الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(5) كتاب الجنائز
(1) باب عيادة المريض وثواب المرض
{الفصل الأول}
1536-
(1) عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض،
ــ
(كتاب الجنائز) بفتح الجيم لا غير، جمع جنازة بالفتح والكسر، والكسر أفصح، اسم للميت في النعش أو بالفتح، اسم لذلك وبالكسر اسم للنعش وعليه الميت. وقيل: عكسه. وقيل: هما لغتان فيهما، فإن لم يكن عليه ميت فهو سرير ونعش، وهي من جنزه يجنزه من باب ضرب إذا ستره، ذكره ابن فارس وغيره. أورد كتاب الجنائز بعد الصلاة كأثر المصنفين من المحدثين والفقهاء، لأن الذي يفعل بالميت من غسل وتكفين وغير ذلك لهمه الصلاة عليه لما فيها من فائدة الدعاء له بالنجاة من العذاب لاسيما عذاب القبر الذي سيدفن فيه. وقيل: لأن للإنسان حالتين: حالة الحياة وحالة الممات. ويتعلق بكل منهما أحكام العبادات وأحكام المعاملات، وأهم العبادات الصلاة، فلما فرغوا من أحكامها المتعلقة بالأحياء ذكروا ما يتعلق بالموتى من الصلاة وغيرها. قيل: شرعت صلاة الجنازة بالمدينة في السنة الأولى من الهجرة، فمن مات بمكة قبل الهجرة لم يصل عليه.
(باب عيادة المريض) أي وجوباً وثواباً. وأصل عيادة عِوادة بالواو فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها، يقال: عُدتُ المريض أعوده عياداً وعيادةً وعُوادةً إذا زرته وسألت عن حاله (وثواب المرض) الذي يصيب الإنسان إذا صبر عليه.
1536-
قوله: (أطعموا الجائع) ندباً أو وجوباً إن كان مضطراً. قال في اللمعات: هو سنة إن لم يصل حد الاضطرار، وفرض إن وصل على الكفاية إن لم يتعين أحد، وعين إن يتعين (وعودوا) أمر من العيادة (المريض) وهي سنة إن كان له متعهد، وواجب إن لم يكن، وجزم البخاري بالوجوب لظاهر الأمر، فقد ترجم عليه في كتاب المرضى بلفظ "باب وجوب عيادة المريض" قال الحافظ: قال ابن بطال: يحتمل أن يكون الأمر على الوجوب بمعنى الكفاية كإطعام الجائع وفك الأسير، ويحتمل أن يكون للندب للحث على التواصل والألفة. وجزم الداودى بالأول فقال هي فرض يحمله بعض الناس عن بعض. وقال الجمهور: هي في الأصل للندب، وقد
وفكوا العاني)) . رواه البخاري.
1537 -
(2) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس:
ــ
تصل إلى الوجوب في حق بعض دون بعض. وعن الطبري تتأكد في حق من ترجى بركته، وتسن فيمن يراعي حاله، وتباح فيما عدا ذلك. وفي الكافر خلاف كما سيأتي في أول الفصل الثالث. ونقل النووي الإجماع على عدم الوجوب يعني على الأعيان. واستدل بعموم قوله عودوا المريض على مشروعية العيادة في كل مريض واستثنى بعضهم الأرمد لكون عائدة قد يرى ما لا يراه هو. وتعقب بأنه قد يتأتى مثله في بقية الأمراض كالمغمى عليه، وقد جاء في عيادة الأرمد بخصوصها حديث زيد بن أرقم عند أبي داود وغيره، وقد ذكره المصنف في الفصل الثاني، وسيأتي الكلام عليه هناك مفصلاً، ويؤخذ من إطلاقه أيضاً عدم التقييد بزمان يمضي من ابتداء مرضه وهو قول الجمهور، وجزم الغزالي في الأحياء بأنه لا يعاد إلا بعد ثلاث، واستند إلى حديث أنس الآتي في الفصل الثالث، وهو حديث ضعيف جداً وسيجيء الكلام عليه هناك، وفي إطلاق الحديث أيضاً أن العيادة لا تتقيد بوقت دون وقت، لكن جرت العادة بها في طرفي النهار، ونقل ابن الصلاح عن الفراوى: أن العيادة تستحب في الشتاء ليلاً وفي الصيف نهاراً وهو غريب ومن آدابها أن لا يطيل الجلوس حتى يضجر المريض أو يشق على أهله، فإن اقتضت ذلك ضرورة فلا بأس ويلتحق بعيادة المريض تعهده وتفقد أحواله والتلطف به وربما كان ذل في العادة سبباً لوجود نشاطه وانتعاش قوته (وفكوا) بضم الفاء وتشديد الكاف أي خلّصوا (العاني) بالعين المهملة والنون المكسورة المخففة، وزن القاضي أي الأسير، وفكه تخليصه بالفداء أي أخلصوا الأسير المسلم في أيدي الكفار أو المحبوس ظلماً بغير حق، قال ابن بطال: فكاك الأسير واجب على الكفاية، وبه قال الجمهور. وقال إسحاق بن راهوية: من مال ببيت المال. وقيل: المعنى أعتقوا الأسير أي الرقيق، وكل من ذل واستكان وخضع فقد عنى (رواه البخاري) في الأطعمة والنكاح والأحكام والجهاد والمرضى، وأخرجه أيضاً أحمد، وأبوداود والبيهقي (ج3ص379) .
1537-
قوله: (حق المسلم على المسلم خمس) أي خصال كلهن فروض على الكفاية. وقال القسطلاني: هذا يعم وجوب العين والكفاية والندب. وقال الشوكاني: المراد بحق المسلم أنه لا ينبغي تركه ويكون فعله إما واجباً أو مندوباً ندباً مؤكداً شبيهاً بالواجب الذي لا ينبغي تركه، ويكون استعماله في المعنيين من باب استعمال المشترك في معنييه، فإن الحق يستعمل في معنى الواجب، كذا ذكره ابن الأعرابي، وكذا يستعمل في معنى الثابت
رد السلام، وعيادة المريض، وإتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) متفق عليه.
1538 -
(3) وعنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم ست. قيل: ما هن يا رسول الله؟
ــ
ومعنى اللازم ومعنى الصدق وغير ذلك- انتهى. قلت وفي رواية لمسلم، وكذا عند أبي داود: وخمس تجب للمسلم على أخيه. وقد تبين بهذه الرواية أن معنى الحق هنا الوجوب. قال الحافظ: والظاهر أن المراد به هنا وجوب الكفاية. ثم العدد قد جاء في الروايات مختلفاً، فيدل على أنه لا عبرة لمفهوم العدد، ولا يقصد به الحصر. ويؤتي به أحياناً على حسب ما يليق بالمخاطب (رد السلام) أي جوابه. وهو فرض عين من الواحد، وفرض كفاية من جماعة يسلم عليهم. وأما السلام فسنة، فقد نقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة، وأن رده فرض وصفة الرد أن يقول وعليكم السلام. ويأتي الكلام عليه في باب السلام من كتاب الآداب (واتباع الجنائز) أي المضي معها والمشي خلفها إلى حين دفنها بعد الصلاة عليها، وهو من الواجبات على الكفاية (وإجابة الدعوة) بفتح الدال فيه مشروعية إجابة الدعوة، وهذا إذا لم يكن هناك مانع شرعي أو عرفي، وهي أعم من الوليمة. ويأتي الكلام عليها في باب الوليمة من كتاب النكاح (وتشميت العاطس) أي جوابه بـ "يرحمك الله" إذا قال الحمد لله. قال في النهاية: التشميت بالشين المعجمة والسين المهملة الدعاء للعاطس بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما. واشتقاقه من الشوامت وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله. وقيل: الأصل فيه المهملة فقلبت معجمة. وقال صاحب المحكم: تشميت العاطس معناه الدعاء له بالهداية إلى السمت الحسن. وفيه دليل على مشروعية تشميت العاطس. ويأتي الكلام عليه في باب العطاس والتثاؤب من كتاب الآداب. قال في شرح السنة هذه الخصال كلها في حق الإسلام يستوي فيها جميع المسلمين برهم وفاجرهم غير أن يخص البر بالبشاشة والمسألة والمصافحة دون الفاجر المظهر لفجوره. قال المظهر: إذا دعا المسلم المسلم إلى الضيافة والمعاونة يجب عليه طاعته إذا لم يكن ثمة ما يتضرر به في دينه من الملاهي ومفارش الحرير ورد السلام واتباع الجنائز فرض على الكفاية. وأما تشميت العاطس إذا حمد الله وعيادة المريض فسنة إذا كان له متعهد، وإلا فواجب. ويجوز أن يعطف السنة على الواجب إن دل عليه القرينة كما يقال: صم رمضان وستة من شوال، ذكره الطيبي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز ومسلم في كتاب الآداب، وأخرجه أيضاً أبوداود في الأدب والنسائي في اليوم والليلة، وأخرجه ابن ماجه في الجنائز بغير هذا السياق.
1538-
قوله: (حق المسلم على المسلم ست) من الخصال. ومفهوم العدد لا يفيد الحصر، فللمسلم
قال: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه)) رواه مسلم.
1539-
(4) وعن البراء بن عازب، قال: أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بسبع، ونهانا عن سبع، أمرنا: ((بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المقسم،
ــ
حقوق آخر (إذا لقيته فسلم عليه) ندباً، ويلزمه رد السلام، واكتفى بذكره في الحديث الأول (وإذا دعاك) أي للإعانة أو الدعوة (فأجبه) وجوباً إن كانت للإعانة أو وليمة العرس، وندباً إن كانت لغيرها (وإذا استنصحك) أي طلب منك النصيحة (فانصح له) وجوباً، وكذا يجب النصح وإن لم يستنصحه. وقال في اللمعات: هي سنة، وعند الاستنصاح واجبة. والنصيحة إرادة الخير للمنصوح له. وقال الراغب: النصح تحري قول أو فعل فيه إصلاح صاحبه. وفي رواية الترمذي والنسائي: وينصح له إذا غاب أو شهد أي يريد له الخير في جميع أحواله، وهو المراد بقوله إذا غاب أو شهد، إذ الأحوال لا تخلوا عن غيبة وحضور. والمقصود أنه لا يقصر النصح على الحضور كحال من يراعي الوجه، بل ينصح لأجل الإيمان، فيسوى بين السر والإعلان (وإذا عطس) بفتح الطاء ويكسر (فحمد الله) فيه أنه لا يشرع تشميت العاطس إذا لم يحمد الله، فالمطلق في الحديث المتقدم محمول على هذا المقيد (فشمته) أي قل له يرحمك الله (وإذا مرض فعده) أمر من العيادة أي زره واسأل عن حاله (وإذا مات فاتبعه) حتى تصلى ويدفن. قال السيد: هذا الحديث لا يناقض الأول في العدد، فإن هذا زائد، والزيادة مقبولة، والظاهر أن الخمس مقدم في الصدور، قال والأمر للتسليم، والعيادة للندب والاستحباب، ولام فانصح له زائدة، ولو لم يحمد الله لم يستحب التشميت، ولذلك قال فحمد الله فشمته، كذا قاله في الأزهار (رواه مسلم) في الآداب، وأخرجه أيضاً البخاري في الأدب المفرد، وأخرجه الترمذي في الآداب، والنسائي في الجنائز بلفظ: للمؤمن على المؤمن ست خصال: يعوده إذا مرض، ويشهده إذا مات، ويجيبه إذا دعاه، ويسلم عليه إذا لقيه، ويشمته إذا عطس، وينصح له إذا غاب أو شهد. وفي الباب عن علي عند أحمد والترمذي وابن ماجه وأبي مسعود عند أحمد وابن ماجه.
1539-
قوله: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع) بحذف مميز العدد في الموضعين أي خصال (ورد السلام) وفي رواية مسلم، وكذا في رواية البخاري: وإفشاء السلام، وهو يحتمل الإبتداء بالسلام ورده (وإبرار المقسم) بكسر همزة إبرار إفعال من البر خلاف الحنث، والمقسم بضم الميم وسكون القاف وكسر السين،
ونصر المظلوم، ونهانا: عن خاتم الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج، والميثرة الحمراء،
ــ
اسم فاعل من الأقسام أي تصديق من أقسم عليه، وهو أن يفعل ما سأله الملتمس وأقسم عليه أن يفعله، يقال بر وأبر القسم إذا صدقه. وقال الطيبي: المراد من المقسم الحالف، وإبراره جعله بارداً صادقاً في يمينه أو جعل يمينه صادقه. والمعنى أنه لو حلف أحد على أمر مستقبل، وأنت تقدر على تصديق يمينه ولم يكن فيه معصية، كما لو أقسم أن لا يفارقك حتى تفعل كذا، وأنت تستطيع فعله، فافعل كيلا يحنث- انتهى. وفي رواية القسم بفتحات. قال السندي: إبرار القسم جعل الحالف باراً في حلفه إذا أمكن كما إذا حلف والله زيد يدخل الدار اليوم، فإذا علم به زيد وهو قادر عليه ولا مانع منه ينبغي له أن يدخل لئلا يحنث القائل- انتهى. قال القسطلاني: وهو خاص فيما يحمل من مكارم الأخلاق، فإن ترتب على تركه مصلحة فلا، ولذا قال عليه الصلاة والسلام لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا: لا تقسم حين قال أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بالذي أصبت- انتهى. وقال النووي: إبرار القسم سنة مستحبة متأكدة، وإنما يندب إليه إذا لم يكن فيه مفسدة أو خوف وضرر أو نحو ذلك، فإن كان شيء من هذا لم يبر قسمه، كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر في قصة تعبير الرؤيا لا تقسم ولم يخبر. وفي رواية لمسلم: وإنشاد الضوال مكان قوله: وإبرار المقسم. والضوال جمع الضالة، وهي الضائعة وإنشادها تعريفها طريقها أو تعريف صاحبها بها (ونصر المظلوم) مسلماً كان أو ذمياً بالقول أو بالفعل. قال في شرح السنة: هو واجب يدخل فيه المسلم والذمي، وقد يكون ذلك بالقول، وقد يكون بالفعل وبكف الظالم عن الظلم - انتهى. وقال النووي: نصر المظلوم من فروض الكفاية، وهو من جملة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يتوجه الأمر به على من قدر عليه ولم يخف ضرراً (ونهانا عن خاتم الذهب) بفتح التاء ويكسر أي عن لبسة للرجال (وعن الحرير) أي لبس الثوب المنسوج من الأبريسم للرجال (والإستبرق) بهمزة قطع مكسورة، وهو الديباج الغليظ على الأشهر. وقيل: الرقيق، وهو تعريب استبرك (والديباج) بكسر الدال وتفتح، عجمي معرب الديبا، جمعه دبابيج ودباييج بالباء وبالياء، لأن أصله دباج. وقيل: جمعه ديابيج، وهو الثوب الذي سداه ولحمته حرير يعني الثوب المتخذ من الأبريسم. وذكر الإستبرق والديباج بعد الحرير مع تناوله لهما من باب ذكر الخاص بعد العام اهتماماً بحكمهما أو دفعاً لتوهم أن اختصاصها باسم يخرجهما عن حكم العام أو أن العرف فرق أسماءها لاختلاف مسمياتهما، فربما توهم متوهم أنهما غير الحرير. وقال القاري: الديباج هو الرقيق. وقيل: الحرير المركب من الأبريسم وغيره مع غلبة الأبريسم والمراد بها الأنواع والتفصيل لتأكيد التحريم (والميثرة الحمراء) بكسر الميم وسكون التحتية وفتح المثلثة بلا همز، فهي مفعلة من الوثار، يقال وثر يوثر بضم الثاء فيهما وثارة بفتح الواو فهو وثير أي وطيء لين وأصلها مِوثرة فقلبت الواو لكسرة الميم، جمعها مواثر ومياثر وهي من مراكب العجم تعمل من حرير أو ديباج وتتخذ كالفراش
والقسي، وآنية الفضة. ـ وفي رواية ـ وعن الشرب في الفضة. فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة))
ــ
الصغير، وتحشى بقطن أو صوف يجعلها الراكب تحته على الرحال والسروج، كذا في النهاية. وقيل: هي وطاء كانت النساء يصنعنه لأزواجهن على السروج، وكان من مراكب العجم، وتكون من الحرير، وتكون من الصوف وغير ذلك. وقيل: أغشية للسروج تتخذ من الحرير. وقيل: هي سروج من الديباج. قال الطيبي: وصفها بالحمراء، لأنها كانت الأغلب في مراكب الأعاجم يتخذونها رعونة- انتهى. والميثرة إن كانت من الحرير، كما هو الغالب فيما كان من عادتهم، فهي حرام، لأنه جلوس على الحرير واستعمال له وهو حرام على الرجال، سواء كان على رحل أو سرج أو غيرهما، وإن كانت ميثرة من غير الحرير فليست بحرام، ويكون النهي فيها للزجر عن التشبه بالأعاجم أو للسرف أو التزين لا للحمرة، لن الثوب الأحمر لا كراهة فيه وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس حلة حمراء، وبحسب ذلك تفصيل النهي بين التحريم والتنزيه (والقسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة، فسرت في كتاب اللباس من صحيح البخاري بأنها ثياب يؤتي بها من الشام أو مصر مضلعة فيها حرير فيها أمثال الأترج. وقال الجزري: هو ثياب منسوجة من كتان مخلوط بحرير يؤتي بها من مصر، نسبت إلى قرية على ساحل البحر قريباً من تنيس يقال لها: القس بفتح القاف، وبعض أهل الحديث يكسرها. وقيل: أصل القسي القزى بالزاي منسوب إلى القز، وهو ضرب من الأبريسم. وقيل: هو ردى الحرير فأبدلت الزاي سيناً. قال العيني: القس والتنيس وفرما كانت مدناً على ساحل بحر دمياط، غلب عليها البحر فاندثرت فكانت يخرج منها ثياب مفتخرة ويتاجر بها في البلاد- انتهى. وهذا القسي إن كان من حرير أو كان حريره أكثر من الكتان فالنهي عنه للتحريم وإلا فلكراهة التنزيه. قال ميرك: فإن قلت ما الفرق بين هذه الأربعة؟ قلت: الحرير اسم عام والديباج نوع منه والإستبرق نوع من الديباج والقسي ما يخالطه الحرير أو ردى الحرير، وفائدة ذكر الخاص بعد العام بيان الاهتمام بحكمه ودفع توهم أن تخصيصه باسم مستقل ينافي دخوله تحت الحكم العام والإشعار بأن هذه الثلاثة غير الحرير نظراً إلى العرف وكونها ذوات أسماء مختلفة مقتضية لاختلاف مسمياتها (وآنية الفضة) والذهب أولى مع أنه صرح به في حديث آخر، وهي حرام على العموم للسرف والخيلاء. قال الخطابي: وهذه الخصال مختلفة المراتب في حكم العموم والخصوص والوجوب فتحريم خاتم الذهب وما ذكر معه من لبس الحرير والديباج خاص للرجال، وتحريم آنية الفضة عام للرجال والنساء لأنه من باب السرف والمخيلة (وفي رواية) أي لمسلم (وعن الشرب) بضم الشين وفي معناه الأكل (في الفضة) والذهب بالطريق الأولى (فإنه) أي الشأن (من شرب فيها في الدنيا) أي ثم مات ولم يتب (لم يشرب فيها في الآخرة) قال المظهر: أي من اعتقد حلها ومات عليه فإنه كافر، وحكم من لم يعتقد ذلك خلاف ذلك فإنه ذنب صغير غلظ وشدد للرد والارتداع- انتهى. قال الطيبي: قوله
متفق عليه.
1540 -
(5) وعن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع)) رواه مسلم.
ــ
لم يشرب فيها كناية تلويحية عن كونه جهنمياً فإن الشرب من أواني الفضة من دأب أهل الجنة لقوله تعالى: {قوارير من فضة} [الدهر: 16] فمن لم يكن هذا دأبه لم يكن من أهل الجنة فيكون جهنمياً فهو كقوله: إنما يجرجر في بطنه نار جهنم- انتهى. وقيل: الأولى أن يقال إنه لم يشرب فيها في الجنة وإن دخلها فيحرم من الشرب فيها في الجنة لشربه فيها في الدنيا، وظاهر الحديث تأييد التحريم فإن دخل الجنة شرب في جميع أوانيها إلا في آنية الفضة والذهب ومع ذلك لا يتألم لعدم الشرب فيها ولا يحسد من يشرب فيها ويكون حاله كحال أصحاب المنازل في الخفض والرفعة (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجنائز والمظالم والنكاح والأشربة والمرضى واللباس والأدب والاستيذان والنذور، ومسلم في اللباس، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً الترمذي في الاستيذان والأدب مطولاً، وفي اللباس مختصراً، والنسائي في الجنائز والإيمان والنذور والزينة وابن ماجه في الكفارات واللباس مختصراً. ثم قوله:"متفق عليه" يشعر بأن قوله وعن الشرب في الفضة إلخ اتفق الشيخان على إخراجه والأمر ليس كذلك فإنه قد تفرد مسلم به ولم يخرجه البخاري.
1540-
قوله: (إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم) أي زاره في مرضه (لم يزل في خرفة الجنة) بضم المعجمة وسكون الراء وفتح الفاء بعدها هاء هي الثمرة إذا نضجت، وقيل: ما يخترف ويجتنى من ثمار النخيل إذا أدركت أي لم يزل في التقاط فواكه الجنة واختراف مجتناها أو لم يزل في مواضع خرفتها أي في بساتينها شبه صلى الله عليه وسلم ما يحوزه ويحرزه عائد المريض من الثواب بما يحرزه المجتنى والمخترف من الثمر، وقيل: المراد بها هنا الطريق، والمعنى أن العائد يمشي في طريق تؤديه إلى الجنة. قال الحافظ في الفتح: والتفسير الأول أولى، فقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد من هذا الوجه، وفيه قلت لأبي قلابة ما خرفة الجنة؟ قال جناها، وهو عند مسلم من جملة المرفوع- انتهى. وفي رواية لمسلم: عائد المريض في مخرفة الجنة حتى يرجع بفتح الميم والراء بينهما خاء معجمة ساكنة أي في بستانها. قال الشوكاني: بالخاء المعجمة على زنة مرحلة، وهي البستان، ويطلق على طريق اللاحب أي الواضح أي عائد المريض في بساتين الجنة وثمارها (حتى يرجع) أي الثواب حاصل للعائد من حين يذهب للعيادة حتى يرجع إلى محله ويعلم منه أن من كان طريقه أطول كان أكثر ثواباً وليس المراد المكث الكثير عند المريض لما علم أنه يطلب التخفيف في المكث عنده (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب، وأخرجه أيضاً أحمد والترمذي في الجنائز، والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي (ج3ص380) وابن أبي شيبة.
1541-
(6) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضت فلم تعدني. قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي؟ يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني! قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما أنك لو سقيته وجدت
ــ
1541-
قوله: (إن الله تعالى يقول يوم القيامة) على لسان ملك أو بلا واسطة بلسان القال معاتباً لابن آدم بما قصر في حق أولياؤه (يا ابن آدم مرضت فلم تعدني) بفتح المثناة الفوقية وضم العين وسكون الدال أي مرض عبدي الكامل الشديد القرب مني قرب مكانة إذ إسناد وصف العبد له تعالى دليل على ذلك، قاله الحفني وقال القاري: أراد مرض عبده وإنما أضاف إلى نفسه تشريفاً لذلك العبد فنزله منزلة ذاته، والحاصل أن من عاد مريضاً لله تعالى فكأنه زار الله- انتهى. وقال النووي: قال العلماء إنما أضاف المرض إليه سبحانه وتعالى والمراد العبد تشريفاً للعبد وتقريباً له (كيف أعودك) أي كيف تمرض حتى أعودك (وأنت رب العالمين) والرب المالك والسيد والمدبر والمربي والمنعم، وهذه الأوصاف تنافي المرض والنقصان والاحتياج والهلاك. قال القاري: حال مقررة لجهة الإشكال الذي يتضمنه كيف أي المرض إنما يكون للمريض العاجز وأنت القاهر القوي المالك، فإن قيل إن الظاهر أن يقال كيف تمرض مكان كيف أعودك؟ قلنا عدل عنه معتذراً إلى ما عوتب عليه وهو مستلزم لنفي المرض (أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده) أي لوجدت رضائي وثوابي وكرامتي. ويدل على هذا المعنى قوله تعالى في تمام الحديث لو أطعمته لوجدت ذلك عندي أي ثوابه. قال الطيبي: في العبارة إشارة إلى أن العيادة أكثر ثواباً من الإطعام والإسقاء الآتيين حيث خص الأول بقوله لوجدتني عنده فإن فيه إيماء إلى أن الله تعالى أقرب إلى المنكسر المسكين- انتهى (استطعمتك) أي طلبت منك الطعام (كيف أطعمك وأنت رب العالمين) أي والحال أنك تطعم ولا تطعم (أما علمت أنه) أي الشأن (أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك) أي ثواب إطعامه (استسقيتك) أي طلبت منك الماء (فلم تسقني) بالفتح والضم في أوله (كيف أسقيك) بالوجهين (وأنت رب العالمين) أي مربيهم غير محتاج إلى شيء من الأشياء فضلاً عن الطعام والماء (لو سقيته وجدت) بلا لام هنا إشارة على جواز
ذلك عندي؟)) رواه مسلم.
1543 -
(7) وعن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على مريض يعوده قال:((لا بأس، طهور إنشاءالله، فقال له: لا بأس، طهور إنشاءالله. قال: كلا، بل حمى تفور، على شيخ كبير، تزيره القبور، فقال النبي صلى الله عليه وسلم فنعم إذاً))
ــ
حذفها لكن وقع في صحيح مسلم باللام كإخواته، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج10:ص350) (ذلك عندي) فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، وفي الحديث بيان أن الله تعالى عالم بالكائنات يستوي في علمه الجزئيات والكليات وأنه مبتل عباده بما شاء من أنواع الرياضات ليكون كفارة للذنوب ورفعاً للدرجات العاليات (رواه مسلم) في البر والصلة والأدب.
1542-
قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أعرابي) بفتح الهمزة أي واحد من سكان البادية قيل: اسمه قيس بن أبي حازم، كما في ربيع الأبرار للزمخشري، فقال في باب الأمراض والعلل دخل النبي صلى الله عليه وسلم على قيس بن أبي حازم يعوده، فذكر القصة. قال الحافظ: إن كان هذا محفوظاً فهو غير قيس بن أبي حازم أحد المخضرمين، لأن صاحب القصة مات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في حال إسلامه فلا صحبة له ولكن أسلم في حياته ولأبيعه صحبة عاش بعده دهراً طويلاً (يعوده) جملة حالية، قال ابن عباس (وكان) النبي صلى الله عليه وسلم (إذا دخل على مريض) حال كونه (يعوده قال) له (لا بأس) أي لا مشقة ولا تعب عليك من هذا المرض بالحقيقة. قال الحافظ: أي إن المرض يكفر الخطايا فإن حصلت العافية فقد حصلت الفائدتان وإلا حصل ربح التكفير (طهور) خبر مبتدأ محذوف أي هو طهور لك من ذنوبك أي مطهرة (إن شاء الله) يدل على أن قوله طهور دعاء لا خبر (فقال) أي النبي صلى الله عليه وسلم (له) أي للأعرابي (لا بأس) عليك هو (طهور) لك من ذنوبك أي مطهر لك (قال) أي الأعرابي مخاطباً للنبي صلى الله عليه وسلم أقلت طهور (كلا) أي ليس بطهور. وقال القاري: أي ليس الأمر كما قلت أو لا تقل هذا فإن قوله كلا محتمل للكفر وعدمه، ويؤيده كونه أعرابياً حلفا فلم يقصد حقيقة الرد والتكذيب ولا بلغ حد اليأس والقنوط (بل حمى) وفي البخاري: بل هي حمى، وهكذا نقله الجزري (ج7:ص403) (تفور) بالفاء أي يظهر حرها ووجهها وغليانها (على شيخ كبير) أي تغلى في بدنه كغلى القدور (تزبرة) بضم الفوقية وكسر الزاى من إزاره إذا حمله على الزيارة (القبور) نصب مفعول ثان، والهاء في أول والمعنى تبعثه إلى القبور (فنعم) بفتح العين (إذاً) بالتنوين، وفي بعض النسخ: إذن كما في البخاري
رواه البخاري.
1543 -
(8) وعن عائشة، قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان، مسحه بيمينه، ثم قال: ((اذهب البأس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاءك،
ــ
في باب عيادة الأعراب. قال القسطلاني: الفاء مرتبة على محذوف وإذا جواب وجزاء. ونعم تقرير لما قال الأعرابي أي إذا أبيت فنعم أي كان كما ظننت. وقال الطيبي: يعني أرشدتك بقولي لا بأس عليك إلى أن الحمى تطهرك من ذنوبك فاصبر واشكر الله عليها فأبيت إلا اليأس والكفران فكان كما زعمت وما اكتفيت بذلك بل رددت نعمة الله وأنت مسجع به قاله غضباً عليه – انتهى. وقال ابن التين: يحتمل أن يكون ذلك دعاء عليه، ويحتمل أن يكون خبراً عما يؤل إليه أمره. وقال غيره: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه سيموت من ذلك المرض فدعا له بأن تكون الحمى له طهره لذنوبه فأصبح ميتاً، ويحتمل أن يكون أعلم بذلك لما أجابه الأعرابي بما أجابه، وزاد الطبراني من حديث شرجيل والد عبد الرحمن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي إذا أبيت فهي كما تقول قضاء الله كائن فما أمسى من الغد إلا ميتاً. وأخرجه الدولابي في الكنى وابن السكن في الصحابة، ولفظه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما قضى الله فهو كائن فأصبح الأعرابي ميتاً، وفائدة الحديث: أنه لا نقص على الإمام في عيادة مريض من رعيته ولو كان أعرابياً جافياً ولا على العالم في عيادة الجاهل ليعلمه ويذكره بما ينفعه ويأمره بالصبر لئلا يتسخط قدر الله فيسخط عليه ويسليه عن ألمه بل يغبطه بسقمه إلى غير ذلك من جبر خاطره وخاطر أهله. وفيه أنه ينبغي للمريض أن يتلقى موعظة العائدة بالقبول، ويحسن جواب من يذكره بذلك (رواه البخاري) في علامات النبوة والمرضى والتوحيد. وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، والبيهقي (ج3:ص382-383) .
1543-
قوله: (إذا اشتكى) أي مرض (مسحه) أي النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المريض. وقيل: موضع الوجع تفاؤلاً لزوال ذلك الوجع (بيمينه ثم قال) أي داعياً (اذهب البأس) أي أزل شدة المرض، والباس بغير همزة للمواخاة والازدواج فإن أصله الهمزة، وقيل: سهلت الهمزة بقلبها ألفاً لانفتاح ما قبلها، وهي لغة لقريش (رب الناس) نصباً بحذف حرف النداء (واشف أنت الشافي) وفي رواية البخاري: واشفه وأنت الشافي. قال الحافظ: في رواية الكشمهيني بحذف الواو، والضمير في اشفه للعليل أو هي هاء السكت، ويؤخذ منه جواز تسمية الله تعالى بما ليس في القرآن بشرطين: أحدهما أن لا يكون في ذلك ما يوهم نقصاً، والثاني أن يكون له أصل في القرآن، وهذا من ذاك فإن في القرآن:{وإذا مرضت فهو يشفين} (لا شفاء) بالمد مبنى على الفتح والخبر محذوف، والتقدير حاصل لنا أو للمريض (إلا شفاءك) بالرفع على أنه بدل من موضع لا شفاء، وفي حديث أنس عند البخاري لا شافي إلا أنت، وفيه إشارة إلى أن كل ما يقع من الدواء والتداوى لا ينجع إن لم يصادف تقدير الله تعالى. وقال الطيبي: قوله لا شفاء خرج مخرج
شفاء لا يغادر سقما)) متفق عليه.
1544 -
(9) وعنها، قالت كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه: ((بسم الله، تربة أرضنا بريقة بعضنا،
ــ
الحصر تأكيداً لقوله: أنت الشافي، لأن خبر المبتدأ إذا كان معرفاً باللام أفاد الحصر لأن تدبير الطبيب ونفع الدواء لا ينجع في المريض إذا لم يقدر الله الشفاء (شفاء) منصوب بقوله اشف على أنه مفعول مطلق ويجوز الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو يعني الشفاء المطلوب (لا يغادر) بالغين المعجمة أي لا يترك (سقماً) بفتحتين ويجوز ضم ثم إسكان لغتان أي مرضاً، والتنكير للتقليل، والجملة صفة لقوله "شفاء" وهو تكميل لقوله اشف، والجملتان معترضتان بين الفعل والمفعول المطلق، وفائدة قوله لا يغادر أنه قد يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه فكان يدعو له بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء. وفي الحديث: استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له. قال النووي: وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار، وهذا المذكور ههنا من أحسنها، وقد استشكل الدعاء للمريض بالشفاء مع ما في المرض من كفارة الذنوب والثواب كما تظافرت الأحاديث بذلك، والجواب أن الدعاء عبادة ولا ينافي الثواب والكفارة لأنهما يحصلان بأول مرض وبالصبر عليه والداعي بين حسنتين إما أن يحصل له مقصودة أو يعوض عنه بجلب نفع أو دفع ضرر وكل من فضل الله تعالى (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى في الطب، ومسلم في الطب، واللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً النسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب.
1544-
قوله: (وعنها قالت كان) إما زائدة أو فيها ضمير الشأن يفسره ما بعده (إذا اشتكى الإنسان الشيء) بالنصب على المفعولية أي شكا وجع العضو (منه) الضمير للإنسان أي من جسده (أو كانت به) أي بالإنسان (قرحة) بفتح القاف وضمها ما يخرج من الأعضاء مثل الدمل (أو جرح) بالضم كالجراحة بالسيف وغيره (قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه) أي أشار بها قائلاً، قاله القاري: قلت. وفي مسلم بعد قوله بإصبعه "هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها" والمعنى أنه كان يأخذ من ريقه على إصبعه شيئاً ثم يضعها على التراب فيتعلق بها منه شيء فيمسح بها على الموضع الجريح، ويقول هذه الكلمات (بسم الله) أي أتبرك به (تربة أرضنا) أي هذه تربة أرضنا (بريقة بعضنا) أي ممزوجة بريقه. وهذا يدل على أنه كان يتفل عند الرقية، وفي رواية: وريقة بالواو بدل الموحدة. قال النووي: قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا ههنا جملة الأرض، وقيل: أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق. قيل: وبعضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لشرف
...............................
ــ
ريقه فيكون ذلك مخصوصاً، وفيه نظر، قال النووي: معنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح- انتهى. قلت: الظاهر أن هذا ليس مخصوصاً بأرض المدينة ولا بريق النبي صلى الله عليه وسلم فالمراد بالأرض ههنا جملة الأرض وبالبعض كل من يرقى بذلك، فيجوز هذا بل يستحب فعله عند الرقية في كل مكان، وأما حكم نقل تراب الحرم المكي أو المدني ونقل حصاهما وأحجارهما للتبرك أو للدواء وحكم الاستشفاء بتراب المدينة فقد بسط القول فيه السمهودي في وفاء الوفاء (ص67-68-69-114-115-116-117) وفي بعض كلامه خدشات لا تخفى على متبع السنة. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقى من كل الآلام وإن ذلك كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم، قال: ووضع النبي صلى الله عليه وسلم سبابته بالأرض ووضعها عليه يدل على استحباب ذلك عند الرقية ثم قال وزعم بعض العلماء أن السر فيه أن تراب الأرض لبرودته ويبسه يبرى الموضع الذي به الألم ويمنع انصباب المواد إليه ليبسه مع منفعته في تجفيف الجراح واندمالها قال وقال في الريق أنه يختص بالتحليل والانضاح وأبراء الجرح والألم لاسيما من الصائم الجائع، وتعقبه القرطبي: أن ذلك إنما يتم إذا وقعت المعالجة على قوانينها من مراعاة مقدار التراب والريق وملازمة ذلك في أوقاته وإلا فالنفث ووضع السبابة على الأرض إنما يتعلق بها ما ليس له بال ولا أثر وإنما هذا من باب التبرك بأسماء الله تعالى وآثار رسوله وأما وضع الإصبع بالأرض فلعله لخاصية في ذلك أو لحكمة أخفاء آثار القدرة بمباشرة الأسباب المعتادة. وقال البيضاوي: قد شهدت المباحث الطبية على أن للريق مدخلاً في النضح وتبديل المزاج وتعديله ولتراب الوطن تأثير في حفظ المزاج الأصلي ودفع نكاية المضرات ولذا ذكر في تيسير المسافرين أنه ينبغي أن يستصحب المسافر تراب أرضه إن عجز عن استصحاب ماءها حتى إذا ورد ماء غير ما اعتاده جعل شيئاً منه في سقاءه وشرب الماء منها ليأمن من تغير مزاجه ثم أن الرقى والعزائم لها آثار عجيبة تتقاعد العقول عن الوصول إلى كنهها- انتهى. وقال التوربشتي: الذي يسبق إلى الفهم من صنيعه ذلك، ومن قوله هذا: إن تربة أرضنا إشارة إلى فطرة آدم عليه السلام والريقة أشارة إلى النطفة التي خلق منها الإنسان، فكأنه يتضرع بلسان الحال ويعرض بفحوى المقال أنك اخترعت الأصل الأول من طين ثم أبدعت بنيه من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كان هذا شأنه وتمن بالعافية على من استوى في ملكك حياته ومماته- انتهى. وقد علم كل أناس مشربهم وكل إناء يرشح بما فيه. قال القاري، وقوله: بإصبعه في موضع الحال من فاعل قال وتربة أرضنا خبر مبتدأ محذوف أي هذه، والباء في بريقة متعلق بمحذوف، وهو خبر ثان أو حال والعامل معنى الإشارة أي قال النبي صلى الله عليه وسلم مشيراً بإصبعه: بسم الله هذه تربة أرضنا معجونة بريقة بعضنا، قلنا بهذا القول أو صنعنا هذا الصنيع
ليشفي سقيمنا، بإذن ربنا)) متفق عليه.
1545 -
(10) وعنها، قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، ومسح عنه بيده،
ــ
(ليشفي) على بناء المفعول (سقيمنا) بالرفع نائب عن الفاعل. قال الطيبي: فعلى هذا بسم الله مقول القول صريحاً ويجوز أن يكون بسم الله حالا أخرى متداخلة أو مترادفة على تقدير قال متبركاً بسم الله، ويلزم منه أن يكون مقولاً والمقول الصريح قوله تربة أرضنا- انتهى. وقال السندي: ليشفي علة للممزوج. قلت: وفي رواية يشفي بحذف اللام (بإذن ربنا) متعلق بيشفي أي بأمره على الحقيقة سواء كان بسبب دعاء أو دواء أو بغيره (متفق عليه) أخرجاه في الطب، اللفظ لمسلم، وأخرجه أيضاً أبوداود وابن ماجه في الطب، والنسائي في اليوم والليلة.
1545-
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أي مرض وهو لازم وقد يأتي متعدياً فيكون التقدير وجعاً (نفث) بالمثلثة من باب ضرب ونصر أي أخرج الريح من فمه مع شيء من ريقه. وقيل: النفث نفخ لطيف بلا ريق (على نفسه بالمعوذات) بكسر الواو المشددة أي قرأها على نفسه ونفث الريق على بدنه، والمراد بالمعوذات سورة الفلق والناس والإخلاص فيكون من باب التغليب أو المراد المعوذتان (الفلق والناس) وكل ما ورد من التعويذ في القرآن كقوله تعالى {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [المؤمنون:97] وغير ذلك، أو المراد المعوذتان فقط، وجمع باعتبار أن أقل الجمع اثنان أو أطلق الجمع على التثنية مجازاً أو الجمع باعتبار الآيات، وإنما اجتزا بهما لما اشتملتا عليه من جوامع الاستعاذة من المكروهات جملة وتفصيلاً من السحر والحسد وشر الشيطان ووسوسته وغير ذلك وقيل المراد الكلمات المعوذات بالله من الشيطان والأمراض والآفات ونحوها (ومسح عنه) أي عليه وعلى أعضاءه (بيده) وقع عند البخاري في آخر الحديث بيان كيفية ذلك، ففيه قال معمر سألت ابن شهاب كيف كان ينفث قال ينفث على يديه ثم يمسح بهما وجهه. وفي رواية: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه نفث في كفيه بقل هو الله أحد وبالمعوذتين جميعاً ثم يمسح بهما وجهه وما بلغت يداه من جسده، فلما اشتكى كان يأمرني أن أفعل ذلك، وقال الطيبي: الضمير في عنه راجع إلى ذلك النفث والجار والمجرور حال أي نفث على بعض جسده ثم مسح بيده متجاوزاً عن ذلك النفث إلى سائر أعضاءه. قال عياض: فائدة النفس التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر، وقد يكون على سبيل التفاؤل بزوال
فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه. كنت أنفث عليه بالمعوذات التي كان ينفث، وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم) .متفق عليه. وفي رواية لمسلم، قالت: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات.
1546-
(11) وعن عثمان بن أبي العاص، أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضع يدك
ــ
ذلك الألم عن المريض كانفصال ذلك عن الراقي- انتهى. (فلما أشتكى) أي النبي صلى الله عليه وسلم (وجعه) بالنصب أي مرضه (الذي توفي فيه) صلى الله عليه وسلم (كنت أنفث عليه) وفي البخاري في هذه الرواية: طفقت أنفث على نفسه، ولأبي ذر: أنفث عنه (بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم) لبركتها، وفي الحديث دلالة على أن الرقية والنفث بكلام الله سنة. قال النووي: فيه استحباب النفث في الرقية، وقد أجمعوا على جوازه، واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال الحافظ: قد أجمع العلماء على جواز الرقي عند إجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله تعالى، أو بأسماءه وصفاته وباللسان العربي، أو بما يعرف معناه من غيره، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بذات الله تعالى. وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله- انتهى. وفي الموطأ: أن أبابكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة أرقيها بكتاب الله. وروى ابن وهب عن مالك كراهية الرقية بالحديدة والملح وعقد الخيط والذي يكتب خاتم سليمان وقال لم يكن ذلك من أمر الناس القديم (متفق عليه) أخرجه البخاري في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي فضائل القرآن وفي الطب. وأخرجه مسلم في الطب، واللفظ البخاري في الوفاة النبوية، وأخرجه أيضاً مالك في كتاب الجامع من الموطأ وأبوداود وابن ماجه في الطب (وفي رواية لمسلم قالت كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات) لم يذكر المسح فيحتمل أنه كان يفعله وتركت ذكره للعلم به من النفث، ويحتمل أنه كان يتركه أحياناً اكتفاء بالنفث والأظهر الأول والجمع أفضل.
1546-
قوله: (أنه شكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعاً يجده في جسده) أي في بدنه، ويؤخذ منه جواز شكاية ما بالإنسان لمن يتبرك به رجاء لبركة دعاءه (ضع) أمر من الوضع (يدك) وفي رواية مالك والترمذي وأبي داود: أمسحه بيمينك، وعند ابن ماجه: إجعل يدك اليمنى عليه وللطبراني والحاكم: ضع يمينك على المكان
على الذي يألم من جسدك، وقل: بسم الله ثلاثاًً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد وأحاذر، قال: ففعلت، فأذهب الله ما كان بي)) رواه مسلم.
1547-
(12) وعن أبي سعيد الخدري، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: ((بسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد،
ــ
الذي تشتكي فامسح بها سبع مرات (على الذي يألم) أي على الموضع الذي يوجع (من جسدك) فيه استحباب وضع اليد اليمنى على موضع الألم مع الدعاء (وقل بسم الله ثلاث وقل سبع مرات) إلخ. قال الشوكاني في الأعداد: التي ترد في مثل هذا الحديث سر من أسرار النبوة، وليس لنا أن نطلب العلة، والسبب الذي يقتضيه كما في إعداد الركعات والانصباء والحدود (أعوذ بعزة الله) أي بعظمته وغلبته (من شر ما أجد) أي من الوضع (وأحاذر) أي أخاف وأحترز، وصيغة المفاعلة للمبالغة. قال الطيبي: تعوذ من وجع هو فيه ومما يتوقع حصوله في المستقبل من الحزن والخوف، فإن الحزن هو الاحتراز عن مخوف، وللترمذي في الدعوات وحسنه والحاكم وصححه عن محمد بن سالم قال: قال لي ثابت البناني: يا محمد! إذا اشتكيت فضع يدك حيث تشتكي ثم قل بسم الله أعوذ بعزة الله وقدرته من شرما أجد من وجعي ثم أرفع يدك ثم أعد ذلك وتراً. قال فإن أنس بن مالك حدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثه بذلك (قال) أي عثمان (ففعلت) أي ما قال لي (فاذهب الله ما كان بي) من الوجع والألم ببركة الامتثال، زاد في رواية مالك والترمذي وأبي داود بعده "فلم أزل آمر به أهلي وغيرهم" (رواه مسلم) في الطب وأخرجه مالك في كتاب الجامع والترمذي وأبوداود وابن ماجه في الطب والنسائي في اليوم والليلة والحاكم في الجنائز (ج1:ص343) وابن أبي شيبة في مصنفه.
1547-
قوله: (أشتكيت) ففتح الهمزة للإستفهام، وحذف همزة الوصل. وقيل: بالمد على إثبات همزة الوصل وأبدالها ألفاً. وقيل: بحذف الاستفهام، قاله القاري (فقال نعم قال) أي جبرئيل (بسم الله أرقيك) بفتح الهمزة وكسر القاف مأخوذ من الرقية أي أعوذك (من كل شيء يؤذيك) بالهمزة ويبدل أي من أنواع المرض (من شر كل نفس) أي خبيثة (وعين) بالتنوين فيهما. وقيل: بالإضافة. وقيل: بالتنوين في الأول، وبالإضافة في الثاني (حاسد) وأو تحتمل الشك والأظهر أنها للتنويع. قال النووي: قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الآدمي. وقيل: يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينه، كما قال في الرواية الأخرى من شر كل ذي عين ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ
الله يشفيك، بسم الله أرقيك)) رواه مسلم.
1548 -
(13) وعن ابن عباس، قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين: ((أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة،
ــ
مختلف أو شكاً من الراوي في لفظه- انتهى. (ألله يشفيك) يجوز أن يكون بفتح حرف المضارعة، ويجوز أن يكون بضمة من أشفاءه (بسم الله أرقيك) كرره للمبالغة وبدأ به وختم به إشارة إلى أنه لا نافع إلا هو (رواه مسلم) في الطب، وأخرجه أيضاً الترمذي في الجنائز، والنسائي في اليوم والليلة، وابن ماجه في الطب، وروى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبرئيل عليه السلام قال: بسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك من شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين.
1548-
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ) بتشديد الواو المكسورة بعدها ذال معجمة من التعويذ (الحسن والحسين) ابني فاطمة أي يرقيهما. وقيل: يدعو لهما بالحفظ، ويطلب لهما من الله عصمة (أعيذكما) أي يقول أعيذكما، وهو تفسير وبيان ليعوذ، وهذا لفظ أحمد والترمذي وأبي داود والنسائي، ولفظ البخاري: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعوذ الحسن والحسين، ويقول إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق أعوذ (بكلمات الله) قيل: المراد بها كلامه على الإطلاق أو المعوذتان أو القرآن. وقيل: أسماءه وصفاته (التامة) صفة لازمة أي الكاملة أو النافعة أو الشافية أو المباركة أو الوافية في دفع ما يتعوذ منه. وقال الجزري: إنما وصف كلامه بالتمام لأنه لا يجوز أن يكون في شيء من كلامه نقص أو عيب كما يكون في كلام الناس. وقيل: معنى التمام ههنا أنها تنفع المتعوذ بها وتحفظه من الآفات وتكفيه- انتهى. قال الخطابي في المعالم: كان أحمد بن حنبل يستدل بقوله بكلمات الله التامة على أن القرآن غير مخلوق وما من كلام مخلوق إلا وفيه نقص فالموصوف منه بالتمام هو غير مخلوق وهو كلام الله سبحانه ويحتج أيضاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستعيذ بمخلوق (من كل شيطان) أنسى وجنى (وهامة) بالتنوين وهي بتشديد الميم واحدة الهوام التي تدب على الأرض وتؤذي الناس. وقيل: هي ذوات السموم. قال الشوكاني: والظاهر أنها أعم من ذوات السموم لما ثبت في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوام رأسك. وقال الجزري: الهامة كل ذات سم يقتل، والجمع الهوام، فأما ما يسم ولا يقتل فهو السامة كالعقرب والزنبور، وقد يقع الهوام على ما يدب من الحيوان وإن لم يقتل كالحشرات- انتهى. وقيل المراد كل نسمة تهم بسوء (ومن كل عين) بالتنوين (لامه) بتشديد الميم أيضاً أي ذات لمم، واللمم كل داء يلم من خبل أو جنون أو نحوهما أي من كل عين تصيب بسوء، ويجوز أن تكون على ظاهرها بمعنى جامعة للشر على المعيون من لمه إذا
ويقول: إن أبا كما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحاق)) رواه البخاري. وفي أكثر نسخ المصابيح "بهما" على لفظ التثنية.
1549-
(14) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيراً يصب منه))
ــ
جمعه. وقال في الصحاح: العين اللامه هي التي تصيب بسوء اللمم طرف من الجنون ولامه أي ذات لمم، وأصلها من الممت بالشيء إذا نزلت به. وقيل: لامه لازدواج هامة والأصل ملمة لأنها فاعل الممت - انتهى. وقال الجزري: اللمم طرف من الجنون يلم بالإنسان أي يقرب منه ويعتريه، ومنه حديث الدعاء أعوذ بكلمات الله التامة من شر كل سامة ومن كل عين لامه أي ذات لمم ولذلك لم يقل ملمة وأصلها من الممت بالشيء ليزاوج قوله من شر كل سامة أي لكونه أخف على اللسان (ويقول) لهما (أن أباكما) يريد إبراهيم عليه السلام وسماه أباً لكونه جداً أعلى (كان يعوذ بها) أي بهذه الكلمات (إسماعيل وإسحاق) ابنيه (رواه البخاري) في الأنبياء وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص235-269) والترمذي في الطب وأبوداود في باب القرآن من كتاب السنة والنسائي في اليوم والليلة وابن ماجه في الطب (وفي أكثر نسخ المصابيح بهما على لفظ التثنية) قال الطيبي: الظاهر أنه سهو من الناسخ - انتهى. قلت: قد وقع في بعض روايات البخاري بهما بالتثنية، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج5:ص132) قال القسطلاني: ولأبي الوقت وابن عساكر بهما بلفظ التثنية - انتهى. وكذا وقع بلفظ التثنية في بعض نسخ السنن لأبي داود كما في عون المعبود، وتأوله القاري بأن كلمات الله مجاز من معلومات الله ومما تكلم به سبحانه من الكتب المنزلة أو الأولى جملة المستعاذ به والثانية جملة المستعاذ منه، ولا يخفى ما في من التكلف.
1549-
قوله: (من يرد الله به خيراً يصب) بضم التحتية وكسر الصاد المهملة، وعليه عامة المحدثين، والفاعل الله، أي ينل الله تعالى (منه) أي من ذلك الشخص المعبر عنه بمن، فالضمير المجرور لمن أي يبتليه الله تعالى بالمصائب ليثيبه عليها. وقيل: الفاعل الضمير الراجع لمن، وضمير منه راجع للخير أي يحصل له من ذلك الخير، فهذا علامة أرادة الله له الخير. وقيل: الفاعل الله وقوله منه بمعنى لأجله، وضميره عائد إلى الخير أي يجعله الله ذا مصيبة لأجل ذلك الخير، وروى بفتح الصاد. قال ابن الخشاب: وهو أحسن وأليق. وقال الطيبي: أنه أليق الأدب كما قال تعالى: {وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء:80] والمعنى يصير ذا مصيبة أي يوصل له المصائب عن الله، فضمير يصب حينئذ راجع لمن، وضمير منه راجع لله. وقال ميرك: يصب مجزوم
رواه البخاري.
1550 -
1551- (15-16) وعنه، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما يصيب المسلم من نصب، ولا وصب، ولا هم، ولا حزن، ولا أذى، ولا غم، حتى الشوكة
ــ
لأنه جواب الشرط أي من يرد الله به خيراً أوصل إليه مصيبة فمن للتعدية يقال أصاب زيد من عمرو أي أوصل إليه مصيبة ليطهره بها من الذنوب وليرفع درجته، قال الحافظ: ويشهد للكسر ما أخرجه أحمد من حديث محمود بن لبيد رفعه إذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع، فله الجزع ورواته ثقات إلا أن محمود بن لبيد، اختلف في سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم وقد رآه وهو صغير، وله شاهد من حديث أنس عند الترمذي وحسنه (رواه البخاري) في المرضى وأخرجه أيضاً مالك (ج2:237) وأحمد والنسائي في الكبرى.
1550-
1551- قوله: (وعنه) أي عن أبي هريرة (وعن أبي سعيد) أي الخدري (ما يصيب المسلم) ما نافية ومن زائدة للاستغراق في قوله (من نصب ولا وصب) بفتحتين فيهما والأول التعب والألم الذي يصيب البدن من جراحة وغيرها والثاني الوجع اللازم والمرض الدائم، ومنه قوله تعالى {ولهم عذاب واصب} [الصافات:9] أي لازم ثابت (ولا هم) بفتح الهاء وتشديد الميم (ولا حزن) بضم الحاء وسكة الزاى بفتحهما. قال الحافظ: هما من أمراض الباطن ولذلك ساغ عطفهما على الوصب. وقيل: ألهم يختص بما هو آت والحزن بما مضى، وقيل: ألهم الحزن الذي يهم الرجل أي يذيبه من هممت الشحم إذا أذبته فانهم، ويقال: هم السقم جسمه أذابه وأذهب لحمه، والحزن هو الذي يظهر من في القلب حزونة أي خشونة وضيق يقال مكان حزن أي خشن وبهذا الاعتبار قيل خشنت صدره أي حزنته، وعلى هذا فالهم أخص وأبلغ في المعنى من الحزن (ولا أذى) هو أعم مما تقدم، وقيل: هو خاص بما يلحق الشخص من تعدي غيره عليه (ولا غم) بالغين المعجمة ولا لتأكيد النفي في كلها، وهو أيضاً من أمراض الباطن، وهو ما يضيق على القلب. وقيل: هو الحزن الذي يغم الرجل أي يصيره بحيث يقرب أن يغمى عليه، والحزن أسهل منه. قال الحافظ: وقيل في هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهم والغم والحزن أن الهم ينشأ عن الفكر فيما يتوقع حصوله مما يتأذى به، والغم كرب يحصل للقلب بسبب ما حصل، والحزن يحدث لفقد ما يشق على المرأ فقده. وقيل: الهم والغم بمعنى واحد. قال الترمذي: سمعت الجارود يقول سمعت وكيعاً يقول إنه لم يسمع في الهم أنه كفارة إلا في هذا الحديث (حتى الشوكة) بالرفع فحتى ابتدائية، والجملة بعد الشوكة خبرها وبالجر فحتى عاطفة أو بمعنى إلى فما بعدها حال. وقال الزركشي
يشاكها، إلا كفر الله بها خطاياه)) متفق عليه.
1552 -
(17) وعن عبد الله بن مسعود، قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي،
ــ
بالنصب على أنه مفعول فعل مقدر أي حتى يجد الشوكة (يشاكها) بضم أوله أي يشوكه غيره بها، ففيه وصل الفعل لأن الأصل يشاك بها. قال في الكشاف: شكت الرجل شوكة أدخلت في جسده شوكة وشيك على ما لم يسم فاعله يشاك شوكاً- انتهى. وقال السفاقسي: حقيقة قوله يشاكها أن يدخلها غيره في جسده يقال شكته أشوكه. قال الأصمعي: يقال شاكتني تشوكني إذا دخلت هي ولو كان المراد هذا لقيل تشوكه ولكن جعلها مفعولة، وهذا يرده ما في مسلم من رواية هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ولا يصيب المؤمن شوكة فأصاب الفعل إليها، وهو الحقيقة ولكنه لا يمنع إرادة المعنى الأعم، وهو أن تدخل هي بغير إدخال أحد أو بفعل أحد، قاله القسطلاني وقيل: فيه أي في يشاكها ضمير المسلم أقيم مقام فاعله و"ها" ضمير الشوكة أي حتى الشوكة يشاك المسلم تلك الشوكة أي تجرح أعضاءه بشوكة، والشوكة ههنا للمرة من شاكة ولو أراد واحدة النبات لقال يشاك بها والدليل على أنها المرة من المصدر جعلها غاية للمعاني، كذا قال القاري (إلا كفر الله من خطاياه) ظاهره تعميم جميع الذنوب، لكن الجمهور خصوا ذلك بالصغائر لحديث الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر فحملوا المطلقات الواردة في التفكير على هذا المقيد، كذا في الفتح ولابن حبان من حديث عائشة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها خطيئة وهذا يقتضي حصول الأمرين معاً حصول الثواب ورفع العقاب وشاهده عند الطبراني في الأوسط من وجه آخر عن عائشة بلفظ ما ضرب على مؤمن عرق قط إلا حط الله به عنه خطيئة وكتب له حسنة ورفع له درجة وسنده جيد (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً ابن أبي شيبة (ج4:ص70) والبيهقي (ج3:ص373) وأخرجه الترمذي في الجنائز عن أبي سعيد متفرداً نحوه. وقال: قد روى بعضهم هذا الحديث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصرح الجزري في جامع الأصول (ج10ص354) بإخراج البخاري، ومسلم والترمذي عنهما جميعاً، ثم قال: وذكره الحميدي في مسند أبي هريرة.
1552-
قوله: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك) الواو للحال ويوعك بفتح العين المهملة من وعكته الحمى أي اشتدت عليه وآذته، والوعك بفتح الواو وسكون العين المهملة وقد تفتح وهي الحمى. وقيل: ألمها وقيل: تعبها. وقيل: إرعادها الموعوك. وقيل: حرارتها (فمسسته بيدي) في الصحاح مِسْست الشيء بالكسر
فقلت: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قال: فقلت: ذلك لأن لك أجرين؟ فقال: أجل، ثم قال: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه، إلا حط الله تعالى به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها)) متفق عليه.
ــ
اََمَسّه هي اللغة الفصيحة، وحكى أبوعبيد َمسَسْت بالفتح اَمُسّه بالضم (إنك لتوعك وعكاً شديداً) قال القاري: هو بيان للواقع (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجل) أي نعم وزناً ومعنى إني (أوعك) على بناء المجهول أي يأخذني الوعك (كما يوعك) يعني أحم كما يحم (رجلان منكم) قال ابن مسعود (فقلت ذلك) أي تضاعف الحمى (لأن) وفي البخاري بأن، وكذا نقله الجزري (ج10:ص355) وفي مسلم: إن بغير الموحدة أو اللام (لك أجرين) قال القاري: يحتمل أن يكون المراد بالتثنية التكثير (فقال) النبي صلى الله عليه وسلم (أجل) أي نعم وفي البخاري بعد هذا "ذلك كذلك" وذلك إشارة إلى مضاعفة الأجر بشدة الحمى وتضاعفها (ما من مسلم يصيبه الأذى) أي ما يؤذيه ويتعبه (من مرض فما سواه) أي فما دونه أو غيره مما تتأذى به النفس. وفي رواية للبخاري: ما من مسلم يصيبه أذى شوكة فما فوقها. قال الحافظ: شوكة بالتنكير للتقليل ليصح ترتب قوله فما فوقها ودونها في العظم والحقارة عليه بالفاء، وهو يحتمل وجهين فوقها في العظم ودونها في الحقارة وعكس ذلك (إلا حط الله تعالى به سيئاته كما تحط الشجرة ورقها) بالنصب على المفعولية وتحط بفتح أوله وضم المهملة وتشديد الطاء المهملة أي تلقيه الشجرة منتشراً. قال الحافظ: والحاصل أنه أثبت أن المرض إذا اشتد ضاعف الأجر ثم زاد عليه بعد ذلك أن المضاعفة تنتهي إلى أن تحط السيئات كلها أو المعنى قال: نعم شدة المرض ترفع الدرجات وتحط الخطيئات أيضاً حتى لا يبقى منها شيء ويشير إلى ذلك حديث سعد عند الدارمي والنسائي في الكبرى، وصححه الترمذي وابن حبان حتى يمشي على الأرض وما عليه خطيئه - انتهى. قال الطيبي: شبه حالة المريض وإصابة المرض جسده ثم محو السيئآت عنه سريعاً بحالة الشجر وهبوب الرياح الخريفية وتناثر الأوراق منها وتجردها عنها فهو تشبيه تمثيل لانتزاع الأمور المتوهمة في المشبه من المشبه به فوجه التشبيه الإزالة الكلية على سبيل السرعة لا الكمال والنقصان، لأن إزالة الذنوب عن الإنسان سبب كماله وإزالة الأوراق عن الشجر سبب نقصانها- انتهى كلام الطيبي. وفي الحديث بشارة عظيمة لأن كل مسلم لا يخلو عن كونه متأذياً (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ له، وأخرجه أيضاً أحمد (ج1:ص381-441-445) والبيهقي (ج3:ص372) وابن أبي شيبة (ج4:ص70) .
1553-
(18) عن عائشة، قالت:((ما رأيت أحداً الوجع عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) متفق عليه.
1554-
(19) وعنها، قالت:((مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي وذاقنتي، فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم)
ــ
1553-
قوله: (ما رأيت أحداً الوجع) بالرفع، قال العلماء: الوجع ههنا المرض، والعرب تسمى كل مرض وجعاً، ذكره النووي (عليه أشد من رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي من وجعه. قال الطيبي: الوجع مبتدأ وأشد خبره، والجملة بمنزلة المفعول الثاني لرأيت أي ما رأيت أحداً أشد وجعاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في الأدب، واللفظ للبخاري، وأخرجه أيضاً الترمذي في الزهد وابن ماجه في الجنائز.
1554-
قوله: (مات النبي صلى الله عليه وسلم بين حاقنتي) بالحاء المهملة والقاف المكسورة والنون المفتوحة الوهدة المنخفضة بين الترقوتين. وقيل: النقرة بين الترقوة وحبل العاتق. وقيل: ما دون الترقوة من الصدر (وذاقنتي) بالذال المعجمة والقاف المكسورة الذقن. وقيل: طرق الحلقوم. وقيل: ما يناله الذقن من الصدر. وقال الجزري في جامع الأصول (ج11:ص482) الحاقنة ما سف من البطن والذاقنة طرق الحلقوم الناتئ. وقيل: الحاقنة المطمئن من الترقوة والحلق والذاقنة نقرة الذقن- انتهى. وفي رواية للبخاري: توفى في بيتي وفي يومي وبين سحري ونحرى، والسحر بفتح المهملة وسكون الحاء المهملة هو الصدر، وفي الأصل الرئة والنحر بفتح النون وسكون المهملة، والمراد به موضع النحر، والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها صلى الله عليه وسلم ورضي عنها، وهذا لا يعارض حديثها أن رأسه كان على فخذها لاحتمال أنها رفعته عن فخذها إلى صدرها. وأما ما رواه الحاكم وابن سعد من طرق أنه صلى الله عليه وسلم مات ورأسه في حجر علي، ففي كل طريق من طرقه شيعي، فلا يحتج به، وقد بين حالها الحافظ في الفتح من أحب الاطلاع عليه رجع إليه (فلا أكره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي صلى الله عليه وسلم) يعني ظننت شدة الموت تكثرة الذنوب وظننتها من علامة الشقاوة وسوء حال الرجل عند الله وهذا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأيت شدة موت رسول الله صلى الله عليه وسلم علمت أن شدة الموت ليست بعلامة الشقاوة ولا بعلامة سوء حال الرجل ولا من المنذرات بسوء العاقبة، لأنه لو كان كذلك لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم شدة الموت بل شدة الموت لرفع الدرجة وتضعيف الأجر ولتطهير الرجل من الذنوب فإذا كان كذلك فلا أكره شدة الموت لأحد بعد ما علمت هذا
رواه البخاري.
1555 -
(20) وعن كعب بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح، تصرعها مرة وتعدلها أخرى،
ــ
(رواه البخاري) في مواضع بألفاظ، واللفظ المذكور له في باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر المغازي وأخرجه أيضاً النسائي في الجنائز.
1555-
قوله: (مثل المؤمن كمثل الخامة) وفي مسلم: مثل الخامة، وهي بالخاء المعجمة والميم المخففة الطاقة الغضة الطريقة اللينة (من الزرع) وألفها منقلبة عن الواو. قال الجزري في جامع الأصول (ج1:ص307) الخامة من النبات الغضة الرطبة اللينة – انتهى. وقيل: الخامة هي الزرع أول ما ينبت على ساق واحد، ووقع عند أحمد في حديث جابر: مثل المؤمن مثل السنبلة تستقيم مرة وتخر أخرى، وله في حديث لأبي بن كعب: مثل المؤمن مثل الخامة تحمر مرة وتصفر أخرى (تفيئها) بتشديد الياء المكسورة وهمزة بعدها، وقيل بكسر الفاء وسكون الياء أي تميلها وتحركها (الرياح) يعني تميلها كذا وكذا حتى ترجع من جانب إلى جانب. قال النووي: تميلها وتفيئها بمعنى واحد، ومعناه تقلبها الريح يميناً وشمالاً- انتهى. قال التوربشتي: وذلك أن الريح إذا هبت شمالاً أمالت الخامة إلى الجنوب فصار فيئها في الجانب الجنوبي، وإذا هبت جنوباً صار فيئها في الجانب الشمالي (تصرعها) بفتح الراء بيان لما قبله أي تسقطها. قال الجزري: أي ترميها وتلقيها من المصارعة. وقال النووي: أي تخفضها (وتعدلها) بفتح التاء وسكون المهملة وكسر الدال المخففة وبضم التاء أيضاً وفتح المهملة وتشديد الدال المكسورة أي ترفعها وتقيمها وتسويها (أخرى) أي تارة أخرى، وعند مسلم في هذه الرواية مرة. قال الحافظ: وكان ذلك باختلاف الريح فإن كانت شديدة حركتها فمالت يميناً وشمالاً حتى تقارب السقوط وإن كانت ساكنة أو إلى السكون أقر إقامتها، ووقع في رواية لمسلم حتى تهيج. قال الحافظ: أي حتى تستوي ويكمل نضجها. وقال النووي: أي تيبس. وقال الجزري: هاج النبات يهيج هيجاً إذا أخذ في الجفاف والاصفرار بعد الغضاضة والاخضرار. قال المهلب: ووجه التشبيه أن المؤمن من حيث أنه جاءه أمر الله أن طاع له ورضى به، فإن وقع له خير فرح به وشكر، وإن وقع له مكروه صبر ورجا فيه الخير والأجر، فإذا اندفع عنه اعتدل شاكراً. قال أبوالفرج ابن الجوزي: والناس في ذلك على أقسام: منهم من ينظر إلى أجر البلاء فيهون عليه البلاء، ومنهم من يرى أن هذا من تصرف المالك في ملكه فيسلم ولا يعترض، ومنهم من تشغله المحبة عن طلب رفع البلاء وهذا أرفع من سابقه، ومنهم من يتلذذ به وهذا أرفع الأقسام، لأنه عن اختياره نشأ. وقال الزمخشري في الفائق: قوله من الزرع صفة للخامة؛ لأن التعريف في
حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة)) متفق عليه.
ــ
الخامة للجنس، وتفيئها يجوز أن يكون صفة أخرى للخامة وأن يكون حالاً من الضمير المتحول إلى الجار والمجرور. وهذا التشبيه يجوز أن يكون تمثيلياً فيتوهم للمشبه ما للمشبه به وأن يكون معقولاً بأن تؤخذ الزبدة من المجموع. وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه في الدنيا عارية معزولة عن استيفاء اللذات والشهوات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها جنته ودار خلوده (حتى يأتي) وفي بعض النسخ: يأتيه كما في صحيح مسلم (أجله) أي يموت (ومثل المنافق) وفي رواية لمسلم: ومثل الكافر، وبهذا يظهر أن المراد بالمنافق في رواية الكتاب نفاق الكفر (كمثل الأرزة) بفتح الهمزة والزاى بينهما راء ساكنة هذا هو المشهور في ضبطها وهو المعروف في الروايات وكتب الغريب. وذكر الجوهري وصاحب نهاية الغريب: أنها تقال أيضاً بفتح الراء قال في النهاية: وقال بعضهم يعني أباعبيدة أنما هو الآرزة بالمد وكسر الراء على وزن فاعلة ومعناها الثابتة في الأرض، ورده أبوعبيد بأن الرواة اتفقوا على عدم المد، وإنما اختلفوا في سكون الراء وتحريكها والأكثر على السكون، قيل: هي واحدة شجر الأرز وهو شجر معروف يقال له الأرزن يشبه شجر الصنوبر وليس به يكون بالشام وبلاد الأرمن وهو الشجر الذي يعمر طويلاً ويكثر وجوده في جبال لبنان، وقيل: هو شجر الصنوبر والصنوبر ثمرته وهو شجر صلب شديد الثبات في الأرض. وقيل: هو شجر الصنوبر الذكر خاصة، وقيل: هو شجر العرعر (المجذية) بميم مضمومة ثم جيم ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم ياء تحتية أي الثابتة المنتصبة القائمة من جذاً يجذواً وأجذى يجذى لغتان أي ثبت قائماً والجذاة أصول الشجر العظام (التي لا يصيبها شيء) أي من الميلان باختلاف الرياح. وفي رواية لمسلم: المجذية على أصلها لا يفيئها شيء (حتى يكون انجعافها) بسكون النون وكسر الجيم بعدها عين ثم ألف ثم فاء أي انقطاعها وإنقلاعها. وقيل: انكسارها من وسطها أو أسفلها وهو مطاوع جعف تقول: جعفته فانجعف مثل قلعته فانقلع (مرة واحدة) وجه التشبيه أن المنافق لا يتفقده الله باختياره بل يحصل له التيسير في الدنيا ليتعسر عليه الحال في المعاد حتى إذا أراد الله إهلاكه قصمة فيكون موته أشد عذاباً وعليه أكثر ألماً في خروج نفسه. وقيل: المعنى أن المؤمن يتلقى الأعراض الواقعة عليه لضعف حظه من الدنيا فهو كأوائل الزرع شديد الميلان لضعف ساقه والمنافق بخلاف ذلك وهذا في الغالب من حال الاثنين (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى، ومسلم في التوبة، واللفظ له، وأخرجه أيضاً أحمد (ج6:ص386) والنسائي في الكبرى.
1556-
(21) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، لا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز حتى تستحصد)) متفق عليه.
1557-
(22) وعن جابر، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب
ــ
1556-
قوله: (كمثل الزرع) وفي مسلم: مثل الزرع. وفي البخاري: كمثل الخامة من الزرع وفي رواية له: كمثل خامة الزرع. وفي الترمذي: كمثل الزرع (لا تزال الريح) اللام للجنس. وفي الترمذي: الرياح (تميله) بتشديد الياء وبتخفيفها (لا يزال المؤمن يصيبه البلاء) قال الطيبي: التشبيه إما تمثيلي، وإما مفرق، فيقدر للمشبه معان بإزاء ما للمشبه به، وفيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي له أن يرى نفسه عارية معزولة عن استعمال اللذات معروضة للحوادث والمصيبات مخلوقة للآخرة؛ لأنها دار خلود (لا تهتز) أي لا تتحرك (حتى تستحصد) على بناء المفعول. وقال ابن الملك: بصيغة الفاعل أي يدخل وقت حصادها فتقطع- انتهى. وقال النووي: بفتح أوله وكسر الصاد كذا ضبطنا، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين، وبعضهم بضم أوله وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، والأول أجود أي لا تتغير حتى تنقلع مرة واحدة كالزرع الذي انتهى يُبْسُه. قال معنى الحديث: أن المؤمن كثير الآلام في بدنه أو أهله أو ماله، وذلك مكفر لسيئاته ورافع لدرجاته. وأما المنافق والكافر فقليلها وإن وقع به شيء لم يكفر شيئاً من سيئاته بل يأتي بها يوم القيامة كاملة (متفق عليه) أخرجه البخاري في المرضى وفي التوحيد ومسلم في التوبة واللفظ له وأخرجه أيضاً أحمد (ج2ص234، 284، 285) والترمذي في الأمثال ولفظ البخاري في التوحيد: مثل المؤمن كمثل خامة الزرع يفيء ورقه من حيث أتتها الريح تكفئها فإذا سكنت اعتدلت وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء.
1557-
قوله: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم السائب) وفي مسلم بعد ذلك "أو أم المسيب" وفي البيهقي: دخل على أم السائب أو أم المسيب، وهي ترفرف. قال ابن عبد البر: أم السائب الأنصارية روى عنها أبوقلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحمى. وقال بعضهم: فيها أم المسيب- انتهى. قلت: أخرجه أبونعيم بلفظ: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على امرأة من الأنصار يقال لها أم المسيب فذكر نحو حديث الباب، وأخرجه ابن مندة فقال: أم السائب جزما، وأسنده من طريق الثقفي عن أيوب عن أبي الزبير عن جابر قال ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أم السائب، فذكر الحديث نحوه. قال الحافظ: ولم أر في شيء من طرقه أنها أنصارية بل
فقال: مالك تزفزفين؟ قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال: لا تسبي الحمى، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد)) . رواه مسلم.
1558-
(23) وعن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مرض العبد أو سافر، كتب له
ــ
ذكرها ابن كعب في قبائل العرب بين المهاجرين والأنصار (فقال مالك تزفزفين) وفي مسلم والبيهقي وابن سعد وأبي يعلى: مالك يا أم السائب أو يا أم المسيب إلخ. وتزفزفين بالزايين بصيغة المعلوم والمجهول فإنه لازم ومتعد. قال القاري في نسخة صحيحة: بالراءين المهملتين على بناء الفاعل. قال الطيبي: رفرف الطائر بجناحيه إذا بسطهما عند السقوط على شيء والمعنى مالك ترتعدين، ويروي بالزاء من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد والمعنى ما سبب هذا الارتعاد الشديد. وقال النووي: تزفزفين بزائين معجمتين وفائين والتاء مضمومة هذا هو الصحيح المشهور في ضبط هذه اللفظة، وادعى القاضي أنها رواية جميع رواة مسلم. ووقع في بعض نسخ بلادنا بالراء والفاء ومعناه تتحركين حركة شديدة أي ترعدين- انتهى. وقال المنذري: روى برائين وبزائين ومعناهما متقارب وهو الزعدة التي تحصل للمحموم، ونقله الجزري في جامع الأصول (ج10ص355) تزفزفين بالزايين وقال أصل الزفيف الحركة السريعة ومنه زفّ الظليم إذا أسرع حتى يسمع لجناحه حركة فكأنه سمع ما عرض لها من رعدة الحمى هذا على من رواه بالزاي المعجمة ومن رواه بالراء المهملة فعنى به زفزفة جناح الطائر وهو تحريكه عند الطيران فشبه حركة رعدتها به والزاي أكثر رواية (الحمى لا بارك الله فيها) مبتدأ وخبره الجملة تتضمن الجواب أو تقديره تأخذني الحمى أو الحمى معي، والجملة بعده دعائية، قاله القاري. ولفظ أبي يعلى قالت من الحمى لا بارك الله فيها (فإنها تذهب) من الإذهاب أي تمحوا وتكفر وتزيل (خطايا بني آدم) أي مما يقبل التكفير (كما يذهب الكير) بكسر الكاف بعدها تحتية ثم راء مهملة (خبث الحديد) بفتحتين أي وسخه. قال الطيبي: كير الحداد وهو المبني من الطين. وقيل: الزق الذي ينفخ به النار والمبنى الكور (رواه مسلم) في الأدب، وأخرجه أيضاً البيهقي (ج3ص377) وابن سعد وأبويعلى وأبونعيم وابن مندة وفضل الحمى والمرض روايات عن جماعة من الصحابة ذكرها المنذري في الترغيب في كتاب الجنائز.
1558-
قوله: (إذا مرض العبد) المؤمن وكان يعمل عملاً قبل مرضه ومنعه منه المرض ونيته لولا المانع مداومته عليه (أو سافر) سفر طاعة ومنعه السفر مما كان يعمل من الطاعات ونيته المداومة، ففي رواية أبي داود: إذا كان العبد يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر (كتب له) أي للعبد من الأجر كما في
بمثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً)) رواه البخاري.
1559 -
(24) وعن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون شهادة كل مسلم))
ــ
رواية أحمد (بمثل ما كان يعمل) حال كونه (مقيماً) وحال كونه (صحيحاً) فهما حالان مترادفان أو متداخلان، وفيه اللف والنشر الغير المرتب؛ لأن مقيماً يقابل إذا سافر وصحيحاً يقابل إذا مرض. قال القاري: والباء زائدة كهى في قوله تعالى: {فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به} [البقرة: 137] انتهى. قلت: وفي البخاري كتب له مثل ما كان يعمل أي بغير الباء، وفي رواية أبي داود كصالح ما كان يعمل وهو صحيح مقيم. ووقع في حديث عبد الله بن عمرو ابن العاص مرفوعاً عند عبد الرزاق وأحمد والحاكم وصححه، والبيهقي: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل به: أكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً حتى أطلقه أو أكفته إلى، ولأحمد من حديث أنس رفعه إذا ابتلى الله العبد المسلم ببلاء في جسده قال الله: أكتب له صالح عمله الذي كان يعمله فإن شفاه غسله وطهره وإن قبضه غفر له ورحمه، وعند الطبراني من حديث أبي موسى: إن الله يكتب للمريض أفضل ما كان يعمل في صحته ما دام في وثاقه- الحديث. وفي حديث عائشة عند النسائي: ما من امريء تكون له صلاة من الليل يغلبه نوم أو وجع إلا كتب له أجر صلاته وكان نومه عليه صدقة، وحمل ابن بطال الحكم المذكور على النوافل لا للفرائض فلا تسقط بالسفر والمرض، وتعقبه ابن المنير بأنه حجر واسعاً بل تدخل فيه الفرائض التي شأنه أن يعمل بها وهو صحيح إذا عجز عن جملتها أو بعضها بالمرض كتب له أجر ما عجز عنه فعلاً؛ لأنه قام به عزماً إن لو كان صحيحاً حتى صلاة الجالس في الفرض لمرضه يكتب له عنها أجر صلاة القائم-انتهى. قال الحافظ: وليس اعتراض ابن المنير بجيد، لأنهما لم يتواردا على محل واحد، وفي الأحاديث المذكورة تعقب على من زعم من الشافعية أن الأعذار المرخصة لترك الجماعة تسقط الكراهة والإثم خاصة من غير أن تكون محصلة للفضيلة والثواب، وبذلك جزم النووي في شرح المهذب: ومما يدل على بطلان قوله حديث أبي هريرة رفعه: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد فوجد الناس قد صلوا أعطاه الله مثل أجر من صلى وحضر لا ينقص ذلك من أجره شيئاً. أخرجه أبوداود والنسائي والحاكم، وإسناده قوي (رواه البخاري) في كتاب الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد (ج4ص410، 418) وأبوداود في الجنائز وابن أبي شيبة (ج4ص70) والبيهقي (ج3ص374) .
1559-
قوله: (الطاعون شهادة كل مسلم) أي حكماً، كذا بالإضافة في نسخ المشكاة. وفي الصحيحين شهادة لكل مسلم، وكذا نقله الجزري في جامع الأصول (ج8ص364) أي سبب لكونه شهيداً يعني شهادة أخروية لكل مسلم مات به لمشاركته للشهيد فيما يكابده من الشدة، وهكذا جاء مطلقاً في هذا الحديث، وسيأتي
...............................
ــ
مقيداً بثلاثة قيود في حديث عائشة الذي يلي حديث أبي هريرة. قال المناوي: ظاهر حديث أنس يشمل الفاسق. وقال الحافظ بعد ذكر أحاديث: تدل على أن سبب الطاعون ظهور الفاحشة وفشوا الزنا ما لفظه: ففي هذه الأحاديث أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ ويحتمل أن يقال بل تحصل له درجة الشهادة لعموم الأخبار الواردة، ولاسيما حديث أنس الطاعون شهادة لكل مسلم، ولا يلزم من حصول درجة الشهادة لمن اجترح السيئات مساواة المؤمن الكامل في المنزلة، لأن درجات الشهداء متفاوتة كنظيره من العصاة إذا قتل مجاهداً في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العلياء مقبلاً غير مدبر- انتهى. والطاعون بوزن فاعول من الطعن، عدلوا به عن أصله ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء. قال النووي في تهذيبه: هو بثر وورم مؤلم جداً يخرج مع لهب ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة شديدة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان وقيء، ويخرج غالباً في المراق والآباط، وقد يخرج في الأيدي والأصابع وسائر الجسد. وقال جماعة من الأطباء منهم ابن سينا: الطاعون مادة سمية تحدث ورماً قتالاً يحدث في المواضع الرخوة والمغابن من البدن، وأغلب ما تكون تحت الإبط أو خلف الأذن أو عند الأرنبة، قال وسببه دم رديء مائل إلى العفونة والفساد، ويستحيل إلى جوهر سمي يفسد العضو ويؤدي إلى القلب كيفية رديئة فتحدث القيء والغثيان والغشى والخفقان، ولرداءته لا يقبل من الأعضاء إلا ما كان أضعف بالطبع، والطواعين تكثر عند الوباء في البلاد الوبيئة، ومن ثم أطلق على الطاعون وباء وبالعكس، والوباء فساد جوهر الهواء الذي هو مادة الروح ومدده- انتهى. وحاصل هذا أن حقيقة الطاعون ورم ينشأ عن هيجان الدم أو انصباب الدم إلى عضو فيفسده وأن غير ذلك من الأمراض العامة الناشئة عن فساد الهواء يسمى طاعوناً بطريق المجاز لإشتراكهما في عموم المرض به أو كثرة الموت. وما قال الأطباء: أن الطاعون ينشأ عن هيجان الدم أو انصبابه لا يعارض حديث الطاعون وخز أعداءكم من الجن، أخرجه أحمد وغيره من حديث أبي موسى الأشعري مرفوعاً، إذ يجوز أن ذلك يحدث عن الطعنة الباطنة فتحدث منها المادة السمية ويهيج الدم بسببها أو ينصب، وإنما لم يتعرض الأطباء لكونه من طعن الجن، لأنه أمر لا يدرك بالعقل، وإنما يعرف من جهة الشارع، فتكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، لكن في وقوع الطاعون في أعدل الفصول وأصح البلاد هواء وأطيبها ماء دلالة على أن الطاعون إنما يكون من طعن الجن، ولأنه لو كان بسبب فساد الهواء لدام في الأرض، لأن الهواء يفسد تارة ويصح أخرى، والطاعون يذهب أحياناً ويجيء أحياناً على غير قياس ولا تجربة، وربما جاء سنة على سنة، وربما أبطأ سنين، وأيضاً لو كان من فساد الهواء لعم الناس والحيوان وربما يصيب الكثير من الناس، ولا يصيب من هو بجانبهم ممن هو في مثل مزاجهم، وربما يصيب بعض أهل البيت الواحد، ويسلم منه الآخرون منهم وقوله: وخز بفتح أوله وسكون المعجمة بعدها زاي، هو الطعن إذا كان غير نافذ، ووصف طعن الجن بأنه وخز، لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولاً ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف
متفق عليه.
1560 -
(25) وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله))
ــ
طعن الإنس، فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولاً ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ. وأما ما يقع في الألسنة بلفظ: وخز إخوانكم من الجن. فقال الحافظ: إنه لم يجده في شيء طرق الحديث المسندة لا في الكتب المشهورة ولا الأجزاء المنثورة بعد التتبع الطويل البالغ، وعزاه في آكام المرجان لمسند أحمد والطبراني وكتاب الطواعين لابن أبي الدنيا، ولا وجود له في واحد منها (متفق عليه) أخرجه البخاري في الجهاد وفي الطب، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضاً أحمد.
1560-
قوله: (الشهداء) جمع شهيد سمي به، لأن الملائكة يشهدون موته فكان مشهوداً، وقيل مشهود له بالجنة، فعلى هذا الشهيد فعيل بمعنى مفعول. وقيل: سمي به، لأنه حي عند الله تعالى حاضر ويشهد حضرة القدس. وقيل: لأنه شهد ما أعد الله له من الكرامات. وقيل: لأنه يستشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على سائر الأمم المكذبين، فعلى على هذه المعاني يكون الشهيد بمعنى الشاهد، قاله العيني. وقال القاري: بمعنى فاعل، لأنه يشهد مقامه قبل موته أو بمعنى مفعول، لأن الملائكة تشهده أي تحضره مبشرة له. وذكر الحافظ في سبب تسميته بذلك أقوالاً أخرى (خمسة) وفي حديث جابر بن عتيك الآتي: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله. وفي حديث عمر عند أحمد والترمذي: الشهداء أربعة فاختلفت الأحاديث في عدد أسباب الشهادة. قال الحافظ: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بالأقل ثم أعلم زيادة على ذلك فذكرها في وقت آخر، ولم يقصد الحصر في شيء من ذلك- انتهى. (المطعون) أي الذي يموت بالطاعون (والمبطون) أي الذي يموت بمرض البطن مطلقاً أو الاستسقاء أو الإسهال أو القولنج. قال القرطبي: اختلف هل المراد بالبطن الاستسقاء أو الإسهال على قولين للعلماء (والغريق) بالياء بعد الراء. وفي رواية: الغرق بغير ياء، وهو بفتح الغين المعجمة وكسر الراء بعدها قاف أي الذي يموت من الغرق في الماء. قال القاري: الظاهر انه مقيد بمن ركب البحر ركوباً غير محرم (وصاحب الهدم) أي الذي يموت تحت الهدم، وهو بفتح الهاء والدال ما يهدم به من البناء. قال في النهاية: الهدم بالتحريك البناء المهدوم، فعل بمعنى المفعول، وبالسكون الفعل نفسه. وقال الحفنى: قوله الَهدم هو مجاز، لأنه يموت تحت المهدوم الذي سببه الهدم أي الفعل، فإن قريء بفتح الدال فهو ظاهر، لأنه اسم للمهدوم - انتهى. وحاصل جميع ذلك أن صاحب الهدم هو الذي يقع عليه بناء أو حائط فيموت تحته. قال القرطبي: هذا والغريق إذا لم يغررا بأنفسهما ولم يهملا التحرز، فإن فرطا في التحرز حتى أصابهما ذلك فهما عاصيان (والشهيد) أي الذي يقتل (في سبيل الله)
متفق عليه.
1561 -
(26) وعن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون فأخبرني: ((أنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وأن الله جعله رحمة للمؤمنين،
ــ
يعني الذي حكمه أن لا يغسل ولا يصلي عليه بخلاف الأربعة السابقة، فالحقيقية الأخير والذي قبله مجاز، فهم شهداء في الثواب كثواب الشهيد واستشكل التعبير بالشهيد في سبيل الله مع قوله: الشهداء خمسة، فإنه يلزم منه حمل الشيء على نفسه، لأن قوله: خمسة خبر للمبتدأ، والمعدود بعده بيان له، فكأنه قال الشهيد هو الشهيد. وأجيب بأنه عبر عن المقتول بالشهيد، لأنه هو الشهيد الكامل فهو من باب أنا أبوالنجم، وشعري شعري أو معنى الشهيد القتيل، فكأنه قال والمقتول، فعبر عنه بالشهيد أو يقال: إن الشهيد مكرر في كل واحد منها، فيكون من التفصيل بعد الإجمال، والتقدير الشهداء خمسة، الشهيد كذا والشهيد كذا والشهيد القتيل في سبيل الله. قال ابن الملك: وإنما أخره، لأنه من باب الترقي من الشهيد الحكمي إلى الحقيقي. واعلم أن الشهداء الحكمية كثيرة وردت في أحاديث شهيرة، جمعها السيوطي في كراسته سماها أبواب السعادة في أبواب الشهادة. وقد سرد العيني والحافظ هذه الروايات، ولخصها القسطلاني والزرقاني، إن شئت الإطلاع عليها فارجع إلى العمدة والفتح. قال العيني: فإن قلت: كيف التوفيق بين الأحاديث التي فيها العدد المختلف صريحاً والأحاديث الأخر أيضاً؟ قلت: أما ذكر العدد المختلف فليس على معنى التحديد، بل كل واحد من ذلك بحسب الحال وبحسب السؤال وبحسب ما تجدد العلم في ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، على أن التنصيص على العدد المعين لا ينافي الزيادة- انتهى. قال العلماء: الشهداء على ثلاثة أنواع: شهيد الدنيا والآخرة وهو المقتول في سبيل الله، وشهيد الآخرة دون الدنيا وهم الأربعة المذكورون في حديث أبي هريرة، وشهيد الدنيا دون الآخرة وهو من قتل مدبراً أو غل في الغنيمة أو قاتل لغرض دنياوي (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأذان وفي الصلاة وفي الجهاد، ومسلم في الجهاد، وأخرجه أيضاً مالك في الصلاة والترمذي في الجنائز.
1561-
قوله: (فأخبرني) بالإفراد (أنه عذاب) من قبل الجن كما تقدم. وفي رواية: أنه كان عذاباً (يبعثه الله على من يشاء) أي من كافر أو عاص كما في قصة آل فرعون وفي قصة أصحاب موسى مع بلعام (وأن الله جعله) بفتح الهمزة على العطف وبكسرها على الاستئناف. وفي رواية: فجعله الله (رحمة للمؤمنين) أي من هذه الأمة. وفي حديث أبي عسيب عند أحمد: فالطاعون شهادة للمؤمنين ورحمة لهم ورجس على الكافر، وهو صريح في أن كون الطاعون رحمة إنما هو خاص بالمسلمين، وإذا وقع بالكفار فإنما هو عذاب عليهم يعجل لهم في الدنيا قبل الآخرة. وأما العاصي من هذه الأمة فهل يكون الطاعون له شهادة أو يختص بالمؤمن الكامل والمراد
ليس من أحد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد)) .
ــ
بالعاصي مرتكب الكبيرة الذي يهجم عليه الطاعون وهو مصر، فإنه يحتمل أن لا يكرم بدرجة الشهادة لشؤم ما كان متلبساً به لقوله تعالى:{أم حسب الذين اجترحوا السيئآت أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} [الجاثيات:21] وفي حديث ابن عمر عند ابن ماجه والبيهقي ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة. ولفظه: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها الإفشاء فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم، وفي إسناده خالد بن يزيد بن أبي مالك، وقد ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما، ووثقه أحمد بن صالح المصري وأبوزرعة الدمشقي. وقال ابن حبان: كان بخطئي كثيراً لكن له شاهد عن ابن عباس في الموطأ بلفظ: ولا فشا الزنا في قوم إلا كثر فيهم الموت- الحديث. قال في الفتح: فيه إنقطاع فدل هذا وغيره مما روى في معناه أن الطاعون قد يقع عقوبة بسبب المعصية، فكيف يكون شهادة؟ نعم يحتمل أنه يحصل له درجة الشهادة لعموم الأحاديث في ذلك، ولا يلزم المساواة بين الناقص والكامل في المنزلة، لأن درجات الشهادة متفاوتة- انتهى ملخصاً من الفتح (ليس) هذه الجملة بيان لقوله: جعله رحمة (من أحد) من زائدة أي ليس أحد يعني من المسلمين. وفي رواية: ليس من عبد أي مسلم (يقع الطاعون) صفة أحد، والراجع محذوف أي يقع في مكان هو فيه أو يقع في بلده (فيمكث) عطف على يقع (في بلده) وفي رواية أحمد في بيته، وفي رواية البخاري في القدر بلفظ: ما من عبد يكون في بلد يكون (أي الطاعون) فيه ويمكث فيه ولا يخرج من البلد أي التي وقع فيها الطاعون (صابراً) أي غير منزعج ولا قلق محتسباً أي طالبا للثواب على صبره، وهما حالان من فاعل يمكث أي يصبر وهو قادر على الخروج متوكلاً على الله طالباً لثوابه لا غير كحفظ ماله أو غرض آخر. وهذا قيد في حصول أجر الشهادة لمن يموت بالطاعون، وهو أن يمكث بالمكان الذي يقع به فلا يخرج منه فراراً، كما ورد النهى عنه صريحاً في الحديث الذي يليه (يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له) أي من الحياة والممات. وهذا قيد آخر وهي جملة حالية تتعلق بالإقامة، فلو مكث وهو قلق أو متندم على عدم الخروج ظاناً أنه لو خرج لما وقع به أصلاً ورأساً وأنه بإقامته يقع به، فهذا لا يحصل له أجر الشهيد ولو مات بالطاعون. هذا الذي يقتضيه مفهوم هذا الحديث كما اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت بالطاعون، ويدخل تحته ثلاث صور من اتصف بذلك فوقع به الطاعون فمات به أو وقع به ولم يمت به أو لم يقع به أصلا ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً، قاله الحافظ. (إلا كان له مثل أجر الشهيد) خبر ليس، والاستثناء مفرغ. ولعل السر في التعبير مع ثبوت التصريح بأن من مات بالطاعون كان شهيداً، أن من لم يمت من هؤلاء بالطاعون كان له مثل أجر الشهيد وإن لم يحصل له درجة الشهادة بعينها،
رواه البخاري.
1562-
(27) وعن أسامة بن زيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، أو على من كان قبلكم،
ــ
وذلك أن من اتصف بكونه شهيداً أعلى درجة ممن وعد بأنه يعطي مثل أجر الشهيد ويكون كمن خرج على نية الجهاد في سبيل الله ليتكون كلمة الله هي العليا فمات بسبب آخر غير القتل، وفضل الله واسع ونية المؤمن أبلغ من عمله (رواه البخاري) في ذكر بني إسرائيل وفي التفسير وفي الطب وفي القدر وأخرجه أيضاً أحمد والبيهقي (ج3:ص376) .
1562-
قوله: (وعن أسامة بن زيد) أي ابن حارثة (الطاعون رجز) بكسر الراء أي عذاب (أرسل على طائفة من بني إسرائيل) قال الطيبي: هم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدا فخالفوا. قال تعالى: {فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء} [الأعراف:162] قال ابن الملك: فأرسل عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعة وعشرون ألفاً من شيوخهم وكبراءهم (أو على من كان قبلكم) قال الحافظ: كذا وقع بالشك، ووقع في رواية عند ابن خزيمة بالجزم بلفظ: فإنه رجز سلط على طائفة من بني إسرائيل، ووقع في رواية أخرى عنده بالجزم أيضاً، لكن قال رجز أصيب به من كان قبلكم، قال: والتنصيص على بني إسرائيل أخص، فإن كان ذلك المراد فكأنه أشار بذلك إلى ما جاء في قصة بلعام، فأخرج الطبري من طريق سليمان التيمي عن سيار أن رجلاً كان يقال له بلعام كان مجاب الدعوة وأن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام فأتاه قومه، فقالوا: ادع الله عليهم قال حتى أو أمر ربي فمنع، فأتوه بهدية فقبلها، وسألوه ثانياً، فقال: حتى أو أمر ربي فلم يرجع إليه بشئ، فقالوا لو كره لنهاك، فدعا عليهم فصار يجري على لسانه ما يدعو به على بني إسرائيل فينقلب على قومه، فلاموه على ذلك، فقال: سأدلكم على ما فيه هلاكهم إلخ. وفيه فوقع في بني إسرائيل الطاعون (أي بسبب تمكين بنت الملك رأس بعض الأسباط من نفسها) فمات منهم سبعون ألفاً في يوم، قال وهذا مرسل جيد وسيار شامي موثق. وذكر ابن إسحاق في المبتدأ: أن بني إسرائيل كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث: إما أن أبتليهم بالقحط أو للعدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام فأخبرهم، فقالوا اختر لنا، فاختار الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفاً. وقيل: مائة ألف، فتضرع داود إلى الله فرفعه، قال: وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله: من كان قبلكم، فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: أمر موسى بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشاً، ثم ليخضب كفه في دمه، ثم
فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض، وأنتم بها، فلا تخرجوا فراراً منه))
ــ
ليضرب به على بابه ففعلوا، فسألهم القبط عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذاباً، وإنما ينجو منه بهذا العلامة، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفاً، فقال فرعون عند ذلك لموسى:{أدع لنا ربك بما عهد عندك، لئن كشفت عنا الرجز} [الآية] ، فدعا فكشفه عنهم، وهذا مرسل جيد الإسناد، وأخرج عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قوله تعالى:{ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} [البقرة:243] قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله: موتوا ثم أحياءهم ليكملوا بقية آجالهم، قال فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيرهم في قصة فرعون وتكرر بعد ذلك لغيرهم- انتهى مختصراً. (فإذا سمعتم به) أي بالطاعون (بأرض) قال الطيبي: الباء الأولى متعلقة بسمعتم على تضمين أخبرتم. وبأرض حال أي واقعاً في أرض- انتهى. ويروي فإذا سمعتم أنه بأرض. قال ابن حجر الهيثمي في فتاواه: المراد بالأرض محل الإقامة وقع به الطاعون، سواء كان بلداً أم قرية أم محلة أم غيرها لا جميع الإقليم. وقال المناوي: قوله: إذا سمعتم بالطاعون بأرض أي إذا بلغكم وقوعه في بلدة أو محلة (فلا تقدموا) بسكون القاف وفتح الدال (عليه) أي لا تدخلوا عليه ليكون أسكن لأنفسكم وأقطع لوساوس الشيطان (وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً) أي لأجل الفرار (منه) أي من الطاعون، فإنه فرار من القدر ومعارضة له، والحديث يدل على حرمة الخروج من أرض وقع بها الطاعون فراراً منه، وكذا الدخول في أرض وقع بها الطاعون، لأن الأصل في النهى التحريم. ويدل عليه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة عند أحمد: الفار منها كالفار من الزحف. وفي الباب أحاديث أخرى ذكر بعضها الهيثمي في مجمع الزوائد (ج2:ص314-315) والحافظ في الفتح: وأشار إلى بعضها الترمذي بقوله: وفي الباب. وقد اختلف العلماء في ذلك. فذهب بعضهم إلى الجواز. قال الحافظ: نقل عياض وغيره جواز الخروج من الأرض التي يقع بها الطاعون (أي لمن قوى توكله وصح يقينه) عن جماعة من الصحابة منهم أبوموسى الأشعري والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين منهم الأسود بن هلال ومسروق. ومنهم من قال: النهى فيه للتنزيه فيكره ولا يحرم، وخالفهم جماعة، فقالوا: يحرم الخروج منها لظاهر النهى الثابت في الأحاديث الماضية. وهذا هو الراجح عند الشافعية وغيرهم، ويؤيده ثبوت الوعيد على ذلك، فأخرج أحمد وابن خزيمة من حديث عائشة مرفوعاً بسند حسن. قلت: يارسول الله! فما الطاعون؟ قال: غدة كغدة البعير، المقيم فيها كالشهيد والفار منها كالفار من الزحف. وله شاهد من حديث جابر مرفوعاً عند أحمد أيضاً وابن خزيمة وسنده صالح للمتابعات- انتهى. وفصل بعضهم في هذه المسألة تفصيلاً جيداً فقال من خرج لقصد الفرار محضاً فهذا يتناوله النهى لا محالة ومن خرج لحاجة متمحضة لا لقصد
............................
ــ
الفرار أصلاً ويتصور ذلك فيمن تهيأ للرحيل من بلد كان بها إلى بلد إقامته مثلاً. ولم يكن الطاعون وقع فاتفق وقوعه في أثناء تجهيزه فهذا لم يقصد الفرار أصلاً فلا يدخل في النهى. والثالث: من عرضت له حاجة فأراد الخروج وانضم لذلك أنه قصدا الراحة من الإقامة بالبلد الذي به الطاعون فهذا محل النزاع. وقال النووي في شرح مسلم: وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلدة الطاعون ومنع الخروج فراراً من ذلك. أما الخروج لعارض فلا بأس. وهذا الذي ذكرنا هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي: هو قول الأكثريين حتى قالت عائشة: الفرار منه كالفرار من الزحف، قال ومنهم من جوز القدوم عليه. والخروج منه فراراً، ثم قال: والصحيح ما قدمناه من النهى عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة- انتهى. وقال الزرقاني المالكي في شرح الموطأ: والجمهور على أنه للتحريم حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب الله عليها إن لم يعف-انتهى. وقال في شرح المواهب اللدنية: وخالفهم الأكثر وقالوا إنه للتحريم، حتى قال ابن خزيمة: إنه من الكبائر التي يعاقب عليها إن لم يعف، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: الطاعون غدة كغدة البعير، المقيم بها كالشهيد، والفار منه كالفار من الزحف. رواه أحمد برجال ثقات. وروى الطبراني وأبونعيم بإسناد حسن مرفوعاً الطاعون شهادة لأمتي، وخز أعداءكم من الجن، غدة كغدة الإبل تخرج في الآباط والمراق، من مات منه مات شهيداً ومن أقام به كان كالمرابط في سبيل الله، ومن فر منه كان كالفار من الزحف- انتهى. وقال الشيخ إسماعيل المهاجر الحنفي في تفسيره روح البيان: والفرار من الطاعون حرام إلى أن قال: وفي الحديث الفار من الطاعون كالفار من الزحف، والصابر فيه كالصابر في الزحف، فهذا الخبر يدل على أن النهى عن الخروج للتحريم، وأنه من الكبائر- انتهى. وقال الشيخ عبد الحق الدهلوي الحنفي في أشعة اللمعات (ج2:ص682) ضابطه دور همين أست كه در آنجا كه هست نبايد رفت، واز آنجا كه باشد نبايد كريخت، واكرجه كريختن در بعض مواضع مثل خانه كه دورى زلزله شده يا آتش كرفته يا نشستن در زير ديواريكه خم شده نزد غلبه ظن بهلاك آمده است أما در باب طاعون جز صبر نيامده وكريختن تجويز نيافته، وقياس اين برآن مواد فاسد است كه آنها از قبيل أسباب عادية أند، واين از أباب وهمى، وبرهر تقدير كريختن أز آنجا جائز نيست؛ وهيج جاوارد نشده وهركه بكريزد عاصي ومرتكب كبيره ومردود است، نسأل الله العافية- انتهى. قلت: وهذا هو الحق عندنا فالخروج من أرض وقع فيها الطاعون فراراً منه حرام، وكذا الدخول فيها لظاهر الأحاديث الصحيحة، وهو الذي حققه وصوبه شيخنا في شرح الترمذي. وقد ألف أيضاً في هذه المسألة رسالة مستقلة في جزئيين متوسطين باللغة الأردية سماها "خير الماعون في منع الفرار من الطاعون" ذكر في الجزء الأول
متفق عليه.
1563-
(28) وعن أنس، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((قال الله سبحانه وتعالى: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه،
ــ
الأحاديث والآثار التي تدل على عدم جواز الفرار من الموضع الذي وقع فيه وباء الطاعون، وأفرز الجزء الثاني بذكر الأجوبة عن دلائل القائلين بالفرار ودفع شبهاتهم وأعذارهم، وهي عديم النظير في بابها فعليك أن تطالعها. هذا وقد ذكر العلماء في النهى عن الخروج حكماً بسطها الحافظ في الفتح (ج23:ص415) والغزالي في الأحياء، وغيرهما في غيرهما، لا يخلوا واحد منها عن نظر. والظاهر أن النهى للتعبد، والله تعالى اعلم. قال العلامة الآلوسي في روح المعاني (ج28:ص98) واختلفوا في علة النهى فقيل: هي أن الطاعون إذا وقع في بلد مثلاً عم جميع من فيه بمداخلة سببه فلا يفيد الفرار منه، بل إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام فتعينت الإقامة لما في الخروج من العبث الذي لا يليق بالعقلاء. واعترض بمنع عمومه إذا وقع في بلد جميع من فيه بمداخلة سببه، ولو سلم فالوباء مثله في أن الشخص الذي في بلده إن كان أجله قد حضر فهو ميت وإن رحل، وإلا فلا وإن أقام مع أنهم جوزوا الفرار منه. وقيل: هي أن الناس لو تواردوا على الخروج لضاعت المرضى العاجزون عن الخروج لفقد من يتعهدهم والموتى لفقد من يجهزهم، وأيضاً في خروج الأقوياء كسر قلوب الضعفاء عن الخروج، وأيضاً إن الخارج يقول: لو لم أخرج لمت، والمقيم يقول: لو خرجت لسلمت، فيقعان في اللو المنهى عنه. واعترض كل ذلك بأنه موجود في الفرار عن الوباء أيضاً وكذا الداء الحادث ظهوره المعروف بين الناس بأبي زوعة الذي أعيا الأطباء علاجه، ولم ينفع فيه التحفظ والعزلة على الوجه المعروف في الطاعون. وقيل: هي أن للميت به وكذا للصابر المحتسب المقيم في محله وإن لم يمت به، أجر شهيد، وفي الفرار إعراض عن الشهادة، وهو محل التشبيه في حديث عائشة عند بعض. واعترض بأنه قد صح أنه صلى الله عليه وسلم مر بحائط مائل فأسرع ولم يمنع أحد من ذلك، وكذا في الفرار من الحريق مع أن الميت بذلك شهيد أيضاً. وذهب بعض العلماء إلى أن النهى تعبدى، وكأنه لما رأى أنه لا تسلم علة له من الطعن قال ذلك، ولهم في ذلك رسائل عديدة فمن أراد استيفاء الكلام فيها فليرجع إليها- انتهى. (متفق عليه) أخرجه البخاري في ذكر بني إسرائيل وفي الطب وفي ترك الحيل، ومسلم في الطب، وأخرجه أيضاً أحمد (ج5:ص201-202-206-207-208-209-210) والترمذي في الجنائز، والبيهقي (ج3:ص376) .
1563-
قوله: (إذا ابتليت عبدي) المؤمن (بحبيبتيه) بالتثنية أي محبوبيه يعني يفقد بصر عينيه، وقيل أي أنزلت البلاء بعينيه حتى يصير أنه لا يرى بهما. قال الحافظ: المراد بالحبيبتين المحبوبتان، لأنهما أحب أعضاء