المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌{الفصل الأول} 1510- (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(46) باب صلاة الخوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(47) باب صلاة العيدين

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(48) باب في الأضحية

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(49) باب العتيرة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(50) باب صلاة الخسوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(51) باب في سجود الشكر

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌(52) باب الاستسقاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(53) باب في الرياح

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) كتاب الجنائز

- ‌(1) باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌{الفصل الأول}

- ‌((الفصل الثاني))

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب تمنى الموت وذكره

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب غسل الميت وتكفينه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب دفن الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب البكاء على الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب زيارة القبور

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: ‌ ‌{الفصل الأول} 1510- (1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج

{الفصل الأول}

1510-

(1) عن عبد الله بن زيد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس إلى المصلى يستسقي، فصلى بهم ركعتين،

ــ

ومجتمعين. وثانيها – وهو أفضل من الأول – أن يكون بالدعاء، خلف الصلوات ولو نافلة كما في البيان وغيره عن الأصحاب، خلافاً لما وقع للنووي في شرح مسلم من تقييده بالفرائض، وفي خطبة الجمعة. وثالثها – وهو أفضلها وأكملها – أن يكون بصلاة ركعتين والخطبتين. قال النووي: يتأهب قبله بصدقة وصيام وتوبة وإقبال على الخير ومجانبة الشر ونحو ذلك من طاعة الله تعالى. قال الشاه ولي الله الدهلوي: قد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلاً متواضعاً متضرعاً، فصلى بهم ركعتين، جهر فيهما بالقراءة، ثم خطب واستقبل فيها القبلة يدعو ويرفع يديه، وحول رداءه، وذلك لأن لاجتماع المسلمين في مكان واحد راغبين في شيء واحد بأقصى هممهم واستغفارهم وفعلهم الخيرات أثراً عظيماً في استجابة الدعاء، والصلاة أقرب أحوال العبد من الله، ورفع اليدين حكاية من التضرع التام، والابتهال العظيم تنبه النفس على التخشع، وتحويل ردائه حكاية عن تقلب أحوالهم كما يفعل المستغيث بحضرة الملوك – انتهى.

1510-

قوله (عن عبد الله بن زيد) بن عاصم المازني، لا عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان كما زعم ابن عيينة (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس) في شهر رمضان سنة ست من الهجرة، أفاده ابن حبان، قاله الحافظ. وهذا يدل على أن بدأ مشروعية صلاة الاستسقاء كان في رمضان سنة (6) من الهجرة. (إلى المصلى) أي في المدينة، وفيه دليل على أن سنة الاستسقاء البروز إلى المصلى، وقد حكى ابن عبد البر الإجماع على استحباب الخروج إلى الاستسقاء، والبروز إلى ظاهر المصر. (يستسقي) حال أي حال كونه يريد الاستسقاء، أو استئناف فيه معنى التعليل (فصلى بهم ركعتين) فيه دليل على أن الصلاة في الاستسقاء في جماعة في حالة البروز سنة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وهو قول أبي يوسف ومحمد، قال محمد في موطأه: أما أبوحنيفة فكان لا يرى في الاستسقاء صلاة، وأما في قولنا: فإن الإمام يصلي بالناس ركعتين ثم يدعو ويحول رداءه – انتهى. كذا ذكر شيخنا في شرح الترمذي. قلت: اختلفوا في حكم صلاة الاستسقاء جداً، فقال أبويوسف ومحمد: هي سنة، وقالت المالكية والشافعية والحنابلة: إنها سنة مؤكدة، واضطربت الحنفية في بيان مذهب إمامهم، فقال بعضهم: إنه إنما أنكر سنية صلاة الاستسقاء في جماعة ولم ينكر مشروعيتها وجوازها، قال صاحب الهداية: قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، وإن صلى الناس وحداناً جاز، وإنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار، قال: فعله مرة وتركه أخرى، فلم يكن سنة، قال ابن الهمام: وإنما يكون سنة ما واظب عليه، وقال بعضهم: أنكر أبوحنيفة مشروعية صلاة

ص: 170

.....................

ــ

الاستسقاء بجماعة، قال صاحب البدائع: وأما صلاة الاستسقاء فظاهر الرواية عن أبي حنيفة أنه قال: لا صلاة في الاستسقاء، وإنما هو الدعاء، وأراد بقوله: لا صلاة في الاستسقاء: الصلاة بجماعة، أي لا صلاة فيه بجماعة، بدليل ما روي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أباحنيفة عن الاستسقاء هل فيه صلاة أو دعاء مؤقت أو خطبة؟ فقال: أما صلاة بجماعة فلا، ولكن الدعاء والاستغفار، وإن صلوا وحداناً فلا بأس به، والدليل له قوله:{واستغفروا ربكم إنه كان غفاراً} [نوح: 10] ، والمراد منه الاستغفار في الاستسقاء، فمن زاد عليه الصلاة فلا بد له من دليل، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم في الروايات المشهورة أنه صلى في الاستسقاء

إلى آخر ما قال. وقال بعضهم: لم ينكر أبوحنيفة استنان صلاة الاستسقاء بجماعة واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، قال بعض من كتب على المشكاة من أهل عصرنا ما لفظه: صلاة الاستسقاء سنة عند أبي حنيفة، لكنها غير مؤكدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها مرة وتركها مرة، واقتصر على الاستغفار فقط، قال: فقد استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة، كما في حديث أنس في الصحيحين ولم يصل له، وثبت أن عمر بن الخطاب استسقى ولم يصل ولو كانت سنة – أي مؤكدة – لما تركها؛ لأنه كان أشد الناس اتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأويل ما رواه أنه صلى الله عليه وسلم فعله مرة وتركه أخرى، والسنة لا تثبت بمثله بل بالمواظبة، كذا في التبيين – انتهى. وقال صاحب العرف الشذي: قال في الهداية: لأنه – عليه السلام – صلى مرة لا أخرى، فلا تكون سنة

الخ. أقول: لا تكون سنة مؤكدة، وإلا فمطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية أنه – عليه السلام – صلى مرة. وقال المحقق ابن أمير الحاج: نسب البعض إلينا أن الصلاة عندنا منفية، وهذا غلط، والصحيح أن الصلاة عندنا مستحبة

الخ – انتهى كلام صاحب العرف. ولعلك قد عرفت بما ذكرنا وجه تخبط الحنفية في بيان مذهب إمامهم، وهو أنه قد نفى الصلاة في الاستسقاء مطلقاً كما هو مصرح في كلام أبي يوسف ومحمد في بيان مذهب أبي حنيفة، ولا شك أن قوله هذا مخالف ومنابذ للسنة الصحيحة الثابتة الصريحة، فاضطربت الحنفية لذلك وتخبطوا في تشريح مذهبه وتعليله حتى اضطر بعضهم إلى الاعتراف بأن الصلاة في الاستسقاء بجماعة سنة، وقال: لم ينكر أبوحنيفة سنيتها واستحبابها، وإنما أنكر كونها سنة مؤكدة، وهذا كما ترى من باب توجيه الكلام بما لا يرضى به قائله؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لم يكن بينه وبين صاحبيه خلاف، مع أنه قد صرح جميع الشراح وغيرهم ممن كتب في اختلاف الأئمة بالخلاف بينه وبين الجمهور في هذه المسألة. قال شيخنا في شرح الترمذي: قول الجمهور هو الصواب والحق؛ لأنه قد ثبت صلاته صلى الله عليه وسلم ركعتين في الاستسقاء من أحاديث كثيرة صحيحة. منها: حديث عبد الله بن زيد – الذي نحن بصدد شرحه -، وهو حديث متفق عليه. ومنها: حديث أبي هريرة، أخرجه أحمد وابن ماجه وأبوعوانة والطحاوي والبيهقي في السنن

ص: 171

..........................

ــ

(ج3 ص347) وقال تفرد به النعمان بن راشد. وقال في الخلافيات: رواته ثقات. ومنها حديث ابن عباس أخرجه أحمد وأصحاب السنن وأبوعوانة وابن حبان والحاكم والبيهقي والدارقطني، وصححه الترمذي وأبوعوانة وابن حبان. ومنها: حديث عائشة أخرجه أبوداود وقال: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه، والحاكم وأبوعوانة والبيهقي، وصححه الحاكم وابن السكن، وسيأتي في الفصل الثالث. قال الشيخ: فهذه الأحاديث حجة بينه لقول الجمهور، وهي حجة على الإمام أبي حنيفة – انتهى. ويدل لقول الجمهور أيضاً ما روى البخاري ومسلم والبيهقي عن أبي إسحاق قال: خرج عبد الله بن يزيد الأنصاري – وقد كان رأى النبي صلى الله عليه وسلم وكان خروجه إلى الصحراء بأمر عبد الله بن الزبير حين كان أميراً على الكوفة من جهته -، وخرج معه البراء بن عازب وزيد بن أرقم فاستسقى فقام لهم على رجليه على غير منبر فاستسقى ثم صلى ركعتين يجهر بالقراءة ولم يؤذن ولم يقم. قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في تعليقه (ص155) على موطأ الإمام محمد بعد ذكر الأحاديث الأربعة المرفوعة ما نصه: وبه ظهر ضعف قول صاحب الهداية في تعليل مذهب أبي حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسقى، ولم ترو عنه الصلاة – انتهى. فإنه إن أراد أنه لم يرو بالكلية، فهذه الأخبار تكذبه، وإن أراد أنه لم يرو في بعض الروايات – أو في كثير من الروايات – فغير قادح – انتهى. قال العيني في شرح البخاري (ج7 ص35-36) قال أبوحنيفة: ليس في الاستسقاء صلاة مسنونة في جماعة، فإن صلى الناس وحداناً جاز، إنما الاستسقاء الدعاء والاستغفار لقوله تعالى:{استغفروا ربكم إنه كان غفاراً. يرسل السماء عليكم مدراراً} [نوح: 10-11] ، علق نزول الغيث بالاستغفار لا بالصلاة، فكان الأصل فيه الدعاء دون الصلاة، ويشهد لذلك أحاديث، ثم ذكر أحاديث الاستسقاء وآثاره التي ليس فيها ذكر الصلاة، ثم قال: فهذه الأحاديث والآثار كلها تشهد لأبي حنيفة أن الاستسقاء دعاء واستغفار – انتهى. وأجيب عن الآية بأنها لا تنافي سنية الصلاة في الاستسقاء، إذ ليس فيها نفيها، وكذا ليس فيها حصر الاستسقاء في الدعاء والاستغفار، بل هي ساكتة عن ذكر الصلاة نفياً وإثباتاً، وقد ثبت بأحاديث صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم صلى مع الناس في الاستسقاء فالاستدلال لأبي حنيفة بالآية ليس بصحيح، ولذلك خالفه صاحباه الإمام أبويوسف ومحمد وغيرهما، وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي: الفتوى على قول صاحبيه. وأما الأحاديث التي ذكرها العيني ونقلها عنه صاحب الأوجز فليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم استسقى ولم يصل بل غاية ما فيها ذكر الاستسقاء بدون ذكر الصلاة ولا يلزم من عدم ذكر الشيء عدم وقوعه فالاستشهاد بها لأبي حنيفة على عدم كون الصلاة في الاستسقاء سنة غير صحيح. قال النووي: أما الأحاديث التي ليس فيها ذكر الصلاة فبعضها محمول على نسيان الراوي، وبعضها كان في الخطبة للجمعة، ويتعقبه الصلاة للجمعة

ص: 172

...........................

ــ

فاكتفى بها ولو يصل أصلاً كان بياناً لجواز الاستسقاء بالدعاء بلا صلاة ولا خلاف في جوازه وتكون الأحاديث المثبتة للصلاة مقدمة؛ لأنها زيادة علم، ولا معارضة بينهما، ثم ذكر النووي أنواع الاستسقاء التي ذكرنا في أول الباب، وقال ابن رشد بعد ذكر بعض الأحاديث والآثار التي ليس فيها ذكر الصلاة ما لفظه: والحجة للجمهور أنه من لم يذكر شيئاً فليس هو بحجة على من ذكره، والذي يدل عليه اختلاف الآثار في ذلك ليس عندي فيه شيء أكثر من أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، إذ قد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قد استسقى على المنبر لا أنها ليست من سنته كما ذهب إليه أبوحنيفة – انتهى. وأجاب العيني عن الأحاديث التي فيها الصلاة بأنه صلى الله عليه وسلم فعلها مرة – أي واحدة – وتركها أخرى – أي في مرات أخرى – وذا لا يدل على السنية، وإنما يدل على الجواز – انتهى. وفيه أنه لم يرو في حديث صحيح أو ضعيف نفي الصلاة وعدم نقل الصلاة لا يستلزم عدم الوقوع، فدعوى أنه لم يصل إلا مرة واحدة وتركها أخرى مردودة، ولو سلم فصلاته في المصلى في الاستسقاء ولو مرة تدل على أنها سنة في حق أمته من غير شك، كما قال صاحب العرف الشذي: إن مطلق السنة والاستحباب لا يمكن إنكاره لما قال صاحب الهداية: أنه – عليه السلام – صلى مرة، وكما قال الشاه ولي الله الدهلوي: إن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى لأمته مرات على أنحاء كثيرة، لكن الوجه الذي سنه لأمته أن خرج بالناس إلى المصلى متبذلاً متواضعاً متضرعاً فصلى بهم ركعتين

إلى آخر ما تقدم من كلامه. وقال الشيخ عبد الحي اللكنوي في التعليق الممجد: وأما ما ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مرة وتركه أخرى فلم يكن سنة فليس بشيء، فإنه لا ينكر ثبوت كليهما – أي على زعمه – مرة هذا ومرة هذا لكن يعلم من تتبع الطرق أنه لما خرج إلى الصحراء صلى فتكون الصلاة مسنونة في هذه الحالة بلا ريب ودعائه المجرد كان في غير هذه الصورة – انتهى. قال القسطلاني في شرح البخاري، وابن حجر المكي في شرح المشكاة، والشيخ عبد الحي في عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية: لعله لم تبلغ أباحنيفة تلك الأحاديث، وإلا لم ينكر استنان الجماعة، قال شيخنا: هذا هو الظن به والله تعالى أعلم. قال الكاساني في البدائع: ما روي أنه صلى الله عليه وسلم صلى بجماعة حديث شاذ، ورد في محل الشهرة لأن الاستسقاء يكون بملأ من الناس، ومثل هذا الحديث يرجح كذبه على صدقه أو وهمه على ضبطه، فلا يكون مقبولاً مع أن هذا مما تعم به البلوى في ديارهم، وما تعم به البلوى ويحتاج الخاص والعام إلى معرفته لا يقبل فيه الشاذ – انتهى. وكذا تفوه السرخسي، وقال في المحيط البرهاني والكافي: إنه لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك صلاة إلا حديث واحد شاذ لا يؤخذ به، قال ابن الهمام: ووجه الشذوذ أن فعله – عليه الصلاة والسلام – لو كان ثابتاً لاشتهر نقله اشتهاراً واسعاً ولفعله عمر حين استسقى ولأنكروا عليه إذا لم يفعل؛ لأنها كانت بحضرة جميع الصحابة لتوفر

ص: 173

جهر فيهما بالقراءة،

ــ

الكل في الخروج معه – عليه الصلاة والسلام – للاستسقاء، فلما لم يفعل ولم ينكروا ولم تشتهر روايتها في الصدر الأول، بل هو عن ابن عباس وعبد الله بن زيد على اضطراب في كيفيتها عن ابن عباس وأنس كان ذلك شذوذاً فيما حضره الخاص والعام والصغير والكبير. واعلم أن الشذوذ يراد باعتبار الطرق إليهم، إذ لو تيقنا عن الصحابة المذكورين رفعه لم يبق إشكال – انتهى. كذا في المرقاة. قلت: قد روى صلاته صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء أربعة نفر من كبراء الصحابة: عبد الله بن زيد، وأبوهريرة، وابن عباس، وعائشة، والطرق إليهم صحيحة ثابتة قطعاً، لا يمكن إنكاره، وليس فيها اضطراب قادح أصلاً، كما لا يخفى على من تأمل في طرق هذه الأحاديث ومتونها، فالارتياب في كونها مرفوعة والتوهم بكونها كذباً أو وهماً ليس منشأه إلا التقليد الأجوف والعصبية العمياء وغمط الحق والنفور عن السنة، والخبر المذكور مشهور، قد عمل به الصحابة وغيرهم كابن الزبير وعبد الله بن يزيد والبراء بن عازب وزيد بن أرقم، وكذا عمل به من بعدهم، كما قال ابن قدامة في المغني (ج2 ص329، 339) فتبين أن الحديث قد اشتهر بينهم واستفاض في الصدر الأول حديث عمل به الصحابة وغيرهم، وتلقوه بالقبول، فادعاء شذوذه باطل مردودة على من تفوه به، ولا يلزم من اقتصار عمر على الاستغفار عدم ثبوت الصلاة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز تكذيب الرواة العدول الثقات لفعل عمر، والظاهر أن عمر إنما لم يزد على الاستغفار ليبين للناس أن الصلاة ليست من شرط صحة الاستسقاء، كما قال ابن رشد، وأيضاً فقد أنكروا على عمر اقتصاره على الاستغفار، إذ قالوا: ما رأيناك استسقيت، أي على الوجه الذي استسقى به النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الخروج إلى الصحراء من الصلاة والدعاء والخطبة وتحويل الرداء، ولا يضر هذه الأحاديث كونها مما تعم به البلوى، فإن خبر الواحد مقبول في ذلك في قول الجمهور لعمل الصحابة والتابعين بأخبار الآحاد في عموم البلوى، فقد قبلوا خبر عائشة في الغسل من الجماع بغير الإنزال، وخبر رافع بن خديج في المخابرة، وقد أثبتت الحنفية تثنية الإقامة وانتقاض الوضوء بخروج النجاسة من غير السبيل، ورفع اليدين مع تكبيرات العيدين بأخبار الآحاد مع كون ذلك مما تعم به البلوى. (جهر فيهما بالقراءة) قال النووي في شرح مسلم: أجمعوا على استحباب الجهر بالقراءة، وكذا نقل الإجماع على استحبابه ابن بطال، كما في الفتح، قال الحافظ: لم يقع في شيء من طرق حديث عبد الله بن زيد صفة الصلاة المذكورة، ولا ما يقرأ فيها، وقد أخرج الدارقطني – والحاكم والبيهقي – من حديث ابن عباس أنه قال: سنة الاستسقاء سنة الصلاة في العيدين – الحديث، وفيه: وصلى ركعتين كبر في الأولى سبع تكبيرات وقرأ بسبح اسم ربك الأعلى، وقرأ في الثانية:{هل أتاك حديث الغاشية} ، وكبر فيها خمس تكبيرات، وفي إسناده مقال، فإن في سنده محمد بن عبد العزيز وقال فيه البخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وضعفه أيضاً أبوحاتم

ص: 174

واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، وحول رداءه

ــ

وابن حبان وابن القطان، وأصله في السنن بلفظ: فصلى ركعتين، كما يصلي في العيد، فأخذ بظاهره الشافعي فقال: يكبر فيهما سبعاً وخمساً كالعيد، وهو قول سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو رواية عن أحمد، وذهب الجمهور مالك والأوزاعي وإسحاق وأبويوسف ومحمد وأحمد – في رواية – إلى أنه يكبر فيهما كسائر الصلوات تكبيرة واحدة للافتتاح؛ لأنه لم يذكر عبد الله بن زيد وأبوهريرة وعائشة تكبيرات الزوائد في رواياتهم، ولا ابن عباس فيما صح من روايته، وظاهرها أنه لم يكبر النبي صلى الله عليه وسلم، والزيادة تحتاج إلى دليل صحيح يؤيدها، وتأويل الجمهور قول ابن عباس: صلى ركعتين كما كان يصلي في العيد، على أن المراد كصلاة العيد في العدد والجهر بالقراءة، وكونهما قبل الخطبة، قال الزرقاني: لم يأخذ به مالك لضعف الرواية المصرحة بالتكبير، ولما يطرق الثانية من احتمال نقص التشبيه – انتهى. وقال ابن قدامة: كيفما فعل كان جائزاً حسناً – انتهى. (واستقبل القبلة) أي بعد الصلاة، واختلفوا في استقبال القبلة متى يكون؟ فقال محمد: يخطب خطبتين بعد الصلاة، ويتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة، ويشتغل بالدعاء رافعاً يديه. وقالت الشافعية: إذا مضى الثلث من الخطبة الثانية يتوجه إلى القبلة ويدعو، وبعد الدعاء يستقبل الناس ويكمل الخطبة، وقالت المالكية: يتوجه إلى القبلة بعد الفراغ من الخطبة الثانية ويدعو مستقبلاً للقبلة. قال الباجي: اختلف قول مالك في استقبال القبلة متى يكون، فروى عنه ابن القاسم أنه يفعل ذلك إذا فرغ من الخطبة، وقال عنه علي بن زياد: يفعل ذلك في أثناء خطبته يستقبل القبلة ويدعو ما شاء ثم ينصرف فيستقبل الناس ويتم خطبته، وجه الأول أنه خطبة مشروعة فلا يسن قطعها بذكر كخطبتي العيد، وجه الثاني: أن السنة فيها خطبتان لا زيادة عليهما، فإذا أتى بالدعاء مفرداً كان ذلك كالخطبة الثالثة – انتهى. وقالت الحنابلة: يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة ويدعو رافعاً يديه، ويجهر ببعض دعائه ليسمع الناس فيؤمنون على دعائه، ثم يستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو حال استقباله، والراجح عندنا: أنه يخطب خطبة واحدة ويستقبل القبلة في أثناء الخطبة ويدعو مستقبلاً للقبلة؛ لأن ظاهر الحديث يدل على هذا. (يدعو) حال (ورفع يديه) أي للدعاء، وكذا يرفع الناس أيديهم مع الإمام يدعون، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب رفع الناس أيديهم مع الإمام في الاستسقاء، وأورد فيه حديث أنس في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الجمعة عند شكوى الأعرابي، وفيه: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يدعو ورفع الناس أيديهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعون. (وحول رداءه) بحيث صار الأيمن إلى الجانب الأيسر وطرفه الأيسر إلى الجانب الأيمن، وصار باطنه ظاهراً وظاهره باطناً، وطريقة هذا القلب والتحويل أن يأخذ بيده اليمنى الطرف الأسفل من جانب يساه وبيه اليسرى الطرف الأسفل من جانب يمينه، ويقلب يديه خلف ظهره حتى يكون الطرف المقبوض بيده اليمنى على كتفه

ص: 175

حين استقبل القبلة.

ــ

الأعلى من جانب اليمين والطرف المقبوض بيده اليسرى على كتفه الأعلى من جانب اليسار، فإذا فعل ذلك فقد انقلب اليمين يساراً واليسار يميناً والأعلى أسفل وبالعكس، ذكر الواقدي أن طول ردائه صلى الله عليه وسلم كان في ستة أذرع في ثلاثة أذرع، وطول إزاره أربعة أذرع وشبرين في ذراعين وشبر كان يلبسهما في الجمعة والعيد – انتهى. وفيه دليل على استحباب تحويل الرداء في هذه العبادة، وخالف أبوحنيفة في ذلك فأنكر استنانه واستحبابه، وقال: كان ذلك تفاؤلاً بتغيير الحال كما جاء مصرحاً عند الدارقطني والحاكم والبيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر بلفظ: وحول رداءه ليتحول القحط. قال الحافظ: رجاله ثقات، ورجح الدارقطني إرساله، وفي الطوالات للطبراني من حديث أنس بلفظ: وقلب رداءه لكي ينقلب القحط إلى الخصب. قلت: كون التحويل للتفاؤل لا ينافي استحبابه عند الدعاء في الاستسقاء في الصحراء، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبع. قال ابن دقيق العيد: وقال من احتج لأبي حنيفة: إنما قلب رداءه ليكون أثبت على عاتقه عند رفع اليدين في الدعاء أو عرف من طريق الوحي تغيير الحال عند تغيير ردائه. قلنا: القلب من جهة أخرى أو من ظهر إلى بطن لا يقتضي الثبوت على العاتق، بل أي حالة اقتضت الثبوت أو عدمه في إحدى الجهتين فهو موجود في الأخرى، وإن كان قد قرب من السقوط تلك الحال فيمكن تثبيته من غير قلب، والأصل عدم ما ذكر من نزول الوحي بتغير الحال عند تغيير الرداء، والاتباع لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من تركه لمجرد احتمال الخصوص مع ما عرف من الشرع من صحة التفاؤل – انتهى. ويستحب أن يحول الناس بتحويل الإمام، وهو قول الجمهور: مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، لما روى أحمد من حديث عبد الله بن زيد بلفظ: وحول الناس معه، وقال الليث وأبويوسف ومحمد وابن المسيب وعروة والثوري: يحول الإمام وحده، والحق ما ذهب إليه الجمهور؛ لأن الظاهر أن تحويلهم كان عن علمه صلى الله عليه وسلم، فتقريره إياهم إذ حولوا على كونه سنة في حقهم أيضاً، واستثنى الشافعية والمالكية النساء، فقالوا: لا يستحب في حقهن، وظاهر قوله: وحول الناس معه أنه يستحب ذلك للنساء أيضاً. (حين استقبل القبلة) وفي رواية لمسلم: لما أراد أن يدعو استقبل القبلة وحول رداءه، وفي أخرى له: فجعل إلى الناس ظهره يدعو الله واستقبل القبلة وحول رداءه، وأفادت هذه الروايات أن التحويل وقع في أثناء الخطبة عند إرادة الدعاء حال استقبال القبلة، وفي رواية للبخاري: فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو ثم حول رداءه، قال الحافظ: ظاهره أن الاستقبال وقع سابقاً لتحويل الرداء، وهو ظاهر كلام الشافعي، ووقع في كلام كثير من الشافعية أنه يحوله حال الاستقبال – انتهى. وقيل: يحمل "ثم" في رواية البخاري على معنى "الواو" لتوافق الروايات الأخرى. واعلم أنه لم يرد في حديث عبد الله بن زيد في الصحيحين التصريح بالخطبة، وإنما ذكر تحويل الظهر إلى

ص: 176

........................

ــ

الناس واستقبال القبلة والدعاء وتحويل الرداء فاحتج به لأبي حنيفة على أنه لا خطبة في الاستسقاء، وإنما يدعو ويتضرع، وهي رواية عن أحمد، وهو الحق والصواب لما وقع من التصريح بالخطبة في حديث عبد الله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وفي حديث أبي هريرة عند ابن ماجه والبيهقي (ج3 ص374) والطحاوي (ص192)، وفي حديث عائشة عند أبي داود والحاكم (ج1 ص328) والبيهقي (ج3 ص349) واحتج أيضاً لمن لم يقل بالخطبة بقول ابن عباس: لم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير. أخرجه أبوداود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم (ج1 ص327) والبيهقي (ج3 ص347-348) والطحاوي (ج1 ص191)، وأجيب عنه بأن ابن عباس إنما نفى وقوع خطبة منه صلى الله عليه وسلم مشابهة لخطبة المخاطبين ولم ينف وقوع مطلق الخطبة منه صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا: النفي متوجه إلى القيد لا إلى المقيد كما يدل على ذلك الأحاديث المصرحة بالخطبة. وفي رواية أبي داود: فرقى المنبر ولم يخطب خطبتكم هذه، فقوله: فرقى المنبر أيضاً يدل على أن النفي متوجه إلى القيد، قال الزيلعي (ج2 ص242) : مفهوم قول ابن عباس أنه خطب لكنه لم يخطب خطبتين كما يفعل في الجمعة، ولكنه خطب خطبة واحدة، فلذلك نفى النوع ولم ينف الجنس، ولم يرو أنه خطب خطبتين، فلذلك قال أبويوسف: يخطب خطبة واحدة، ومحمد يقول: يخطب خطبتين، ولم أجد له شاهداً – انتهى. وقال ابن قدامة: قول ابن عباس نفي للصفة لا لأصل الخطبة أي لم يخطب كخطبتكم هذه إنما كان جل خطبته الدعاء والتضرع والتكبير – انتهى. قال بعض من كتب على سنن أبي داود من أهل عصرنا: ظاهر قوله: فلم يخطب خطبتكم هذه أن النفي راجع إلى القيد والمقيد جميعاً ولم يخطب صلى الله عليه وسلم في هذه المرة قال: وقوله ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير كالصريح في أنه لم يخطب مطلقاً فإن الخطبة كانت مستقبل الناس مستدير الكعبة والدعاء بالعكس، قال: وأما قوله: فرقى المنبر فهو مختلف فيه، ذكره عثمان بن أبي شيبة عند أبي داود ومحمد بن عبيد بن محمد عند النسائي، وعثمان له مع كونه ثقة أوهام، ومحمد بن عبيد قال فيه النسائي ومسلمة: لا بأس به، ولم يذكر هذا اللفظ غيرهما. قلت: وقع عند أحمد والبيهقي من رواية وكيع عن سفيان عن هشام بن إسحاق عن أبيه عن ابن عباس: لم يخطب كخطبتكم هذه، وهذا صريح في أن ابن عباس إنما نفى الخطبة المشابهة لخطبتهم ولم ينف وقوع مطلق الخطبة، ولا يفهم منه غير ذلك، فهو ظاهر في أن النفي راجع إلى القيد فقط، وأما قوله: لكن لم يزل في الدعاء

الخ فلا ينافي الخطبة؛ لأن معناه أن جل خطبته وأكثرها كان الدعاء والتضرع والتكبير، كما قال ابن قدامة، وأيضاً الدعاء يكون بعد فراغ الموعظة في آخر الخطبة وبعد الدعاء يستقبل الإمام الناس ويتم خطبته، وقوله: فرقى المنبر صريح في وقوع الخطبة في هذه المرة أيضاً؛

ص: 177

.........................

ــ

لأن الظاهر أنه لا يرقاه إلا للخطبة، ولم يتفرد به عثمان ومحمد بن عبيد، بل قد تابعهما أبوثابت المدني محمد بن عبيد الله بن محمد عند البيهقي، وهو أيضاً ثقة، فهي زيادة صحيحة، رواها جماعة من الثقات ولا يضرها سكوت من سكت عنها، ولا دليل على كونها وهما فلابد من قبولها. ثم إنه اختلفت الأحاديث في وقت الخطبة للاستسقاء، ففي حديث عبد الله بن زيد عند أحمد (ج4 ص41) وحديث أبي هريرة أنه بدأ بالصلاة قبل الخطبة، وفي حديث عائشة عند أبي داود وغيره أنه بدأ بالخطبة قبل الصلاة، وكذا في حديث ابن عباس عند أبي داود ففيه خرج النبي صلى الله عليه وسلم متبذلاً متواضعاً متضرعاً حتى أتى المصلى فرقى المنبر فلم يخطب خطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير ثم صلى ركعتين، وقد استدل بها على أن الخطبة قبل الصلاة لكن ليس فيها التصريح بأنه خطب، واختلفوا في دفع هذا الاختلاف، فقال الزيلعي في نصب الراية (ج3 ص242) بعد ذكر الروايات المذكورة: ولعلهما واقعتان، وقال ابن قدامة: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين، ورجح البيهقي رواية تقديم الصلاة على الخطبة من حديث عبد الله بن زيد، كما يظهر من كلامه في باب ذكر الأخبار التي تدل على أنه دعا أو خطب قبل الصلاة (ج3 ص348-349)، قال القرطبي: ويعتضد القول بتقديم الصلاة على الخطبة بمشابهتها للعيد، وكذا ما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة، ورجح بعضهم تقديم الخطبة. قال ابن رشد في الجمع بين ما اختلف من الروايات في ذلك بأنه صلى الله عليه وسلم بدأ بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء، وبعضهم على شيء، وعبر بعضهم عن الدعاء بالخطبة، فلذلك وقع الاختلاف – انتهى. واختلف أيضاً مذاهب العلماء في محل الخطبة، واختلافهم إنما هو في الاستحباب لا في الجواز، فالمرجح عند مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد: الشروع بالصلاة، وهو المشهور عن أحمد. قال ابن عبد البر: وعليه جماعة الفقهاء. وقال النووي: وبه قال الجماهير، وذهب ابن حزم والليث وابن المنذر إلى أن الخطبة قبل الصلاة، وروي ذلك عن عمر – رضي الله عنه – وابن الزبير وأبان بن عثمان وهشام بن إسماعيل وأبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما في سنن الأثرم، وعن أحمد رواية كذلك، قال النووي: وكان مالك يقول به ثم رجع إلى قول الجماهير. قال أصحابنا: ولو قدم الخطبة على الصلاة صحتا، ولكن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد وخطبتها، وجاء في الأحاديث ما يقتضي جواز التقديم والتأخير، واختلفت الرواية في ذلك عن الصحابة – انتهى. وعن أحمد رواية ثالثة أنه مخير في الخطبة قبل الصلاة وبعدها. قال ابن قدامة: لورود الأخبار بكلا الأمرين ودلالتها على كلتا الصفتين، فيحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين – انتهى. وقال الشوكاني بعد ذكر القولين الأولين ما لفظه:

ص: 178

متفق عليه.

1511-

(2) وعن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعاء إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه.

ــ

وجواز التقديم والتأخير بلا أولوية هو الحق – انتهى. وتقدم أنه روي عن أحمد نفي الخطبة أيضاً، قال ابن قدامة بعد ذكر الروايات الأربعة عنه: وأياً ما فعل من ذلك فهو جائز؛ لأن الخطبة غير واجبة على الروايات كلها، فإن شاء فعلها وإن شاء تركها، والأولى أن يخطب بعد الصلاة خطبة واحدة لتكون كالعيد، وليكونوا قد فرغوا من الصلاة أن أجيب دعاءهم فأغيثوا فلا يحتاجون إلى الصلاة في المطر – انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الاستسقاء في مواضع، وأخرجه أيضاً في الدعوات، وأخرجه مسلم في الاستسقاء كلاهما بألفاظ مختلفة، ولفظ المشكاة بهذا السياق والنسق ليس لهما ولا لأحدهما، بل ولا لغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد والمعاجم، والجهر بالقراءة لم يذكره في رواية مسلم قد انفرد به البخاري، وليس في رواية الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد ذكر رفع اليدين أصلاً، نعم رواه الترمذي وأبوداود والنسائي، ولا أدري من أين نقل البغوي والمصنف هذا السياق؟ والظاهر أن هذا من تصرف البغوي، والعجب من المصنف إنه لم ينتبه لذلك، والحديث أخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه وغيرهم.

1511-

قوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه) أي رفعاً بليغاً، يعني لا يبالغ في الرفع، وإلا فأصل الرفع ثابت في مطلق الدعاء، وآخر الحديث يشعر بهذا المعنى (في شي من دعاء إلا في الاستسقاء) أي في دعائه (فإنه يرفع) أي كان يرفع يديه (حتى يرى) بصيغة المجهول (بياض إبطيه) بكسر الهمزة وسكون الباء الموحدة وقد تكسر باطن المنكب يذكر ويؤنث، قال الحافظ: قوله: إلا في الاستسقاء، ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة في الرفع في غير الاستسقاء وهي كثيرة، فذهب بعضهم إلى أن العمل بها أولى، وحمل حديث أنس على نفي رؤيته، وذلك لا يستلزم نفي رؤية غيره، ورواية المثبت مقدمة على النافي، وذهب آخرون إلى تأويل حديث أنس المذكور لأجل الجمع، بأن يحمل النفي على صفة مخصوصة، إما على الرفع البليغ، ويدل عليه قوله: حتى يرى بياض إبطيه، ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به مد اليدين وبسطهما عند الدعاء، وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهه حتى حاذتاه، وحينئذٍ يرى بياض إبطيه، وإما على صفة اليدين في ذلك كما في رواية مسلم التي تليه، ولأبي داود من حديث أنس أيضاً: كان يستسقي هكذا، ومد يديه وجعل بطونهما مما يلي الأرض حتى رأيت بياض إبطيه.

ص: 179

متفق عليه.

1512-

(3) وعنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء. رواه مسلم.

1513-

(4) وعن عائشة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيباً

ــ

(متفق عليه) ، وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي والبيهقي (ج3 ص357) ، والحاكم (ص327)، وذكر المنذري والقسطلاني والعيني: ابن ماجه أيضاً فيمن خرجه في الاستسقاء، ولم أجده، ونسبه الجزري في جامع الأصول (ج7 ص139) للبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي فقط، نعم روى ابن ماجه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى حتى رأيت أو رؤي بياض إبطيه، أخرجه أيضاً أحمد (ج2 ص236) والبزار.

1512-

قوله (إن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) على عكس ما هو المتعارف في الدعاء، قيل: الحكمة في الإشارة بظهر الكفين في الاستسقاء دون غيره التفاؤل بتقليب الحال، كما قيل في تحويل الرداء، قال التوربشتي: معنى الحديث أنه كان يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء، يشير بذلك إلى قلب الحال ظهر البطن وذلك مثل صنيعه في تحويل الرداء، ويحتمل وجهاً آخر، وهو أنه جعل بطن كفيه إلى الأرض إشارة إلى مسألته من الله تعالى بأن يجعل بطن السحاب إلى الأرض لينصب ما فيه من المطر كما أن الكف إذا جعل وجهها أي بطنها إلى الأرض أنصب ما فيها من الماء – انتهى. وقال النووي: قال العلماء: السنة في كل دعاء لرفع البلاء أن يرفع يديه جاعلاً ظهور كفيه إلى السماء، وإذا دعا بسؤال شيء وتحصيله أن يجعل كفيه إلى السماء – انتهى. وقد أخرج أحمد من حديث السائب بن خلاد عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سأل جعل باطن كفيه إليه، وإذا استعاذ جعل ظاهرهما إليه، وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال مشهور. (رواه مسلم) وأخرجه أيضاً أبوداود، وتقدم لفظه، وأخرجه البيهقي بكلا اللفظين (ج3 ص357) .

1513-

قوله (كان إذا رأى المطر) يحتمل أن يكون المراد إذا رأى المطر بعد الاستسقاء، والمطر بفتح الطاء: ماء السحاب (صيباً) بفتح الصاد وتشديد الياء المكسورة أي منهمراً متدافعاً، أصله واو لأنه من صاب يصوب صوباً إذا نزل فأصاب الأرض وبناءه صيوب كفعيل، فأبدلت الواو ياءً وأدغمت كسيد، قال ابن عباس في قوله تعالى:{أو كصيب من السماء} [البقرة: 19] : الصيب المطر، وبه قال الجمهور. قال الواحدي: هو المطر الكثير، وقيل: المطر الذي يجري ماؤه، وقال بعضهم: الصيب السحاب، ولعله أطلق ذلك مجازاً؛ لأنه من صاب المطر يصوب إذا نزل فأصاب الأرض، ويؤيد معنى المطر الكثير ما في الكشاف: الصيب المطر الذي يصوب، أي

ص: 180

نافعاً)) رواه البخاري.

1514-

(5) وعن أنس قال: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطر، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لِمَ صنعتَ هذا؟ قال: ((لأنه حديث عهد بربه)) رواه مسلم.

ــ

ينزل ويقع، وفيه مبالغات من جهة التركيب والبناء والتكثير، فدل على أنه نوع من المطر شديد هائل، ولذا تممه بقوله:((نافعاً)) صيانة عن الأضرار والفساد، وهو منصوب بفعل مقدر أي اجعله، كما في رواية النسائي وابن ماجه والبيهقي أو أسقنا أو أسألك. وقيل: على الحال، أي أنزله علينا حال كونه صيباً أي مطراً (نافعاً) صفة للصيب؛ ليخرج بذلك الصيب الضار أو ما لا يترتب عليه نفع أعم من أن يترتب عليه ضرر أم لا، قال في المصابيح: وهذا أي قوله ((صيباً نافعاً)) كالخبر الموطئ في قولك: زيد رجل فاضل، إذ الصفة هي المقصودة بالإخبار بها، ولولا هي لم تحصل الفائدة، هذا إن بنينا على قول ابن عباس: إن الصيب هو المطر، وإن بنينا على أنه المطر الكثير كما نقله الواحدي فكل من صيباً ونافعاً مقصود، والاقتصار عليه محصل للفائدة – انتهى. وفي الحديث دليل على استحباب الدعاء المذكور عند نزول المطر للازدياد من الخير والبركة، وفي رواية ابن ماجه والبيهقي والنسائي في عمل اليوم والليلة: هنيئاً، بدل نافعاً، وفي رواية ابن أبي شيبة، وكذا في رواية لابن ماجه: سيباً نافعاً – بفتح السين المهملة وإسكان الياء – مصدر بمعنى الفاعل صفة لمحذوف، أي اجعله مطراً جارياً، من ساب المطر يسيب سيباً إذا جرى، وذهب كل مذهب، وقيل: السيب العطاء (رواه البخاري) في الاستسقاء، وأخرجه أيضاً أحمد والنسائي في السنن، وفي عمل اليوم والليلة وابن ماجه في الدعاء والبيهقي (ج3 ص361) وابن أبي شيبة.

1514-

قوله (فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه) أي كشف بعض ثوبه عن بدنه (لم صنعت هذا) أي ما الحكمة فيه (قال: لأنه) أي المطر الجديد (حديث عهد بربه) أي جديد النزول بأمر ربه أو بإيجاد ربه وتكوينه إياه، يعني أن المطر رحمة، وهي قريبة العهد بخلق الله تعالى لها فيتبرك بها، وفيه دليل على أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف بدنه ليناله المطر لذلك. وقال التوربشتي: أراد أنه قريب عهد بالفطرة، وأنه هو الماء المبارك الذي أنزله الله من المزن ساعتئذ فلم تمسه الأيدي الخاطئة ولم تكدره ملاقاة أرض عبد عليها غير الله. قال المظهر: فيه تعليم لأمته أن يتقربوا ويرغبوا فيما فيه خير وبركة – انتهى. ويسن الدعاء وطلب الإجابة عند نزول المطر، كما في حديث سهل بن سعد وحديث أبي أمامة رواهما البيهقي (ج3 ص360)(رواه مسلم) في الاستسقاء، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود في الدعاء والبيهقي (ج3 ص359) .

ص: 181