الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{الفصل الثالث}
1754-
(19) عن المغيرة بن شعبة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من نيح عليه، فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة)) .
ــ
أيضاً الشافعي وأحمد (ج1:ص205) والدارقطني (ص194) والحاكم (ج1:ص372) وصححه ابن السكن والحاكم وأقره الذهبي، وأخرجه أحمد (ج6:ص370) والطبراني وابن ماجه من حديث أسماء بنت عميس، وهي والدة عبد الله بن جعفر، وفي سنده امرأتان مجهولتان.
1754-
قوله: (من نيح عليه) بكسر النون وسكون التحتية وفتح الحاء مبنياً للمفعول من الماضي. (بما نيح عليه) الباء سببية و"ما" مصدرية أي بسبب النياحة عليه، ويؤيده رواية الطبراني بلفظ: إذا نيح على الميت عذب بالنياحة عليه، ورواه أحمد (ج4:ص245) عن علي بن ربيعة الأسدي. قال: مات رجل من الأنصار يقال له قرظة بن كعب فنيح عليه. (وهو أول من نيح عليه بالكوفة) ، فخرج المغيرة بن شعبة فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: ما بال النوح في الإسلام، ثم قال: ألا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، ألا ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يُنَح عليه يعذب بما يناح به عليه. وفي الحديث دليل على أن المراد من البكاء في حديث ابن عمر هو النوح والندب لا مطلق البكاء. وفيه دليل على تحريم النياحة. قيل: ويحتمل أن يكون الجار والمجرور حالاً، "وما" موصولة أي يعذب متلبساً بما يندب عليه من الألفاظ كياجبلاه وياكهفاه ونحوهما على سبيل التهكم، كما في حديث النعمان الآتي. ويحتمل أن الباء للآلة، و"ما" موصولة، وتلك الألفاظ تجعل آلة للعذاب حيث تذكر له توبيخاً وتقريعاً عليه. (يوم القيامة) فيه رد على من ذهب إلى التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فحمل قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] على يوم القيامة. وهذا الحديث وما أشبهه على البرزخ خاصة. وظاهر حديث المغيرة وحديث عمر وابنه المذكور بعده أن الميت يعذب بسبب النياحة عليه. واختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أحدها: أنه على ظاهره مطلقاً، ذهب إليه جماعة من السلف، منهم عمر، وهو بين من قصته مع صهيب، كما سيأتي في حديث عبد الله بن أبي مليكة، ومنهم عبد الله بن عمر، كما رواه عبد الرزاق. الثاني: لا مطلقاً، فرد أهل هذا القول حديث المغيرة وما أشبهه، وعارضوه بقوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} وممن روي عنه الإنكار مطلقاً أبوهريرة، كما رواه أبويعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني قال: قال أبوهريرة: والله! لئن انطلق مجاهد في سبيل الله فاستشهد، فعمدت إمرأته سفهاً وجهلاً فبكت عليه ليعذب هذا الشهيد بذنب
هذه السفيهة. الثالث: أن الباء للحال، أي إنه يعذب حال بكائهم عليه، والتعذيب عليه من ذنبه لا بسب البكاء، يعني أن مبدأ عذاب الميت يقع عند بكاء أهله عليه، وذلك أن شدة بكائهم غالباً إنما تقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر، فكان معنى الحديث: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاءهم سبباً لتعذيبه. قال العيني: حكى الخطابي عن بعض أهل العلم أنه ذهب إلى أنه مخصوص ببعض الأموات الذين وجب عليه العذاب بذنوب اقترفوها، وجرى من قضاء الله سبحانه فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم. ومعنى قوله:"يعذب ببكاء أهله" أي عند بكائهم عليه لاستحقاقه ذلك بذنبه، ويكون ذلك حالاً لا سبباً. قال الحافظ: ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولعل قائله إنما أخذه من قول عائشة: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإنه ليبكون عليه الآن، أخرجه مسلم، وعلى هذا يكون خاصاً ببعض الموتى. الرابع: أنه خاص بالكافر، وأن المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلاً، وهو بين من رواية ابن عباس عن عائشة حيث قالت: يرحم الله عمر، والله! ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه. الخامس: أن المراد بالميت ميت معهود معين. قال الحافظ: ومنهم من أوله على أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه، وأن اللام في الميت لمعهود معين، كما جزم به القاضي أبوبكر الباقلاني وغيره. وحجتهم ما سيأتي في رواية عمرة عن عائشة. قال الحافظ بعد ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة ما لفظه: وهذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيه إشعار بأنها لم ترد حديث أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بلفظ: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه، بينت ما نفته عمرة وعروة عنها إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. وقال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح، وقد جمع كثير من أهل العلم بين حديثي عمر وعائشة بضروب من الجمع، كما ستعرف. السادس: أنه خاص بمن كان النوح من سنته وطريقته، وهذا أحد وجوه الجمع، وعليه البخاري حيث قال في صحيحه: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوح من سنته، لقول الله تعالى:{قو أنفسكم وأهليكم ناراً} [التحريم:6] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فإذا لم يكن من سنته فهو كما قالت عائشة:{ولا تزر وازرة وزرا أخرى} الخ. السابع أنه فيمن أوصى به أهله وهو أخص من الذي قبله، وهذا قول
الجمهور، كما قال النووي.، قالوا كان ذلك معروفاً من العرب، فإنهم كانوا يوصون أهليهم بالبكاء والنوح عليهم، وهو موجود في أشعارهم، كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فابكيني بما أنا أهله
…
وشق علي الجيب يا ابنة معبد
ومثل هذا كثير في أشعارهم، وإذا كان كذلك فالميت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم في ذلك من أمره إياهم بذلك وقت حياته، واعترض بأن ذنب الميت الأمر بذلك، فلا يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه وأجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب. شاهده حديث: من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها. الثامن: أنه فيمن لم يوص بتركه، فتكون الوصية بذلك واجبة إذا علم أن من شأن أهله أن يفعلو ذلك، وهو قول داود وطائفة. قال ابن المرابط: إذا علم المرء ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أن أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك، ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده. التاسع: أن المراد بالتعذيب توبيخ الملائكة بما يندبه أهله به، كما روى أحمد من حديث أبي موسى مرفوعاً: الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: وا عضداه، وا ناصراه، وا كاسياه، جبذ الميت. وقيل له: أنت عضدها، أنت ناصرها، أنت كاسيها. ورواه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به، ويقال: أنت كذلك. ورواه الترمذي بلفظ آخر كما سيأتي. وشاهده حديث النعمان بن بشير، وسيأتي أيضاً. العاشر: معنى التعذيب تألم الميت مما يقع من أهله من النياحة وغيرها، وهذا اختيار أبي جعفر الطبري وابن المرابط وعياض ومن تبعه، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين، واستدلوا لذلك بما أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة، والطبراني وغيرهم من حديث قَبْلَة، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فوالذي نفسي بيده إن أحدكم ليبكي فيسعتبر إليه صويحبه، فيا عباد الله! لا تعذبوا موتاكم. قال الحافظ: هو حسن الإسناد. قال الطبراني: ويؤيده ما قال أبوهريرة: إن أعمال العباد تعرض على أقربائهم من موتاهم ثم ساقه بإسناد صحيح إليه، وشاهده حديث النعمان بن بشير مرفوعاً، أخرجه البخاري في تاريخه، وصححه الحاكم. قال ابن المرابط: حديث قيلة نص في المسألة فلا يعدل عنه واعترضه ابن رشيد بأنه ليس نصاً، وإنما هو محتمل، فإن قوله "فيستعير إليه صويحبه" ليس نصاً في أن المراد به الميت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميت يعذب حينئذٍ ببكاء الجماعة عليه. الحادي عشر: أن المراد التعذيب بالصفات التي يبكون بها عليه، وهي مذمومة شرعاً، كما كان أهل الجاهلية يقولون: يأمر مل النسوان، يا مُيَتّم الأولاد، يا مخرب الدور. قال الحافظ: ومن وجوه الجمع أن معنى قوله: يعذب ببكاء أهله عليه أن بنظير ما يبكيه أهله به، وذلك أن الأفعال التي يعدون بها عليه غالباً تكون من الأمور المنهية، فهم يمدحونه بها، وهو يعذب بصنيعه ذلك، وهو عين ما يمدحونه، وهذا إختيار ابن حزم وطائفة. واستدل له بحديث ابن عمر يعني الذي
متفق عليه.
ــ
تقدم في الفصل الأول من هذا الباب في قصة شكوى سعد بن عبادة، وفيه "ولكن يعذب بهذا وأشار إلى لسانه". قال ابن حزم: فصح أن البكاء الذي يعذب به الإنسان ما كان منه باللسان. إذ يندبونه برياسته التي جاء فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخرة، وهو يعذب بذلك. وقال الإسماعيلي: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال: كل مجتهد على حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو أنهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بكته باكية بتلك الأفعال المحرمة. فمعنى الخبر أن الميت يعذب بذلك الذي يبكى عليه أهله به؛ لأن الميت يندب بأحسن أفعاله، وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها. قال الحافظ بعد ذكر هذه الوجوه الستة الأخيرة للجمع بين الحديثين ما لفظه: ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات، فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال: مثلاً من كانت طريقته النوح، فمشى أهله على طريقته، أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالماً فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به. ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها. فإن كان راضياً بذلك إلتحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك. كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب. الثاني عشر: التفرقة بين حال البرزخ وحال يوم القيامة، فيحمل قوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [الإسراء:15] على يوم القيامة، وحديث التعذيب بالبكاء على البرزخ، ذكره الكرماني وحسنه، قال: ويؤيد ذلك أن مثل ذلك يقع في الدنيا، والإشارة إليه بقوله تعالى:{واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} [الأنفال:25] فإنها دالة على جواز وقوع التعذيب على الإنسان بما ليس له فيه تسبب، فكذلك يمكن أن يكون الحال في البرزخ بخلاف يوم القيامة –انتهى. وفي هذا الجمع نظر، فإنه ينافيه لفظ يوم القيامة في حديث المغيرة بن شعبة فتفكر، وأرجع الأقوال وأحسن المذاهب في ذلك عندي هو قول من قال: إن الحديث المذكور في حق من له في بكاء غيره تسبب، بأن يكون البكاء من طريقته، أو أوصى به في حياته، أو عرف أن أهله يفعلون ذلك وأهمل النهي عن ذلك، وترك الزجر عنه. وأما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلاً، فهو كما قالت عائشة:{لا تزر وازرة وزر أخرى} والله تعالى أعلم. (متفق عليه) واللفظ لمسلم. وأخرجه أحمد (ج4:ص245) والترمذي والطبراني والبيهقي (ج:ص72) وفي الباب عن عمر وابن عمر، وسيأتيان، وعن أبي موسى الأشعري عند أحمد، وقد ذكرنا لفظه وعن عمران بن حصين عند ابن عبد البر، وعن سمرة عند أحمد والبزار.
1755-
(20) وعن عمرة بنت عبد الرحمن، أنها قالت: سمعت عائشة، وذكر لها أن عبد الله بن عمر يقول:((إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه، تقول: يغفر الله لأبي عبد الرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهودية يبكى عليها، فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها)) .
ــ
1755-
قوله: (وعن عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم. (بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية، ثقة من أوساط التابعين، كانت في حجر عائشة، أكثرت عنها. قال ابن المديني: عمرة أحد الثقات العلماء بعائشة، الأثبات فيها. وقال ابن حبان: كانت من أعلم الناس بحديث عائشة. وقال سفيان: أثبت حديث عائشة حديث عمرة والقاسم وعروة، ماتت قبل المائة، وقيل بعدها. (وذكر) بصيغة المجهول. (لها) أي لعائشة. (إن الميت ليعذب ببكاء الحي عليه) أي سواء كان الباكي من أهل الميت أم لا، فليس الحكم مختصاً بأهله، وقوله "ببكاء أهله عليه" في الرواية الآتية خرج مخرج الغالب؛ لأن المعروف أنه إنما يبكي على الميت أهله. ووقع في بعض طرق حديث ابن عمر عند ابن أبي شيبة "من نيح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه"، فرواية الباب عامة في البكاء، وهذه الرواية خاصة في النياحة، فيحمل المطلق على المقيد، وتكون الرواية التي فيها مطلق البكاء محمولة على البكاء بنوح. ويؤيد ذلك إجماع العلماء على حمل ذلك على البكاء بنوح. ومما يدل على أنه ليس المراد عموم البكاء قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمر: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه. فقيد ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نياحة جمعاً بين الأحاديث. قال الشوكاني: حكى النووي إجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء الذي يعذب الميت عليه هو البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد دمع العين. (تقول) حال من عائشة. وقيل: مفعول ثان لـ"سمعت" وما بينهما جملة معترضة. (يغفر الله لأبي عبد الرحمن) كنية عبد الله بن عمر، قدمته تمهيداً أو دفعاً لمن يوحش من نسبته إلى النسيان والخطأ، قال الله تعالى:{عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43] ، فمن استغرب من غيره شيئاً ينبغي أن يوطئ ويمهد له بالدعاء إقامة لعذره فيما وقع منه، وإنه لم يتعمد، ومن ثم زادت على ذلك بياناً واعتذاراً بقولها:(أما) بالتخفيف للتنبيه أو للافتتاح، يؤتي بها لمجرد التأكيد. (أنه) أي ابن عمر. (ولكنه نسي) أي مورده الخاص. (أو أخطأ) أي في إرادته العام. (يبكى عليها) بصيغة المجهول وفي رواية: يبكي عليها أهلها. (إنهم) أي اليهود. (وإنها) أي اليهودية. (لتعذب في قبرها) أي لكفرها في حال بكاء أهلها عليها لا بسبب البكاء. قال القاري: ولا يخفى أن هذا الاعتراض وارد لو لم يسمع
متفق عليه.
1756-
(21) وعن عبد الله بن أبي مليكة، قال: ((توفيت بنت لعثمان بن عفان بمكة، فجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس، فإني لجالس بينهما، فقال عبد الله بن عمر لعمرو بن عثمان وهو مواجهه: ألا تنهى عن البكاء؟
ــ
الحديث إلا في هذا المورد، وقد ثبت بألفاظ مختلفة وبروايات متعددة عنه وعن غيره غير مقيدة بل مطلقة، دخل هذا الخصوص تحت ذلك العموم، فلا منافاة ولا معارضة، فيكون اعتراضها بحسب اجتهادها-انتهى. وتقدم قول القرطبي: إن إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنه سمع بعضاً ولم يسمع بعضاً بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون، فلا وجه للنفي مع إمكان حمله على محمل صحيح-انتهى. (متفق عليه) واللفظ لمسلم، وأخرجه مالك والترمذي والنسائي وأبوعوانة والبيهقي.
1756-
قوله: (وعن عبد الله بن أبي مليكة) بالصغير. (بنت لعثمان بن عفان) هي أم أبان، كما صرح به في مسند أحمد وصحيح مسلم والنسائي. (لنشهدها) أي لنحضر صلاتها ودفنها. (وحضرها ابن عمر) بن الخطاب. (وابن عباس) أي وقد حضراها أيضاً، وفي رواية لمسلم: فحضرها ابن عمر وابن عباس. (فإني لجالس بينهما) أي بين ابن عمر وابن عباس. قال الطيبي: الظاهر أن يقال "وإني لجالس" ليكون حالاً، والعامل حضر، والفاء تستدعي الاتصال بقوله:"فجئنا لنشهدها" نقله السيد جمال الدين. قلت: قوله: "فإني لجالس" كذا في جميع النسخ الموجودة الحاضرة عندنا، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج11:ص399) . ووقع في الصحيحين "وإني لجالس" بالواو. وقال ابن حجر: قوله "فإني لجالس" عطف على "فجئنا". وقال القاري: الأظهر أن الفاء دخلت على مقدر، تقديره فبعد حضورها إني لجالس بينهما إشعاراً بكمال الاطلاع على ما نقل عنهما. (لعمرو بن عثمان) أخيها، وهو عمرو بن عثمان بن عفان الأموي يكنى أبا عثمان، مدني ثقة من كبار التابعين. قال الزبير بن بكار: كان أكبر ولد عثمان الذي أعقبوا، وإن معاوية زوجه لما ولي الخلافة ابنته رملة. (وهو) أي ابن عمر. (مواجهه) أي مقابل ابن عثمان. (ألا تنهى) النساء. (عن البكاء) أي بالصياح والنياح. وفي رواية لمسلم وأحمد عن ابن مليكة قال: كنت جالساً إلى جنب ابن عمر، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس يقوده قائد، فأراه أخبره بمكان ابن عمر، فجاء حتى جلس إلى جنبي فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار. وفي رواية النسائي والحميدي: فبكى النساء، فظهر السبب في قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما قال. والظاهر أن المكان الذي جلس فيه ابن عباس كان أوفق له من الجلوس يجنب ابن عمر، أو اختار أن لا يقيم ابن أبي مليكة من
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك، ثم حدث، فقال: صدرت مع عمر من مكة حتى إذا كنا بالبيداء، فإذا هو يركب تحت ظل سمرة، فقال: اذهب فانظر من هؤلاء الركب؟ فنظرت، فإذا هو صهيب، قال: فأخبرته، فقال: ادعه، فرجعت إلى صهيب، فقلت: ارتحل فالحق أمير المؤمنين، فلما أن أصيب عمر دخل صهيب يبكي، يقول: وا أخاه، وا صاحباه،
ــ
مكانه ويجلس فيه للنهى عن ذلك. (إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه) زاد في رواية لمسلم وأحمد وقال: فأرسلها عبد الله مرسلة. قال النووي: معناه أن ابن عمر أطلق في روايته تعذيب الميت ببكاء الحي، ولم يقيده بيهودي كما قيدته عائشة، ولا بوصية كما قيده آخرون، ولا قال ببعض بكاء أهله كما رواه أبوعمر. (فقال ابن عباس) أي معترضاً على ابن عمر بأن عائشة خالفته كأبيه. (قد كان عمر يقول بعض ذلك) أي للعموم، وهو أن يكون بصوت أو ندبة أو يروى أي بعض ذلك الكلام؛ لأن في روايته: ببعض بكاء أهله كما سيأتي. (ثم حدث) أي روى ابن عباس ما سمعه من عمر (صدرت) أي رجعت. (مع عمر من مكة) قافلاً من حجه. (بالبيداء) بفتح الموحدة وسكون التحتية، مفازة بين مكة والمدينة، قاله العيني. وقال القاري: موضع قريب من ذي الحليفة. (فإذا هو) أي عمر "وإذا" للمفاجأة. (بركب) بفتح فسكون أي جماعة راكبين. (تحت ظل سمرة) بفتح السين المهملة وضم الميم، شجرة عظيمة من شجر الغضاة. (فقال) أي عمر. (اذهب فانظر) أي تحقق (صهيب) أي ومن معه بضم الصاد ابن سنان بن قاسط، وكان من السابقين الأولين المعذبين في الله. (قال) أي ابن عباس. (فأخبرته) أي أخبرت عمر بذلك. (ادعه) بضم الهاء أي اطلب صهيباً لي. (فقلت) أي لصهيب. (ارتحل) أي من مكانك. (فالحق) بفتح الحاء، أمر من اللحوق. (أمير المؤمنين) هذا توطئة للمصاحبة والخصوصية الخالصة والمؤاخاة السالفة بين عمر وصهيب. (فلما أن) زائدة. (أصيب عمر) أي بالجراحة التي مات بها، وكان ذلك عقب حجه المذكور، ففي رواية مسلم المذكورة: فلما قدمنا المدينة لم يلبث عمر أن أصيب. وفي رواية الحميدي: لم يلبث أن طعن. (يبكي) حال. (يقول) بدل اشتمال من يبكي، قاله القاري. وقال العيني "يبكي" جملة وقعت حالاً من صهيب، وكذلك يقول "حال"، ويجوز أن يكون من الأحوال المترادفة، وأن يكون من المتداخلة. (وا أخاه وا صاحباه) كلمة "وا" للندبة. والألف في آخره ليس مما يلحق الأسماء الستة لبيان الإعراب، بل هو مما يزاد في آخر المندوب لتطويل مد الصوت، والهاء ليست بضمير، بل هو هاء السكت، وشرط المندوب أن يكون معروفاً، فلا بد من القول بأن
فقال عمر: يا صهيب! أتبكي علي! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الميت ليعذب ببعض بكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: فلما مات عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت: يرحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، ولكن إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه،
ــ
الأخوة والصاحبية له كانا معلومين معروفين حتى يصح وقوعهما للندبة. (أتبكي) بهمزة الاستفهام الإنكاري. (علي) أي بالصوت والندبة، وفي رواية النسائي. فقال عمر: يا صهيب: لا تبك. قال السندي: خاف أن يفضي بكاءه إلى البكاء بعد الموت، وإلا فالحديث في البكاء بعد الموت. (ببعض بكاء أهله عليه) قيده ببعض البكاء، فحمل على ما فيه نوح وندبة جمعاً بين الأحاديث. وقيل: المراد بالبعض ما يكون من وصيته. (فقالت: يرحم الله عمر) قال الطيبي: هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: {عفا الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة:43]، فاستعربت من عمر ذلك القول فجعلت قولها "يرحم الله" تمهيداً ودفعاً لما يوحش من نسبته إلى الخطأ. (لا) أي ليس كذلك. (إن الميت) بكسر الهمزة وتفتح. (ليعذب ببكاء أهله عليه) في البخاري: إن الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه. وفي مسلم: إن الله يعذب المؤمن ببكاء أحد، وفي أخرى له: ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط، إن الميت يعذب ببكاء أحد، قال القاري. أي مطلقاً ولا مقيداً، وهذا النفي المؤكد بالقسم منها بناء على ظنها وزعمها، أو مقيد بسماعها، وإلا فمن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمثبت مقدم على النافي. وكيف والحديث روي من طرق صحيحة بألفاظ صريحة، مع أنه بعمومه لا ينافي ما قالت بخصوصه. (ولكن) بإسكان النون أي الذي حدث به جملة إن الله الخ. قال القاري: وفي نسخة "ولكن" قال: وفي البخاري "ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال"، وفي رواية لمسلم "ولكنه قال". (إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه) فحملت الميت على الكافر وأنكرت الإطلاق، وقد جاء فيه الزيادة كقوله تعالى:{زدناهم عذاباً فوق العذاب} [النحل:88] وقوله: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ:30] لكن قد يقال: زيادة العذاب بعمل الغير أيضاً مشكلة معارضة بقوله تعالى: {ولا تزر} الخ، فينبغي أن تحمل الباء في قوله "ببعض بكاء أهله" على المصاحبة لا السببية، وتخصيص الكافر حينئذٍ لأنه محل الزيادة، قاله السندي في حاشية النسائي، وقال في حاشية البخاري: كأنها فهمت أن معنى هذا الحديث هو أن الله يزيد الكافر عذاباً جزاء لكفره، كما قال تعالى:{فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذاباً} [النبأ:30] إلا أن الله أجرى عادته بإظهار الزيادة عند البكاء، فصار كأن البكاء سبب للزيادة؛ لأن الزيادة جزاء للبكاء، ولا يتصور مثل ذلك في تعذيب المؤمن بسبب البكاء، فصار هذا الحديث بفهمها غير مخالف لقوله تعالى:{ولا تزر} بل هو موافق
وقالت عائشة: حسبكم القرآن: {ولا تزر وازرة أخرى} ، قال ابن عباس عند ذلك: والله أضحك وأبكي،
ــ
لقوله تعالى: {فلن نزيدكم إلا عذاباً} بخلاف حديث تعذيب المؤمن، فلا يرد أن هذا الحديث مخالف لظاهر قوله تعالى:{ولا تزر} الخ. فما بالها تثبته وتبطل الحديث الآخر بالمخالفة فافهم-انتهى. ولا يخفى ما فيه من التكلف. وقال القاري: فيه أن النفي منها رضي الله عنها هنا مناقض لما قالت سابقاً من أن الحديث ورد في يهودية كانوا يبكون عليها، وهي تعذب في قبرها-انتهى. وقال الحافظ: هذه التأويلات عن عائشة متخالفة، وفيها إشعار بأنها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرته من معارضة القرآن. قال الداودي: رواية ابن عباس عن عائشة بينت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنها خصته بالكافر؛ لأنها أثبتت أن الميت يزداد عذاباً ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزداد بفعل غيره أو يعذب ابتداء. (وقالت عائشة) أي تأكيداً لقولها أولاً:(حسبكم القرآن) بسكون السين المهملة، أي كافيكم أيها المؤمنون القرآن، أي في تأييد ما ذهبت إليه من رد الخبر:{ولا تزر وازرة ورز أخرى} الجملة بدل كل أو بعض من القرآن أو خبر مبتدأ محذوف هو هو. قال الطيبي: الوزر والوقر أخوان، وزر الشيء إذا حمله، والوازرة صفة النفس. والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته. لا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبارة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار-انتهى. (قال ابن عباس عند ذلك) أي عند انتهاء حديثه عن عائشة مؤيداً لها ومصداقاً لكلامها:(والله) بالرفع مع الواو، وهو حاصل معنى الآية في سورة النجم بلفظ: إنه هو {أضحك وأبكى} قال ميرك: أي إن العبرة لا يملكها ابن آدم ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها فضلاً عن الميت-انتهى. وحاصله جواز عموم البكاء، وهو خلاف الإجماع. وقال الداودي: معناه أن الله تعالى أذن في الجميل من البكاء فلا يعذب على ما أذن فيه-انتهى. وهو خارج عن البحث كما لا يخفى. وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة أي أن بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله يظهرها فيه فلا أثر له في ذلك-انتهى. وفيه أن الكل من عند الله خلقاً ومن العبد كسباً كما هو مقرر، والشرع قد اعتبر ما يترتب عليه من الأثر كسائر أفعال البشر، ألا ترى أن التبسم والضحك في وجه المؤمن من الحسنات، وعلى المؤمن على وجه السخرية من السيئات، وكذا الحزن والسرور تارة يكونان من الأحوال السيئة، يثاب الشخص بهما، وتارة من الأفعال الدنية، يعاقب عليهما، كما هو مقرر في محله. ثم قال الطيبي: فإن قلت: كيف لم يؤثر ذلك في حق المؤمن وقد أثر في حق الكافر؟ قلت: لأن المؤمن الكامل لا يرضى بالمعصية مطلقاً، سواء صدرت منه أو من غيره بخلاف الكافر، ومن ثم قالت الصديقة رضي الله عنها: حسبكم القرآن أي كافيكم، أيها المؤمنون! من
قال ابن أبي مليكة: فما قال ابن عمر شيئاً)) . متفق عليه.
1757-
(22) وعن عائشة، قالت: ((لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم قتل ابن حارثة وجعفر
ــ
القرآن هذه الآية {ولا تزر} الخ إنها في شأنكم، وما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه في شأن الكفار-انتهى. قال القاري: لا دلالة لقولها على هذه المدعى مع أن العبرة بعموم ألفاظ الآيات والأحاديث في المعنى لا لخصوص الأسباب في المبنى-انتهى. وقال الكرماني: لعل غرض ابن عباس من هذا الكلام في هذا المقام أن الكل بخلق الله وإرادته، فالأولى فيه أن يقال بظاهر الحديث، وأن له أن يعذبه بلا ذنب، ويكون البكاء عليه علامة لذلك أو يعذبه بذنب غيره، سيما وهو السبب في وقوع الغير فيه، ولا يسئل عما يفعل، وتخصص آية الوزر بيوم القيامة. (فما قال ابن عمر شيئاً) أي من القول أو شيئاً آخر. قال الطيبي: أي فعند ذلك سكت ابن عمر وأذعن. وقال الزين بن المنير: لا يدل سكوته على الإذعان، فلعله كره المجادلة في ذلك المقام. وقال القرطبي: ليس سكوته لشك طرأ له بعد ما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلاً للتأويل، ولم يتعين له محمل يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة، ولم يتعين الحاجة إلى ذلك حينئذٍ. وقال الخطابي: الرواية إذا ثبتت لم يكن في دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه، ليس فيما حكت عائشة ما يرفع روايتهما الجواز أن يكون الخبران صحيحين معاً، ولا منافاة بينهما، فالميت إنما تلزم العقوبة بما تقدم من وصيته إليهم به وقت حياته، وكان ذلك مشهوراً من مذاهبهم، وهو موجود في أشعارهم. (متفق عليه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص41-42) والنسائي والبيهقي (ج4:ص73) .
1757-
قوله: (لما جاء النبي) بالنصب على المفعولية والفاعل. (قتل ابن حارثة) أي زيد وقد تقدم ترجمته. (وجعفر) هو ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم الطيار، ذو الجناحين ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد السابقين إلى الإسلام وأخو علي شقيقه، وكان أكبر من علي بعشر سنين، هاجر إلى الحبشة فأسلم النجاشي ومن تبعه على يديه، وأقام جعفر عنده، ثم هاجر إلى المدينة فقدم والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، فقيل بين عينيه وقال: ما أدري أنا بقدوم جعفر أسر أو بفتح خيبر؟ وكان أشبه الناس خلقاً وخلقاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبوهريرة يقول: خير الناس للمساكين جعفر، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته حتى أن كان ليخرج إلينا العكة ليس فيها شيء فيشقها. وفي رواية: كان يحب المساكين ويجلس إليهم ويخدمهم ويخدمونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه أبا المساكين. وقال أبوهريرة: ما احتذى النعال ولا ركب المطايا ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب، استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم على غزوة موتة،
وابن رواحة، جلس يعرف فيه الحزن، وأنا أنظر من صائر الباب – تعني شق الباب- فأتاه رجل فقال: إن نساء جعفر، وذكر بكاءهن،
ــ
واستشهد بها سنة ثمان من الهجرة، قاتل فيها حتى قطعت يداه جميعاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء، فمن هناك قيل: له جعفر الطيار وجعفر ذوالجناحين، وهو أول من عرقب فرساً في سبيل الله، نزل يوم مؤتة إذ رأى الغلبة، فعرقب فرسه. وقاتل حتى قتل، قال ابن عمر: كنت معهم في تلك الغزوة، فالتمسنا جعفراً فوجدنا فيما أقبل من جسمه بضعاً وتسعين بين طعنة ورمية، وكان سنه يوم قتل (41) سنة. (وابن رواحة) هو عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس الخزرجي الأنصاري الشاعر، أحد السابقين الأولين من الأنصار، وأحد النقباء ليلة العقبة، وثالث الأمراء بغزوة مؤتة، شهد بدراً وما بعدها إلى أن استشهد بمؤتة. قال ابن سعد: كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي جاء ببشارة بدر إلى المدينة. قال ابن عبد البر: هو أحد الشعراء المحسنين الذين كانوا يردون الأذى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه وفي صاحبه حسان، وكعب بن مالك نزلت:{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وذكروا الله كثيراً} الآية [الشعراء:237] ، ومناقبة كثيرة، وقصة غزوة مؤتة في الصحيحين. (جلس) هو جواب "لما" أي لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم خبر شهادتهم على لسان جبريل جلس أي في المسجد، كما في رواية أبي داود. وفيه دليل على جواز الجلوس للعزاء في المسجد. (يعرف) بصيغة المجهول. (فيه) أي في وجهه. (الحزن) أي أثره وهو بضم الحاء وسكون الزاي، والجملة حال أي جلس حزيناً، وعدل إلى قوله: يعرف، ليدل على أنه صلى الله عليه وسلم كظم الحزن كظماً، وكان ذلك القدر الذي ظهر فيه من جبلة البشرية. (وأنا أنظر) جملة حالية أيضاً. وقائلها عائشة رضي الله عنها. (من صائر الباب) بالصاد المهملة المفتوحة والهمزة بعد الألف أي الشق الذي كان بالباب. قال المازري: كذا وقع في الصحيحين "صائر الباب"، والصواب صير الباب بكسر الصاد وسكون التحتية، وهو الشق. قال القسطلاني: وهو المحفوظ كما في المجمل والصحاح والقاموس، وقال ابن الجوزي صائر وصير بمعنى واحد. وفي كلام الخطابي نحوه. (تعني) أي تريد عائشة بصائر الباب. (شق الباب) بفتح الشين المعجمة أي الموضع الذي ينظر منه، وهذا لفظ البخاري في المغازي. قال العيني: وهذا التفسير إنما وقع في رواية القابسي، فيكون من الراوي. وفي رواية لهما "وأنا أنظر من صائر الباب شق الباب" أي بدون لفظ تعني. (فأتاه رجل) قال الحافظ: لم أقف على اسمه، وكأنه أبهم عمداً لما وقع في حقه من غض عائشة منه. (إن نساء جعفر) أي امرأته وهي أسماء بنت عميس الخثعمية ومن حضر عندها من النساء من أقاربها وأقارب جعفر ومن في معناها، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار لجعفر امرأة غير أسماء. (وذكر) أي الرجل. (بكاءهن) الجملة في محل النصب على الحالية سادة مسد الخبر. قال الطيبي: هو حال عن المستتر في قوله "فقال"
فأمره أن ينههن، ثم أتاه الثانية لم يطعنه، فقال: إنههن، فأتاه الثالثة، قال: والله غلبننا يا رسول الله! فزعمت أنه قال: فأحث في أفواههن التراب،
ــ
وحذفت رضي الله عنها خبر "إن" من القول المحكي عن نساء جعفر لدلالة الحال عليه، يعني أن ذلك الرجل قال: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا مما حظره الشرع من البكاء المشتمل على رفع الصوت والنياحة-انتهى. وقد وقع عند النسائي "يبكين"، وعند أبي عوانة "قد كثر بكاؤهن"، وعند ابن حبان "قد أكثرن بكاءهن". (فأمره) عليه الصلاة والسلام. (أن ينهاهن) عن فعلهن. (فذهب) أي فنهاهن فلم يطعنه. (ثم أتاه) أي أتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم (الثانية) أي المرة الثانية فقال: إنهن (لم يطعنه) أي في ترك البكاء. قال الطيبي: قوله لم يطعنه حكاية لمعنى قول الرجل، أي فذهب ونهاهن ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: نهيتهن فلم يطعنني، يدل عليه قوله في المرة الثالثة: والله غلبننا، ووقع في رواية أبي عوانة: فذكر أنهن لم يطعنه. (انههن) بهمزة وصل مكسورة وفتح الهاء أمر من النهي. (فأتاه الثالثة) أي فذهب إليهن ونهاهن ولم يطعنه أيضاً، فأتاه المرة الثالثة. (غلبننا) بلفظ جمع المؤنث الغائبة، أي في عدم الامتثال لقوله؛ لكونه لم يصرح لهن بنهي الشارع، أو حملن الأمر على التنزيه، أو لشدة الحزن لم يستطعن ترك ذلك، وليس النهي عن البكاء فقط، بل الظاهر أنه على نحو النوح. (فزعمت) بالغيبة أي عائشة وهو مقول عمرة، والزعم قد يطلق على القول المحقق، وهو المراد هنا، قاله الحافظ. أي قالت عمرة: فزعمت أي قالت عائشة. (أنه) صلى الله عليه وسلم (قال) للرجل لما لم ينتهين: (وأحث) بضم المثلثة أمر من حثاً يحثو وبكسرها أيضاً من حثي يحثى أي ارم. (في أفواههن التراب) بالنصب أي ليسد محل النوح فلا يتمكن منه، أو المراد به المبالغة في الزجر. قال القرطبي: هذا يدل على أنهن رفعن أصواتهن بالبكاء، فلما لم ينتهين أمره أن يسد أفواههن بذلك، وخص الأفواه بذلك لأنها محل النوح بخلاف الأعين مثلاً. وقيل: لم يرد بالأمر حقيقته. قال عياض: هو بمعنى التعجيز أي أنهن لا يسكتن إلا بسد أفواههن، ولا يسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإن أمكنك فافعل. وقال القرطبي: يحتمل أنهن لم يطعن الناهي لكونه لم يصرح لهن بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن، فحملن ذلك على أنه مرشد للمصلحة من قبل نفسه، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة الحزن لحرارة المصيبة، ثم الظاهر أنه كان في بكائهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنه كرره وبالغ فيه وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن، ويحتمل أن يكون بكاء مجرداً، والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنه لم يقر على باطل، ويبعد تمادى الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرم. وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه، فيفضى بهن إلى الأمر لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند
فقلت: أرغم الله أنفك، لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء)) . متفق عليه.
1758-
(23) وعن أم سلمة، قالت: ((لما مات أبوسلمة قلت: غريب، وفي أرض غربة، لأبكينه بكاء
ــ
خشية إفضائه إلى ما يحرم، كذا في الفتح. (فقلت) للرجل. (أرغم الله أنفك) بالراء والغين المعجمة، أي ألصق الله أنفك بالرغام بفتح الراء وهو التراب إهانة وإذلالاً. قال الحافظ: دعت عليه من جنس ما أمر أن يفعله بالنسوة لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة تردده إليه في ذلك. وقال الطيبي: أي أذلك الله فإنك آذيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كففتهن عن البكاء، وهذا معنى قولها رضي الله عنها:(لم تفعل ما أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي على درجة الكمال في الزجر، وإلا فقد قام بالأمر حيث نهاهن عن الضجر، قاله القاري. وقال الكرماني: أي لم تبلغ النهي، ونفته وإن كان قد نهاهن لأنه لم يترتب على نهيه الامتثال، فكأنه لم يفعله، ويحتمل أن تكون أرادت لم تفعل أي الحثو بالتراب. (ولم تترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من العناء) بفتح العين المهملة والنون والمد أي المشقة والتعب، ومراد عائشة أن الرجل لا يقدر على ذلك، فإذا كان لا يقدر فقد أتعب نفسه ومن يخاطبه في شيء لا يقدر على إزالته، ولعل الرجل لم يفهم من الأمر المحتم. وقال النووي: معناه أنك قاصر لا تقوم بما أمرت به من الإنكار لنقصك وتقصيرك، ولا تخبر النبي صلى الله عليه وسلم بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك ويستريح من العناء. وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار، وجواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب، وتأديب من نهي عما لا ينبغي له فعله إذا لم ينته، قاله الحافظ: وقد ترجم البخاري في صحيحه على هذا الحديث. باب من جلس عند المصيبة يعرف فيه الحزن، قال الزين بن المنير ما ملخصه: موقع هذه الترجمة من الفقة أن الاعتدال في الأحوال هو المسلك الأقوم، فمن أصيب بمصيبة عظيمة لا يفرط في الحزن حتى يقع في المحذور من اللطم والشق والنوح وغيرها، ولا يفرط في التجلد حتى يفضي إلى القسوة والاستخفاف بقدر المصاب، فيقتدي به صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بأن يجلس المصاب جلسة خفيفة بوقار وسكينة تظهر عليه مخائل الحزن، ويؤذن بأن المصيبة عظيمة، كذا في الفتح. (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز وفي المغازي، ومسلم في الجنائز، وأخرجه أيضاً أحمد وأبوداود والنسائي وأبوعوانة وابن حبان والبيهقي (ج4:ص59) .
1758-
قوله: (وعن أم سلمة) أم المؤمنين. (لما مات أبوسلمة) أي زوجها الأول. (غريب وفي أرض غربة) بالإضافة أي أنه من أهل مكة ومات بالمدينة. (لأبكينه) بتشديد النون، أي والله لأبكين عليه. (بكاء) أي
يتحدث عنه، فكنت قد تهيأت للبكاء عليه، إذ أقبلت امرأة تريد أن تسعدني، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أتريدين أن تدخلي الشيطان بيتاً أخرجه الله منه؟ مرتين، وكففت عن البكاء فلم أبك)) . رواه مسلم.
1759-
(24) وعن النعمان بن بشير، قال: ((أغمى على عبد الله بن رواحة، فجعلت أخته عمرة تبكي:
ــ
شديداً. (يتحدث عنه) بصيغة المجهول، أي يتحدث الناس به ويتعجبون منه لكمال شدته، والظاهر أن هذا منها كان قبل علمها بتحريم النياحة. (فكنت قد تهيأت للبكاء عليه) أي بالقصد والعزيمة، وتهيئة أسباب الحزن من الثياب السود وغيرها. قال الطيبي: الفاء متصلة بقولها: قلت أي قلت عقيب ما تهيأت للبكاء، ولا يجوز أن يتصل بالقول إلا مع الواو ليكون حالاً-انتهى. وقال ابن حجر: هو عطف على قلت، أي عقب قولي ذلك وقع مني تمام التهيؤ. (إذ أقبلت امرأة) ظرف لتهيأت، وقيل: ظرف لقلت. وفي رواية للبيهقي: فلما تهيأت للبكاء عليه إذا امرأة تريد أن تأتيني، وفي أخرى له: فبينا أنا كذلك قد تهيأت للبكاء عليه إذ أتت امرأة. (تريد أن تسعدني) من الإسعاد وهو الإعانة، أي تساعدني في البكاء والنوح. (فاستقبلها) أي تلك المرأة. (فقال) أي بعد علمه بما هي قاصدة له. (أتريدين) أيتها المرأة بإعانتك على المعصية. (أن تدخلي الشيطان) أي أن تكوني سبباً لدخول الشيطان. (بيتاً أخرجه الله) أي الشيطان. (منه) أي من ذلك البيت وأبعده من إغواء أهله. (مرتين) الظاهر أنه متعلق بـ"قال" أي أعاد هذا الكلام لكمال الاهتمام مرتين. (وكففت) عطف على مقدر، أي فأنزجرت ومنعت نفسي. (عن البكاء فلم أبك) أي البكاء المذموم. قال البيهقي: هذا في بكاء يكون معه ندب أو نياحة –انتهى. (رواه مسلم) وأخرجه البيهقي أيضاً (ج4:ص63) .
1759-
قوله: (عن النعمان) بضم النون. (أغمي على عبد الله) بصيغة المجهول يعني مرض، وحصل له الإغماء في مرضه، فلما رأت أخته عمرة هذه الحالة بكت وندبت. (أخته عمرة) بنت رواحة الأنصارية زوجة بشير بن سعد الأنصاري، ووالدة النعمان بن بشير، راوي هذا الحديث، وهي التي سألت بشيراً أن يخص ابنها منه بعطية دون إخوته، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، والحديث في الصحيحين. قال ابن عبد البر: لما ولدت النعمان بن بشير حملته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بتمرة، فمضغها ثم ألقاها في فيه فحنكه بها، فقالت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أدع الله أن يكثر ماله وولده، فقال: أما ترضين أن يعيش كما عاش خاله حميداً، وقتل شهيداً، ودخل الجنية. (تبكي)
وا جبلاه! وا كذاه! تعدد عليه، فقال حين أفاق: ما قلت شيئاً إلا قيل لي: أنت كذلك)) ؟ زاد في رواية: ((فلما مات لم تبك عليه)) رواه البخاري.
1760-
(25) وعن أبي موسى، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول: وا جبلاه! وا سيداه! ونحو ذلك، إلا وكل الله به ملكين يلهزانه، ويقولان: أهكذا
ــ
عليه وتقول. (وا جبلاه) بالجيم والموحدة واللام، والواو فيه للندبة وهو حرف نداء، ولكنه يختص بالندبة. والهاء فيه للسكت. قال الطيبي: حال والقول محذوف أي قائلة وا جبلاه، أي أنه كان لها كالجبل تأوي إليه عند طروق الحوادث فتعتصم به، ومستنداً تستند إليه في أمورها. (وا كذا وا كذا) مرتين كنايتان عن نحو سيداه وسنداه. (تعدد عليه) بضم التاء من التعديد، وهو ذكر أوصاف الميت ومحاسنه في أثناء البكاء، يعني تذكر محاسنه، وذلك غير جائز، وعند أبي نعيم في المستخرج وا عضداه، وفي مرسل الحسن عند ابن سعد وا جبلاه وا عزاه، وفي مرسل أبي عمران الجوني عنده وا ظهراه، وزاد فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عاده، فأغمي عليه فقال: اللهم إن كان أجله حضر فيسر عليه وإلا فاشفه، قال: فوجد خفة، فقال: كان ملك قد رفع مرزبة من حديد يقول: أنت كذا، فلو قلت نعم لقمعنى بها. (فقال) عبد الله. (حين أفاق) من الإغماء لأخته عمرة. (ما قلت شيئاً) مما سبق. (إلا قيل لي) استثناء مفرغ. (أنت كذلك) استفهام على سبيل الإنكار، أي قيل لي أنت لها جبل؟ أي كهف تلجيء إليك على سبيل الإيذاء والإهانة والتهكم والوعيد الشديد، وزاد أبونعيم في آخرها فنهاها عن البكاء عليه. قال الطيبي: هذا الحديث ينصر مذهب عمر رضي الله عنه في حديث ابن أبي مليكة. وقال ابن حجر: فإن قلت: ما وجه توبيخه بهذا مع أنه لم يرض به ولا أمر؟ قلت: إخباره بذلك حتى ينزجر الناس عن فعل شيء من ذلك. (فلما مات) عبد الله بن رواحة في غزوة مؤتة وبلغها خبره. (لم تبك عليه) أي أخته لنهيه إياها عن ذلك في مرضه الذي أغمي عليه فيه ولم يمت منه، وقيل: لم تبك عليه مخافة أن يقال له بعد الموت أيضاً، كما قيل في حالة الإغماء. (رواه البخاري) في المغازي وأخرجه ابن سعد والبيهقي أيضاً (ج4:ص64) .
1760-
قوله: (ما من ميت) أي حقيقي أو مشرف على الموت. (يموت) قال الطيبي هو كقول ابن عباس يمرض المريض وتضل الضالة فسمي المشارف للموت والمرض والضلال ميتاً ومريضاً وضالة، وهذه الحالة هي الحالة التي ظهرت على عبد الله بن رواحة. (فيقوم) أي فيشرع. (يلهزانه) بفتح الهاء أي يضربانه ويدفعانه. وفي النهاية: اللهز الضرب بجمع اليد في الصدر، يقال: لهزه بالرمح أي طعنه في الصدر. (أهكذا كنت) أي توبيخاً وتقريعاً وتهكماً به،
كنت؟)) . رواه الترمذي، وقال: هذا حديث غريب حسن.
1761-
(26) وعن أبي هريرة، قال:((مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب)) رواه أحمد، والنسائي.
ــ
كما في قوله: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} . وفيه حديث النعمان دليل على تحريم الندية والنياحة على الميت الحقيقي وعلى المشرف على الموت. (رواه الترمذي) وأخرجه أحمد (ج4ص414) بلفظ: الميت يعذب ببكاء الحي عليه، إذا قالت النائحة: وا عضداه وا ناصراه وا كاسياه، جبذ الميت وقيل له: أنت عضدها أنت ناصرها أنت كاسيها؟ وأخرجه ابن ماجه بلفظ: يتعتع به ويقال: أنت كذلك. وقوله: يتعتع على بناء المفعول من تعتعت الرجل إذا عنفه وأقلقته، كذا في الصحاح. والعنف هو الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر. وأخرجه الحاكم بنحوه وقال: صحيح الإسناد. قال الحافظ في الفتح والتلخيص بعد ذكر حديث أبي موسى من رواية أحمد والترمذي والحاكم: وشاهده ما روى البخاري في المغازي من صحيحه من حديث النعمان بن بشير، فذكر لفظه، وفي الباب عن عبد الله بن عمر أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني في الكبير، وعن معاذ بن جبل أخرجه الطبراني أيضاً، ذكرهما الهيثمي في الزوائد (ج3ص14- 15)، والمنذري في الترغيب وقالا: في الأول الأعمش لم يدرك ابن عمر، وفي الثاني الحسن لم يدرك معاذاً.
1761-
قوله: (مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم) هي زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سيأتي في الحديث الآتي. (يبكين عليه) أي على الميت من غير نياحة. (دعهن) أي اتركهن. (فإن العين دامعة) أي بالطبع والجبلة البشرية. قال السندي: فيه أن بكاءهن كان بدمع العين لا بالصياح، فلذلك رخص في ذلك، وبه يحصل التوفيق بين أحاديث الباب. (والقلب) بالنصب والرفع. (مصاب) أي أصابه المصيبة فلا بد له من أن يحزن، فهو السبب في بكاء العين. (والعهد) أي زمان المصيبة. (قريب) أي منهن فالصبر صعب عليهن. قال الطيبي: كان من الظاهر أن يعكس الترتيب؛ لأن قرب العهد مؤثر في القلب بالحزن، والحزن مؤثر في البكاء، ولكن قدم ما يشاهد، ويستدل به على الحزن الصادر من قرب، وفيه أنهن لم يكن يزدن على البكاء النياحة والجزع-انتهى. وقال القاري الظاهر أن بكاءهن كان بصوت لكن لا برفعه، فنهاهن عمر سداً لباب الذريعة حتى لا ينجر إلى النياحة المذمومة، فأمره عليه الصلاة والسلام بتركهن، وأظهر عذراً لهن في أفعالهن-انتهى. والظاهر عندي هو ما قاله الطيبي والسندي. (رواه أحمد والنسائي) وأخرجه ابن ماجه وابن حبان والبيهقي (ج4ص70) أيضاً، ولفظ ابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة. (أي باكية) فصاح بها. (لتنتهي عنه) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
1762-
(27) وعن ابن عباس، قال: ((ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: مهلاً يا عمر! ثم قال: إياكن ونعيق الشيطان، ثم قال: إنه مهما كان من العين ومن القلب، فمن الله عزوجل
ــ
دعها يا عمر، فإن العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب، ذكره الحافظ في التلخيص، وسكت عنه، ونقل السندي في حاشيته ابن ماجه عن الحافظ أنه قال في الفتح: رجاله ثقات.
1762-
قوله: (ماتت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقع في رواية عند أحمد والبيهقي وابن سعد: رقية بنت رسول الله بدل زينب، وهو خطأ، والصواب زينب، وهي أكبر بناته صلى الله عليه وسلم، وأول من تزوج منهن، ولدت قبل البعثه بمدة. قيل: إنها عشر سنين، وتزوجها ابن خالتها أبوالعاص بن الربيع العبشمي، وأمه هالة بنت خويلد، أسلمت زينب وهاجرت حين أبى زوجها أبوالعاص أن يسلم، وولدت من أبي العاص غلاماً اسمه علي مات وقد ناهز الاحتلام ومات في حياته، وجارية اسمها أمامة عاشت حتى تزوجها علي بعد فاطمة، وتوفيت زينب في أول سنة ثمان من الهجرة، وكان سبب موتها أنها لما خرجت من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدلها هبار بن الأسود ورجل آخر، فدفعها أحدهما فيما ذكروا، فسقطت على صخرة، فأسقطت واهراقت الدماء، فلم يزل بها مرضها حتى ماتت سنة (8) من الهجرة، وكان زوجها محباً فيها، وكانت وفاته بعدها بقليل. (فأخره رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده) . في المسند (ج1ص238) : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده. (مهلاً) بسكون الهاء، أي أمهلهن مهلاً أو أعطهن مهلاً. قال السيد:"مهلا" مصدر عامله محذوف، وقيل المَهْل والمَهَل الرفق التؤدة والتباطؤ، ويقال مَهْلاً وعلى مَهْل أي امهِل، وهو مصدر نائب مناب فعله يستوي فيه المذكر والمؤنث مفرداً ومثنى وجمعاً. (يا عمر) والمعنى لا تبادر حتى يتبين لهن الحكم. وفي رواية لأحمد (ج1ص335) : دعهن يبكين. (ونعيق الشيطان) أي صياحه بالنياحة، وأضيف إليه لحمله عليه، من نعق الراعي بغنمة دعاها لتعود إليه، ومنه قوله تعالى:{كمثل الذي ينعق} [البقرة: 171] . (ثم قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم مبيناً له أتم البيان. (إنه) أي الشأن. (مهما كان) في القاموس: مهما بسيط لا مركب من "مه وما" ولا من "ماما" خلافا لزاعميها-انتهى. واختلف في أنها اسم شرط أو حرف شرط، وهو في هذا المقام ظرف لفعل الشرط، أي مهما كان البكاء. (من العين) أي من الدمع. (ومن القلب) أي من الحزن. (فمن الله عز وجل أي محمود ومرضي من جهة وصادر من خلقته. وقال الطيبي:"مهما" حرف الشرط تقول مهما تفعل افعل. قيل: إن أصلها "ماما" فقلبت الألف الأولى هاء،
ومن الرحمة، وما كان من اليد ومن اللسان، فمن الشيطان)) . رواه أحمد.
1763-
(28) وعن البخاري تعليقاً، قال: ((لما مات الحسن بن الحسن بن علي ضربت امرأته القبة على قبره سنة
ــ
ومحله رفع بمعنى أيما شيء كان من العين فمن الله. (ومن الرحمة) أي وناشئ من رحمة صاحبه. (وما كان)"ما" شرطية أيضاً. (من اليد) كالضرب على الخد وقطع الثوب ونتف الشعر. (ومن اللسان) أي بطريق الصياح وعلى وجه النياح، أو يقول مما لا يرضى به الرب. (فمن الشيطان) أي من إغوائه أو برضاه. قال الطيبي: وجه اختصاص البكاء بالله أن الغالب في البكاء أن يكون محموداً، فالأدب أن يسند إلى الله تعالى، بخلاف قول الخنا والضرب باليد عند المصيبات فإن ذلك مذموم. وقال ميرك: ولعل إسناد البكاء إلى الله تعالى لأجل أن الله تعالى راض به ولا يؤاخذ به، بخلاف ما صدر من اللسان واليد عند المصيبة فإن الشيطان راض بهما والرحمن يؤاخذ بهما. وقال القاري: بعضها مباح أو محمود فينسب إلى الله لإباحته أو لرضاه فيترتب عليه الثواب، وبعضها معصية فينسب إلى الشيطان حيث تسبب بالإغواء وحصل له به الرضا، فيستوجب عليه العذاب. (رواه أحمد)(ج1ص237- 238و 335) ، وأخرجه البيهقي (ج4ص70) وابن سعد أيضاً، والحديث في إسناده علي بن زيد، وفيه كلام وهو موثق، وأشار إليه الحافظ في التلخيص وسكت عنه.
1763-
قوله: (وعن البخاري تعليقاً) أي بلا إسناد. قال القاري: كان من حق المصنف أن يذكر من يرويه البخاري عنه أولاً، وينسب الحديث إليه معنعناً، ثم يقول بعد تمام الحديث: رواه البخاري تعليقاً-انتهى. قلت: أورد البخاري هذا الأثر معلقاً بحذف كل السند، يعني ذكره غير معزو إلى من رواه حيث قال "باب ما يكره من اتخاذ المسجد على القبور"، ولما مات الحسن بن الحسن بن علي الخ. ثم روى بسنده عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي مات فيه: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وعلى هذا فلا وجه للاعتراض على المصنف، وقد وصل هذا الأثر الحسين بن إسماعيل بن عبد الله المحاملي في أماليه من طريق جرير عن المغيرة بن مقسم، ووصله أيضاً ابن أبي الدنيا في كتاب القبور من طريق المغيرة. (لما مات الحسن بن الحسن بن علي) بن أبي طالب الهاشمي بفتح الحاء والسين في الاسمين، وهو ممن وافق اسمه اسم أبيه، وكانت وفاته سنة سبع وتسعين وله بضع وخمسون سنة، وهو من ثقات التابعين، وله ولد يسمى الحسن أيضاً فهم ثلاثة في نسق واحد. (ضربت امرأته) فاطمة بنت الحسين بن علي أبي طالب الهاشمية، وهي ابنة عمه تقدم ترجمتها. (القبة) بضم القاف، وتشديد الموحدة أي الخيمة، كما جاء في رواية المحاملي وابن أبي الدنيا بلفظ الفسطاط. (على قبره سنة)
ثم رفعت، فسمعت صائحاً يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا)) .
1764-
1765- (29- 30) وعن عمران بن حصين، وأبي برزة، قالا: ((خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى قوماً قد طرحوا أرديتهم يمشون في قمص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبفعل الجاهلية تأخذون؟ أو بصنيع الجاهلية
ــ
قال ابن المنير: إنما ضربت الخيمة هناك للاستمتاع بالميت بالقرب منه تعليلاً للنفس وتخييلاً باستصحاب المألوف من الأنس ومكابرة للحس، كما يتعلل بالوقوف على الأطلال البالية ومخاطبة المنازل الخالية فجاءتهم الموعظة على لسان الهاتفين بتقبيح ما صنعوا. (ثم رفعت) بالبناء للفاعل أي أمرت المرأة برفعها أو للمفعول أي رفعت الخيمة. (فسمعت) أي المرأة، ويروى: فسمعوا أي المرأة ومن معها. (صائحاً) أي هاتفاً من مؤمني الجن أو الملائكة. (ألا) بالتخفيف للتنبيه. (ما فقدوا) بفتح القاف، ويروى: ما طلبوا. (فأجابه آخر) أي صائح آخر. (بل يئسوا فانقلبوا) أي رجعوا، وفي هذا الأثر دليل على كراهة ضرب القبة على القبر، وإليه ذهب أحمد وهو الحق. قال ابن قدامة: كره أحمد أن يضرب على القبر فسطاط، وأوصى أبوهريرة حين حضرته الوفاة أن لا يضربوا عليه فسطاطاً-انتهى. وذكر البخاري ذلك الأثر في الباب المذكور؛ لأنه يدل على كراهة ضرب القبة على القبر. قال القسطلاني: مطابقته للترجمة ومناسبته لحديث الباب من جهة أن المقيم في الفسطاط لا يخلوا من الصلاة فيه، فيستلزم اتخاذ المسجد عند القبر، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة، وإذا أنكر الصائح بناء زائلاً فالبناء الثابت أجدر، لكن لا يؤخذ من كلام الصائح حكم؛ لأن مسلك الأحكام الكتاب والسنة والإجماع والقياس، ولا وحي بعده عليه الصلاة والسلام، وإنما هذا وأمثاله تنبيه على انتزاع الأدلة من مواضعها واستنباطها من مظانها-انتهى. وقال الحافظ: إنما ذكره البخاري لموافقته للأدلة الشرعية لا لأنه دليل برأسه.
1764-
1765- قوله: (فرأى قوماً) أي من متبعي الجنازة. (قد طرحوا أرديتهم) قال السندي: أي غيروا لباسهم للحزن على الميت، وهذا من صنيع الجاهلية، لكن أهل الجاهلية يبالغون فيه فلذلك سمى هذا تشبيهاً بهم-انتهى. (يمشون) حال من فاعل طرحوا، أو صفة بعد صفة لقوماً. (في قمص) بضمتين جمع قميص. قال القاري: يؤخذ منه أن الشعار المعروف في ذلك الزمن هو الرداء فوق القميص. قال الطيبي: حال متداخلة؛ لأن يمشون حال من الواو في طرحوا، أو هو من الواو في يمشون. (أبفعل الجاهلية) أي من تغير الزي المألوف عند
تشبهون؟ لقد هممت أن أدعو عليكم دعوة ترجعون في غير صوركم. قال: فأخذوا أرديتهم، ولم يعودوا لذلك)) . رواه ابن ماجه.
1766-
(31) وعن ابن عمر، قال:((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتبع جنازة معها رانة)) رواه أحمد، وابن ماجه.
ــ
الموت. (تأخذون) الهمزة للإنكار، ومحله الفعل، وقدم الجار لبيان محط الإنكار. (أو بصنيع الجاهلية) أو للتنويع أو للشك. (تشبهون) أي تتشبهون فحذف إحدى التائين. (لقد هممت) أي قصدت. (دعوة) مفعول مطلق. (ترجعون) على بناء للفاعل أو للمفعول، أي تصيرون أو تردون بتلك الدعوة. (في غير صوركم) أي بالمسخ. قال الطيبي: هو محمول على تضمين الرجوع معنى صار، كما في قوله تعالى:{أو لتعودن في ملتنا} [الأعراف: 88] ، أو تحمل الصورة على الصفة والحالة، أي ترجعون إلى غير الفطرة كما كنتم عليه-انتهى. قال ميرك: ويحتمل أن يكون المراد ترجعون إلى بيوتكم في غير صوركم، وفي غير صوركم حال فلا حاجة إلى الوجهين-انتهى. (قال) أي الراوي، وفيه إبهام فإن الراوي اثنان، فيحتمل أن يكون المراد قال كل منهما، ويحتمل قال الراوي الشامل لهما أو لأحدهما. (ولم يعودوا) أي لم يرجعوا بعد ذلك. (لذلك) أي إلى ذلك الفعل أو لم يرجعوا في ذلك الفعل لأجل ذلك القول الصادر منه صلى الله عليه وسلم. قال الطيبي: فإذا ورد في مثل أدنى تغيير من وضع الرداء عن المنكب هذا الوعيد البليغ فكيف ما يشاهد من الأمور الشنيعة. (رواه ابن ماجه) بإسناد ضعيف، فيه نفيع بن الحارث أبوداود الأعمى تركه غير واحد، ونسبه ابن معين وغيره للوضع، وفيه أيضاً علي بن الحزور كذلك متروك الحديث، وقال البخاري: منكر الحديث عنده عجائب، وقال مرة: فيه نظر.
1766-
قوله: (أن تتبع) بالتخفيف وتشدد على بناء المجهول، أي تشيع (جنازة معها رانة) بالراء المهملة وبعد الألف نون مشددة بصيغة اسم الفاعل، أي نائحة صائحة. في القاموس: رنَّ يَرِنّ رنيناً صاح، وفي رواية أحمد: رَنَّة، وهي الصوت يريد به نواح النساء خلف الجنازة. وفيه دليل على تحريم اتباع الجنازة التي معها النائحة. قال القاري: وفي معناها إذا كان معها أمر آخر من المنكرات. وهذا أصل أصيل في عدم الحضور عند مجلس فيه المحظور. (رواه أحمد)(ج2ص92) . (وابن ماجه) في سنده عند ابن ماجه أبويحي القتات رواه عنه إسرائيل. قال أحمد: روى عنه إسرائيل أحاديث كثيرة مناكير جداً. وقال ابن معين: في حديثه ضعف. وقال يعقوب بن سفيان والبزار: لا بأس به. وقال الحافظ: لين الحديث. قلت: قد تابعه على روايته هذا الحديث عن مجاهد ليث بن أبي سليم عند أحمد، فصار الحديث حسناً بل صحيحاً لاعتضاده بالأحاديث التي تدل على تحريم النياحة.
1767-
(32) وعن أبي هريرة، أن رجلاً قال له:((مات ابن لي فوجدت عليه، هل سمعت من خليلك صلوات الله عليه شيئاً يطيب بأنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم، سمعته صلى الله عليه وسلم قال: صغارهم دعاميص الجنة، يلقى أحدهم أباه فيأخذ بناحية ثوبه، فلا يفارقه حتى يدخله الجنة)) رواه مسلم، وأحمد واللفظ له.
1768-
(33) وعن أبي سعيد، قال: ((جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله!
ــ
1767-
قوله: (أن رجلاً) هو أبوحسان القيسي، ففي مسلم عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة أنه قد مات لي ابنان الخ. واسم أبي حسان هذا خالد بن غلاق القيسي. (مات ابن لي) أي صغير. (فوجدت عليه) أي حزنت عليه حزناً شديداً. (يطيب بأنفسنا) بالتخفيف مع فتح أوله فالباء للتعدية، وبالتشديد فالباء للتأكيد، كما في قوله تعالى:{ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة: 195]، {وهزي إليك بجزع النخلة} [مريم: 25] . وهذه الزيادة أعني زيادة الباء أمر مطرد عند أرباب العربية على ما ذكره المغني، قاله القاري. أي يسليها. وفي مسلم: فما أنت محدثي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث تطيب به أنفسنا. (عن موتانا) أي من الصغار. (صغارهم) أي صغار المسلمين. (دعاميص الجنة) بالدال والعين والصاد المهملات جمع دعموص بضم الدال أي صغار أهلها، وأصل الدعموص دويبة تكون في الماء لا تفارقه، أي أن هذا الصغير في الجنة لا يفارقها. وفي النهاية: جمع دعموص وهي دويبة تغوص في الماء، وتكون في مستنقع الماء، والدعموص أيضاً الدخال في الأمور، أي أنهم سياحون في الجنة دخالون في منازلها لا يمنعون من موضع، كما أن الصبيان في الدنيا لا يمنعون من الدخول على الحرم، ولا يحتجب منهم، قاله الطيبي:(يلقي أحدهم) أي أحد الصغار. (أباه) أي فكيف بأمه. وفي صحيح مسلم: يتلقى أحدهم أباه أو قال أبويه. (بناحية ثوبه) أي بطرفه. (فلا يفارقه حتى يدخله الجنة) ولفظ مسلم: فيأخذ بثوبه أو قال بيده كما آخذ أنا بضفة ثوبك هذا، فلا ينتهي حتى يدخله الله وأباه الجنة. وفيه دليل أن أطفال المؤمنين في الجنة، وكذا آباء هؤلاء الأطفال وأمهاتهم في الجنة إذا احتسبوهم. (رواه مسلم) في الأدب والبر والصلة. (وأحمد) وأخرجه أيضاً البيهقي (ج4ص67) . (واللفظ له) أي لأحمد. ولعل المصنف لهذا ذكر أحمد؛ لأنه ملتزم أنه لا يذكر بعد الشيخين أحداً من المخرجين؛ لظهور صحة الحديث إذا كان في الصحيحين أو في أحدهما.
1768-
قوله: (جاءت امرأة) قال الحافظ: لم أقف على اسمها. ويحتمل أن تكون هي أسماء بنت يزيد
ذهب الرجال بحديثك، فاجعل لنا من نفسك يوماً نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله، فقال: اجتمعن في يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا. فاجتمعن، فأتاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلمهن مما علمه الله، ثم قال: ما منكن امرأة تقدم بين يديها من ولدها ثلاثة، إلا كان لها حجاباً من النار، فقالت امرأة منهن: يا رسول الله! أو اثنين؟ فأعادتها مرتين. ثم قال: واثنين واثنين واثنين)) رواه البخاري.
ــ
ابن السكن. (ذهب الرجال بحديثك) قال الطيبي: أي أخذوا نصيباً وافراً من مواعظك. وقال القاري: أي فازوا وظفروا به. ونحن محرومات من اغتنامه واكتسابه-انتهى. وفي رواية: غلبنا عليك الرجال أي بملازمتهم لك كل الأيام يتعلمون الدين، ونحن نساء ضعفة لا نقدر على مزاحمتهم. (فاجعل) أي انظر لنا فعين (لنا من نفسك) أي من اختيارك لا من اختيارنا. (يوماً) من الأيام فـ"من" ابتدائية تتعلق بـ"اجعل"، و"يوما" مفعول به، يعني هذا الجعل منشؤه اختيارك لا اختيارنا. قال الكرماني: ويحتمل أن يكون المراد من أوقات نفسك بإضمار الوقت والظرف صفة لـ"يوما"، وهو ظرف مستقر على هذا الاحتمال-انتهى. يعني اجعل لنا وقتاً ما من الأوقات المختصة بذاتك الأشرف. (اجتمعن) بكسر الميم. (في يوم كذا) أي في نهار كذا (وكذا) أي في وقت كذا. (في مكان كذا) أي من المسجد أو البيت. (وكذا) أي من وصفه بمقدمه أو مؤخره. (فاجتمعن) بفتح الميم. (ما منكن امرأة تقدم) من التقديم. (بين يديها) أي إلى يوم القيامة. (إلا كان) أي التقديم أو تقدمهم وموتهم. (حجاباً) أي ستراً. (فقالت امرأة منهن) هي أم سليم أو أم مبشر أو أم أيمن. (أو اثنين) عطف على "ثلاثة"، ويقال لمثل هذا: عطف تلقين، كأنه يلقن المخاطب المتكلم بأن يعطفه على ما قبله. وفي رواية: واثنين، أي وما حكم اثنين أو ومن قدم اثنين. (فأعادتها) أي المرأة كلمة أو اثنين. (مرتين) وفي رواية مسلم: فقالت امرأة: واثنين واثنين واثنين. (ثم قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم. (واثنين واثنين واثنين) ثلاث مرات للتوكيد، والواو بمعنى أو. وفي الحديث ما كان عليه نساء الصحابة من الحرص على تعلم أمور الدين. وفيه أن أطفال المسلمين في الجنة: وأن من مات له ولدان حجباه من النار، ولا اختصاص لذلك بالنساء كما تقدم. (رواه البخاري) في العلم وفي الجنائز وفي الاعتصام، وأخرجه أيضاً مسلم في الأدب والبر والصلة، واللفظ للبخاري في الاعتصام، فكان من حق المصنف أن يقول: متفق عليه، واللفظ للبخاري، وأخرجه أحمد (ج3ص34، 72) والبيهقي أيضاً.
1769-
(34) وعن معاذ بن جبل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة، إلا أدخلهما الله الجنة بفضل رحمته إياهما، فقالوا: يا رسول الله! أو اثنان؟ قال: أو اثنان. قالوا: أو واحد؟ قال: أو واحد. ثم قال: والذي نفسي بيده إن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتبسته)) . رواه أحمد، وروى ابن ماجه من قوله:((والذي نفسي بيده)) .
ــ
1769-
قوله: (ما من مسلمين) على صيغة التثنية أي من الوالدين. (ثلاثة) أي من الولد من البنين والبنات. (إلا أدخلهما) أي الوالدين المسلمين. (بفضل رحمته إياهما) أي بفضل رحمة الله تعالى للوالدين. وهذا صريح في أن المراد بقوله "إياهما" الأبوان لا الأولاد. وورد بعض الأحاديث بما يدل على أن المراد بفضل رحمة الله للأولاد، ففي حديث أنس عند ابن ماجه: ما من مسلمين يتوفى لهما ثلاثة من الولد، لم يبلغوا الحنث إلا أدخلهم الله. (أي الأبوين والأولاد) بفضل رحمة الله إياهم. ورواه أحمد (ج6ص376) والطبراني في الكبير من حديث أم سليم، والنسائي من حديث أبي ذر، وفي حديث أبي ثعلبة الأشجعي عند أحمد (ج6ص396) والطبراني في الكبير برجال ثقات: من مات له ولدان في الإسلام أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهما. وفي حديث عمرو بن عبسة عند أحمد (ج4ص386) : من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث. أدخله الله الجنة برحمته إياهم. وللطبراني. إلا أدخله الله برحمته هو وإياهم. (أو اثنان) عطف على ثلاثة عطف التماس. (قال: أو واحد) هذا صريح في أن للواحد حكم الاثنين والثلاثة. (ثم قال) أي تتميماً ومبالغة في ثواب الولد. (إن السقط) بكسر السين أكثر وأشهر من الضم والفتح، وهو ولد يسقط من بطن أمه قبل تمامه. (ليجر أمه) بضم الجيم ليسحبها. (بسرره) بفتحتين وتكسر السين، هو ما تقطعه القابلة، وهو السر بالضم أيضاً. وأما السرة فهي ما يبقى بعد القطع. وقال الجزري في النهاية: السرر ما يبقى بعد القطع مما تقطعه القابلة. (إلى الجنة) قال الطيبي: هذا تتميم ومبالغة للكلام السابق، ومن ثم صدره صلى الله عليه وسلم بالقسم، أي إذا كان السقط الذي لا يؤبه به يجر الأم بما قد قطع من العلاقة بينهما، فكيف الولد المألوف الذي هو فلذة الكبد. (إذا احتبسته) أي صبرت عليه طلباً للأجر من الله تعالى. (رواه أحمد) أي من أول الحديث (ج5ص241)، وأخرجه أيضاً الطبراني في الكبير. (وروى ابن ماجه من قوله: والذي نفسي بيده) أي إلى آخر الحديث، وفي سنده عندهم يحيى بن عبيد الله التيمي. قال الهيثمي: لم أجد من وثقه ولا جرحه-انتهى. ونقل السندي عن البوصيري أنه قال في الزوائد: في إسناده يحيى بن عبيد الله بن موهب، وقد اتفقوا على ضعفه، والله اعلم-انتهى. قلت يحيى بن عبيد الله بن موهب التيمي قال فيه يعقوب بن سفيان: لا بأس به إذا روى عن ثقة. وقال الساجي: فيجوز في الزهد وفي الرقائق،
1770-
(35) وعن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قدم ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث،
ــ
وليس هو بحجة في الأحكام. وقال الجوزجاني: أحاديثه متقاربة من حديث أهل الصدق، وضعفه غيرهم. وقال الحافظ في التقريب: إنه متروك-انتهى. وفي كونه هو المراد في سند هذا الحديث عندي نظر. والظاهر أن الراوي فيه رجل آخر لا يعرف، أو هو يحيى بن عبد الله الجابر، وهو لين الحديث. ذكر الحافظ في تهذيب التهذيب ترجمة يحيى بن عبيد الله بن عبد الله بن موهب التيمي برقم الترمذي وابن ماجه: ثم قال تحت رقم ابن ماجه: يحيى بن عبيد الله عن عبيد الله بن مسلم الحضرمي، وعنه عبيدة بن حميد. وقيل: عن عبيدة عن يحيى بن عبد الله الجابر عن عبيد الله بن مسلم، وهو الصواب-انتهى. وقال الذهبي في الميزان: يحيى بن عبيد الله ق عن عبيد الله بن مسلم عن معاذ لا يعرف، روى عنه عبيدة بن حميد، وكأنه يحيى بن عبد الله الجابر-انتهى. وذكر الذهبي. أيضاً هذا الحديث في ترجمة يحيى الجابر، فقال: عبيدة بن حميد حدثنا يحيى الجابر عن عبد الله بن مسلم الحضرمي عن معاذ بن جبل مرفوعاً: ما من امرأين مسلمين يموت لهما ثلاثة-الحديث. وفيه: أن السقط ليجر أمه بسرره إلى الجنة إذا احتسبت-انتهى. وقال الحافظ في اللسان: يحيى بن عبيد الله عن عبيد الله بن مسلم وعنه عبيدة بن حميد، وقال إسرائيل وخالد الطحان: عن يحيى بن عبد الله الجابري-انتهى. وقد ظهر بهذا كله أن حديث معاذ بن جبل هذا ضعيف لا يصلح للاحتجاج. وفي ثواب السقط أحاديث لا يصلح واحد منها للاستدلال، منها: حديث علي الآتي، ومنها حديث أبي هريرة عند ابن ماجه أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسقط أقدمه بين يدي أحب إلي من فارس أخلفه خلفي. قال في الزوائد: قال المزي في التهذيب والأطراف: يزيد بن رومان لم يدرك أبا هريرة، ويزيد بن عبد الملك النوفلي وإن وثقه ابن سعد فقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ومنها حديث سهل بن حنيف مرفوعاً: تزوجوا، فإني مكاثر بكم الأمم، وإن السقط ليرى محبنطئاً بباب الجنة يقال له: ادخل، يقول: حتى أدخل أبوي، رواه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، كذا في مجمع الزوائد (ج3:ص11) . ومنها حديث معاوية بن حيدة عند ابن حبان في الضعفاء بنحو حديث سهل بن حنيف، ذكره العيني.
1770-
قوله: (من قدم ثلاثة من الولد) أي من قدمهم بالصبر على موتهم. قال القاري: معناه من قدم صبر ثلاثة من الولد عند فقدهم واحتسب ثوابهم عند ربهم، أو المراد بالتقديم لازمه وهو التأخر، أي من تأخر أي موته عن موت ثلاثة من أولاده المقدمين عليه. (لم يبلغوا الحنث) أي الذنب. والمراد أنهم لم يحتلموا. قال القاري: والظاهر أن هذا قيد للكمال؛ لأن الغالب أن يكون القلب عليهم أرق، والصبر عنهم أشق وشفاعتهم أرجى وأسبق. وقال السندي: يأبى عنه أي عن التعميم قوله. (في حديث عتبة بن عبد السلمي عند ابن ماجه)"إلا تلقوه من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء دخل"، إذ لا يلزم في الكبير الإسلام ودخول الجنة فضلاً عن تلقيه إياه من الأبواب
كانوا له حصناً حصيناً من النار، فقال أبوذر: قدمت اثنين. قال: واثنين. قال أبيّ بن كعب أبوالمنذر سيد القراء: قدمت واحدا. قال: وواحداً)) . رواه الترمذي، وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
1771-
(36) وعن قرة المزني: ((أن رجلاً كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ابن له. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه. ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل ابن فلان؟ قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! مات. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تحب أن لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته
ــ
الثمانية، وكذا ما يأتي عنه في قوله: بفضل الله إياهم، أي بفضل رحمة الله تعالى للأولاد، إذ لا يلزم في الكبير أن يكون مرحوماً فضلاً عن أن يرحم أبوه بفضل رحمته، نعم قد جاء دخول الجنة بسبب الصبر مطلقاً كما في بعض الأحاديث-انتهى. (حصناً حصيناً) أي ستراً قوياً. وقال القاري: أي حصاراً محكماً وحاجزاً ومانعاً. (قدمت اثنين) أي فما حكمه؟ (قال: واثنين) أي وكذا من قدم اثنين. وقال الطيبي: فقال أبوذر: زد يا رسول الله! في البشارة، فإني قدمت اثنين، قال: واثنين، أي ومن قدم اثنين. (أبوالمنذر) عطف بيان. (سيد القراء) إنما قيل له سيد القراء لقوله صلى الله عليه وسلم: أقرأكم أبيّ. (قال: وواحد) زاد الترمذي: ولكن إنما ذلك عند الصدمة الأولى. (رواه الترمذي وابن ماجه) وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص375،429،451) وابن أبي شيبة، وإسناده ضعيف لانقطاعه؛ لأن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه عبد الله بن مسعود، وفيه أيضاً اختلاف على راويه العوام بن حوشب، ذكره الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على مسند الإمام أحمد (ج5:ص188) . (وقال الترمذي: هذا حديث غريب)، وقال أيضاً: أبوعبيدة لم يسمع من أبيه.
1771-
قوله: (وعن قرة) بضم القاف وتشديد المهملة ابن إياس. (المزني) بضم الميم وفتح الزاي. (أتحبه) أي حباً بالغاً حيث يصحبك دائماً. (أحبك الله كما أحبه) دعاء له بزيادة محبة الله له صلى الله عليه وسلم، يريد أنه يحب ولده حباً شديداً، يطلب لك مثله من الله تعالى. (ففقده) أي الابن أو الأب، وهو الأليق بما وقع في رواية للنسائي من قوله: فامتنع الرجل أن يحضر الحلقة لذكر ابنه فحزن عليه، ففقده النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: مالي لا أرى فلاناً؟ الحديث. وقيل: فقده أي ابنه معه. (ما فعل) بصيغة الفاعل. (ابن فلان) أي ما جرى له من الفعل. (مات) أي ابنه. (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي فقال له حين لقيه في الطريق. (إلا وجدته)
ينتظرك؟ فقال رجل: يا رسول الله! له خاصة، أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم)) . رواه أحمد.
1772-
(37) وعن علي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن السقط ليراغم ربه إذا أدخل أبويه النار، فيقال: أيها السقط المراغم ربه! أدخل أبويك الجنة، فيجرهما بسرره حتى يدخلهما الجنة)) . رواه ابن ماجه.
1773-
(38) وعن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((يقول الله تبارك وتعالى: ابن آدم! إن صبرت واحتسبت عند الصدمة الأولى لم أرض لك ثواباً دون الجنة)) رواه ابن ماجه.
1774-
(39) وعن الحسين بن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها،
ــ
أي ابنك. (ينتظرك) ليشفعك وليدخلها معك. وقال الطيبي: ينتظرك أي مفتحاً لك مهيئاً لدخولك، كما قال تعالى:{جنات عدن مفتحة لهم الأبواب} [ص:50] فاستعير للفتح الانتظار مبالغة-انتهى. وفي رواية للنسائي: إلا وجدته عنده يسعى يفتح لك، وفي أخرى له: إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك. (له خاصة) أي هذا الحكم. (أم لكلنا) أي أم هو عامة لجميعنا معشر المسلمين. (بل لكلكم) أي كافة. (رواه أحمد (ج3:ص436) قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، وأخرجه أيضاً النسائي. قال الحافظ: بإسناد صحيح، والحاكم (ج1:ص384) وصححه ووافقه الذهبي، والبيهقي (ج4:ص60،59) وابن أبي شيبة (ج4: ص145) .
1772-
قوله: (وعن علي) أي ابن أبي طالب. (ليراغم ربه) أي يحاجه ويخاصمه ويعارضه. والمراد أنه يبالغ في شفاعته ويجتهد حتى تقبل شفاعته. (إذا أدخل أبويه) أي إذا أراد أن يدخلهما. (رواه ابن ماجه) من طريق مندل بن علي العنزي عن الحسن بن الحكم النخعي عن أسماء بنت عابس بن ربيعة عن أبيها عن علي، ومندل ضعيف، وأسماء بنت عابس مجهولة لا يعرف حالها. قال في الزوائد: إسناده ضعيف لاتفاقهم على ضعف مندل بن علي-انتهى. والحديث نسبه العيني في شرح البخاري إلى ابن أبي شيبة، وقال: ورواه أبويعلى أيضاً.
1773-
قوله: (ابن آدم) منادى بتقدير حرف النداء. (إن صبرت) أي على البلاء. (واحتسبت) أي طلبت به الأجر والثواب من الله تعالى. (دون الجنة) أي دخولها ابتداء، وإلا فأصل الدخول يكفي فيه الإيمان، قاله السندي. (رواه ابن ماجه) قال في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.
1774-
قوله: (وعن الحسين) بضم الحاء مصغراً. (بن علي) بن أبي طالب. (وإن طال عهدها) أي بَعُدَ
فيحدث لذلك استرجاعاً، إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك، فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها)) رواه أحمد، والبيهقي في شعب الإيمان.
1775-
(40) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا انقطع شسع أحدكم فليسترجع، فإنه من المصائب)) .
ــ
زمانها و"إن" وصلية. (فيحدث) أي يحدد. (لذلك) أي عند تذكر تلك المصيبة، فاللام للتوقيت. (استرجاعاً) بالقول أي يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون قولاً جديداً وقت التذكر. (إلا جدد الله تبارك وتعالى له عند ذلك) أي أثبت الله له عند الاسترجاع ثواباً جديداً، بينه قوله:{فأعطاه مثل أجرها} أي مثل ثواب تلك المصيبة. (يوم أصيب بها) أي وقت ابتلائه بتلك المصيبة ابتداء وصبره وتسليمه بقضائه تعالى. وفيه دليل على أن استرجاع المصاب عند ذكر المصيبة يكون سبباً لاستحقاقه لمثل الأجر الذي كتبه الله له في الوقت الذي أصيب فيه بتلك المصيبة، وإن تقادم عهدها ومضت عليها أيام طويلة، وهذا فضل من الله تعالى ورحمة. (رواه أحمد) (ج1:ص201) . (والبيهقي) وأخرجه أيضاً الطبراني في الأوسط وابن ماجه ولفظه: من أصيب بمصيبة، فذكر مصيبته، فأحدث استرجاعاً وإن تقادم عهدها، كتب الله له من الأجر مثله يوم أصيب. والحديث إسناده ضعيف جداً فيه هشام بن زياد وهو هشام بن أبي هشام أبوالمقدام البصري، متروك. رواه عن أمه، ولا يعرف من هي. ونقل السندي عن الزوائد قال:"قد اختلف الشيخ هل هو (أي هشام) روى عن أبيه أو أمه"، وذكره ابن كثير في التفسير، وأشار إلى رواية ابن ماجه، ثم قال:"وقد رواه إسماعيل بن علية ويزيد بن هارون عن هشام بن زياد عن أبيه".
1775-
قوله: (إذا انقطع شسع أحدكم) أي شسع نعله بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة، زمام للنعل بين الإصبع الوسطى والتي تليها. وقال في النهاية: الشسع أحد سيور النعل، وهو ما يدخل بين الإصبعين. (الوسطى والتي تليها) ويدخل طرفه في الثقب الذي في صدر النعل المشدود في الزمام، والزمام السير الذي يعقد فيه الشسع. (فليسترجع) أي يقل: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهو أمر ندب. (فإنه) أي انقطاع الشسع. وفي مجمع الزوائد والجامع الصغير نقلاً عن البزار "فإنها" أي بضمير المؤنث، وكذا وقع في الميزان. قال المناوي: أي هذه الحادثة التي هي انقطاع شسع النعل. (من المصائب) أي من جملتها. قال القاري: وروي أنه صلى الله عليه وسلم استرجع حين انطفأ سراج له: ولعل المراد من انقطاع الشسع أقل أفراد المصيبة. وقال ابن حجر: نبه بالشسع على ما فوقه بالأولى، وعلى ما دونه بطريق التساوي، فيسن ذكر الاسترجاع في الجميع.
1776-
(41) وعن أم الدرداء، قالت: سمعت أبا الدرداء يقول: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله تبارك وتعالى قال: يا عيسى! إني باعث من بعدك أمة إذا أصابهم ما يحبون حمدوا الله، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا عقل. فقال: يا رب! كيف يكون هذا لهم ولا حلم ولا عقل؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي)) رواهما البيهقي في شعب الإيمان.
ــ
1776-
قوله: (وعن أم الدرداء) هي أم الدرداء الصغرى، هجيمة الأوصابية الدمشقية الفقيهة التابعية، لا أم الدرداء الكبرى الصحابية. (إني باعث) أي خالق ومظهر. (أمة) أي جماعة عظيمة. والمراد بهم صلحاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (حمدوا الله) أي على إصابتهم ما يحبون. (احتسبوا) أي طلبوا الثواب من الله. (ولا حلم) أي الحال أنهم لا حلم لهم. (ولا عقل) أي كسبيان أو كاملان قبل ذلك يحملهم على ما سبق منهم، قاله القاري. وفي مسند الإمام أحمد (ج6:ص450) والمستدرك (ج1:ص348)"ولا علم" بدل "ولا عقل" في الموضعين، وكذا في مجمع الزوائد والترغيب. (فقال) أي عيسى:(كيف يكون هذا) أي ما ذكر من الحمد حال السراء والصبر حال الضراء. (ولا حلم ولا عقل) ؛ لأن الحلم هي الصفة المعتدلة تمنع الإنسان عن العجلة وتبعثه على التأمل في القضايا والأحكام حتى يقوم بمقتضى المقام، فيشكر عند الإنعام ولا يبطر، ويصبر على المحنة، ولا يجزع عند المصيبة. والعقل يمنعه ويعقله عما لا ينبغي، فيكون مانعاً له من الكفران وحاملاً وباعثاً له على حمد الله تعالى، وبه يعلم الإنسان أن الأمر كله بيد الله، والخير فيما اختاره الله، فيصبر على ما قدر وقضاه. وأما إذا لم يكن لهم حلم ولا عقل فأمرهم غريب وحالهم عجيب. (أعطيهم من حلمي وعلمي) أي اللدنيين عند المنحة والمحنة ليشكروا حال السراء ويصبروا حال الضراء على وجه الكمال، قاله القاري. وقال الطيبي: قوله "لا حلم ولا عقل" قيل: هو مؤكد لمفهوم احتسبوا وصبروا؛ لأن الاحتساب أن يحمله على العمل والإخلاص وابتغاء مرضاة الله لا الحلم والعقل، وحينئذٍ يتوجه السؤال أي كيف يصبر ويحتسب من لا حلم ولا عقل له؟ فأجاب بأنه إن فنى حلمه وعقله يتحلم ويتعقل بحلم الله وعلمه. وفي وضع علمي موضع العقل إشارة إلى عدم جواز نسبة العقل إليه، تعالى عن صفات المخلوقين علواً كبيراً، وهو القوة المتهيئة لقبول العلم-انتهى. والحديث يدل على الترغيب في الصبر سيما لمن ابتلى في نفسه وماله، وعلى فضل الأمة المحمدية. (رواهما) أي هذا الحديث والذي قبله. (البيهقي) الحديث الأول أخرجه البزار وابن عدي أيضاً، كما في الجامع الصغير، ونسبه الهيثمي (ج2:ص331) للبزار. وقال: فيه بكر بن خنيس، وهو ضعيف، وروى البزار أيضاً عن شداد بن أوس مثله، وفيه خارجة بن مصعب، وهو متروك. وفي الباب أيضاً عن أبي أمامة عند الطبراني في الكبير، وفيه العلاء بن كثير، وهو متروك، وله حديث آخر عند