المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

1735- (29) وعن عمرو بن حزم، قال: ((رآني النبي صلى - مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح - جـ ٥

[عبيد الله الرحماني المباركفوري]

فهرس الكتاب

- ‌(46) باب صلاة الخوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(47) باب صلاة العيدين

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(48) باب في الأضحية

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(49) باب العتيرة

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(50) باب صلاة الخسوف

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(51) باب في سجود الشكر

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌(52) باب الاستسقاء

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(53) باب في الرياح

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) كتاب الجنائز

- ‌(1) باب عيادة المريض وثواب المرض

- ‌{الفصل الأول}

- ‌((الفصل الثاني))

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(2) باب تمنى الموت وذكره

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(3) باب ما يقال عند من حضره الموت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(4) باب غسل الميت وتكفينه

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(5) باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(6) باب دفن الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(7) باب البكاء على الميت

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

- ‌(8) باب زيارة القبور

- ‌{الفصل الأول}

- ‌{الفصل الثاني}

- ‌{الفصل الثالث}

الفصل: 1735- (29) وعن عمرو بن حزم، قال: ((رآني النبي صلى

1735-

(29) وعن عمرو بن حزم، قال:((رآني النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً على قبر، فقال: لا تؤذ صاحب هذا القبر، أو لا تؤذه)) . رواه أحمد.

(7) باب البكاء على الميت

{الفصل الأول}

1736-

(1) عن أنس، قال: ((دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سيف

ــ

إن كان يحيى بن صالح هو الوحاظي شيخ البخاري-انتهى كلام الحافظ. وقد نقل الشوكاني كلام الحافظ هذا في النيل وسكت عليه.

1735-

قوله: (وعن عمرو بن حزم) بفتح الحاء وسكون الزاي. (تؤذ صاحب القبر) أي لا تهنه فإن روح الميت لا يرضى بالإتكاء على قبره لتضمنه الإهانة. (أو لا تؤذه) أي بالضمير موضع لفظ صاحب القبر وهو شك من الراوي، ورواه النسائي بلفظ: لا تقعدوا على القبور، وكذا وقع في رواية لأحمد، كما قال الحافظ في الفتح. وفي الحديث دليل لما ذهب إليه الجمهور من أن المراد بالجلوس القعود على حقيقته لا الحدث، وفيه بيان علة المنع من الجلوس وهو التأذى. (رواه أحمد) وأخرجه أيضاً النسائي. قال الحافظ في الفتح: إسناده صحيح، وفي الباب عن عمارة بن حزم أخي عمرو بن حزم قال رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على قبر فقال: أنزل من القبر لا تؤذ صاحب القبر. أخرجه أحمد من طريق نعيم بن زياد الحضرمي عن عمارة، ذكره الحافظ في الإصابة. (ج2:ص514) وعزاه الهيثمي للطبراني، وقال: وفيه ابن لهيعة، وفيه كلام، وقد وثق.

(باب البكاء) بالمد على الأفصح أي جوازه. (على الميت) أي بدون نياحة.

1736-

قوله: (على أبي سيف) بفتح السين، قال عياض: اسمه البراء بن أوس الأنصاري، وأم سيف زوجته هي أم بردة واسمها خولة بنت المنذر الأنصارية. قال الحافظ في الفتح: جمع بذلك بين ما وقع في هذا الحديث الصحيح وبين قول الواقدي فيما رواه ابن سعد في الطبقات عنه عن يعقوب بن أبي صعصعة عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة قال: لما ولد إبراهيم تنافست فيه نساء الأنصار أيتهن ترضعه، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم بردة بنت المنذر بن زيد بن لبيد من بني عدي بن النجار، وزوجها البراء بن أوس بن خالد بن الجعد من بني عدي بن النجار، فكانت ترضعه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه في بني النجار-انتهى. وما جمع به غير مستبعد، إلا أنه لم يأت عن أحد من الأئمة التصريح بأن البراء بن أوس يكنى أبا سيف، ولا أن أبا سيف يسمى البراء

ص: 457

القين، وكان ظئراً لإبراهيم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم فقبله وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك، وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان. فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟!

ــ

ابن أوس، وقال في الإصابة في ترجمة أبي سيف بعد ذكر رواية الواقدي ما لفظه: فإن كان ثابتاً احتمل أن تكون أم بردة أرضعته ثم تحول إلى أم سيف وإلا فالذي في الصحيح هو المعتمد-انتهى. وقال في ترجمة أم بردة: اسمها خولة، قاله ابن سعد، وهي التي أرضعت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم، دفعه إليها لما وضعته مارية، فلم تزل ترضعه حتى مات عنها. وقال أبوموسى: المشهور أن التي أرضعته أم سيف، ولعلهما جميعاً أرضعتاه-انتهى. (القين) بفتح القاف وسكون الياء آخره نون صفة لأبي سيف أي الحداد، ويطلق على كل صانع، يقال: قان الشيء إذا أصلحه. (وكان) أي أبوسيف. (ظئراً) بكسر الظاء المعجمة وسكون الهمزة أي مرضعاً، وأطلق عليه ذلك؛ لأنه كان زوج المرضعة، وأصل الظئر من ظأرت الناقة إذا عطفت على غير ولدها، فقيل ذلك للتي ترضع ولد غيرها، وأطلق ذلك على زوجها؛ لأنه يشاركها في تربيته غالباً. قال ابن الجوزي: الظئر المرضعة ولما كان زوجها تكفله سمي ظئراً، وأصله عطف الناقة على غير ولدها ترضعه، وفي المحكم: الظئر العاطفة على ولد غيرها المرضعة من الناس والإبل الذكر والأنثى في ذلك سواء. (لإبراهيم) أي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية لمسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم، ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين بالمدينة يقال له أبوسيف، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته، فانتهى إلى أبي سيف، وهو ينفخ بكيره وقد امتلأ البيت دخاناً، فأسرعت المشى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا أباسيف! امسك جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. (فقبله وشمه) أي وضع أنفه ووجهه على وجهه كمن يشم رائحة. فيه أي محبة الأطفال والترحم بهم سنة. (ثم دخلنا عليه) أي على أبي سيف. (بعد ذلك) أي بأيام. (وإبراهيم يجود بنفسه) أي يخرجها ويدفعها، كما يدفع الإنسان ماله يجود به. (تذرفان) بالذال المعجمة وكسر الراء وبالفاء أي يجري دمعها. في النهاية: ذرفت العين إذا جرى دمعها. (وأنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه معنى التعجب، والواو تستدعى معطوفاً عليه، أي الناس لا يصبرون على المصائب ويتفجعون ويبكون، وأنت تفعل كفعلهم، أي لا ينبغي لك أن تنفجع، كأنه استغرب ذلك منه؛ لأنه يدل على ضعف النفس والعجز عن مقاومه المصيبة بالصبر، ويخالف ما عهده منه من الحث على الصبر والنهي عن الجزع، فأجاب بقوله: إنها رحمة، أي الحالة التي تشاهدها مني يا ابن عوف هي رقة ورحمة وشفقة على المقبوض، أي الولد، لا ما توهمت من الجزع وقلة الصبر، ووقع في حديث جابر عند الترمذي والبيهقي، وفي حديث عبد الرحمن نفسه عند ابن سعد والطبراني: فقلت: يا رسول الله! تبكي، أوَ لم تنه عن البكاء؟ وزاد

ص: 458

فقال يا ابن عوف! إنها رحمة، ثم اتبعها بأخرى، فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)) متفق عليه.

1737-

(2) وعن أسامة بن زيد، قال: ((أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم إليه: أن ابناً لي قبض

ــ

فيه: إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، قال: إنما هذا رحمة، ومن لا يرحم لا يرحم. وفي رواية محمود بن لبيد عند ابن سعد فقال: إنما أنا بشر. وعند عبد الرزاق من مرسل مكحول: إنما أنهى الناس عن النياحة، أن يندب الرجل بما ليس فيه. (إنها) أي هذه الدمعة التي تراها في العين أو الحالة التي تشاهدها. (رحمة) أي أثر رحمة جعلها الله في قلوب عباده. (ثم اتبعها بأخرى) أي اتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل: اتبع الكلمة الأولى المجملة، وهي قوله:"إنها رحمة" بكلمة أخرى مفصلة، وهي قوله: إن العين تدمع، والقلب يحزن. فكان هذه الكلمة الأخرى صارت مفسرة للكلمة الأولى. قال الحافظ: ويؤيد هذا التأويل ما تقدم من طريق عبد الرحمن ومرسل مكحول. (والقلب) بالنصب ويرفع. (يحزن) بفتح الزاي. (ولا نقول) أي مع ذلك. (إلا ما يرضى ربنا) قال القاري: وفي نسخة بضم الياء وكسر الضاد ونصب ربنا. (وإنا بفراقك) أي بسبب مفارقتك إيانا. (لمحزونون) وفي حديث عبد الرحمن ومحمود بن لبيد: ولا نقول ما يسخط الرب، وزاد في حديث عبد الرحمن في آخره: لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وسبيل تأتيه، وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنا عليك حزناً هو أشد من هذا، ونحوه في حديث أسماء بنت يزيد عند ابن ماجه ومرسل مكحول، وفي آخر حديث محمود بن لبيد وقال: إن له مرضعاً في الجنة. ومات وهو ابن ثمانية عشر شهراً. قال ابن بطال وغيره: هذا الحديث يفسر البكاء المباح والحزن الجائز، وهو ما كان بدمع العين ورقة القلب من غير سخط لأمر الله، وهو أبين شيء وقع في هذا المعنى. وفيه مشروعية تقبيل الولد وشمه. ومشروعية الرضاع، وعيادة الصغير، والحضور عند المحتضر، ورحمة العيال، وجواز الأخبار عن الحزن وإن كان الكتمان أولى. وفيه وقوع الخطاب للغير، وإرادة غير بذلك، وكل منهما مأخوذ من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم ولده مع أنه في تلك الحالة لم يكن ممن يفهم الخطاب لوجهين: أحدهما صغره. والثاني نزعه، وإنما أراد بالخطاب غيره من الحاضرين، إشارة إلى أن ذلك لم يدخل في نهيه السابق. وفيه جواز الاعتراض على من خالف فعله ظاهر قوله ليظهر الفرق ذكره الحافظ في الفتح. (متفق عليه) وأخرجه أبوداود والبيهقي من وجه آخر بنحوه، وكذا مسلم، وقد ذكرنا أوله.

1737-

قوله: (أرسلت ابنة النبي صلى الله عليه وسلم) هي زينب كما عند ابن أبي شيبة وابن بشكوال. (أن ابناً لي قبض) أي قرب قبضه وموته. وقال القسطلاني: أي في حال القبض ومعالجة الروح، فأطلق القبض مجازاً باعتبار أنه في

ص: 459

فأرسل يقرئ السلام، ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب، فأرسلت إليه تقسم عليه

ــ

حالة كحالة النزع. وفي النهاية: قبض المريض إذا توفي وإذا أشرف على الموت. قيل: الابن المذكور هو علي بن أبي العاص بن الربيع. واستشكل بأنه عاش حتى ناهز الحلم، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه على راحلته يوم الفتح فلا يقال فيه صبي عرفاً وإن جاز من حيث اللغة. وقيل: هو عبد الله بن عثمان بن عفان من رقية بنت النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما روى البلاذري في الأنساب أنه لما توفي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة وقال: إنما يرحم الله من عباده الرحماء. وقيل: هو محسن؛ لما روى البزار في مسنده عن أبي هريرة قال: ثقل ابن لفاطمة فبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحو حديث الباب ولا ريب أنه مات صغيراً. وقيل: هي أمامة بنت زينب لأبي العاص بن الربيع، كما ثبت في مسند أحمد. وصوبه الحافظ، وأجاب عما استشكل من قوله "قبض" مع كون أمامة عاشت بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى تزوجها علي بن أبي طالب وقتل عنها، بأن الظاهر أن الله أكرم نبيه عليه الصلاة والسلام لما سلم الأمر ربه وصبر ابنته، ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة، بأن عافى الله ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة، وعاشت تلك المدة. وقال العيني: الصواب قول من قال ابني أي بالتذكير لا ابنتي بالتأنيث، كما نص عليه في حديث الباب، وجمع البرماوي بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة في بنت واحد أو بنتين، أرسلت زينب في علي أو أمامة، أو رقية في عبد الله بن عثمان، أو فاطمة في ابنها محسن بن علي، كذا ذكر القسطلاني. (فأرسل) صلى الله عليه وسلم. (يقرئ) بضم الياء أي عليها. (السلام ويقول) أي تسلية لها. (إن لله ما أخذ وله ما أعطى) أي فلا حيلة إلا الصبر، قدم ذكر الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخراً في الواقع لما يقتضيه المقام، والمعنى أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإن أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع؛ لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، وكلمة "ما" في الموضعين موصولة، ومفعول أخذ وأعطى محذوف؛ لأن الموصول لا بد له من صلة وعائد، ونكتة حذف المفعول فيهما الدلالة على العموم، فيدخل فيه أخذ الولد وإعطاءه وغيرهما، ويجوز أن تكون "ما" في الموضعين مصدرية، والتقدير إن لله الأخذ والإعطاء، وهو أيضاً أعم من إعطاء الولد وأخذه. (وكل) أي وكل واحد من الأخذ والإعطاء. (عند الله) أي في علمه. (بأجل مسمى) أي مقدر بأجل معلوم. (ولتحتسب) أي تنوى بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح. (فأرسلت) أي ابنته. (إليه) صلى الله عليه وسلم. (تقسم) بضم التاء من الإقسام، وهي جملة حالية، ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف عند الطبراني أنها راجعته مرتين، وأنه إنما قام في ثالث مرة. أما ترك أجابته

ص: 460

ليأتينها، فقام ومعه سعد بن عبادة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، ورجال فرفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي ونفسه تتقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا؟ فقال: هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده، فإنما يرحم الله من عباده الرحماء)) .

ــ

صلى الله عليه وسلم أولاً فيحتمل أنه كان في شغل في ذلك الوقت، أو كان امتناعه مبالغة في إظهار التسليم لربه. أو كان لبيان الجواز في أن من دعي لمثل ذلك لم تجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلاً، وأما إجابته صلى الله عليه وسلم بعد إلحاحها عليه فكانت دفعاً لما يظنه بعض الجهلة أنها ناقصة المكان عنده، أو أنه لما رآها عزمت عليه بالقسم حن عليها بإجابته. (ليأتينها) بالنون المؤكدة. (فقام ومعه) بإثبات واو الحال. (ورجال) أي آخرون ذكر منهم في غير هذه الرواية عبادة بن الصامت وأسامة راوي الحديث وعبد الرحمن بن عوف. (فرفع) بضم الراء من الرفع، يعني فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها فاستأذنوا فأذن لهم فرفع (إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي) أو الصبية، أي وضع في حجرة عليه الصلاة والسلام. (ونفسه) أي روحه (تتقعقع) أي تضطرب وتتحرك ولا تثبت على حالة واحدة، كذا في النهاية، والجملة اسمية حالية. (ففاضت) أي سالت. (عيناه) أي عينا النبي صلى الله عليه وسلم بالبكاء. (فقال سعد) هو ابن عبادة المذكور. (ما هذا؟) أي البكاء منك. (فقال: هذه) أي الدمعة التي تراها. (رحمة) أي أثر رحمة أي أن الذي يفيض من الدمع من حزن القلب بغير تعمد من صاحبه ولا استدعاء، لا مؤاخذة عليه، وإنما المنهي عنه الجزع وعدم الصبر. قال النووي: ظن سعد أن جميع أنواع البكاء حرام، وأنه عليه الصلاة والسلام نسي فاعلمه عليه الصلاة والسلام أن مجرد البكاء ودمع العين ليس بحرام ولا مكروه، بل هو رحمة وفضيلة، وإنما المحرم النوح والندب والبكاء المقرون بهما أو بأحدهما. (فإنما) وفي بعض النسخ وإنما أي بالواو. (يرحم الله من عباده الرحماء) جمع رحيم بمعنى الراحم، أي وإنما يرحم الله من عباده من اتصف بأخلاقه ويرحم عباده، و "من" في عباده بيانية حال من المفعول وهو الرحماء، وقيل: الأظهر أن "من" تبعيضية أي إنما يرحم من جملة عباده الرحماء، فمن لا يرحم لا يُرحم، وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز استحضار ذوى الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم، وجواز القسم عليهم لذلك. وفيه استحباب إبرار المقسم، وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت ليقع وهو مستشعر بالرضى مقاوماً للحزن بالصبر. وفيه تقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض ولو كان مفضولاً أو صبياً صغيراً، وفيه أن أهل الفضل لا ينبغي أن يقطعوا الناس عن فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع عما يشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وفيه الترغيب في الشفقة على خلق الله تعالى والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين، وجواز

ص: 461

متفق عليه.

1738-

(3) وعن عبد الله بن عمر، قال: ((اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشية، فقال: قد قضى؟ قالوا: لا، يا رسول الله! فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون؟ إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه

ــ

البكاء من غير نوح ونحوه. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والطب والنذور والتوحيد، ومسلم في الجنائز. وأخرجه أيضاً أبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

1738-

قوله: (اشتكى) أي مرض. (شكوى) بغير تنوين، مصدر أو مفعول به أي مرضاً. (له) أي حاصلاً له. (يعوده) حملة حالية أي يقصد عيادته. (في غاشية) بمعجمتين. قال الخطابي: هذا يحتمل وجهين أن يراد به القوم الحضور عنده الذين هم غاشيته، أي يغشونه للخدمة، وأن يراد ما يتغشاه من كرب الوجع الذي به. ويؤيده ما وقع في رواية مسلم: في غشية، وورد في بعض روايات البخاري: في غاشية أهله، وهذا يأبى المعنى الثاني، ولا يتأتى ذلك إلا على رواية العامة بإسقاط أهله. وقال التوربشتي في شرح المصابيح: الغاشية الداهية من شر أو مرض أو مكروه، والمراد به ههنا ما كان يتغشاه من كرب الوجع الذي فيه لا حال الموت؛ لأنه بريء من ذلك المرض وعاش بعده زماناً. (فقال) صلى الله عليه وسلم. (قد قضي) على بناء المفعول بحذف همزة الاستفهام، أي أقد خرج من الدنيا، ظن أنه قد مات فسأل عن ذلك. (فبكى النبي صلى الله عليه وسلم) أي رحمة عليه. (فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم) في نسبة البكاء إلى الروية إشارة إلى أنه لم يكن إلا الدمعة. (بكوا) في هذا إشعار بأن هذه القصة كانت بعد قصة إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن عبد الرحمن بن عوف كان معهم في هذه، ولم يعترضه بمثل ما اعترض به هناك، فدل على أنه تقرر عنده العلم بأن مجرد البكاء بدمع العين من غير زيادة على ذلك لا يضر. (ألا تسمعون، إن الله) بكسر الهمزة استئنافاً؛ لأن قوله "تسمعون" لا يقتضي مفعولاً؛ لأنه جعل كاللازم، فلا يقتضى مفعولاً، أي ألا توجدون السماع، كذا قرره البرماوي والحافظ، كالكرماني، وقد تعقبه العيني، فقال: ما المانع أن يكون بالفتح في محل المفعول لتسمعون، وهو الملائم لمعنى الكلام-انتهى. قال القسطلاني: لكن الذي في روايتنا بالكسر. قال الحافظ: وفيه إشارة إلى أنه فهم من بعضهم الإنكار، فبين لهم الفرق بين الحالتين. (ولكن يعذب بهذا) أي إن قال

ص: 462

أو يرحم، وإن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه)) . متفق عليه.

1739-

(4) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)) .

ــ

سواء من الجزع والنوح. (أو يرحم) أي بهذا إن قال خيراً واستسلم لقضاء الله. ويحتمل أن يكون معنى قوله "أو يرحم" أي إن لم ينفذ الوعيد. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) يأتي الكلام فيه في الفصل الثالث من هذا الباب. وفي هذا الحديث من الفوائد: استحباب عيادة المريض، وعيادة الفاضل للمفضول، والإمام لأتباعه مع أصحابه، وفيه النهي عن المنكر، وبيان الوعيد عليه، وجواز البكاء عند المريض، وجواز إتباع القوم للباكي. (متفق عليه) إلا أن قوله:"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" في هذا الحديث من زيادات البخاري، والحديث أخرجه البيهقي أيضاً.

1739-

قوله: (ليس منا) أي من أهل سنتنا وطريقتنا، وليس المراد به إخراجه عن الدين، إذ المعاصي لا يكفر بها عند أهل السنة، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته لست منك ولست مني، أي ما أنت على طريقتي. وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي أنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. قال الحافظ في الفتح: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبرئ المذكور في حديث أبي موسى الآتي حيث قال: أنا بريء ممن حلق الخ. وأصل البراءة الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بأن لا يدخله في شفاعته، وهذا يدل على تحريم ما ذكر من شق الجيب وغيره، وكان السبب في ذلك ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء، فإن وقع التصريح باستحلاله مع العلم بتحريم السخط مثلاً بما وقع فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. قال: وحكي عن سفيان الثوري: أنه كان يكره الخوض في تأويله ويقول: ينبغي أن يمسك عن ذلك ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر-انتهى. (من ضرب الخدود) خص الخد بذلك لكونه الغالب في ذلك وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك، وإنما جمع وإن كان ليس للإنسان إلا خدان فقط باعتبار إرادة الجمع، فإن من مفرد اللفظ مجموع المعنى فيكون من مقابلة الجمع بالجمع. وأما على قوله تعالى:{وأطراف النهار} [طه:130] . وقول العرب: شابت مفارقه، وليس إلا مفرق واحد. (وشق الجيوب) بضم الجيم جمع جيب بفتح الجيم، وهو الخرق الذي يخرج الإنسان منه رأسه في القميص ونحوه، من جابه أي قطعه. (ودعا بدعوى الجاهلية) في رواية مسلم بدعوى أهل الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام، أي دعا بدعائهم بأن قال عند البكاء ما لا يجوز شرعاً مما يقول به أهل الجاهلية، كالدعاء بالويل والثبور وكواكهفاه واجبلاه. وعمومه يشمل الذكر والأنثى،

ص: 463

متفق عليه.

1740-

(5) وعن أبي بردة، قال:((أغمي على أبي موسى، فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، ثم أفاق، فقال: ألم تعلمي! وكان يحدثها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء ممن حلق وصلق وخرق)) . متفق عليه.

ــ

وتخصيص الإناث في بعض الأحاديث خرج مخرج العادة، فإن هذه الأفعال إنما هي عادتهن لا عادة الذكور، والواو فيهما بمعنى أو، فالحكم في كل واحد لا المجموع؛ لأن كلاً منهما دال على عدم الرضاء والتسليم للقضاء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز، وفي مناقب قريش، ومسلم في الإيمان. وأخرجه أيضاً أحمد. (ج1:ص386،432،442،456،465) والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

1740-

قوله: (أغمي على أبي موسى) الأشعري. وفي رواية: وجع أبو موسى وجعاً فغشي عليه. (فأقبلت) أي شرعت وجعلت وصارت. (امرأته أم عبد الله) أي بنت أبي دومة، كما في رواية النسائي، ويستفاد من تاريخ البصرة لعمر بن شبة أن اسمها صفية بنت دمون، وأنها والدة أبي بردة بن أبي موسى، وأن ذلك وقع حيث كان أبوموسى أميراً على البصرة من قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي صحابية هاجرت مع أبي موسى، ذكرها الحافظ وابن عبد البر في الكنى من الصحابيات. (تصيح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، صوت مع البكاء فيه ترجيع. (ثم أفاق) أي أبوموسى. (ألم تعلمي) أي ما حدثتك. (وكان يحدثها) قال الطيبي: وكان يحدثها حال، والعامل قال، ومفعول "ألم تعلمي" مقول القول، أي ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنا بريء، فتنازعا فيه. (أنا بريء) قال عياض: أي من فعلهن أو مما يستوجبن من العقوبة أو من عهدة ما لزمني بيانه، وأصل البراءة الانفصال، وليس المراد التبري من الدين والخروج منه. قال النووي: ويحتمل أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الأمور. (ممن حلق) أي شعره عند المصيبة لأجلها كما هو عادة الهنادك في الهند. (وصلق) بالصاد المهملة والقاف، وفي المصابيح بالسين بدل الصاد وهو لغة، ومنه قوله تعالى:{سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب:19] . أي رفع صوته بالبكاء عند المصيبة. وقيل: هو أن تصك المرأة وجهها وتخدشه. (وخرق) بالتخفيف أي شق ثوبه عند المصيبة، والحديث يدل على تحريم هذه الأفعال؛ لأنها مشعرة بعدم الرضا بالقضا، وكان الجميع من صنيع الجاهلية، وكان ذلك في أبلغ الأحوال من صنيع النساء. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز معلقاً. وقيل موصولاً، ومسلم في الإيمان، وأخرجه أحمد أيضاً. (ج4:ص396-404-405-411-416)

ص: 464

ولفظه لمسلم.

1741-

(6) وعن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، وقال: النائحة إذا لم تتب قبل موتها،

ــ

وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي وابن حبان. (ولفظه لمسلم) ولفظ البخاري: قال (أي أبوبردة) وجع أبوموسى وجعاً فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئاً، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن بريء منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة والحالقة والشاقة.

1741-

قوله: (أربع) أي أربع خصال كائنه. (في أمتي) حال كونهن. (من أمر الجاهلية) أي من أمورهم وخصالهم المعتادة. (لا يتركونهن) يعني أن هذه الخصال تدوم في الأمة لا يتركونهن بأسرهم تركهم لغيرها من سنن الجاهلية، فإنهن إن تتركهن طائفة جاءهن وتمسك بهن آخرون. (الفخر) أي الافتخار وهو المباهاة والتمدح بالخصال والمناقب والمكارم. إما فيه أو في أهله، قال في الفائق: الفخر تعداد الرجل من مآثره ومآثر آبائه. (في الأحساب) أي في شأنها وسببها، والحسب ما يعده الرجل من الخصال التي تكون فيه، كالشجاعة والفصاحة وغير ذلك، وقيل: الحسب ما يعده الإنسان من مفاخر آبائه، ومعنى الفخر في الأحساب هو التكبر والتعظم بعَدّ مناقبه ومآثر آبائه، وهذا يستلزم تفضيل الرجل نفسه على غيره ليحقره، وهو لا يجوز، وفي الحديث كرم الرجل دينه وحسبه وخلقه، وفي ذلك نفي ما كان عليه أهل الجاهلية، وفيه تنبيه على أن الحسب الذي يحمد به الإنسان ما تحلى به من خصال الخير في نفسه لا ما يعده من مفاخره ومآثر آبائه. (والطعن في الأنساب) أي إدخال العيب في أنساب الناس، وذلك يستلزم تحقير الرجل آباء غيره، وتفضيل آبائه على آباء غيره، وهو ممنوع. قال التوربشتي: الظاهر أن المراد منه الطعن فيمن ينتسب إليه حجيج الطاعن، فينسب آباءه وذويه عند المساجلة والمساماة إلى الخمول والخساسة والغموض والانحطاط؛ لأنه ذكر في مقابلة الفخر بالأحساب. (والاستسقاء) أي طلب السقيا. (بالنجوم) أي بسببها يعني توقع الأمطار عن وقوع النجوم في الأنواع، كما كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا، قال الطيبي: وقيل: المعنى سؤال المطر من الأنواء، فإن كان ذلك على جهة اعتقاد أنها المؤثرة في نزول المطر حقيقة فهو كفر. (والنياحة) بالرفع وهو الرابعة، وهو البكاء على الميت بصياح وعويل وجزع. والندبة عد شمائل الميت ومحاسنه مثل وا شجاعاه وا أسداه وا جبلاه. (والنائحة إذا لم تتب قبل موتها) أي قبل حضور موتها. قال التوربشتي:

ص: 465

تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) . رواه مسلم.

1742-

(7) وعن أنس، قال: ((مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر، فقال: اتقي الله

ــ

وإنما قيد به ليعلم أن من شرط التوبة أن يتوب التائب وهو يؤمل البقاء، ويمكن أن يتأتى منه العمل الذي يتوب منه، ومصداق ذلك في كتاب الله:{وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن} [النساء:18] . (تقام) مجهول من الإقامة وهي الإيقاف. (يوم القيامة) بين أهل الموقف للفضيحة. قال الطيبي: تقام أي تحشر، ويحتمل أنها تقام على تلك الحالة بين أهل النار وأهل الموقف جزاء على قيامها في المناحة، وهو أمثل وأشبه. (وعليها سربال) بكسر السين أي قميص. (من قطران) بفتح القاف وكسر الطاء. قال ابن عياض: هو النحاس المذاب. وقيل: ما يتحلب من شجر يسمى الأبهل، فيطبخ فيطلى به الإبل الجربى، فيحرق الجرب بحدته وحرارته الجلد، وقد تبلغ حرارته الجوف. (ودرع) عطف على سربال والدرع بكسر الدال قميص النساء، والسربال القميص مطلقاً. (من جرب) أي من أجل جرب كائن بها. قال الطيبي: أي يسلط على أعضائها الجرب والحكة بحيث يغطي جلدها تغطية الدرع ويلتزق بها التزاقه، فتطلى مواقعه بالقطران لتداوي، فيكون الدواء أدوى من الداء لاشتماله على لذع القطران وحدته وحرارته، وإسراع النار في الجلود واشتغالها ونتن الرائحة وسواد اللون الذي تشمئز عنه النفوس. قال التوربشتي: خصت بدرع من جرب؛ لأنها كانت تجرح بكلماتها المحرقة قلوب ذوات المصيبات وتحك بها بواطنهن، فعوقبت في ذلك المعنى بما يماثله في الصورة، وخصت أيضاً بسرابيل من قطران؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود في المأتم، فألبسها الله قميصاً من قطران لتذوق وبال أمرها-انتهى. فإن قلت ذكر الخلال الأربع في الحديث، ولم يرتب عليها الوعيد سوى النياحة فما الحكمة فيه؟ قلت: النياحة مختصة بالنساء وهن لا ينزجرن انزجار الرجال فاحتجن إلى مزيد الوعيد، كذا في المرقاة.. (رواه مسلم) في الجنائز وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص342-343-344) والحاكم (ج1:ص383) والبيهقي (ج4:ص63) وابن ماجه، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: النياحة على الميت من أمر الجاهلية، وأن النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع الله لها ثياباً من قطران ودرعاً من لهب النار.

1742-

قوله: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر) لم يوقف على اسم المرأة ولا اسم صاحب القبر، لكن في رواية مسلم ما يشعر بأنه ولدها، ولفظه: تبكي على صبي لها، وصرح به في مرسل يحيى بن أبي كثير عند عبد الرزاق، ولفظه قد أصيبت بولدها. (فقال: اتقي الله) قال القرطبي: الظاهر أنه كان في بكائها قدر زائد من نوح أو غيره، ولهذا أمرها بالتقوى. قلت: ويؤيده أن في مرسل يحيى بن أبي كثير المذكور: فسمع منها ما يكره فوقف

ص: 466

واصبري. قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم، فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم، فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)) .

ــ

عليها. وقال الطيبي: قوله: اتقي الله، توطئه لقوله:(واصبري) كأنه قيل لها خافي غضب الله إن لم تصبري، ولا تجزعي ليحصل لك الثواب. (قالت) أي جاهلة بمن يخاطبها وظانة أنه من آحاد الناس. (إليك عني) اسم فعل أي أبعد وتنح. (لم تصب) على بناء المجهول. (بمصيبتي، ولم تعرفه) الواو فيه للحال أي خاطبته بذلك، والحال أنها لم تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لو عرفته لم تخاطبه بهذا الخطاب. (فقيل لها) أي للمرأة بعد ما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم. (أنه النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية للبخاري: فمر بها رجل فقال لها: إنه رسول الله، فقالت: ما عرفته. وفي رواية أبي يعلى من حديث أبي هريرة قال: فهل تعرفينه؟ قالت: لا. وللطبراني في الأوسط من طريق عطية عن أنس: أن الذي سألها هو الفضل بن عباس. وزاد مسلم في رواية له: فأخذها مثل الموت، أي من شدة الكرب الذي أصابها لما عرفت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم خجلاً منه ومهابة. وإنما اشتبه عليها صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من تواضعه لم يكن يستتبع الناس وراءه إذا مشى، كعادة الملوك والكبراء، مع ما كانت فيه من شاغل الوجد والبكاء. (فلم تجد عنده) أي عند بابه. (بوابين) يمنعون الناس من الدخول عليه. وفي رواية للبخاري: بواباً بالإفراد. قال الطيبي: فائدة هذه الجملة أنه لما قيل لها أنه النبي صلى الله عليه وسلم استشعرت خوفاً وهيبة في نفسها، فتصورت أنه مثل الملوك، له حاجب أو بواب يمنع الناس من الوصول إليه، فوجدت الأمر بخلاف ما تصورته. (فقالت) معتذرة إليه مما سبق منها حيث قالت إليك عني. (لم أعرفك) فاعذرني من تلك الردة وخشونتها. (إنما الصبر عند الصدمة الأولى) وفي رواية للبخاري: عند أول صدمة، وهي مرة من الصدم، وهو ضرب الشيء الصلب بمثله، ثم استعمل في كل مكروه حصل بغتة. والمعنى الصبر الذي يحمد عليه صاحبه ويصاب عليه فاعله بجزيل الأجر ما كان منه عند مفاجأة المصيبة، بخلاف ما بعد ذلك فإنه على مدى الأيام يسلو أو ينسى. وقال الحافظ: المعنى إذا وقع الثبات أول شيء يهجم على القلب من مقتضيات الجزع، فذلك هو الصبر الكامل الذي يترتب عليه الأجر، وأصل الصدم ضرب الشيء الصلب بمثله، فاستعير للمصيبة الواردة على القلب. قال الطيبي: صدر هذا الجواب منه صلى الله عليه وسلم من قولها "لم أعرفك" على أسلوب الحكيم، كأنه قال لها: دعي الاعتذار، فإن من شيمتي أن لا أغضب إلا لله، وانظري إلى تفويتك من نفسك الجزيل من الثواب بالجزع وعدم الصبر أول فجأة المصيبة، فاغتفر لها عليه السلام تلك الجفوة لصدورها منها في حال مصيبتها وعدم معرفتها به، وبين لها أن حق هذا الصبر أن يكون في أول الحال، فهو الذي يترتب عليه الثواب، بخلاف ما بعد ذلك، فإنه

ص: 467

متفق عليه.

1743-

(8) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد

ــ

على طول الأيام يسلو، كما يقع لكثير من أهل المصائب. وفي هذا الحديث من الفوائد: جواز زيارة القبور للنساء؛ لأنه لم ينه المرأة المذكورة عن زيارة قبر ميتها، وإنما أمرها بالصبر والتقوى لما رأى من جزعها، فدل على جوازها. وفيه ما كان فيه عليه الصلاة والسلام من التواضع والرفق بالجاهل ومسامحة المصاب وقبول اعتذاره، وملازمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفيه أن القاضي لا ينبغي له أن يتخذ من يحجبه عن حوائج الناس. وأن من أمر بمعروف ينبغي له أن يقبل ولو لم يعرف الآمر. وفيه أن الجزع من المنهيات لأمره لها بالتقوى مقروناً بالصبر، وفيه الترغيب في احتمال الأذى عند بذل النصيحة ونشر الموعظة. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي وأبوداود والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

1743-

قوله: (لا يموت لمسلم) رجل أو امرأة، ففي هذه اللفظة عموم تشمل الذكر والأنثى، بخلاف الرواية الآتية فإنها مقيدة بالنساء، وليس لها مفهوم لما في بقية الروايات من التعميم، وقيد الإسلام شرط؛ لأنه لا نجاة للكافر بموت أولاده، فقيده به ليخرج الكافر فهو مخصوص بالمسلم، وهل يدخل في ذلك من مات له ولد فأكثر في حالة الكفر ثم أسلم بعد ذلك أو لا بد أن يكون موتهم في حالة إسلامه، قد يدل للأول حديث: أسلمت على ما أسلفت من خير، لكن جاءت أحاديث فيها تقييد ذلك بكونه في الإسلام، فالرجوع إليها أولى، فمنها حديث أبي ثعلبة الأشجعي المروي في مسند أحمد والمعجم الكبير للطبراني، قلت: يا رسول الله، مات لي ولدان في الإسلام، فقال: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة، وحديث عمرو بن عبسة عند أحمد وغيره مرفوعاً: من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخل الله الجنة بفضل رحمته إياهم. (ثلاثة) وهل هو حكم ما سوى الثلاثة، سيأتي في شرح الحديث الآتي. (من الولد) بفتحتين يشمل الذكر والأنثى، والظاهر أن المراد من ولد الرجل حقيقة، أي الأولاد الصلبية، يدل عليه حديث أنس عند النسائي رفعه: من احتسب ثلاثة من صلبه دخل الجنة، وكذا حديث عقبة بن عامر عند أحمد والطبراني رفعه: من أثكل ثلاثة من صلبه فاحتسبهم على الله-الحديث، وحديث عمرو بن عبسة عند الطبراني وحديث عثمان بن أبي العاص عند أبي يعلى والبزار والطبراني أيضاً، وفيه عبد الرحمن ابن إسحاق أبوشيبة وهو ضعيف. وأما أولاد الأولاد ففي دخولهم بحث. قال الحافظ: والذي يظهر أن أولاد الأولاد الصلب يدخلون ولا سيما عند فقد الوسائط بينهم وبين الأب، والتقييد بكونهم من الصلب يدل على إخراج

ص: 468

فيلج النار إلا تحلة القسم)) .

ــ

أولاد البنات، وزاد في الرواية الآتية: لم يبلغوا الحنث، وسيأتي الكلام فيه. (فيلج النار) أي فيدخلها من الولوج وهو الدخول، وهو منصوب بأن المقدرة، تقديره فإن يلج النار؛ لأن الفعل المضارع ينصب بعد النفي بأن المقدرة بعد الفاء، لكن حكى الطيبي منعه عن بعضهم معللا بأن شرط ذلك أن يكون ما قبل الفاء سبباً لما بعدها، ولا سببية هنا؛ لأنه ليس موت الأولاد، ولا عدمه سبباً لولوج أبيهم النار بل سبباً للنجاة منها وعدم الدخول فيها، وبيان ذلك أنك تعمد إلى الفعل الذي هو غير موجب فتجعله موجباً، وتدخل عليه إن الشرطية وتجعل الفاء وما بعدها من الفعل جواباً، كما تقول في قوله تعالى:{ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} [طه:81] أن تطغوا فيه، فحلول الغضب حاصل، وفي قوله:"ما تأتينا فتحدثنا أن تأتنا"، فالحديث واقع وهنا إذا قلت: إن يمت لمسلم ثلاثة من الولد فولوج النار حاصل لم يستقم. قال الطيبي: فالفاء هنا بمعنى الواو التي للجمع، وهي تنصب المضارع بعد النفي كالفاء، والمعنى لا يجتمع لمسلم موت ثلاثة من أولاده وولوجه النار إلا تحلة القسم لا محيد عن ذلك إن كانت الرواية بالنصب، وإن كانت الرواية بالرفع على أن الفاء عاطفة للتعقيب فمعناه: لا يوجد ولوج النار عقب موت الأولاد إلا تحلة القسم أي مقداراً يسيراً، ومعنى فاء التعقيب كمعنى الماضي في قوله تعالى:{ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] في أن ما سيكون بمنزلة الكائن وأن ما أخبر به الصادق عن المستقبل كالواقع. وقال الحافظ: أن السببية. (أي في صورة النصب) حاصلة بالنظر إلى الاستثناء؛ لأن الاستثناء بعد النفي إثبات، فكان المعنى أن تخفيف الولوج مسبب عن موت الأولاد وهو ظاهر؛ لأن الولوج عام تخفيفه يقع بأمور منها موت الأولاد بشرطه-انتهى. وتعقبه السندي في حاشية البخاري بما فيه تأمل. وأجاب ابن الحاجب والدماميني عن الإشكال المذكور بوجه آخر، ذكره القسطلاني. (إلا تحلة القسم) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام، والقسم بفتح القاف والسين أي ما تنحل به اليمين، وهو مصدر حلل اليمين أي كفرها. قال أهل اللغة: يقال فعلته تحلة القسم، أي لم أفعله إلا بقدر ما حللت به يميني ولم أبالغ. وقال الخطابي: حللت القسم تحلة أي أبررتها. وقال الجزري في النهاية: تقول العرب ضربه تحليلاً ضربه تعزيراً إذا لم يبالغ في ضربه، وهذا مثل في القليل المفرط في القلة، وهو أن يباشر من الفعل الذي يقسم عليه المقدار الذي يبر به قسمه، مثل أن يحلف على النزول بمكان، فلو وقع به وقعة خفيفة أجزأته، فتلك تحلة قسمه، فالمعنى لا بدخل النار إلا دخولاً يسيراً مثل تحلة قسم الحالف، ويريد بتحلته الورود على النار والاجتياز بها، والتاء في التحلة زائدة-انتهى. قال القرطبي: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل هو معين، وقيل غير معين، فالجمهور على الأول، والمراد قسم الله تعالى على ورود جميع الخلق النار، فيردها بقدر ما يبر الله تعالى قسمه ثم ينجو، وقيل: لم يعن به قسم بعينه، وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا

ص: 469

متفق عليه.

1744-

(9) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنسوة من الأنصار:

ــ

اللفظ يستعمل في هذا، تقول: لا ينام هذا إلا لتحليل الإلية، وتقول: ما ضربته إلا تحليلاً، إذا لم تبالغ في الضرب، أي قدراً يصيبه منه مكروه، وقيل: الاستثناء بمعنى الواو، أي لا تمسه النار قليلاً ولا كثيراً ولا تحلة القسم، وقد جوز الفراء والأخفش مجيء إلا بمعنى الواو، والأول قول الجمهور، وبه جزم أبوعبيد وغيره قالوا: المراد به قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} [مريم:71] قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخلها مجتازاً، ولا يكون ذلك الجواز إلا قدر ما يحلل به الرجل يمينه، ويدل ذلك ما وقع عند عبد الرزاق في آخر هذا الحديث: إلا تحلة القسم يعني الورود، وذكر الحافظ في الفتح روايات أخرى تدل على هذا، أي على كون المراد بالقسم قول الله تعالى المذكور، وبالورود الجواز والعبور، فعليك أن ترجع إلى الفتح. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل: هو مقدر أي والله إن منكم، وقيل: معطوف على القسم الماضي في قوله: {فوربك لنحشرنهم} [مريم:68] ، أي وربك إن منكم، وقيل: هو مستفاد من قوله تعالى: {حتماً مقتضياً} أي قسماً واجباً. وقال الطيبي: يحتمل أن يكون المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من السياق، فإن قوله:{كان على ربك} تذييل وتقرير لقوله: {وإن منكم} ، فهذا بمنزلة القسم بل أبلغ لمجيء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد بالورود في الآية، فقيل: هو الدخول، رواه عبد الرزاق عن ابن عباس، وروى أحمد والنسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: الورود الدخول، لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، وقيل: المراد بالورود الممر عليها. رواه الطبري عن أبي هريرة وابن مسعود. وهذان القولان أصح ما ورد في ذلك، ولا تنافي بينهما؛ لأن من عبر بالدخول تجوز به عن المرور، ووجهه أن المار عليها فوق الصراط في معنى من دخلها، لكن تختلف أحوال المارة باختلاف أعمالهم، ويؤيد صحة هذا التأويل ما رواه مسلم من طريق أم مبشر أن حفصة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم لما قال:"لا يدخل أحد شهد الحديبية النار": أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} ؟ فقال: أليس الله تعالى يقول: {ثم ننجي الذين اتقو} الآية [مريم:72] . وفي هذا بيان ضعف من قال: إن الورود مختص بالكفار، ومن قال: الورود الدنو منها، ومن قال: معناه الإشراف عليها، ومن قال: معنى ورودها ما يصيب المؤمن في الدنيا من الحمى. وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم: أن أولاد المسلمين في الجنة؛ لأنه يبعد أن الله تعالى يغفر الآباء بفضل رحمته للأبناء ولا يرحم الأبناء، وكونهم في الجنة مذهب الجمهور، ووقف طائفة قليلة، وتقدم البحث في ذلك. (متفق عليه) ، وأخرجه أيضاً أحمد ومالك والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي.

1744-

قوله: (قال لنسوة) اسم جمع. (من الأنصار) أي من نسائهم. قال القاري: وفائدة ذكره كمال

ص: 470

((لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد فتحتسبه، إلا دخلت الجنة. فقالت امرأة منهن: أو اثنان يا رسول الله! قال: أو اثنان)) .

ــ

استحضار القضية لا أن هناك خصوصية. (من الولد) بفتحتين وهو يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع. (فتحتسبه) وفي رواية البيهقي: فتحتسبهم. قال القاري: بالرفع لا غير، أي تطلب بموته ثواباً عند الله بالصبر عليه. قال الطيبي: أي فتصبر راجية لرحمة الله وغفرانه. وليس هذه الفاء كما في "فيلج" بل هي للتسبب بالموت، وحرف النفي منصب على السبب والمسبب معاً-انتهى. قال الباجي: بيان لصفة من يؤجر بمصابه في ولده، وهو أن تحتسبهم، وأما من لم يحتسبهم ولم يرض بأمر الله فيه فإنه غير داخل في هذا الوجه-انتهى. والاحتساب عند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر، وتحصيله بالتسليم والصبر، وذكر المصنف هذا الحديث لقوله: فتحتسبه، فجعله تفسيراً للحديث قبله. وقد ورد التقييد بذلك في أحاديث أخرى، ذكرها الحافظ في الفتح، ثم قال: وقد عرف من القواعد الشرعية أن الثواب لا يترتب إلا على النية، فلابد من قيد الاحتساب، والأحاديث المطلقة محمولة على المقيدة-انتهى. (إلا دخلت الجنة) أي دخولاً أولياً، وهو لا ينافي الولوج تحلة القسم، والاستثناء من أعم الأحوال. (فقالت امرأة منهن) الظاهر أنها أم سليم الأنصارية والدة أنس بن مالك، كما رواه الطبراني بإسناد جيد عنها أو أم مبشر الأنصارية. رواه الطبراني أيضاً من حديث جابر، ويحتمل أن يكون كل منهما سأل عن ذلك في ذلك المجلس، ويحتمل التعدد، والله تعالى أعلم. وجاءت روايات أخرى نسب فيها السؤال إلى غيرهما كأم أيمن وعائشة وأم هاني وجابر وعمر رضي الله عنهم. (أو اثنان) عطف تلقين، أي هل يمكن أن تقول أو اثنان. وفي رواية: واثنان. قال العيني عطف على ثلاثة، ومثله يسمى بالعطف التلقيني، أي قل يا رسول الله: واثنان، ونظيره قوله تعالى حكاية عن إبراهيم:{ومن ذريتي} [البقرة:124] . وقال الحافظ: أي وإذا مات اثنان ما الحكم؟ فقال: واثنان، أي وإذا مات اثنان فالحكم كذلك. (قال: أو اثنان) قال العيني: أي أو إن وجد اثنان فكالثلاثة، وفيه التسوية بين حكم الثلاثة والاثنين. قال ابن بطال: وكأنه أوحي إليه بذلك في الحال، ولا يبعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده حاصلاً لكنه أشفق عليهم أن يتكلوا؛ لأن موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة، ثم لما سئل عن ذلك لم يكن بد من الجواب، وهل يدخل في الحكم المذكور الولد الواحد؟ فالظاهر أنه نعم؛ لما ورد في ذلك من الأحاديث الصريحة كحديث ابن عباس في الفصل الثاني من هذا الباب، وحديث أبي هريرة عند مسلم مرفوعاً: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه فلا يفارقه حتى يدخله الجنة، وحديث قرة المزني عند أحمد، وحديث علي عند ابن ماجه، وحديث معاذ بن جبل عند أحمد، وحديث ابن مسعود عند الترمذي، وابن ماجه وستأتي هذه الأحاديث في الفصل الثالث، وكحديث جابر بن سمرة عند الطبراني، وفيه ناصح بن عبد الله وهو ضعيف جداً، قاله الحافظ في

ص: 471

رواه مسلم. وفي رواية لهما: ((ثلاثة لم يبلغوا الحنث)) .

1745-

(10) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يقول الله: ما لعبدي المؤمن عند جزاء إذا قضبت صفيه من أهل الدنيا

ــ

الفتح. وقال الهيثمي: هو متروك، وقد سرد العيني في باب فضل من مات له ولد فاحتسب أحاديث أخرى، وكذا الهيثمي في مجمع الزوائد في باب من مات له واحد، ويدل على ذلك أيضاً حديث أبي هريرة الذي بعد هذا، فإن قوله "صفية" يدخل فيه الواحد فما فوقه، وهو أصح ما ورد في ذلك. (رواه مسلم) في البر والصلة وأخرجه أيضاً البيهقي. (وفي رواية لهما) أي للشيخين (ثلاثة لم يبلغوا الحنث) يعني في اللفظ المتقدمة ثلاثة مطلق، وفي رواية لهما ثلاثة مقيدة بهذا الوصف، والحنث بكسر المهملة وسكون النون آخره مثلثة: الإثم والذنب، قال تعالى:{وكانوا يصرون على الحنث العظيم} [الواقعة:46] ، يعني لم يبلغوا سن التكليف الذي يكتب فيه الإثم والذنب، وقيل: المعنى لم يبلغوا مبلغ الرجال حتى يجري عليهم القلم فيكتب عليهم الحنث والإثم. قال الخليل: بلغ الغلام الحنث إذا جرى عليه القلم والحنث الإثم، وقيل: المراد بلغ إلى زمان يؤخذ بيمينه إذا حنث. وقال الراغب: عبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان يؤخذ بما ارتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر لأنه الذي يحصل بالبلوغ؛ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر، وعلى هذا فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا الثواب، وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبهذا صرح كثير من العلماء وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصور منه العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصور منه ذلك إذ ليس بمخاطب، لكن قال الزين بن المنير والعراقي في شرح تقريب الأسانيد: بل يدخل البالغون في ذلك بطريق الفحوى؛ لأنه إذا ثبت ذلك في الطفل الذي هو كَلٌّ على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي بلغ معه السعي! ولا ريب أن التفجع على فقد الكبير أشد والمصيبة أعظم، لا سيما إذا كان نجيباً يقوم عن أبيه بأموره ويساعده في معيشته، وهذا معلوم مشاهد. قال الحافظ ويقوي الأول قوله في آخر حديث أنس: بفضل رحمته إياهم؛ لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم منهم-انتهى.

1745-

قوله: (ما لعبدي) أي ليس لعبدي (جزاء) أي ثواب. (إذا قبضت صفيه) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتانية، وهو الحبيب المصافي، كالولد والأخ، وكل من يحبه الإنسان. قال في النهاية: صفي الرجل الذي يصافيه الود ويخلصه له، فعيل بمعنى فاعل أو مفعول، والمراد بالقبض قبض روحه وهو الموت. (من أهل الدنيا) قال الطيبي: إنما قيده بذلك ليؤذن بأن الصفي إذا كان من أهل الآخرة كان جزاؤه وراء الجنة وهو رضوان

ص: 472