الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الأول}
1440-
(1) عن أبي سعيد الخدري قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى،
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن توفاه الله عزوجل، وقيل: شرع عيد الأضحى أيضاً في السنة الثانية من الهجرة، واختلفوا في حكم صلاة العيدين؛ قال المرتضى الزبيدي الحنفي في شرح الإحياء: قال أصحابنا: صلاة العيدين واجبة على من تجب عليه الجمعة نصاً عن أبي حنيفة في روايته على الأصح، وبه قال الأكثرون، وهو المذهب، ونقل ابن هبيرة في الإفصاح رواية ثانية عن الإمام بأنها سنة، قال ابن عابدين: الأول قول الأكثرين، كما في المجتبى ونص على تصحيحه في الخانية والبدائع والهداية والمحيط والمختار والكافي وغيرهما – انتهى. ورجح السرخسي في المبسوط كونها سنة، وقال مالك والشافعي: سنة مؤكدة لرواية الأعرابي إلا أن تطوع، وقال أحمد: هي فرض على الكفاية كالجنائز إذا قام بها من يكفي سقطت عن الباقين، وبه قال بعض أصحاب الشافعي، والراجح عندي ما ذهب إليه أبوحنيفة من أنها واجبة على الأعيان لقوله تعالى:{فصل لربك وانحر} [الكوثر: 2] ، والأمر يقتضي الوجوب، ولمداومة النبي صلى الله عليه وسلم على فعلها من غير ترك، ولأنها من أعلام الدين الظاهرة، فكانت واجبة، ولا يخالف ذلك حديث الأعرابي؛ لأن المراد نفي وجوب ما عدا الصلوات الخمس في كل يوم وليلة، وصلاة العيد ليست مما تجب وتتكرر في كل يوم وليلة. واختلفوا في شروطها، فقال الحنفية: يشترط لها جميع ما يشترط للجمعة وجوباً وأداءً إلا الخطبة، فإنها ليست بشرط لها، بل هي سنة بعدها، وأجاز مالك والشافعي أن يصليها منفرداً من شاء من الرجال والنساء والعبيد والمسافرين، وعن أحمد روايتان كالقولين، كما في المغني (ج2 ص392-393) ، والمرجح عند الحنابلة هو القول الأول، والراجح عندي هو ما ذهب إليه مالك والشافعي لعدم ما يدل على ما ذهب إليه الحنفية من كون شروط الجمعة شروطاً للعيد، والله تعالى أعلم.
1440-
قوله (يخرج يوم الفطر والأضحى) أي يوم عيد الفطر ويوم عيد الأضحى (إلى المصلى) أي مصلى العيد، وهو موضع معروف خارج باب المدينة، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر بن شبة في أخبار المدينة عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك، واستدل به على استحباب الخروج إلى الصحراء لأجل صلاة العيد، وأن ذلك أفضل من صلاتها في المسجد ولو كان واسعاً، وهذا مذهب الحنفية والحنابلة والمالكية، وقال الشافعية: فعلها في المسجد الحرام وبيت المقدس أفضل من الصحراء تبعاً للسلف والخلف، ولشرفهما ولوسعهما وفعلها في سائر المساجد إن اتسعت أولى؛ لأنها خير البقاع وأطهرها، ولسهولة الحضور إليها، فلو صلى في الصحراء كان تاركاً للأولى، قال الشافعي في الأم: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة، وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذلك عامة أهل البلدان إلا أهل مكة،
فأول شيء يبدأ به الصلاة، ثم ينصرف، فيقوم مقابل الناس، والناس جلوس على صفوفهم، فيعظهم،
ــ
ثم أشار إلى أن سبب ذلك سعة المسجد وضيق أطراف مكة، قال: فلو عمر بلد فكان مسجد أهله يسعهم في الأعياد لم أر أن يخرجوا منه، فإن كان لا يسعهم كرهت الصلاة فيه ولا إعادة، قال الحافظ: ومقتضى هذا أن العلة تدور على السعة والضيق لا لذات الخروج إلى الصحراء؛ لأن المطلوب حصول عموم الاجتماع، فإذا حصل في المسجد مع أفضليته كان أولى – انتهى. قال الشوكاني: وفيه أن كون العلة الضيق والسعة مجرد تخمين لا ينتهض للاعتذار عن التأسي به صلى الله عليه وسلم في الخرج إلى الجبنانة بعد الاعتراف بمواظبته صلى الله عليه وسلم على ذلك. وأما الاستدلال على أن ذلك هو العلة بفعل الصلاة في مسجد مكة فيجاب عنه باحتمال أن يكون ترك الخروج إلى الجبانة لضيق أطرف مكة لا للسعة في مسجدها – انتهى. والراجح عندي ما ذهب إليه الحنفية من أن الخروج إلى الصحراء أفضل ولو كان مسجد البلد واسعاً؛ لأنه قد واظب النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج إلى الجبانة وترك المسجد، وكذلك الخلفاء بعده، ولا يترك النبي صلى الله عليه وسلم الأفضل مع قربه، ويتكلف فعل الناقص مع بُعده، ولا يشرع لأمته ترك الفضائل، ولأننا قد أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولا يجوز أن يكون المأمور به هو الناقص، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى العيد بمسجده إلا من عذر كما سيأتي؛ ولأن هذا إجماع المسلمين، فإن الناس في كل عصر ومصر يخرجون إلى المصلى، فيصلون العيد في المصلى مع سعة المسجد وضيقه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في المصلى مع شرف مسجده، وصلاة النفل في البيت أفضل منها في المسجد مع شرفه. (فأول شيء يبدأ) أي النبي صلى الله عليه وسلم (به الصلاة) برفع "أول" على أنه مبتدأ، وقوله "الصلاة" خبره، ولفظ "أول" وإن كان نكرة فقد تخصص بالإضافة، والأولى جعل أول خبراً مقدماً والصلاة مبتدأ؛ لأنه معرفة وإن تخصص أول، فلا يخرج عن التنكير، وجملة "يبدأ به" في محل الجر صفة لشيء. وفيه أن السنة تقديم الصلاة على الخطبة، وسيأتي الكلام عليه مبسوطاً (ثم ينصرف) أي من الصلاة (فيقوم مقابل الناس) بكسر الباء حال أي مواجهاً لهم، وفي رواية ابن حبان: فينصرف إلى الناس قائماً في مصلاه، ولابن خزيمة في رواية مختصرة خطب يوم علي على رجليه، وهذا مشعر بأنه لم يكن إذ ذاك في المصلى منبر، وفيه أن السنة كون الخطبة على الأرض عن قيام في المصلى، والفرق بينه وبين المسجد أن المصلي يكون بمكان فيه فضاء فيتمكن من رؤيته كل من حضر بخلاف المسجد، فإنه يكون في مكان محصور فقد لا يراه بعضهم، ووقع في آخر الحديث ما يدل على أن أول من خطب الناس في المصلى على المنبر مروان، وسيأتي الكلام عليه في آخر الباب (والناس جلوس) جملة اسمية حالية، و"جلوس" جمع جالس (على صفوفهم) أي مستقبلين له على حالتهم التي كانوا في الصلاة عليها (فيعظهم) أي يخوفهم عواقب الأمور، وقيل: يذكرهم بالعواقب بشارة مرة، ونذارة
ويوصيهم ويأمرهم، وإن كان يريد أن يقطع بعثاً قطعه، أو يأمر بشيء أمر به، ثم ينصرف)) متفق عليه.
1441-
(2) وعن جابر بن سمرة قال: ((صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة)) .
ــ
أخرى، وبالوعد في الثواب، وبالوعيد في العقاب لئلا يستلذهم فرط السرور في هذا اليوم، فيغفلون عن الطاعة ويقعون في المعصية، وقيل: ينذرهم ويخوفهم ليتقوا من عقاب الله (ويوصيهم) بسكون الواو، وقيل: من التوصية أي بالتقوى لقوله تعالى: {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله} [النساء: 131]، وقيل: أي بما تنبغي الوصية به، وقيل: أي في حق الغير لينصحوا له، وقيل: بإدامة الطاعات، والتحرز عن السيئات، وبرعاية حقوق الله وحقوق عباده، ومنها النصح التام لكل مسلم (ويأمرهم) أي وينهاهم يعني بما يظهر له من الأمر والنهي المناسب للمقام فيكون الاختصار على يأمرهم من باب الاكتفاء. وقيل: يأمرهم بالحلال وينهاهم عن الحرام (وإن كان يريد) أي في ذلك الوقت (أن يقطع) أي يرسل (بعثاً) بفتح الباء وسكون العين مصدر بمعنى المبعوث يعني طائفة من الجيش إلى جهة من الجهات للغزو (قطعه) أي أرسله، وقيل:"قطعه" بمعنى وزعه على القبائل وقسمه بأن يقول يخرج من بني فلان كذا، ومن بني فلان كذا، وفي النهاية: أي لو أراد أن يفرد قوماً من غيرهم يبعثهم إلى الغزو لأفردهم وبعثهم (أو يأمر) بالنصب (بشيء) أي وإن كان يريد أن يأمر بشيء مما يتعلق بالبعث وقطعه من الحرب والاستعداد لها، وليس هذا بتكرار؛ لأن معناه غير معنى الأول على ما لا يخفى (أمر به) أي لأمر بما أراد به الأمر (ثم ينصرف) أي ثم هو يرجع إلى بيته (متفق عليه) واللفظ للبخاري في باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، وفي آخره: فقال أبوسعيد: فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان، وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني، فارتفع فخطب قبل الصلاة، فقلت له: غيرتم والله، فقال: يا أباسعيد! قد ذهب ما تعلم، فقلت: ما أعلم والله خير مما لا أعلم، فقال: إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة – انتهى. وأصل الحديث أخرجه أحمد والنسائي والبيهقي (ج3 ص280) وغيرهم.
1441-
قوله (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين) قال الطيبي: حال أي كثيراً (بغير أذان ولا إقامة) فيه دليل على عدم شرعية الأذان والإقامة في صلاة العيدين، قال الترمذي: والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن لا يؤذن لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل، وقال العراقي: وعليه
رواه مسلم.
1442-
(3) وعن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة.
ــ
عمل العلماء كافة، وقال ابن قدامة في المغني (ج2 ص378) : ولا نعلم في هذا خلافاً لمن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير أنه أذن وأقام، وقيل: أول من أذن في العيدين ابن زياد – انتهى. وروى ابن أبي شيبة في المصنف بإسناد صحيح قال: أول من أحدث الأذان في العيد معاوية، وقد زعم ابن العربي أنه رواه عن معاوية من لا يوثق به، قال ابن قدامة: وقال بعض أصحابنا: ينادى لها الصلاة جامعة، وهو قول الشافعي، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن يتبع – انتهى. قلت: استدل الشافعي لذلك بما روى عن الثقة عن الزهري أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن في العيدين فيقول: الصلاة جامعة، قال الحافظ: وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها – انتهى. قال الأمير اليماني: وفيه تأمل، قلت: ويخالفه ما روى مسلم عن عطاء عن جابر قال: لا أذان للصلاة يوم العيد ولا إقامة ولا شيء، فإن هذا يدل على أنه لا يقال أمام صلاتها شيء من الكلام، قال الزبيدي: والاعتبار في ذلك أنه لما توفرت الدواعي على الخروج في هذا اليوم إلى المصلى من الصغير والكبير سقط حكم الأذان والإقامة؛ لأنهما للإعلام لتنبيه الغافل، والتهيؤ ههنا حاصل، فحضور القلب مع الله يغني عن إعلام الملك بلمته الذي هو بمنزلة الأذن والإقامة للإسماع، والذي أحدثه معاوية مراعاة للنادر، وهو تنبيه الغافل، فإنه ليس ببعيد أن يغفل عن الصلاة بما يراه من اللعب – انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والترمذي والبيهقي (ج3 ص284) .
1442-
قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر يصلون العيدين قبل الخطبة) قال التوربشتي: ذكر الشيخين مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما يقرره من السنة إنما يكون على وجه البيان لتلك السنة بأنها ثابتة معمول بها قد عمل الشيخان بها بعده، ولم ينكر عليهما ولم يغير، وكان ذلك بمحضر من مشيخة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذكرهما على سبيل الاشتراك في التشريع معاذ الله أن يظن فيه ذلك – انتهى. قلت: روى الجماعة إلا الترمذي عن ابن عباس قال: شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة، وفي الحديثين دليل على أن تقديم صلاة العيد على الخطبة هو الأمر الذي داوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه، واستمروا على ذلك، قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أن صلاة العيدين قبل الخطبة، وقيل: إن أول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم، وقال ابن قدامة (ج2 ص384) : لا نعلم فيه خلافاً بين المسلمين إلا عن بني أمية، وروي عن عثمان وابن الزبير أنهما فعلاه، ولم يصح ذلك عنهما.
......................
ــ
ولا يعتد بخلاف بني أمية؛ لأنه مسبوق بالإجماع الذي كان قبلهم، ومخالف لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وقد أنكر عليهم فعلهم، وعد بدعة ومحالفاً للسنة – انتهى. فلو خطب قبل الصلاة فهو كمن لم يخطب؛ لأنه خطب في غير محل الخطبة فيعيد الخطبة بعد الصلاة فإن لم يفعل صحت الصلاة، وقد أساء لترك السنة، وإليه ذهب المالكية والحنابلة، قال الباجي: وما روي عن أبي سعيد من إنكاره على مروان تقديم الخطبة إنما كان على وجه الكراهة، ولذلك شهد مع مروان العيد، ولو كان أمراً محرماً أو شرطاً في صحة الصلاة لما شهده، وحكى القاري عن ابن الهمام لو خطب قبل الصلاة خالف السنة، ولا يعيد الخطبة، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أنها بعد الصلاة، ولا يجزئ التقديم، وأما الصلاة فصحيحة اتفاقاً – انتهى. وفي مختصر المزني عن الشافعي ما يدل على عدم الاعتداد بالصلاة مع تقديم الخطبة، وكذا قال النووي في شرح المهذب: إن ظاهر نص الشافعي أنه لا يعتد بها، وقال: وهو الصواب، وهذا يدل على أن تقديم الخطبة على صلاة العيد حرام عند الشافعي، وهو مذهب الشافعية، كما هو مصرح في كتب فروعهم، قيل: وجه الفرق بين الجمعة وغيرها في تقديم الخطبة وتأخيرها أن خطبة الجمعة فريضة، فلو قدمت الصلاة على الخطبة ربما يتفرق جماعة من الناس إذا صلوا الصلاة، ولا ينتظرون الخطبة فيأثمون، وأما خطبة العيد فسنة، فلو صلى بعض القوم فلم ينتظروا استماع الخطبة لا إثم عليهم، واختلف في أول من خطب قبل الصلاة، فروي عن عمر أنه فعل ذلك، قال عياض ومن تبعه كابن العربي والعراقي: لا يصح عنه، قال الحافظ: وفيما قالوه نظر؛ لأن عبد الرزاق وابن أبي شيبة روياه جميعاً بإسناد صحيح، لكن يعارضه حديث ابن عباس وحديث ابن عمر المذكوران، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً، وإلا فما في الصحيحين أصح، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح إلى الحسن البصري قال: أول من خطب قبل الصلاة عثمان، صلى بالناس ثم خطبهم يعني على العادة، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة، ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً، وروى عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري قال: أول من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية، وروى مسلم عن طارق بن شهاب قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، وقد أخرج الشافعي عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عباس المذكور، وزاد: حتى قدم معاوية فقدم الخطبة، فهذا يشير إلى أن مروان إنما فعل ذلك تبعاً لمعاوية؛ لأنه كان أمير المدينة من جهته، وروى ابن المنذر عن ابن سيرين أن أول من فعل ذلك زياد بالبصرة، قال عياض: ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان؛ لأن كلاً من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية، فيحمل على أنه ابتدأ ذلك وتبعه عماله، والله أعلم. وقد ظهر بما قدمنا أن العلة التي ذكرت لتقديم عثمان الخطبة على الصلاة غير التي اعتل بها مروان؛ لأن عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة، وأما مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة، لكن قيل: إنهم كانوا في زمن مروان يتعمدون
متفق عليه.
1443-
(4) وسئل ابن عباس: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد؟ قال: نعم، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى، ثم خطب،
ــ
ترك سماع خطبته لما فيها من سب من لا يستحق السب والإفراط في مدح بعض الناس، فعلى هذا إنما راعى مصلحة نفسه، قال الحافظ: يحتمل أن يكون عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان، فواظب عليه، فلذلك نسب إليه – انتهى. وقال العراقي: الصواب أن أول فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: ولم يصح فعله عن أحد من الصحابة لا عن عمر ولا عثمان ولا معاوية ولا ابن الزبير – انتهى. وقد عرفت صحة بعض ذلك، فالمصير إلى الجمع أولى. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص (296) .
1443-
قوله (وسئل) بصيغة المجهول (ابن عباس) وعند البخاري في آخر كتاب النكاح، عن عبد الرحمن بن عابس: سمعت ابن عباس سأله رجل (أشهدت) أي أحضرت؟ وفي المصابيح: بحذف حرف الاستفهام موافقاً لما في رواية البخاري المذكورة، ووقع في بعض نسخ البخاري: هل شهدت، وفي بعض الروايات: أشهدت، بذكر همزة الاستفهام، وهكذا ذكر الجزري رواية عبد الرحمن بن عابس (ج7 ص91) ، (العيد) أي صلاته (قال) أي ابن عباس (نعم) أي شهدته، وفي البخاري بعده: ولولا مكاني منه ما شهدته يعني من صغره، قال: خرج
…
الخ (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي إلى المصلى (فصلى) بالناس العيد (ثم خطب) فيه دليل على مشروعية خطبة العيد، وليس فيه أنها خطبتان كالجمعة، وأنه يقعد بينهما، ولم يثبت ذلك من فعله صلى الله عليه وسلم بسند معتبر، وإنما صنعه الناس قياساً على الجمعة واستدلالاً بما روى ابن ماجه عن يحيى بن حكيم عن أبي بحر عن عبيد الله بن عمرو الرقي عن إسماعيل بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً، ثم قعد قعدة ثم قام، قال البوصيري: رواه النسائي في الصغرى من حديث جابر إلا قوله: ((يوم فطر أو أضحى)) ، وإسناد ابن ماجه فيه إسماعيل بن مسلم، وقد أجمعوا على ضعفه، وأبوبحر ضعيف – انتهى. وبما روى البزار في مسنده عن سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة، وكان يخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة، قال الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2 ص203) : رواه البزار وجادة، وفي إسناده من لم أعرفه – انتهى. وقال النووي في الخلاصة: وروي عن ابن مسعود أنه قال: من السنة أن يخطب في العيدين خطبتين، فيفصل بينهما بجلوس، ضعيف غير متصل، ولم يثبت في تكرير الخطبة شيء، ولكن المعتمد فيه القياس على الجمعة – انتهى.
ولم يذكر أذاناً ولا إقامة، ثم أتى النساء فوعظهن، وذكرهن، وأمرهن بالصدقة، فرأيتهن يهوين إلى آذانهن وحلوقهن يدفعن إلى بلال، ثم ارتفع
ــ
(ولم يذكر) أي ابن عباس في بيان كيفية صلاته صلى الله عليه وسلم (أذاناً ولا إقامة) وهذه الجملة معترضة (ثم أتى النساء) أي بعد الخطبة، ومعه بلال، وهذا يشعر بأن النساء كن على حدة من الرجال غير مختلطات بهم (فوعظهن) أي أنذرهن العقاب أو نصحهن بالخصوص لبعدهن وعدم سماعهن الخطبة (وذكرهن) بتشديد الكاف من التذكير، تفسير لسابقه أو تأكيد له، وقيل: تأسيس والمعنى ذكرهن بالأوامر والنواهي المختصة بهن (وأمرهن بالصدقة) الظاهر أن المراد بها مطلق الصدقة، وقيل: المراد الزكاة خاصة وفيه استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن ويستحب حثهن إلى الصدقة، وتخصيص بذلك في مجلس منفرد. ومحل ذلك كله إذا أمن الفتنة والمفسدة (يهوين) بفتح أوله وكسر الواو من الهُوِيّ وبضم أوله من الأهواء أي يقصدن (إلى آذانهن) بالمد جمع أذن، وقيل: المراد يهوين بأيديهن إلى آذانهن أي يمددن أيديهن إليها (وحلوقهن) جمع حلق بفتح الحاء وسكون اللام، وهو الحلقوم أي إلى ما فيها من القرط والقلادة (يدفعن) أي حال كونهن يدفعن ما أخذن من آذانهن وحلوقهن (إلى بلال) أي بإلقائه في ثوبه، وفي رواية: يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال، أي يمددن أيديهن بالصدقة حال كونهن يرمين المتصدق به في ثوب بلال، يقال: أهوى بيده إليه أي مدها نحوه وأمالها إليه، ويقال: أهوى بيده إلى الشيء ليأخذه، أي مدّ يده إليه، وقيل: الباء زائدة. وحقيقته أهوى يده إليه أي جعلها هاوية بمعنى ذاهبة قاصدة، ثم الأقرب أن الحلي كانت ملكاً لهن، واستدل به على جواز صدقة المرأة من مالها من غير توقف على إذن زوجها، وعلى مقدار معين من مالها كالثلث خلافاً لبعض المالكية، ووجه الدلالة من القصة ترك الاستفصال عن ذلك كله، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسألهن هل استأذن أزواجهن في ذلك أم لا، وهل هو خارج من الثلث أم لا؟ ولو اختلف الحكم بذلك لسأل، لا يقال: إن الغالب حضور أزواجهن فتركهم الإنكار يكون رضاً بفعلهن؛ لأنا نقول: إن النساء كن معتزلات لا يعلم الرجال من المتصدقة منهن من غيرها، ولا قدر ما يتصدق به، ولو علموا فسكوتهم ليس إذناً، وقال القرطبي: ليس فيه تسليم أزواجهن لهن ذلك؛ لأن من ثبت له الحق فالأصل بقاءه حتى يصرح بإسقاطه، ولم ينقل أن القوم صرحوا بذلك – انتهى. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها، فهو محمول على الأولى، وخص منه أمر المولى، أو محمول على العطية العرفية من الهبة للأجنبية بناءً على المعاشرة الزوجية، أو على الصدقات التطوعية دون الواجبات والفرضية، وقيل: لا يقاوم هذا أحاديث الجواز فلا حاجة إلى الجمع والتوفيق (ثم ارتفع) أي ذهب وأسرع من ارتفع البعير في سيره أي أسرع
هو وبلال إليه بيته)) . متفق عليه.
1444-
(5) وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما)) .
ــ
وقال القسطلاني: أي رجع (هو) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وبلال إلى بيته) أي إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الحديث خروج النساء والصبيان إلى المصلى في الأعياد وإن لم يصلوا. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع بألفاظ متقاربة، واللفظ المذكور له في باب "والذين لم يبلغوا الحلم منكم" من كتاب النكاح، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص307) .
1444-
قوله (صلى يوم الفطر) صلاة العيد (ركعتين) هو دليل على أن صلاة العيد ركعتان وهو إجماع فيمن صلى مع الإمام في الجبانة، وأما إذا فاتته صلاة الإمام فصلى وحده، فكذلك عند الأكثر، وذهب أحمد والثوري إلى أنه يصلي أربعاً، وأخرج سعيد بن منصور عن ابن مسعود من فاتته صلاة العيد مع الإمام فليصل أربعاً، وهو إسناد صحيح، وقال إسحاق: إن صلاها في الجبانة فركعتين، وإلا فأربعاً، وقال أبوحنيفة: إذا قضى صلاة العيد فهو مخير بين اثنين وأربع (لم يصل قبلهما) أي قبل الركعتين، وروي "قبلها وبعدها" بإفراد الضمير نظراً إلى الصلاة (ولا بعدهما) أي في المصلى؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي قبل العيد شيئاً، فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين، أخرجه أحمد وابن ماجه والحاكم وصححه، وحسنه الحافظ في الفتح، وفي بلوغ المرام. وأما "قبل الركعتين" فيحتمل الإطلاق والتقييد. قال السندي: لم يصل قبلها أن مطلقاً أو في المصلى. وأما قوله: "ولا بعدها" فلابد من تقييده بالمصلى – انتهى. قلت: حديث أبي سعيد الخدري يشهد لكراهة الصلاة قبل الركعتين مطلقاً أي في المصلى وفي غيره؛ لأنه نفي مطلق بخلاف حديث ابن عباس فإنه أخبر أنه شاهده في المصلى لم يصل شيئاً، وقد يكون صلى في منزله، ففيه احتمال أن يكون مختصاً بالمصلى دون البيت، ولذلك قلنا: إن قوله "لم يصل قبلهما" يحتمل الإطلاق والتقييد، واختلف العلماء في التطوع قبل صلاة العيد وبعدها، فذهب أحمد إلى أنه يكره التنفل قبلها وبعدها للإمام والمأموم في موضع الصلاة سواء كان في المصلى أو المسجد، وهو مذهب ابن عباس وابن عمر، وروي ذلك عن غير واحد من الصحابة، وقال مالك: إن كانت الصلاة في المصلى فإنه لا يتنفل قبلها ولا بعدها، سواء كان إماماً أو مأموماً، وإن كانت في المسجد ففيه روايتان: إحداهما المنع كالمصلى، والأخرى يتنفل قبل الجلوس وبعد الصلاة، وقال الشافعي: يكره للإمام بعد الحضور التنفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم، ولمخالفة فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه صلى عقب حضوره، وخطب عقب صلاته، وأما المأموم فلا يكره له ذلك قبلها مطلقاً
متفق عليه.
1445-
(6) وعن أم عطية قالت: ((أمرنا أن نخرج الحيض يوم العيدين،
ــ
في غير الوقت المنهي عنه ولا بعدها إن لم يسمع الخطبة؛ لأنه لم يشتغل بغير الأهم بخلاف من يسمعها، فإنه معرض عن الخطيب بالكلية، وقال الحنفية: لا يتنفل قبلها مطلقاً وكذا بعدها في مصلاها، فإن تنفل بعدها في البيت جاز، قال ابن العربي: التنفل في المصلى لو فعل لنقل، ومن أجازه رأى أنه وقت مطلق للصلاة، ومن تركه رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ومن اقتدى فقد اهتدى – انتهى. قال الحافظ: والحاصل أن صلاة العيد لم يثبت لها سنة قبلها ولا بعدها خلافاً لمن قاسها على الجمعة، وأما مطلق النفل فلم يثبت فيه منع بدليل خاص إلا إن كان ذلك في وقت الكراهة الذي في جميع الأيام – انتهى. وكذا قال العراقي في شرح الترمذي ، قال الشوكاني: وهو كلام صحيح جارٍ على مقتضى الأدلة، فليس في الباب ما يدل على منع مطلق النفل ولا على منع ما ورد فيه دليل يخصه كتحية المسجد إذا أقيمت صلاة العيد في المسجد – انتهى. قلت: القول الراجح عندي هو ما ذهب إليه أحمد من كراهة التنفل للإمام والمأموم في موضع الصلاة قبلها وبعدها؛ لحديث ابن عباس، ولما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر في صلاة العيد سبعاً وخمساً، ويقول لا صلاة قبلها ولا بعدها، حكى ابن عقيل أن الإمام ابن بطة رواه بإسناده، ذكره ابن قدامة في المغني، وقال الحافظ في التلخيص: روى أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً: لا صلاة يوم العيد لا قبلها ولا بعدها، فإن صح هذا كان دليلاً على المنع مطلقاً؛ لأنه نفي في قوة النهي، وقد سكت عليه الحافظ فينظر فيه. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص295، 302) وغيرهم.
1445-
قوله (وعن أم عطية) بفتح العين وكسر الطاء اسمها نسيبة – بضم النون وفتح السين المهملة وسكون الياء وفتح الباء الموحدة، وقيل: بفتح أولها مكبراً – بنت الحارث، وقيل: بنت كعب الأنصارية، بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت من كبار الصحابيات، وكانت تغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً، تداوي الجرحى، وتمرض المرضى، تعد في أهل البصرة، وكانت جماعة من الصحابة وعلماء التابعين بالبصرة يأخذون عنها غسل الميت؛ لأنها شهدت غسل بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكت ذلك وأتقنت، فحديثها أصل في غسل الميت، ويأتي حديثها هذا في كتاب الجنائز (أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر، وإنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية للبخاري: أمرنا نبينا (أن نخرج) بضم النون وكسر الراء من الإخراج أي إلى المصلى (الحيض) بالنصب على المفعولية، وهو بضم الحاء وتشديد الياء المفتوحة – جمع حائض أي المباشرات بالحيض (يوم العيدين) قال المالكي: فيه إفراد اليوم، وهو المضاف إلى العيدين، وهو في المعنى مثنى، ونحو قوله: "ومسح أذنيه
وذوات الخدور، فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم، وتعتزل الحيض عن مصلاهن، قالت امرأة: يا رسول الله! إحدانا ليس لها جلباب؟
ــ
ظاهرهما وباطنهما، يعني حيث أفرد الظاهر والباطن، قال ابن حجر: فلو روى الحديث بلفظ التثنية على الأصل لجاز أي جاز أن يقول يومي العيدين أو يومي العيد (وذوات الخدور) منصوب بالكسر كمسلمات عطفاً على الحيض والخدور – بضم الخاء المعجمة والدال المهملة – جمع خدر بكسرها وسكون الدال، وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وقال الجزري: الخدر ناحية في البيت، يكون عليها ستر، فتكون فيها الجارية البكر، وهي المخدرة أي خدرت في الخدر، وفي رواية: نخرج العواتق وذوات الخدور والحيض، والعواتق جمع عاتق، وهي الشابة أول ما تدرك، وقيل: هي التي قاربت البلوغ، وقيل: هي الجارية التي قد أدركت وبلغت، فخدرت في بيت أهلها ولم تتزوج، سميت بذلك لأنها عتقت عن خدمة أبويها، ولم يملكها زوج بعد (فيشهدن) أي يحضرن (جماعة المسلمين ودعوتهم) أي دعائهم وفي رواية: يشهدن الخير ودعوة المسلمين، قيل: المراد بشهود الخير هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير الحيض، وقوله:"دعوة المسلمين" يعم الجميع، واستدل بقوله:"دعوة المسلمين" على مشروعية الدعاء بعد صلاة العيد، كما يدعى دبر الصلوات الخمس، وفيه نظر؛ لأنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم دعاء صلاة العيدين، ولم ينقل أحد الدعاء بعدها بل الثابت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب بعد الصلاة من غير فصل بشيء آخر، فلا يصح التمسك بإطلاق قوله "دعوة المسلمين" والظاهر أن المراد بها الأذكار التي في الخطبة وكلمات الوعظ والنصح، فإن لفظ الدعوة عام والله تعالى أعلم. (وتعتزل الحيض عن مصلاهن) أي عن مكان صلاة النساء اللاتي لسن بحيض يعني تنفصل وتقف في موضع منفردات غير مختلطات بالمصليات خوف التنجيس والإخلال بتسوية الصفوف، وهو خبر بمعنى الأمر، قال في الفتح: حمله الجمهور على الندب؛ لأن المصلى ليس بمسجد فيمتنع الحيض من دخوله، وقال ابن المنير: الحكمة في اعتزالهن أي في وقوفهن وهن لا يصلين مع المصليات إظهار استهانة بالحال، فاستحب لهن اجتناب ذلك – انتهى. وفي رواية: كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض، فيكن خلف الناس، فيكبرن بتكبيرهم، ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم وطهرته، وفي رواية: فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهد الخير ودعوة المسلمين، وفيه أن الحائض لا تهجر ذكر الله ولا مواطن الخير كمجالس العلم والذكر سوى المساجد، قال الخطابي: أمر جميع النساء بحضور المصلى يوم العيد لتصلي من ليس لها عذر وتصل بركة الدعاء إلى من لها عذر، وفيه ترغيب الناس في حضور الصلوات ومجالس الذكر ومقاربة الصلحاء لينالهم بركتهم. (قالت امرأة) هي أم عطية نفسها، كما تدل عليه رواية الشيخين (إحدانا) أي ما حكم واحدة منا (ليس لها جلباب) وقال القسطلاني: قوله: "إحدانا" أي بعضنا مبتدأ
قال: لتلبسها صاحبتها من جلبابها
ــ
خبره "ليس لها جلباب" أي كيف تشهد ولا جلباب لها وذلك بعد نزول الحجاب، وفي رواية: أعلى إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج؟ والجلباب بكسر الجيم وسكون اللام وبموحدتين بينهما ألف، كساء تستتر النساء به إذا خرجن من بيتهن، وقال في القاموس: الجلباب كسِرْداب وسنَمار: القميص وثوب واسع للمرأة دون الملحفة، أو ما يغطى به ثيابها من فوق كالملحفة، أو هو الخمار – انتهى. (لتلبسها) بضم التاء وسكون اللام وكسر الموحدة وجزم المهملة، أمر من الإلباس على سبيل الندب (صاحبتها) بالرفع على الفاعلية (من جلبابها) قال الحافظ: يحتمل أن يكون للجنس، أي تعيرها من جنس ثيابها يعني تعيرها من ثيابها ما لا تحتاج إليه، ويؤيده رواية ابن خزيمة من جلابيبها، وللترمذي: فلتعرها أختها من جلابيبها، والمراد بالأخت الصاحبة، ويحتمل أن يكون المراد تشركها معها في ثوبها الذي عليها، ويؤيده رواية أبي داود: تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها، يعني إذا كان واسعاً، ويحتمل أن يكون المراد بقوله "ثوبها" جنس الثياب، فيرجع للأول، ويؤخذ منه جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد عند التستر، وقيل: إنه ذكر على سبيل المبالغة أي يخرجن على كل حال ولو اثنتين في جلباب – انتهى. وفي الحديث من الفوائد أن من شأن العواتق المخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه، وفيه استحباب إعداد الجلباب للمرأة، ومشروعية عارية الثياب، وفيه امتناع خروج المرأة بغير جلباب، وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب أم لا، وذوات هيئات أم لا، قال الشوكاني: حديث أم عطية وما في معناه من الأحاديث قاضية بمشروعية خروج النساء في العيدين إلى المصلى من غير فرق بين البكر والثيب والشابة والعجوز والحائض وغيرها ما لم تكن معتدة أو كان في خروجها فتنة، أو كان لها عذر، وقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: أحدها أن ذلك مستحب، وحملوا الأمر فيه على الندب، ولم يفرقوا بين الشابة والعجوز، وهذا قول أبي حامد من الحنابلة والجرجاني من الشافعية، وهو ظاهر إطلاق الشافعي. القول الثاني: التفرقة بين الشابة والعجوز، قال العراقي: وهو الذي عليه جمهور الشافعية تبعاً لنص الشافعي في المختصر. والقول الثالث: أنه جائز غير مستحب لهن مطلقاً، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد فيما نقله عنه ابن قدامة في المغني (ج2 ص375-376) . والرابع: أنه مكروه، وقد حكاه الترمذي عن الثوري وابن المبارك، وهو قول مالك وأبي يوسف، وحكاه ابن قدامة عن النخعي ويحيى بن سعيد الأنصاري، وروى ابن أبي شيبة عن النخعي أنه كره للشابة أن تخرج إلى العيدين، والقول الخامس: أنه حق على النساء الخروج إلى العيد، حكاه القاضي عياض عن أبي بكر وعلي وابن عمر، وقد روى ابن أبي شيبة عن أبي بكر وعلي أنهما قالا: حق على كل ذات نطاق الخروج إلى العيدين. قال الحافظ: وقد ورد هذا مرفوعاً بإسناد لا بأس به، أخرجه أحمد وأبويعلى وابن المنذر من طريق امرأة من عبد القيس عن أخت عبد الله بن
متفق عليه.
ــ
رواحة والمرأة لم تسم، والأخت اسمها عمرة صحابية، وقوله "حق" يحتمل الوجوب، ويحتمل تأكد الاستحباب – انتهى. قال الشوكاني: والقول بكراهة الخروج على الإطلاق رد للأحاديث الصحيحة بالآراء الفاسدة، وتخصيص الشواب يأباه صريح الحديث المتفق عليه وغيره – انتهى. قلت: ذهب الحنفية إلى كراهة الخروج للعيدين للشواب دون العجائز، قال ابن الهمام: وتخرج العجائز للعيد لا الشواب – انتهى. قال القاري بعد نقل كلام ابن الهمام ما لفظه: وهو قول عدل، لكن لابد أن يقيد بأن تكون غير مشتهاة ي ثياب بذلة بإذن حليلها مع الأمن من المفسدة، بأن لا يختلطن مع الرجال، ويكن خاليات من الحلي والحلل البخور والشموم والتبختر والتكشف ونحوهما مما أحدثن في هذا الزمان من المفاسد، وقد قال أبوحنيفة: ملازمات البيوت لا يخرجن – انتهى. قلت: لا دليل على منع الخروج للعيد للشواب وذوات الهيئات مع الأمن من المفاسد مما أحدثن في هذا الزمان، بل هو مستحب لهن، وهو القول الراجح، وأما الاستدلال على كراهة خروج النساء إلى العيدين مطلقاً بقول عائشة: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من الخروج كما منعت نساء بني إسرائيل، فمردود لوجوه ثمانية سردها ابن حزم في المحلى (ج4 ص200) ، وقد أوردنا بعضها في باب فضل الجماعة نقلاً عن الفتح، قال الحافظ: وقد ادعى بعضهم النسخ فيه، قال الطحاوي: وأمره – عليه السلام – بخروج الحيض وذوات الخدور إلى العيد يحتمل أن يكون في أول الإسلام، والمسلمون قليل، فاريد التكثير بحضورهن إرهاباً للعدو، وأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك، وتعقب بأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، قال الكرماني: تاريخ الوقت لا يعرف، قال الحافظ: بل هو معروف بدلالة حديث ابن عباس أنه شهد خروجهن، وهو صغير، وكان ذلك بعد فتح مكة، ولا حاجة إليهن لقوة الإسلام حينئذٍ، فلم يتم مراد الطحاوي، وقد صرح في حديث أم عطية بعلة الحكم، وهو شهودهن الخير ودعوة المسلمين ورجاء بركة ذلك اليوم وطهرته، وقد أفتت به أم عطية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، وأما قول عائشة: لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء
…
الخ فلا يعارض ذلك لندوره إن سلمنا أن فيه دلالة على أنها أفتت بخلافه مع أن الدلالة منه بأن عائشة أفتت بالمنع ليست صريحة، وفي قوله:"إرهاباً للعدو" نظر؛ لأن الاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف، والأولى أن يخص ذلك بمن يؤمن عليها وبها الفتنة ولا يترتب على حضورها محذور ولا تزاحم الرجال في الطريق ولا في المجامع – انتهى. وقال ابن قدامة بعد ذكر قول عائشة المذكور: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع، وقول عائشة مختص بمن أحدثت دون غيرها، ولا شك بأن ذلك يكره لها الخروج، وإنما يستحب لهن الخروج غير متطيبات ولا يلبسن ثوب شهرة ولا زينة ويخرجن في ثياب البذلة؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((وليخرجن تفلات)) ، ولا يخالطن الرجال، بل يكن ناحية منهن – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في مواضع ومسلم في العيدين بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به
1446-
(7) وعن عائشة قالت: إن أبابكر دخل عليها وعند جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان، وفي رواية: تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث،
ــ
المصنف للبخاري في باب "وجوب الصلاة في الثياب" من أوائل الصلاة، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص305-306) وغيرهم.
1446-
قوله (جاريتان) دون البلوغ من جوار الأنصار، إحداهما لحسان بن ثابت، كما في حديث أم سلمة عند الطبراني، أو كلاهما لعبد الله بن سلام، كما في الأربعين للسلمي، وفي العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: دخل علي أبوبكر، والنبي صلى الله عليه وسلم متقنع، وحمامة وصاحبتها تغنيان عندي، قال الحافظ: إسناده صحيح، ولم أقف على تسمية الأخرى، ولم يذكر أحد من مصنفي أسماء الصحابة حمامة هذه، نعم ذكر الذهبي في التجريد حمامة أم بلال اشتراها أبوبكر وأعتقها (في أيام منى) بعدم الانصراف، وقيل: ينصرف يعني الثلاثة بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، والمراد أيام عيد الأضحى بالمدينة لا بمنى (تدففان) بفائين من التدفيف أي تضربان بالدف يعني مع الغناء، وفي رواية لمسلم: تلعبان بدف، وللنسائي: تصربان بدفين، والدف: بضم الدال وفتحها، والضم أفصح وأشهر، ويقال له أيضاً: الكربال – بكسر الكاف -، وهو الذي لا جلاجل فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر. (وتضربان) أي بالدف، فيكون عطفاً تفسيرياً، قال الطيبي: هذا تكرار لزيادة الشرح (وفي رواية) أي للشيخين (تغنيان) أي ترفعان أصواتهما بإنشاد الشعر، وهو قريب من الحداء (بما تقاولت الأنصار) أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء، وفي رواية: بما تعازفت – بعين مهملة وزاي وفاء – من العزف، وهو الصوت الذي له دويّ، وفي رواية: بما تقاذفت بقاف بدل الغين وذال معجمة بدل الزاي من القذف، وهو هجاء بعضهم لبعض (يوم بعاث) بضم الباء الموحدة وتخفيف العين المهملة، وفي آخره ثاء مثلثة بالصرف وعدمه، وقال صاحب المطالع: الأشهر فيه ترك الصرف، قال البكري: هو موضع من المدينة على ليلتين، وقال صاحب النهاية: هو اسم حصن للأوس، وقيل: هو موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم، وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك، ولا منافة بين القولين، قال الخطابي: يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب، وكانت فيه مقتلة عظيمة بين الأوس والخزرج، وكانت النصرة للأوس، واستمرت المقتلة مائة وعشرين سنة حتى جاء الإسلام فألف الله بينهم ببركة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكره ابن إسحاق وغيره، وتبعه على هذا جماعة من شراح الصحيحين، قال الحافظ: وفيه نظر؛ لأنه يوهم أن الحرب التي وقعت يوم بعاث دامت هذه المدة، وليس كذلك، فسيأتي في أوائل الهجرة قول عائشة: كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله، فقدم المدينة، وقد افترق ملؤهم وقتلت سراتهم، وقد روى ابن سعد بأسانيده أن النفر الستة أو الثمانية الذين لقوا النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أول من
والنبي صلى الله عليه وسلم متغشّ بثوبه، فانتهرهما أبوبكر، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه فقال:((دعهما يا أبابكر، فإنها أيام عيد – وفي رواية -: يا أبابكر، إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)) .
ــ
لقيه من الأنصار وكانوا قد قدموا مكة ليحالفوا قريشاً كان في جملة ما قالوا له لما دعاهم إلى الإسلام والنصر له وأعلم أنما كانت وقعة بعاث عام الأول، فموعدك الموسم القابل، فقدموا في السنة التي تليها، فبايعوه، وهي البيعة الأولى، ثم قدموا الثانية فبايعوه، وهم سبعون نفساً، وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل التي تليها، فدل ذلك على أن وقعة بعاث كانت قبل الهجرة بثلاث سنين، وهو المعتمد، نعم دامت الحرب بين الحيين الأوس والخزرج المدة التي ذكرها في أيام كثيرة شهيرة – انتهى. وزاد في الرواية المذكورة: وليستا بمغنيتين، أي ليس الغناء عادة لهما، ولا هما معروفتان به، قال في شرح السنة: كان الشعر الذي تغنيان به في وصف الحرب والشجاعة، وفي ذكره معونة لأمر الدين، وأما الغناء بذكر الفواحش والمنكرات من القول فهو المحظور من الغناء، وحاشا أن يجري شيء من ذلك بحضرته – عليه الصلاة والسلام. (متغشّ بثوبه) أي متغطّ وملتفّ به (فانتهرهما أبوبكر) أي زجر الجاريتين، وفي رواية: فانتهرني، ويجمع بأنه شرك بينهن في الانتهار والزجر، أما عائشة فلتقريرها لهما على الغناء وضرب الدف، وأما الجاريتان فلفعلهما ذلك في بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في رواية وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ بكسر الميم آخره هاء التأنيث، يعني الغناء أو الدف، وهي مشتقة من الزمير، وهو الصوت الذي له صفير، ويطلق على الصوت الحسن والغناء، وسميت به الآلة التي يزمر بها، وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي، فقد تشغل القلب عن ذكر الله تعالى، وهذا من الشيطان، وهذا من أبي بكر إنكار لما سمع معتمداً على ما تقرر عنده من منع الغناء واللهو مطلقاً، ولم يعلم أنه صلى الله عليه وسلم أقرهن على هذا التقرير اليسير لكونه دخل فوجده مضطجعاً، فظنه نائماً فتوجه له الإنكار (فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن وجهه) أي الثوب، وفي رواية: فكشف رأسه (دعهما) أي أترك الجاريتين (فإنها) أي هذه الأيام (أيام عيد) أي أيام سرور وفرح شرعي لأهل الإسلام (وفي رواية) أي للشيخين (يا بابكر إن لكل قوم) أي إن لكل طائفة من الأمم المختلفة (عيداً) يسمونه باسم النيروز والمهرجان (وهذا) أي هذا الوقت أو هذا اليوم (عيدنا) أي يوم عيدنا معاشر الإسلام، وهو يوم سرور شرعي، فلا ينكر مثل هذا، قال الحافظ: قوله: ((إن لكل قوم عيداً، وهذا عيدنا)) فيه تعليل الأمر بتركهما وإيضاح خلاف ما ظنه الصديق من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه صلى الله عليه وسلم؛ لكونه دخل فوجده مغطى بثوبه، فظنه نائماً فتوجه له الإنكار على ابنته من هذه الأوجه مستصحباً لما تقرر عنده من منع الغناء واللهو، فبادر إلى إنكار ذلك قياماً عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك مستنداً إلى ما ظهر له، فأوضح له النبي صلى الله عليه وسلم الحال،
...........................
ــ
وعرفه الحكم مقروناً ببيان الحكمة بأنه يوم عيد، أي يوم سرور شرعي، فلا ينكر فيه مثل هذا كما لا ينكر في الأعراس، وبهذا يرتفع الإشكال عمن قال: كيف ساغ للصديق إنكار شيء أقره النبي صلى الله عليه وسلم، وتكلف جواباً لا يخفى تعسفه – انتهى. وقال الطيبي: وهذا اعتذار منه – عليه الصلاة والسلام – بأن إظهار السرور في يوم العيدين شعار أهل الدين، وليس كسائر الأيام. قال النووي: اختلف العلماء في الغناء، فأباحه جماعة من أهل الحجاز، وهي رواية عن مالك، وحرمه أبوحنيفة وأهل العراق، ومذهب الشافعي كراهته، وهو المشهور من مذهب مالك، واحتج المجوزون بهذا الحديث، وأجاب الآخرون بأن هذا الغناء إنما كان في الشجاعة والقتل والحذق في القتال ونحو ذلك مما لا مفسدة فيه، بخلاف الغناء المشتمل على ما يهيج النفوس على الشر، ويحملها على البطالة والقبيح، قال القاضي: إنما كان غناهما بما هو من أشعار الحرب والمفاخرة بالشجاعة والظهور والغلبة، وهذا لا يهيج الجواري على شر، ولا إنشادهما كذلك من الغناء المختلف فيه، وإنما هو رفع الصوت بالإنشاد، ولهذا قالت: وليستا بمغنيتين، أي ليستا ممن يغنى بعادة المغنيات من التشويق والهوى، والتعريض بالفواحش، والتشبيب بأهل الجمال وما يحرك النفوس ويبعث الهوى، والغزل كما قيل:"الغناء رقية الزنا"، وليستا أيضاً ممن اشتهر وعرف بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن، ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذ ذلك صنعة وكسباً، والعرب تسمى الإنشاد غناء، وليس هو من الغناء المختلف فيه، بل هو مباح، وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء وفعلوه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل هذا إباحة مثل هذا وما في معناه، وهذا أو مثله ليس بحرام – انتهى كلام النووي. وقال الحافظ في الفتح: استدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة، ويكفي في رد ذلك تصريح عائشة بقولها:"وليستا بمغنيتين" فنفت عنهما من طريق المعنى ما أثبتته لهما باللفظ؛ لأن الغناء يطلق على رفع الصوت وعلى الترنم الذي تسميه العرب النصب – بفتح النون وسكون المهملة – وعلى الحداء، ولا يسمى فاعله مغنياً، وإنما يسمى بذلك من ينشد بتمطيط وتكسير، وتهييج وتشويق بما فيه تعريض بالفواحش أو تصريح. قال القرطبي: قولها "ليستا بمغنيتين" أي ليستا ممن يعرف الغناء كما يعرفه المغنيات المعروفات بذلك، وهذا منها تحرز عن الغناء المعتاد عند المشتهرين به، وهو الذي يحرك الساكن، ويبعث الكامن، وهذا النوع إذا كان في شعر فيه وصف محاسن النساء والخمر وغيرهما من الأمور المحرمة لا يختلف في تحريمه، لكن النفوس الشهوانية غلبت على كثير ممن ينسب إلى الخير، حتى لقد ظهرت من كثير منهم فعلات المجانين والصبيان، حتى رقصوا بحركات متطابقة وتقطيعات متلاحقة، وانتهى التواقح بقوم منهم إلى أن جعلوها من باب القرب وصالح الأعمال، وإن ذلك يثمر سنتي الأحوال، وهذا على التحقيق من آثار الزندقة وقول أهل المخرفة، والله المستعان – انتهى. قال الحافظ: وينبغي أن يعكس مرادهم ويقرأ سيّء عوض النون
متفق عليه.
1447-
(8) وعن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات،
ــ
الخفيفة المكسورة بغير همز بمثناة تحتية ثقيلة مهموزاً، وأما الآلات فقد حكى قوم الإجماع على تحريمها، وحكى بعضهم عكسه، وقد بسط الكلام في ذلك الشوكاني في النيل في آخر أبواب السبق، والعلامة البوفالي في دليل الطالب وهداية السائل، وسنذكر تفصيل المسألة في كتاب النكاح، وفي الموضع الذي يليق بذلك إن شاء الله تعالى، ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه، كما سنبينه في كتاب النكاح، قال الحافظ: وأم التفافه صلى الله عليه وسلم بثوب ففيه إعراض عن ذلك لكون مقامه يقتضي أن يرتفع عن الإصغاء إلى ذلك، لكن عدم إنكاره دال على تسويغ مثل ذلك على الوجه الذي أقره، إذ لا يقرر على باطل، والأصل التنزه عن اللعب واللهو، فيقتصر على ما ورد فيه النص وقتاً وكيفية تقليلاً لمخالفة الأصل. وفي هذا الحديث من الفوائد مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة، وأن الإعراض عن ذلك أولى، وفيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعار الدين، وفيه جواز دخول الرجل على ابنته وهي عند زوجها إذا كان له بذلك عادة، وتأديب الأب بحضرة الزوج وإن تركه الزوج، إذ التأديب وظيفة الآباء، والعطف مشروع من الأزواج للنساء. وفيه أن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو، وإن لم يكن فيه إثم إلا بإذنهم. وفيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستكره مثله بادر إلى إنكاره، ولا يكون في ذلك إفتيات على شيخه، بل هو أدب منه ورعاية لحرمته، وإجلال لمنصبه. وفيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته، ويحتمل أن يكون أبوبكر ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم نام فخشي أن يستيقظ، فيغضب على ابنته، فبادر إلى سدر هذه الذريعة، واستدل به على جواز سماع صوت الجارية بالغناء ولو لم تكن مملوكة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر على أبي بكر سماعه، بل أنكر إنكاره واستمرتا إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج، ولا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك، واستنبط من تسمية أيام منى بأنها أيام عيد مشروعية قضاء صلاة العيد فيها لمن فاتته – انتهى كلام الحافظ. (متفق عليه) واللفظ للخاري في باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والنسائي.
1447-
قوله (لا يغدو) أي لا يخرج إلى المصلى لصلاة العيد (يوم الفطر) أي يوم عيد الفطر (حتى يأكل تمرات) ولفظ الإسماعيلي وابن حبان والحاكم: ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، أو أقل من ذلك أو أكثر وتراً، وهي أصرح في المداومة على ذلك، قال المهلب: الحكمة في الأكل قبل الصلاة أن
ويأكلهن وتراً)) رواه البخاري.
1448-
(9) وعن جابر قال: ((كان صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق)) .
ــ
لا يظن ظان لزوم الصوم حتى يصلى العيد، فكأنه أراد سدّ هذه الذريعة، وقيل: لما وقع وجوب الفطر عقب وجوب الصوم استحب تعجيل الفطر مبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، ويشعر بذلك اقتصاره على القليل من ذلك، ولو كان لغير الامتثال لأكل قدر الشبع، وسيأتي توجيه آخر لابن المنير في شرح حديث بريدة في الفصل الثاني. قال ابن قدامة لا نعلم في استحباب تعجيل الأكل يوم الفطر اختلافاً – انتهى. والحكمة في استحباب التمر لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، ولأن الحلو مما يوافق الإيمان، ويعبر به المنام، ويرق به القلب، وهو أيسر من غيره، ومن ثم استحب بعض التابعين أنه يفطر على الحلو مطلقاً كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه معنى آخر عن ابن عون أنه سئل عن ذلك، فقال: إنه يحبس البول، وهذا كله في حق من يقدر على ذلك، وإلا فينبغي أن يفطر ولو على الماء ليحصل له شبه ما من الاتباع (ويأكلهن) بالرفع (وتراً) ولفظ أحمد "ويأكلهن أفراداً" والحكمة في جعلهن وتراً الإشارة إلى الوحدانية، وكذلك كان يفعل صلى الله عليه وسلم في جميع أموره تبركاً بذلك (رواه البخاري) ، وأخرجه أيضاً أحمد والبخاري في تاريخه والترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم (ج1 ص394) ، والبيهقي (ج3 ص282-283) ، وقول المصنف رواه البخاري فيه شيء؛ لأن جملة "ويأكلهن وتراً" أوردها البخاري تعليقاً ووصلها أحمد وغيره، وإيراد المصنف يقتضي أنه يرويها في صحيحه موصولاً، وليس كذلك، فإنه أخرج الحديث موصولاً مسنداً من طريق هشيم عن عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس إلى قوله:"حتى يأكل تمرات" ثم قال: وقال مُرَجَّى بن رجاء: حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأكلهن وتراً، ويمكن أن يقال من قبل المصنف أنه لم يلتزم بيان التمييز بين الموصولات والمعلقات في ديباجة الكتاب، لكن مواقع استعمالاته في بيان المخرج يشعر بالالتزام حيث قال في بعض المواضع: رواه البخاري، والأمر فيه هين، قاله ميرك. قلت: قوله رواه البخاري لا يخلو عن نظر، والأمر ليس بهين، كما لا يخفى على المتأمل الخبير، والظاهر أن المصنف قلد في ذلك الجزري حيث قال في جامع الأصول (ج7 ص97) بعد ذكر الحديث إلى قوله:"ويأكلهن وتراً" رواه البخاري.
1448-
قوله (إذا كان يوم عيد) بالرفع فاعل "كان" وهي تامة تكتفي بمرفوعها أي إذا وقع يوم عيد، وجواب إذا قوله (خالف الطريق) أي رجع من مصلاه في غير طريق الذهاب إليه يعني يخرج إليه من طريق، ويرجع من أخرى، ففي رواية الإسماعيلي: كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه،
رواه البخاري.
ــ
فيستحب الذهاب إلى صلاة العيد في طريق، والرجوع في طريق أخرى للإمام والمأموم جميعاً تأسياً واقتداء به صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحنفية والحنابلة وأكثر الشافعية. قال الحافظ في الفتح: وبه قال أكثر أهل العلم، وقد اختلف في الحكمة في مخالفته صلى الله عليه وسلم الطريق في الذهاب والرجوع يوم العيد على أقوال كثيرة. قال الحافظ: اجتمع لي منها أكثر من عشرين قولاً، فقيل إنه فعل ذلك ليشهد له الطريقان، وقيل: سكانهما من الجن والإنس، وقيل: ليسوي بينهما في مزية الفضل بمروره أو في التبرك به أو ليشم رائحة المسك من الطريق التي يمر بها؛ لأنه كان معروفاً بذلك، وقيل: ليزور أقاربه الأحياء والأموات، وقيل: ليصل رحمه، وقيل: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضاء. وقيل: لاظهار شعار الإسلام فيهما، وقيل: لإظهار ذكر الله، وقيل: ليغيظ المنافقين أو اليهود. وقيل: ليرهبهم بكثرة من معه، وقيل: فعل ذلك ليعمهم في السرور به، أو التبرك بمروره وبرؤيته، والانتفاع به في قضاء حوائجهم في الاستفتاء، أو التعلم والاقتداء والاسترشاد، أو الصدقة، أو السلام عليهم، أو غير ذلك. وقيل: لأن الملائكة تقف في الطرقات، فأراد أن يشهد له فريقان منهم. وقيل: لئلا يكثر الازدحام، وقيل: لأن عدم التكرار أنشط عند طباع الأنام، وقيل: غير ذلك، وأشار ابن القيم إلى أنه فعل ذلك لجميع ما ذكر من الأشياء المحتملة القريبة. قال القسطلاني: ثم من شاركه صلى الله عليه وسلم في المعنى ندب له ذلك، وكذا من لم يشاركه في الأظهر تأسياً به – عليه الصلاة والسلام – كالرمل والاضطباع سواء فيه الإمام والمأموم. وقال ابن قدامة: وفي الجملة الاقتداء به سنة لاحتمال بقاء المعنى الذي فعله من أجله، ولأنه قد يفعل الشيء لمعنى، ويبقى في حق غيره سنة مع زوال المعنى كالرمل والاضطباع في طواف القدوم، وفعله هو وأصحابه لإظهار الجلد للكفار، وبقي سنة بعد زوالهم، ولهذا روى عن عمر – رضي الله عنه – أنه قال: يم الرملان الآن ولمن نبدي مناكبنا؟ وقد نفى الله المشركين، ثم قال مع ذلك: لا ندع شيئاً فعلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (رواه البخاري) من طريق فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر. واختلف الرواة في الرواية عن فليح، فبعضهم جعله عن جابر، كما في البخاري والبيهقي (ج3 ص308) وبعضهم جعله عن أبي هريرة، وهو عند أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان والحاكم (ج1 ص296) ، والبيهقي (ج3 ص308) أيضاً، وقد رجح البخاري كونه عن جابر حيث قال: حديث جابر أصح، وكذا رجحه الترمذي تبعاً لشيخه البخاري، وخالفه أبومسعود الدمشقي، فرجح أنه عن أبي هريرة. قال الحافظ: ولم يظهر لي في ذلك ترجيح، وقال الشيخ أحمد شاكر: وأنا أرجح صحتهما معاً سمع سعيد بن الحارث الحديثين من جابر وأبي هريرة، فكان يروي مرة حديث هذا ومرة حديث ذاك، قال الحافظ: قد تفرد بهذا الحديث فليح، وهو مضعف عند ابن معين والنسائي وأبي داود، ووثقه آخرون، فحديثه من قبيل الحسن، لكن له شواهد من حديث ابن عمر وسعد
1449-
(10) وعن البراء قال: خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: ((إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو شاة لحم
ــ
القرظ وأبي رافع وعثمان بن عبيد الله التيمي وغيرهم يعضد بعضها بعضاً، فعلى هذا فهو من القسم الثاني من قسمي الصحيح – انتهى.
1449-
قوله (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم) أي في المدينة (يوم النحر) أي يوم عيد الأضحى بعد أن صلى العيد (فقال) أي في خطبته (إن أول ما نبدأ به) بصيغة المتكلم والجمع بين الأول، و"ما نبدأ به" للتأكيد والمبالغة (في يومنا هذا) أي يوم عيد النحر (أن نصلي) صلاة العيد، قيل: المعنى أول ما يكون به الابتداء في هذا اليوم الصلاة التي بدأنا بها، وقدمنا فعلها، فعبر بالمستقل عن الماضي، وهو مثل قوله تعالى:{وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا} [البروج: 8] أي الإيمان المتقدم منهم، وفي رواية للبخاري: خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أضحى إلى البقيع فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه، فقال: ((إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، ثم نرجع فننحر
…
)) الحديث، وهذا ظاهر في أن ذلك الكلام وقع منه بعد الصلاة للإعلام بأن ما فعله من تقديم الصلاة ثم الخطبة، وأن تقديم كل من هذين على الذبح هو المشروع الذي لا ينبغي مخالفته (ثم نرجع) من المصلى إلى المنزل (فننحر) بالنصب فيهما عطفاً على نصلى، ويرفعان أي نحن نرجع فننحر أي ما من شأنه، أي ينحر، ونذبح ما من شأنه أن يذبح من الأضحية، وقيل: المراد بالنحر هنا الذي هو في لبة الإبل ما يشمل الذبح، وهو ما في الحلق مطلقاً، وقد يطلق النحر على الذبح بجامع إنهار الدم، ثم التعقيب بـ"ثم" لا يستلزم عدم تخلل أمر آخر بين الأمرين، فلا يدل ذلك على تقديم الخطبة على الصلاة (فمن فعل ذلك) أي ما ذكر من تقديم الصلاة على الذبح يعني أخر النحر عن الصلاة (فقد أصاب سنتنا) أي طريقتنا وصادف شريعتنا (ومن ذبح) أي أضحيته (قبل أن نصلي) العيد (فإنما هو) أي المذبوح المفهوم من ذبح (شاة لحم) أي ليست أضحية ولا ثواب فيها، بل هو مجرد لحم يؤكل ليس فيه معنى العبادة، قال الطيبي: هذه الإضافة بيانية كخاتم فضة أي شاة هي لحم؛ لأن الشاة شاتان: شاة يأكل لحمها الأهل، وشاة نسك، يتصدق بها لله تعالى، وقال القسطلاني: استشكلت هذه الإضافة بأن الإضافة إما معنوية مقدرة بمن كخاتم حديد أو باللام كغلام زيد أو بفي كضرب اليوم أي ضرب في اليوم، وأما لفظية صفة مضافة إلى معمولها، كضارب زيد وحسن الوجه، ولا يصح شيء منها في شاة لحم. وأجيب بأن الإضافة بتقدير محذوف أي شاة طعام لحم، أي لإطعام نسك أو ما أشبه ذلك يعني شاة لحم غير
عجله لأهله، ليس من النسك في شيء)) .
ــ
نسك، فهي مضافة إلى محذوف أقيم المضاف إليه مقامه – انتهى. والتعبير بالشاة للغالب، إذ البقر والإبل كذلك (عجله لأهله) أي قدمه لهم ينتفعون به (ليس من النسك) بضمتين (في شيء) أي ليس من العبادة فلا ثواب فيها بل هي لحم ينتفع به أهله، قال الحافظ: النسك يطلق ويراد به الذبيحة، ويستعمل في نوع خاص من الدماء المراقة، ويستعمل بمعنى العبادة، وهو أعم، يقال: فلا ناسك أي عابد، وقد استعمل في حديث البراء بالمعنى الثالث – انتهى. والحديث يدل على أن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة مع الإمام، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام وأن من ذبح قبل الصلاة لم يجزئه عن الأضحية، واختلف العلماء في أول وقت التضحية. قال ابن المنذر: أجمعوا على أنها لا يجوز قبل طلوع الفجر يوم النحر، واختلفوا فيما بعد ذلك. فقال الشافعي وداود وآخرون: يدخل وقتها إذا طلعت الشمس، ومضى قدر صلاة العيد وخطبتين، فإن ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى الإمام أم لا، وسواء صلى المضحى أم لا، وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى والبوادي والمسافرين، وسواء ذبح الإمام أضحيته أم لا. قال القرطبي: ظواهر الأحاديث تدل على تعليق الذبح بالصلاة، لكن لما رأى الشافعي أن من لا صلاة عيد عليه مخاطب بالتضحية حمل الصلاة على وقتها. قال الحافظ: وإنما شرط الشافعية فراغ الخطبة؛ لأن الخطبتين مقصودتان مع الصلاة في هذه العبادة، فيعتبر مقدار الصلاة والخطبتين على أخف ما يجزئ بعد طلوع الشمس. وقال أبوحنيفة: يدخل وقتها في حق أهل القرى والبوادي إذا طلع الفجر الثاني، ولا يدخل في حق أهل الأمصار حتى يصلي الإمام ويخطب، فإن ذبح قبل ذلك لم يجزئه. وقال مالك: لا يجوز ذبحها إلا بعد صلاة الإمام وخطبته وذبحه ، واستدل له بحديث جابر قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بالمدينة، فتقدم رجال فنحروا وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه أحمد ومسلم، وهو صريح في أن الاعتبار بنحر الإمام، وأنه لا يدخل وقت التضحية إلا بعد نحره، ومن فعل قبل ذلك أعاد. وقال أحمد: لا يجوز قبل صلاة الإمام ويجوز بعدها قبل ذبح الإمام، وسواء عنده أهل الأمصار والقرى، ونحوه عن الحسن والأوزاعي وإسحاق به راهويه. قال الحافظ: وهو وجه للشافعية قوي من حيث الدليل، وإن ضعفه بعضهم، ومثله قول الثوري: يجوز بعد صلاة الإمام قبل خطبته وفي أثنائها. وقال ربيعة فيمن لا إمام له: إن ذبح طلوع الشمس لا يجزئه، وبعد طلوعها يجزئه. قلت: الراجح عندي من هذه الأقوال هو ما ذهب إليه أحمد ومن وافقه من أن وقت التضحية بعد صلاة الإمام، فالمؤثر في عدم الإجزاء هو الذبح قبل الصلاة، وسواء في ذلك أهل القرى والأمصار، وهذا لظواهر الأحاديث الواردة في
متفق عليه.
1450-
(11) وعن جندب بن عبد الله البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يذبح حتى صلينا، فليذبح على اسم الله)) .
ــ
الباب؛ لأنها متفقة على تعليق الذبح بالصلاة فقط من غير تفريق بين أهل القرى والأمصار، وأما حديث جابر الذي استدل به لمالك فتأوله الجمهور على أن المراد زجرهم عن التعجيل الذي قد يؤدي إلى فعلها قبل الوقت، ولهذا جاء في باقي الأحاديث التقييد بالصلاة، وإن من ضحى بعدها أجزأه، ومن لا فلا، ويؤيد ذلك من طريق النظر أن الإمام لو لم يذبح لم يكن ذلك مسقطاً عن الناس مشروعية الذبح، ولو أن الإمام ذبح قبل أن يصلي لم يجزئه ذبحه، فدل على أنه هو والناس في وقت الأضحية سواء، وأما إذا لم يكن ثم إمام فالظاهر أنه يعتبر لكل مضح بصلاته، ولا يصلح للتمسك لمن جوز الذبح من طلوع الشمس وهو ربيعة، أو من طلوع الفجر وهو أبوحنيفة في حق غير أهل الأمصار، ما ورد من أن يوم النحر يوم ذبح؛ لأنه كالعام، وأحاديث الباب خاصة فيبنى العام على الخاص – والله تعالى أعلم. (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والأضاحي والأيمان والنذور، ومسلم في الأضاحي بألفاظ مختلفة، واللفظ الذي أتى به المصنف للبخاري في باب التبكير للعيد إلا أن في هذه الرواية عنده "فإنما هو لحم" مكان قوله "فإنما هو شاة لحم"، والحديث أخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص283-284، 311) .
1450-
قوله (وعن جندب) بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها (بن عبد الله) بن سفيان، وربما نسب إلى جده، فقيل: جندب بن سفيان (البجلي) بفتح الموحدة والجيم نسبة إلى بَجِيلة (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر في المدينة (من ذبح) أضحيته (قبل الصلاة) أي قبل صلاة العيد (فليذبح مكانها أخرى) تأنيث آخر، وهي صفة لمحذوف أي ذبيحة أخرى أو شاة أخرى، فإن الأولى لا تحسب من النسك (ومن لم يذبح) ولفظ البخاري: ومن كان لم يذبح، وفي رواية لمسلم: ومن لم يكن ذبح (فليذبح على اسم الله)، وفي رواية لمسلم: فليذبح باسم الله، قال النووي: قوله: "فليذبح على اسم الله" هو بمعنى رواية فليذبح باسم الله، أي قائلاً باسم الله، والجار والمجرور متعلق بمحذوف، وهو حال من الضمير في قوله:"فليذبح"، وهذا أولى ما حمل عليه الحديث، وصححه النووي، ويؤيده ما ورد في حديث أنس عند البخاري: وسمى وكبر، وقال عياض: يحتمل أربعة أوجه: أحدها أن يكون معناه فليذبح لله، والباء تجيء بمعنى اللام، والثاني: معناه فليذبح بسنة الله، والثالث: بتسمية الله على ذبيحته إظهاراً للإسلام، ومخالفة لمن يذبح لغيره،
متفق عليه.
1451-
(12) وعن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين)) متفق عليه.
1452-
(13) وعن ابن عمر قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى.
ــ
وقمعاً للشيطان. والرابع: متبركاً باسمه ومتيمناً بذكره، كما يقال: سر على بركة الله، وسر باسم الله. قال: وأما كراهة بعض العلماء أن يقال: افعل كذا على اسم الله؛ لأن اسمه سبحانه على كل شيء، فضعيف ليس بشيء، قال: وهذا الحديث يرد على هذا القائل. قال الحافظ: ويحتمل وجهاً خامساً أن يكون معنى قوله: "بسم الله" مطلق الإذن في الذبيحة؛ لأن السياق يقتضي المنع قبل ذلك والإذن بعد ذلك، كما يقال للمستأذن بسم الله أي أدخل، وقد استدل بهذا الأمر في قوله:"فليذبح مكانها أخرى" على وجوب الأضحية، ومن لا يقول به يحمله على أن المقصود بالبيان أن السنة لا تتأدى بالأولى، بل يحتاج إلى الثانية، فالمراد فليذبح مكانها أخرى لتحصيل سنة إن أرادها (متفق عليه) أخرجه البخاري في العيدين والذبائح والأضاحي والأيمان والنذور والتوحيد، ومسلم في الأضاحي، واللفظ للبخاري في الذبائح في باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: فليذبح على اسم الله، والحديث أخرجه أيضاً النسائي وابن ماجه والبيهقي (ج3 ص312، 262، ج9 ص277) .
1451-
قوله (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي في خطبته بعد أن صلى العيد يوم النحر (من ذبح قبل الصلاة) أي صلاة العيد (فإنما يذبح) أضحيته (لنفسه) لحماً يأكله، ليس بنسك أي أضحية يعني لا ثواب فيه (ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه) أي عبادته وصح أضحيته (وأصاب سنة المسلمين) أي وافق طريقتهم وصادف شريعتهم. وهذا الحديث والذي قبله صريح في مذهب أحمد ومن وافقه في تعليق الذحب بفعل الصلاة وأن وقت الذبح يدخل بعد فعل الصلاة، ولا يشترط التأخير إلى نحر الإمام (متفق عليه) واللفظ للبخاري في "باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بردة: ضح بالجذع من المعز" من كتاب الأضاحي، وأخرجه أيضاً بعين هذا اللفظ من حديث أنس في أول الأضاحي.
1452-
قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يذبح) أي البقرة والشاة (وينحر) أي الإبل (بالمصلى) أي الجبانة بعد أن يصلي العيد ليرغب الناس فيه، وليقتدوا به، وليتعلموا منه صفة الذبح، فيه استحباب أن يكون الذبح والنحر بالمصلى، والحكمة في ذلك أن يكون بمرأى من الفقراء، فيصيبون من لحم الأضحية، وقيل: لأن الأضحية من