للأحياء والأموات، قالوا: ترك الصلاة عليهم يوم أحد لاشتغاله عنهم قلة فراغه لذلك، وكان يوماً صعباً على المسلمين، فعذروا بترك الصلاة عليهم يومئذٍ، قالوا: وتجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ الميت، والشهداء لا يتفسخون ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان. وأجابوا أيضاً بأن أحاديث الصلاة مثبتة والإثبات مقدم على النفي. وأجاب الشافعية عن حديث عقبة بن عامر بأن المراد بالصلاة فيه الدعاء والاستغفار كقوله:{وصل عليهم} لا الصلاة على الميت المعهودة. قال النووي: المراد بالصلاة هنا الدعاء، وأما كونه مثل الذي على الميت، فمعناه أنه دعا لهم بمثل الدعاء الذي كانت عادته أن يدعو به للموتى، والتشبيه لا يقتضي التسوية من كل وجه، فقوله "صلاته على الميت" لا يمنع من حمل الصلاة على الدعاء والاستغفار. قال الأمير اليماني: ويؤيد كونه دعا لهم عدم الجمعية بأصحابه، إذ لو كانت صلاة الجنازة المعهودة لأشعر أصحابه وصلاها جماعة، كما فعل في صلاته على النجاشي، فإن الجماعة أفضل قطعاً، وأهل أحد أولى الناس بالأفضل، ولأنه لم يرو عنه أنه صلى على قبر فرادى. وقال في فيض الباري (ج2 ص478) بعد ذكر التأويل النووي
المذكور، ورد عليه العيني فقال: إنه ليس بتأويل بل تحريف، فإن المفعول المطلق للتشبيه، فقوله "صلاته على الميت" صريح في أنه صلى عليهم، كما يصلى على الجنائز. أقول والصواب، كما قاله النووي. فإني تتبعت الروايات فتبين أن صلاته كانت في السنة التي مات فيها، وكانت في المسجد النبوي، وإليه يشير لفظ البخاري: ثم انصرف إلى المنبر، وأين كان المنبر في أُحد؟ فخروجه صلى الله عليه وسلم في تلك الواقعة إنما هو في المسجد لا إلى أُحد، وإنما أراد بذلك أن يدعوا لهم قبيل خروجه من الدنيا أيضاً لمزيد فضلهم، قال: وسها من زعم أن خروجه كان إلى أحد فإنه بثلاثة أميال عن المدينة-انتهى. وأجابوا عن أحاديث الصلاة على قتلى أحد مع حمزة بأن كلها مدخولة لا يخلو واحد منها عن كلام. قال المجد بن تيمية في المنتقى: وقد رويت الصلاة عليهم بأسانيد لا تثبت-انتهى. وقد أعل الشافعي بعض روايات الصلاة على قتلى أُحد، وعلى حمزة بأنه متدافع، قال في كتاب الأم (ج1ص337) : كيف يستقيم أنه عليه السلام صلى على حمزة سبعين صلاة إذا كان يؤتى بتسعة وحمزة عاشرهم، وشهداء أحد إنما كانوا اثنين وسبعين شهيداً، فإذا صلى عليهم عشرة عشرة فالصلاة إنما تكون سبع صلوات أو ثمانياً، فمن أين جاءت سبعون صلاة؟ وأجيب عنه بأن المراد صلى على سبعين نفساً وحمزة معهم كلهم، فكأنه صلى عليه سبعين صلاة. وأجاب الزيلعي وابن التركماني عنه بوجه آخر. ثم قال الشافعي: وإن كان عني سبعين تكبيرة فنحن وهم نزعم أن التكبير على الجنائز أربع، فهي إذا كانت تسع صلوات تكون ستاً وثلاثين تكبيرة، فمن أين جاءت أربع وثلاثون؟ وأجاب بعض الحنفية عنه بأنه إن كان مراد الإمام الشافعي أن الأمر استقر على أربع تكبيرات في الجنائز فمسلّم، وهذا لا يرد التأويل؛ لأنه ثبت أنه عليه السلام كبر على الجنائز ثلاثاً وأربعاً وخمساً وأكثر من ذلك، وفي جنازة حمزة كبر تسعاً. كما رواه الطحاوي (ص290) من حديث عبد الله بن الزبير والطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن عباس. قال الهيثمي: وإسناده حسن وإن أراد أنه عليه السلام لم يكبر على جنازة أكثر من أربع تكبيرات قط، وإنه وإننا متفقان على هذا فهذا ليس بصحيح-انتهى. وأجاب البيهقي عن حديث شداد بن الهاد بأنه يحتمل أن يكون الأعرابي بقي حياً حتى انقضت الحرب ثم مات، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين لم يصل عليهم بأُحد ماتوا قبل انقضاء الحرب-انتهى. ولا يخفى ما فيه فإنه احتمال غير ناشىء عن دليل فلا يلتفت إليه. وأجاب بعضهم بأنه مرسل؛ لأن شداد بن الهاد تابعي. وفيه أن شدادا هذا صحابي معروف شهد الخندق وما بعدها، فالحديث موصول. وأما حديث أبي سلام الذي استدل به للصلاة على الشهيد، فقال الشوكاني: لم أقف للمانعين من الصلاة على جواب عليه، وهو من أدلة المثبتين؛ لأنه قتل في المعركة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه شهيداً وصلى عليه-انتهى. والقول الراجح عندي ما حكي عن أحمد: أن الصلاة على الشهيد مستحبة غير واجبة، وإن صلى عليه كان
ولم يغسلوا)) . رواه البخاري.
1680-
(21) وعن جابر بن سمرة، قال: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرس معرور، فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدحداح،
ــ
حسناً، وإن لم يصل أجزأ. وقد أطال الشوكاني الكلام في هذه المسألة واختار الصلاة على الشهيد. (ولم يغسلوا) إبقاء لأثر الشهادة عليهم. وفي حديث أحمد عن جابر أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قال في قتلى أُحد: لا تغسلوهم فإن كل جرح أو كلم أو دم يفوح مسكاً يوم القيامة، ولم يصل عليهم، فبين الحكمة في ذلك. (رواه البخاري) وأخرجه أيضاً الترمذي والنسائي، وابن ماجه، والبيهقي. فائدة: قال الشوكاني: قد اختلف في الشهيد الذي وقع الخلاف في غسله والصلاة عليه هل هو مختص بمن قتل في المعركة أو أعم من ذلك؟ فعند الشافعي أن المراد بالشهيد قتيل المعركة في حرب الكفار، وخرج بقوله: في المعركة، من جرح في المعركة وعاش بعد ذلك حياة مستقرة، وخرج: بحرب الكفار، من مات في قتال المسلمين كأهل البغي، وخرج بجميع ذلك من يسمى شهيداً بسبب غير السبب المذكور، ولا خلاف أن من جمع هذه القيود شهيد، وروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: أن من جرح في المعركة إن مات قبل الارتثاث فشهيد، والارتثاث أن يحمل ويأكل أو يشرب أو يوصي أو يبقى في المعركة يوماً وليلة حياً، وذهبت الهادوية إلى أن من جرح في المعركة يقال له شهيد وإن مات بعد الارتثاث، وأما من قتل مدافعاً عن نفس أو مال أو في المصر ظلماً، فقال أبوحنيفة وأبويوسف والهادوية: إنه شهيد. وقال الإمام يحيى والشافعي: إنه وإن قيل شهيد فليس من الشهداء الذين لا يغسلون، وذهبت العترة والحنفية والشافعي في قول له: إن قتيل البغاة شهيد، قالوا: إذ لم يغسل على أصحابه وهو توقيف-انتهى كلام الشوكاني. ومن أحب البسط والتفصيل رجع إلى المغني (ج2ص528، 536) .
1680-
قوله: (أتي) بصيغة المجهول. (بفرس معرور) كذا في النسخ الموجودة بكسر الراء الثانية منوناً، أي عار من السرج ونحوه، وهكذا في جامع الأصول (ج11ص421) ، وفي المصابيح، وكذا وقع عند أحمد (ج5ص90) . قال في مجمع البحار: في الحديث أتي بفرس معرور، أي لا سرج عليه ولا غيره، وأعرورى فرسه إذا ركبه عرياناً، فهو لازم ومتعد، أو يكون أتى بفرس معرورى على المفعول-انتهى. وقال الطيبي أعرورى الفرس أي ركبه عرياناً، فالفارس معرور والفرس معرورى هذا هو القياس، لكن الرواية صحت بالكسر-انتهى. والذي في نسخ صحيح مسلم الموجودة عندنا: معرورى. قال النووي: معناه بفرس عرى وهو بضم الميم وفتح الرائين منوناً. قال أهل اللغة: أعروريت الفرس إذا ركبته عرياً فهو معرورى. قالوا: ولم يأت افعوعل معدى إلا قولهم أعروريت الفرس واحلوليت الشيء. (فركبه) أي النبي صلى الله عليه وسلم (حين انصرف من جنازة ابن الدحداح)