الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توفي (محمد عيد) هذا تقريبًا عام 1962 م.
خليل الرواف:
خليل ولد في دمشق عام 1895 م، وخاله أحمد عثمان من آل عثمان الشام وليسوا من أهل القصيم.
وسافر معه ابن عم والده محمد بن أحمد الرواف من كبار عقيل أهل بريدة إلى بغداد وهو شاب فاشتغل معه بتجارة الإبل والخيل ثم عاد إلى بريدة مع ابن عمه المذكور.
ومن أعماله أنه سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1935 م مع زوجة له أمريكية كان تعرف عليها في بغداد وعقد زواجه عليها بدمشق.
وبقي في أمريكا 13 سنة ولم يرزق منها بولد، ثم تزوج بامرأة أمريكية أخرى فرزق منها بولد لا يزال ابنه منها موجودًا حتى الآن 1408 هـ إلَّا أنه لا صلة له بوالده الشيخ خليل وكان سماه نوافًا إلَّا أنه اختصم مع أمه فطلقها من عند المحكمة حسب رغبتها وغيرت اسم الابن من (نواف) إلى اسم آخر.
وعمل خليل الرواف على إعادة طبع ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة الإنكليزية لعبد الله يوسف علي، وكذلك (الإسلام) لمحمد علوش بالإنكليزية فدفع الوزير عبد الله بن سليمان قيمتها كلها وأمر خليل الرواف ببيعها بسعر التكلفة وأن تطبع من ريعها كتب إسلامية بمعرفة المذكور وبمعاونة جمعية إسلامية هناك.
ثم أمر الوزير عبد الله بن سليمان بإرسال الكتابين إلى المملكة ووزعت نسخ منهما فيها.
وخليل بن إبراهيم الرواف هذا من المعمرين زارني في بيتي في الرياض يوم الاثنين 26/ 7/ 1408 هـ الموافق 14/ 3/ 1988 م وهو في كامل
إدراكه وسلامة حواسه وعمره حسب التاريخ الميلادي (93) سنة، وبالتاريخ الهجري الذي نعتمد على ذكره هنا (96) سنة، وهو خليل بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن، وعبد الرحمن هذا هو أول من جاء من الرواف إلى بريدة كما سبق، فليس بين خليل هذا وعبد الرحمن إلَّا ثلاثة أجداد مع أن عبد الرحمن كان قد جاء إلى بريدة في عام 1170 هـ كما تقدم.
ولدى خليل الرواف كتب موجهة إليه من الملك عبد العزيز آل سعود والملك سعود والملك فيصل.
وأخبرني خليل الرواف في عام 1408 هـ أنه عاكف على كتابة ذكرياته وما جرى عليه في حياته التي امتدت 96 سنة، ولكنه لم يفرغ من ذلك حتى الآن.
ثم أتم خليل بن إبراهيم الرواف تأليف كتابه المشار إليه بعنوان: "صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث: مذكراتي خلال قرن من الأحداث".
ولم يشرع في تأليفه إلَّا بعد أن قارب المائة سنة وطبع عام 1415 هـ وعمره 99 سنة ولا يزال صافي الذهن، سليم التفكير.
وبعد ذلك بأشهر كتب إهداء إليَّ على طرة نسخة منه وقد وصل عمره مائة سنة وبخط يده مما يدل على صحة حواسه التي أعرفه بها، وهذا نص الإهداء:
"إن الهدايا على مقدار مهديها، بالفخر والاعتزاز أهدي باكورة إنتاجي الأدبي، ومذكراتي خلال قرن من الأحداث لفضيلة الشيخ محمد بن ناصر العبودي، راجيًا له حياة حافلة بالسعادة والإقبال، محوطة برغد العيش ونعومة البال".
إن هذا الإهداء العجيب يقول: إن شخصا عمره مائة سنة يهدي باكورة إنتاجه الأدبي، وكأنه يطمح إلى أن يستمر بالتأليف والإنتاج في المائة الثانية من عمره أمد الله في عمره، وزاده قوة في الجسم والفهم.
وكتابه هذا ثمين جدًّا لما تضمنه من أمور وحوادث ومعلومات لا توجد في غيره، وأمور أخرى مذكورة في غيره ولكنه فصلها وأوضحها، ومن ذلك مما يتعلق بأسرة الرواف:(165 وما بعدها):
وقد عزمت على أن ألخص ما جاء فيه هنا في ذكر أسرة الرواف ولكنني رأيت أن الكتاب معروف وقد طبع وانتشر فلا ضرورة لنقل ذلك هنا، وإنما يمكن من عنده استعداد من الباحثين أن ينقل منه ما لم يذكره غيره من الأشياء، ويشرح ذلك ويوضحه.
ثم رأيت الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله السالم كتب تعريفًا وتقريظًا مطولًا الكتاب خليل الرواف في جريدة الرياض في حلقات وقد أوفاه حقه، وأفاد المطالع بمعلومات كثيرة عنه.
وهي حلقات مفيدة إلَّا أنها طويلة بالنسبة لمثل كتابي هذا لذا رأيت أن أنقل هنا أكثر ما جاء في الحلقة الرابعة منها، لأنها بمثابة الخلاصة لها وقد نشرت في جريدة الرياض الصادرة في يوم السبت 24 جمادى الآخرة 1418 هـ الموافق 25 أكتوبر عام 1997 م - السنة الرابعة والثلاثون.
قال الكاتب عبد العزيز بن عبد الله السالم وهو كاتب معروف وذو مكانة في المجتمع:
بعدما تقدم من وقفات طويلة مع الكاتب والكتاب نقف في نهاية المطاف مع القسم الثالث من الكتاب، وهو أقل الأقسام الثلاثة أهمية من ناحية الحركة والأحداث، فقد عاد المهاجر إلى أرضه كما تعود الطيور المهاجرة إلى أراضيها، مهما قطعت من مسافات بعيدة عن الموطن الأول، وإذا كان وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهو في الخامسة والثلاثين من العمر فقد غادرها عائدا إلى وطنه وقد بلغ الخمسين من عمره، وبعد تلك الرحلة البعيدة
الأثر في حياته، كان عليه أن يتساءل ماذا حقق من رحلته هذه إلى أمريكا وتنقلاته العديدة بين ولاياتها؟
فقد طاف باثنتين وأربعين ولاية - كما ذكر - خلال أربعة أعوام من إقامته هناك، فقد هاجر إلى أمريكا قبل انضمام ولايتي الاسكا وهاواي إلى الاتحاد الفيدرالي الأمريكي، فهو مهاجر قديم عايش جيلًا لعله غاب تحت الأرض، وحين يوازن بين مكاسبه الذاتية وخسائره المادية يجد أنه قد كسب التجربة وخسر المادة.
تلك الغربة وما تبعها من متاعب، وما تخللها من تقلبات قطع خلالها مساحات شاسعة وأجواء متباينة وألوانًا مختلفة من الصخب والهدوء والحركة والركود، وعايش فئات من الناس متعددة الاتجاهات متنوعة الأهواء، وعاد كما ذهب لا يلوي على شيء - كما يقال - حتى ابنه الوحيد لم يظفر به فقد حكمت المحكمة هناك لوالدته بحضانتها له وولايتها عليه.
عندما عاد إلى البلاد كان ينغص فرحته بالعودة فقده لابنه الطفل الذي سوف ينشأ في محضن غير إسلامي وظل فترة زمنية يعاني حرمان مشاعر الأبوة وهو يتساءل عن مصير هذا الابن الذي لم يستطع الاهتداء إلى مكانه رغم كثرة السؤال والإلحاح في الاتصال، فقد تزوجت أمه من عربي مهاجر هو أحمد أبو شادي شاعر معروف، وبعد وفاته تزوجت بأمريكي، وقد بلغ نواف عشر سنوات من عمره حين انتقلت به إلى بريطانيا وكانت قد غيرت اسمه من نواف إلى كيف وأبدلت لقبه في الانتماء إلى أسرة أبيه بأن منحته لقب أسرتها، وهدفها من ذلك أن تنقطع تبعة أبيه له فلا يهتدي إليه مع استمرار المساءلة الدائمة.
وقد انقطعت الصلة بأمه لانتقالها من أمريكا إلى انجلترا وتغيير اسمه واستبدال لقبه، كل هذه عوامل أدت إلى حيرة الوالد تجاه ابنه، ولم تكن
الاتصالات والمواصلات قبل مدة من الزمن على ما هي عليه في وضعنا الحالي من تطور هائل لاسيما في قنوات الاتصالات وما تحقق من اتصال سريع وتقارب كثيف، وللأسباب السالفة في الماضي كان فقده الأداة الاتصال المهمة بأخبار ابنه ولعله ظن أنه لن يلتقي به إن كان لا يزال حيًّا في هذه الدنيا ولو بعد حين، فقد تفرقت بهما السبل، وباعدت بينهما المسافات، ولاشك أن تغيير اسمه بالذات الذي سماه به والده إلى اسم اختارته له والدته مما أدى إلى التمويه على الأب الملتاع لفراق ابنه وإلى إحكام عملية التدليس عليه بحيث يتعذر عثوره عليه إلى جانب انتقاله من أمريكا.
هذه العوامل جميعها ساعدت في عدم لقاء الأب بالابن خمسة وأربعين عامًا، وقد عاش هذا الابن في كنف والدته لا يعرف والده ولا وطنه ولا لغة قومه وانتهى أمريكيا بحسب ما نشأ عليه، وقد جرى تجنيده في الجيش الأمريكي وكان من بين أفراد القوات المسلحة الأمريكية المحاربة في فيتنام التي أمضي بها ست سنوات وعاد بعد الحرب الفيتنامية إلى بلاده وتزوج وأنجب وكانت آثار الاستدلال عليه قد اختفت من أرض الواقع الذي يعيشه والده، لكنه مع كل ذلك لم ييأس بعدما علم أنه جند في فيتنام وفي عملية الاستقصاء في البحث عنه جرى التأكد من حياته بعدما تم استعراض قائمة القتلى والمفقودين في تلك الحرب.
ولما لم يكن اسم كيف الذي هو نواف بينهم فقد أيقن أنه عاد سالمًا إلى أمريكا، لكن ما هي الوسيلة المجدية في العثور عليه؟
وكما أن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام لم يتطرق اليأس إلى نفسه للعثور على ابنه يوسف عندما زعم إخوته أنه أكله الذئب: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} فقد بقي هذا الأب الوفي لذكرى ابنه موقنًا بأنه موجود لكن لا يعلم أين
هو؟ وعلى أولاده أن يبحثوا عنه حتى تم أخيرًا ذلك اللقاء الرائع المؤثر بين النبي يعقوب وابنه يوسف عليهما السلام في مشهد عظيم ذكره القرآن الكريم.
وكذلك الشيخ خليل الذي امتد به العمر فقد ظل خمسًا وأربعين سنة يسأل عن ابنه في مظان وجوده حتى عثر عليه بعد جهد متواصل وزمن طويل بالقياس إلى فراق والد لولده، وكان هذا الفراق حافزا له على العودة إلى أمريكا في عام 1412 هـ/ 1991 م، سعيًا وراء لقاء ابنه لاسيما وهو يرى أن شمس عمره تؤذن بالغياب، ويخشى أن لا يتم له اللقاء به وهو يخطو في نهاية العقد العاشر من عمره.
وبعد رحلة مضنية انتهت بالعثور على عنوان نواف وتعين الاتصال به ويحدثنا عن حيرته في هذا الاتصال هل يكون بالهاتف أو من خلال رسالة يبعث بها إليه لتعريفه بأنه أبوه خشية أن تكون والدته لم تفصح عن الحقيقة، وعند هذا المنحنى في علاقة الأبوة بالبنوة يصاب بالارتباك عندما تقرر الاتصال به، فالرسالة قد تطيل الوقت، والشوق يستعجله للاتصال الهاتفي، وستكون المواجهة مباشرة مع شخص ينتمي إليه ولكنه لا يعرفه فقد فصلته عنه مدة زمنية طويلة، فاعتراه الاضطراب وهو يقرر أن يكلمه هاتفيًا ذلك لأنها المكالمة الأولى مع ابنه البالغ من العمر خمسة وأربعين عامًا، وقد ابتعد عنه طيلة حياته ولا يعرفه.
وبدأت الحيرة تسيطر عليه وكان الدكتور عثمان الرواف ابن أخيه يشد أزره ويقوي معنوياته فجرى الاتصال به والترحيب من جانب الابن وتم اللقاء بين الأب والابن في موقف مؤثر، وعلم من نواف أن والدته لا تزال على قيد الحياة وكانت هي بدورها تظن أنه قد رحل عن هذه الدنيا، ونسيانًا للماضي اتصل من قبله بزوجته السابقة أم ولده كونستانس عبر الهاتف وطلبت منه أن يدعو ابنه لزيارة بلاده وهي التي كانت من قبل تخفيه عنه حتى تحول دون انتقاله إلى بلده.
وهكذا تتغير المواقف بتغير الأحوال، وقد أجرت مجلة (المجلة) لقاءً مطولًا معه ومع ابنه نواف ومع ابن أخيه الدكتور عثمان ونشرت المقابلة تحت عنوان مثير:(رجل من بريدة يعثر على ولده الأمريكي بعد 45 عامًا).
يحسن أن نستعيد في أذهاننا ملامح شخصية هذا الرجل المغامر قبل رحلته إلى أمريكا لتبدو لنا الصورة في إطارها الواضح، ومدى المفارقة الكبيرة بين ما كان من قبل وما حدث من بعد.
فعندما نعود إلى ما قبل بداية هجرته يلوح لنا في سالف الأيام فتى تتدفق في إهابه حيوية الشباب وتتجسد في ذاته توثبات الطموح إلى جانب أنه تتمثل فيه أصالة العربي واستقامة المسلم، انطلق من قلب الجزيرة العربية قبل ما يقارب 64 عامًا نحو بلاد لم يخطر اسمها في ذهنه ولم ترتسم صورتها في مخيلته، تبعد عن بلاده مسافات شاسعة فلم يتهيب اجتياز تلك المسافات، وتفصلها عن بيئته بحار ومحيطات فلم يتردد في عبور تلك المحيطات، فتي تعود ركوب الجمال في الأسفار عبر الصحراء يجد نفسه في طائرة تحلق به في الأجواء لتضعه في أرض تختلف في طبيعتها وتكويناتها وتقاليدها وحتى في توقيتها الزمني، ولم يكن مهيأً لها إلَّا بما يتسلح به من عزيمة لا تعرف التراجع وإرادة لا ينقصها الحزم تحدوه آمال كبيرة وتحفزه تطلعات كبيرة مع العلم بأن الأسفار في ذلك العهد كانت محدودة في إطار ضيق ومقصورة على الإبل التي تقطع الطرق القصيرة في مدة طويلة وبخطوات بطيئة، كان هذا هو الحال بين البلدان العربية المتقاربة الأبعاد فكيف بالقفزة إلى بلاد موغلة في البعد ولدى مجتمع منفتح يختلف كل الاختلاف عن مجتمعنا العربي الإسلامي المحافظ.
ولا تقف هذه القفزة عند هذا الحد من التباين في الطباع والعادات والديانة واللغة إلى جانب اختلاف النظرة في الأوضاع الاجتماعية، بل تمتد
إلى ما عدا ذلك، إلى الجغرافية المكانية فنهارهم ليل عندنا وليلنا نهار عندهم، وفوارق كثيرة يحسها الوافد إلى تلك القارة الجديدة البعيدة، وإحساس فتانا العربي بالوضع المتغير من حوله في المواصلات والاتصالات مما يجعله ترتسم في ذهنه تصورات المستقبل الحياة الحاضرة، وقد تخلى عن ارتباطه بحياته السابقة، وعليه أن يجرب مواهبه وأن يحيا كفرد في مجتمع غربي لا يرى غضاضة في أن يمارس المرء أي عمل يحقق من ورائه دخلًا فرديًا يعود عليه بالفائدة ما دام وفق الضوابط العامة لأنظمة البلاد، لذلك فعندما عاش مدة زمنية تعرف فيها على المجتمع وتكيف مع أجواء البلاد حاول أن يهيئ لنفسه دخلًا يعيش منه فانطلق يبحث عن مصدر هذا الدخل ووجده في مصادر متعددة فجرب أن يقوم بما يوكل إليه من عمل ولو أدى ذلك إلى أن يجمع في ذاته بعض المتناقضات، فانتقل من ممثل في السينما إلى إمام للمسلمين هناك، ومن فارس يستعرض أعمال الفروسية إلى معلم صبيان، ومن معدم لا يملك من حطام الدنيا شيئًا إلى صاحب متجر تعمل فيه سبع فتيات وثامنتهن زوجته.
رجل عشق المغامرات منذ صباه وخاضها متسلحًا بثقته بالله تبارك وتعالى ومعتدًا بنفسه فقد نشأ في أسرة وظيفتها تجارة تستدعي التنقل بين البلدان عبر مسافات متباعدة ووسط أجواء تسودها المخاوف وتحيطها الأخطار، وفي نشأته تلك وممارساته للحل والترحال تكيف مع البيئة الصحراوية وعايش الأحداث التي تمر بها القوافل في المهامه والقفار، وتكونت لديه خبرة بأحوال الصحراء وأوضاع البادية ووسائل المواصلات البدائية المتمثلة في قوافل الجمال في ذلك العهد.
ومن هذه الحياة الرتيبة الهادئة البسيطة انتقل إلى حياة صاخبة حافلة بالحركة والنشاط إلى دنيا جديدة عليه وفيها بدأ حياة مختلفة عما ألفه في سابق عهده، فقد واجه أوضاعا مختلفة عما ألف واعتاد في بداية عمره تعتمد على
وسائل حضارية متطورة، وإذا كان الناس الذين ألفهم وعاش بينهم في الوطن العربي كانت خطواتهم في الحياة رتيبة وتعاملهم معها يسير على وتيرة واحدة ونمط مالوف وقاعدة معروفة وفي نطاق محدود، فإنه يشاهد في مهجره حركة دائبة وتحركًا سريعا حتى يخيل إليه أن الناس يركضون إلى أعمالهم ركضًا يسارعون في استثمار أوقاتهم.
وفي نظرته إلى هذا التباين بين مظهرين للحياة في وطنه وبين قومه وفي وطن آخر وعند قوم آخرين، وجد أنه لابد أن يخوض غمار تجارب قد تكون جديدة عليه وقد تمرس بالجدية في سالف عهده، ولذلك يرى أنه مهيأ لخوض مجالات لم يكن له عهد بها ولا زاولها من قبل، وقد شعر بأهمية إقدامه على الأعمال التي لم يتدرب عليها في سابق عهده ولم تكن ضمن دائرة اختصاصه وذلك عندما انفصل عن زوجته الأمريكية الأولى التي التقى بها في بغداد وتزوجها في دمشق ورحل معها إلى أمريكا ثم انفصل عنها واستقل بحياته مما أوجب عليه أن يبحث عن مجالات كسب المال بجهده، وكانت معاناته كبيرة في مواجهة المد الصاخب للوضع الأمريكي في التعامل مع الوقت وأسلوب أداء العمل، وكانت أمامه ساحة واسعة من الأعمال التي قد تلتقي مع استعداده أو طبيعة حياته أو تدخل ضمن اهتماماته، وقد يكون منها ما يخالف ذلك مما يفرضه عليه واقع التعايش في مجتمع لا يفرق بين نوعيات الأعمال ما دامت تضمن دخلا للفرد ضمن دائرة مجتمع عامل.
وبعد فقد كانت قراءة هذا الكتاب ماتعة ونحن ننتقل مع المؤلف في مغامراته وهو يقدم لنا صورة مواطن سعودي هاجر إلى أمريكا التي كانت تسمى الدنيا الجديدة قبل أكثر من ستين عامًا، ولا أدل على حبه للمغامرة من سفره في أول رحلة طيران تقوم به طائرة من أمريكا إلى أوروبا عبر القطب الشمالي عام 1957 م، وزودته شركة طيران (بان أمريكا) بشهادة هذا العبور
ظلت هواية المغامرة تسري في كيانه، فبعد عودته وكان في زيارة إلى مصر في أوائل عام 1369 هـ وأواخر عام 1949 م أثناء وجوده في فندق سميراميس رأي فتاة مصرية أعجب بها وهي داخلة وانتظر خروجها ولحق بها في سيارة أجرة إلى بيت أهلها، وعاد بعدما عرف مقر سكنها فقد قرر من ساعته الزواج بها إذا هي قبلت.
وذهب عصر اليوم التالي إلى منزلها وقابل شقيقها وتم زواجه منها وكانت آخر نسائه وأنجبت منه ابنتين إحداهما طبيبة والأخرى تعمل في مجال التعليم وظلت معه إلى أن انتقلت إلى رحمة الله، ولا غضاضة في تدوين بعض الملاحظات التي قلما يسلم منها كتاب لاسيما ما يتعلق بالطباعة وهذه الملاحظات على النحو التالي.
الملاحظة الأولى: إذا كان المؤلف قد تعب في رحلاته ومغامراته التي حكاها لنا فقد أتعب قارئه باستطراداته الكثيرة التي تتطلب من القارئ أن يجتازها ليصل إلى لب الموضوع فهو يحشو معلومات متنوعة بين تاريخية واجتماعية وسكانية واقتصادية وإعلامية عن بعض الموضوعات في مستهل كثير من الفصول، وبذلك تضخم الكتاب وطالت رحلة القارئ مع المؤلف.
الثانية: لو اقتصر العنوان على الجزء الثاني منه وهو: (مذكراتي خلال قرن من الزمان) لكان كافيًا في الدلالة على مضمون الجزء الأول من العنوان وهو (صفحات مطوية من تاريخنا الحديث) وهو الاسم الذي أستسهله القراء والكتاب عند الإشارة إليه والكتابة عنه.
الثالثة: أن الكتاب صدر دون فهارس للمواضيع في نهايته كما هو المعهود في إصدار الكتب ونشرها ليسهل الرجوع إلى فصوله وهي ملاحظة جديرة بالاهتمام.
الرابعة: كثرة الأخطاء المطبعية ولم تشمل الصفحة التي نوهت عن بعض الأخطاء فيه نهاية الكتاب كل الأغلاط الواردة فيه فقد فاتها الكثير مما يستدعي إعادة النظر في تصحيح الكتاب عند إعداده لطبعة أخرى.
ولعل ما يحمد للشيخ خليل الرواف الذي أكمل القرن من عمره أو كاد، أنه استطاع بجهده الذاتي وتمتعه بكل حواسه أن يعد ذكرياته للنشر وقد بلغ من العمر ما بلغ ولعله استفاد من زوجته الأولى بحكم أنها صحفية كانت تُعني بتسجيل الحوادث ومتابعة الوقائع التي تلفت نظرها خلال رحلاتها المتتابعة، والذي يقرأ الكتاب تشده الأحداث التي دونها المؤلف عن واقع جيل مضى ومعالم حياة اختفت. انتهى كلامه.
وكاتب أديب آخر يتحدث عن خليل الرواف:
كتب الأستاذ الدكتور عبد الرحمن الشبيلي وكيل وزارة الإعلام سابقًا مقالا إضافيا في مجلة (المجلة) العدد 139 في 15/ 10/ 2005 م، عن كتاب الأستاذ خليل الرواف، قال:
أشهر المهاجرين السعوديين الأقدمين إلى أمريكا:
رجل العقيلات وشاهد القرن: خليل إبراهيم الرواف:
ما زلت منذ أن كنت مديرًا عامًا للتلفزيون السعودي في السبعينات الميلادية، اعتقد أن ظاهرة تجارة (العقيلات التي اشتهر بها النجديون من أبناء شبه الجزيرة العربية، والتي يؤرخ لها البعض بقرنين من الزمان (1750 - 1950 م) هي مادة ثقافية ثرية، يمكن أن يستل منها الكثير من الروايات والمسلسلات السينمائية والتلفزيونية الشيقة والجاذبة، المشابهة لو خدمت ماليًا وأتقنت نصوصًا، كما ينسجه الأمريكان من قصص الكاوبوي (رعاة البقر) والهنود الحمر.
قد صدر خلال العقدين الماضيين مجموعة قليلة من الكتب التي توثق لهذه الظاهرة، وتسجل بعض أسماء رجالاتها وقصصها، كان من أبرزها كتب إبراهيم المسلم الثلاثة: العقيلات ورحلتي مع العقيلات والعقيلات، أسفارهم ورحلاتهم، كتاب: نجديون وراء الحدود لمؤلفيه عبد العزيز عبد الغني إبراهيم ويعقوب الرشيد دار الساقي، 1991 م، وقد حاول المسلم تحويل إحدى قصصها إلى عمل تلفزيوني ولكن محاولته لم تر النور.
إن هذا المقال يتحدث عن رجل من أبناء الأمة العربية غير المعروفين، أدرك تجارة العقيلات هذه وأسهم فيها، ثم هاجر إلى أمريكا، وتزوج منها مرتين وتجول في ولاياتها، وقام فيها بأدوار تجارية وسياسية وإعلامية ودعوية واستحق بجدارة أن يسمى أحد شهود القرن العشرين، الذي ما كان اسمه أن يغيب عن هذه السلسلة، فإذا بجريدة (الشرق الأوسط) تستحث الكاتب أن بدرج اسمه ليجد، أي الكاتب، أن بغيته من أهم المصادر عنه هو كتاب من منشورات الشركة السعودية للأبحاث والنشر، الجهة الراعية لهذه الجريدة، وأعني بذلك مذكرات الرواف نفسه، صفحات مطوية من تاريخنا العربي الحديث (جدة 1994 م، شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر).
فالمقال يصلح أن يكون أيضًا عرضًا للكتاب نفسه، الذي يتكون من (520) صفحة وقدم له د. سهيل زكار رئيس قسم التاريخ بجامعة دمشق وابن أخي الرواف: د. عثمان ياسين الرواف، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود (وعضو مجلس الشورى حاليًا) اللذان أشرفا وغيرهما على مراجعته وتنقيحه. ويضم بين دفتيه (17) فصلًا، في جزءين رئيسين خصص الأول منهما الحياة الرواف في جزيرة العرب (وبلاد العراق والشام) ولتجارته المبكرة مع العقيلات، وخصص الثاني لأحداث هجرته إلى أمريكا وأتبعهما - بإيجاز -
بملحق عن حياته بعد العودة من هجرته راويا فيه قصة عثوره الممتعة - بعد أن تجاوز الخامسة والتسعين - على ابنه الوحيد نواف الذي غاب عنه مدة (45) عامًا في أمريكا (1947 م إلى 1991 م) إذ كانت والدته تحجبه في صغره عن والده خشية تهريبه إلى المملكة العربية السعودية في إثر طلاقهما، وقد قامت بتغييبه وتغيير اسمه.
إن مذكرات الرواف هذه التي بدأ في تدوينها منذ صغره، ثم أمضى ثلاثة أعوام في تحريرها النهائي، هي في الحقيقة وثيقة تاريخية مهمة، لأنها مسجلة بعين الراصد المعايش واقع الجزيرة العربية من منتصفها إلى شمالها، خلال فترة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عاشها والتي تصدت لها ذكريات القلة من المثقفين والمؤرخين والسياسيين، لكن المرء يتوقف قليلًا أمام ادعائه أنه أول مهاجر سعودي إلى أمريكا، حيث من المعروف أن عبد الله الخليفة، وهو عقيلاتي من بريدة أيضًا كان قد سبقه بالهجرة منذ مطلع القرن العشرين، وقد روي الشيخ حمد الجاسر قصته في أحد أعداد مجلة اليمامة.
سيرته:
ولد الرواف قبيل مطلع القرن الميلادي المنصرم (حدود عام 1898 م) في دمشق، في أسرة الرواف المعروفة في بريدة بمنطقة القصيم، وكان أساس الأسرة من مدينة العيينة لكنها نزحت متفرقة بين الرياض وعرقة المجاورة لها والقصيم، كما هاجر جزء من الأسرة إلى بغداد والزبير، واتجه أفراد منها إلى الهند، وكان أبوه (المتوفى عام 1927 م) قد تزوج من أسرة شامية من حي الميدان الشهير بالمقيمين النجديين، حيث كان يوجد فيه عدد من أفراد أسرة الكحيمي والحجيلان والنجيدي والمشيقح والطويان والشيل والقاضي والمحيسن والصالح والجميل والرواف.
ثم يتحدث الرواف، الذي يشير تقريبًا لا تحديدًا إلى سنة ولادته، إلى ظروف انقطاعه عن الدراسة في مدرسة التوفيق بدمشق، التي كانت تطبق منهجًا تعليميًا تركيًا بسبب نفوره من أسلوب مدرسيها.
وتنقسم حياة الرواف بعد مرحلة الطفولة التي عاشها في دمشق قبل الحرب العالمية الأولى، إلى ثلاث فترات:
فترة ريعان الشباب: التي قضاها في تجارة العقيلات والتجوال في جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق، وقد امتدت من حدود عام 1917 م وحتى عام 1935 م، واقترن في نهايتها بزوجته الأولى (الأمريكية) التي شجعته على الهجرة معها إلى أمريكا.
فترة هجرته إلى أمريكا: وقد امتدت خمسة عشر عامًا (1935 م حتى 1949 م) والتي تزوج فيها ثانية من أمريكية أيضًا، ورزق منها بابنه الوحيد (نواف).
فترة ما بعد العودة: والتي دامت حتى وفاته عام 2002 م، وتزوج فيها زوجته الثالثة (مصرية) والدة ابنتيه:(آسيا الطبيبة) وأميمة (تخصص علوم).
وكان له أخوان توفيا هما: (محمد عيد) الذي يكبره بعدة سنوات، وياسين الذي يكبره بعامين وقد توليا مناصب دبلوماسية رفيعة، وخمس أخوات بقي منهن أخته عائشة التي تصغره بأربعة أعوام، وهي تقيم حاليًا في المملكة العربية السعودية.
ذكرياته:
تصف ذكريات الرواف - التي تفتقر مع الأسف إلى تحديد التواريخ مع أنه كان من السهل عليه أو على مراجعي الكتاب اضافتها، وعلى القارئ استنتاجها، تصف حال الصراع بين العثمانيين والبريطانيين في شبه جزيرة العرب،
ومحاولة كل طرف منهما استمالة الأمراء المحليين، كما تروي طرفًا من علاقة والده إبراهيم المحمد الرواف بالقائد التركي (جمال باشا) في سوريا، وقيامه - أي والده - بتموين الجيش التركي باحتياجاته من الإبل والتجهيزات.
ثم تعرج الذكريات على وصف دمشق ومنازل أهله وأخواله فيها، وعلى السعوديين المهاجرين إليها، وبعض الأسر التي استقرت في بلاد الشام ومصر، حيث طاب لها المقام بعد أن جاء أفرادها إليها متاجرين بالإبل (تجارة العقيلات الرئيسية) كما يذكر قصة هروب والده من الشام خشية اضطراره لخيانة صديقه نوري الشعلان، والمشاركة في اعتقاله من قبل الأتراك، حيث ينتهي المطاف بوالده لاجئًا في حائل عند ابن رشيد.
لقد خصص الرواف جزءًا من ذكرياته لوصف تجارة العقيلات هذه التي اشتهر بها النجديون، والتي تعتمد بالدرجة الأولى على شراء الإبل من عرب نجد وبادية العراق في مواسم ترخص فيها إبان مواسم الجفاف، ثم يبيعونها في بلاد الشام بعد أن تتحسن أحوال الماشية في مواسم الربيع، وكان العديد من الأثرياء في القصيم (يضعونهم) الأموال بأسلوب (المضاربة) ليتمكن العقيلات من هذه المتاجرة، فإن ربحت تجارتهم تقاسموا الربح بينهم، لكن الخسارة سواء كانت ناتجة عن البيع والشراء أو عن السرقات والغزوات أو عن الفقد والضياع، لا تطالهم ولا تلحق بمسؤوليتهم، وذلك بحكم الثقة المطلقة المتبادلة.
كان البعض من تلك الرحلات يستغرق شهورا، وقد يستغرق سنوات إذا ما طابت الإقامة لبعضهم، ولذلك فإن الرواف يروي قصصًا لأشخاص لم يلتقوا بأولادهم إلَّا بعد أن تجاوزوا العشرين، وقد كانوا خلفوهم وهم في بطون أمهاتهم.
ثم يتحدث الرواف بالتفصيل عن قصة أول رحلة له مع عمه محمد الأحمد الرواف من الشام إلى بريدة مرورا بالعراق، واصفًا مشاعره لرؤية مسقط رأس
أسرته، ومعرجًا على الكثير من الأحداث التي مرت بنجد في تلك الآونة (العقد الثاني من القرن الماضي)، وهي الفترة التي سبقت انتهاء حكم آل الرشيد في حائل والأشراف في الحجاز، كما يسرد أسماء العشرات من القبائل ومن الشخصيات السياسية والاجتماعية التي عاشت تلك الفترة، ويقدم وصفًا للمدن الرئيسية التي مر بها في رحلاته التي لم تنقطع طيلة العقود الأولى من حياته، مع الاستشهاد بين فينة والأخرى ببعض الأشعار التي نظمت حولها.
ثم يستمر في سرد ذكرياته عن أول زيارة له على الجمال بالطبع، للمدينة المنورة أيام كان الشريف علي بن الحسين أميرًا عليها، وحيث كانت سكة حديد الحجاز تصلها بتركيا عبر دمشق، قبل أن تطالها أيادي التخريب فيصف الحياة فيها، وينوه بازدهارها الاقتصادي ثمرة لتشغيل هذا الخط، الذي دام ما يقرب من ثماني سنوات، وقد غادرها الرواف مستخدمًا القطار عائدًا إلى دمشق عن طريق الأردن قبل أن يحكمها الشريف عبد الله بن الحسين، وقد مر في طريقه بمدائن صالح (الحجر) وأقام في ضيافة صديق والده، وتاجر الخيول سليمان الرميح الذي صادفه هناك.
ويتجول الرواف في ذكرياته من إقليم إلى آخر ليروي التطورات السياسية التي تحل فيه، فهو مثلا وهو المعاصر الشاهد على أحداثها، يتحدث عن الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، والانتداب البريطاني على العراق والأردن، والاحتلال البريطاني لمصر والسودان، كما يتحدث عن ظروف إعلان الشريف فيصل بن الحسين نفسه ملكًا على سوريا، وقيام دولة هاشمية في شرق الأردن، وهكذا يأتي على ذكر معركة (ميسلون) التي شارك فيها عدد من النجديين المقيمين إلى جانب إخوانهم السوريين في محاولة لصد الاحتلال الفرنسي عن بلادهم.
ثم يخصص الرواف الفصل الخامس من ذكرياته للحديث عن بداية الحكم السعودي في الحجاز (1924 م) والجهود التي بذلها الملك عبد العزيز لتكوين نواة الحكومة الحديثة ومؤسساتها الدستورية والإدارية وأسماء بعض الشخصيات السياسية المبكرة التي تولت الأمور في تلك الفترة (عبد الله الدملوجي، يوسف ياسين، الطيب الهزازي، عبد الله السليمان الحمدان (ابن سليمان) فؤاد حمزة، رشدي ملحس، حافظ وهبة، وخالد القرقني وغيرهم) من المستشارين السعوديين والعرب الذين اعتمدت عليهم الدولة إبان فترة تأسيسها، ثم يحكي قصة تعيين أخيه ياسين (والد د. عثمان الرواف) قنصلًا عامًا في سوريا ولبنان إبان فترة الاحتلال الفرنسي، وتفكير الملك عبد العزيز عند لقائه به في تعيين شخصية المقال الشيخ خليل الرواف كبيرًا على العسكر النظامي، وذلك بحكم خبرته السابقة مع الحكومة التركية في تجييش الجند وتمويله وتوفير الأمن له، ثم مغادرته المفاجئة عائدا إلى دمشق هروبًا من هذا التكليف المحتمل كما يقول.
ويكشف الرواف في الفصل الخامس من ذكرياته بعض دواخل نفسيته القلقة، فهو يكرر بأنه ليس بتاجر ولا بموظف حكومي، وإنما هو شخصية مغامرة، كتب عليه الترحال، بحثًا عن موقع في الحياة، وأصيب بالاكتئاب والعزلة مرتين، لكن العرض الذي يواصله لسرد قصة حياته مستشهدًا بالأحداث، والمواقع التي مر بها، يجدد على القارئ ما تختزنه ذاكرته من معلومات عن تلك الحوادث والمواقع، فهو ينقل بأمانة واقع تلك البلدان فضلًا عن الجزيرة العربية، في تلك الحقبة الزمنية، سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا بما يجعل القارئ يستمتع ويستفيد ويؤكد معلوماته.
لكن ما أن يدخل الرواف في الفصل السادس حتى يبدأ في التركيز على مدينة معان (جنوب الأردن) التي غدت في العشرينات محطة القوافل النجدية لجلب
والجمال والأغنام، والانطلاق بها إلى مصر وفلسطين أو يأتي تجارها، بالعكس - لشرائها، لقد بدأت هذه المدينة تزدهر بسبب ظروف الثورة السورية ضد الفرنسيين حيث دفعت تجار العقيلات إلى تحويل تجارتهم إليها، وكان خط حديد الحجاز ينتهي بها بعد تعطيل الجزء الحجازي منه إبان الحرب العالمية الأولى، وقد أصبح الرواف تدريجيًا وكيلًا في معان التجار النجديين يهتم بشؤونهم ويدفع الرسوم نيابة عنهم، ويبيع ماشيتهم ويبتاع لهم بأثمانها ما يرغبون من بضاعة.
ويستمر الرواف، وهو يرصد رحلاته المتكررة إلى الحجاز ونجد دون الإفصاح صراحة عن دوافعه، لكنه سرعان ما يدركه الحنين إلى دمشق التي ما انفك في ذكرياته يتغنى بالطفولة التي قضاها فيها، يرتع في مروجها ورياضها ويشيد بأمجادها.
ومن خلال تخصيصه للفصل الثامن للحديث عن جهوده التي بذلها، مدة ثلاث سنوات في بغداد دون أن يحالفه الحظ، لمحاولة استعادة وقف الرواف الذي كان جده محمد العبد الله الرواف قد أوقفه أثناء إقامته في العراق، فإنه يستعرض جانبًا من التاريخ السياسي الحديث للعراق في ظل الحكم الهاشمي في العشرينات، ثم يأتي على ذكر العديد من الشخصيات، من بينها الشيخ محمد العبد الله البسام، أبرز التجار النجديين المقيمين بين نجد والعراق والشام، وإبراهيم المعمر الذي عين وزيرًا سعوديًا مفوضًا في بغداد (1933 م) وأخوه محمد عبد الرواف الذي خلف المعمر في السفارة السعودية في العراق (1937 م).
هجرته إلى أمريكا:
ويمضي الرواف في ذكرياته بدءا من الفصل التاسع، وعلى مدى ثمانية فصول، للحديث عن هجرته إلى أمريكا، إثر زواجه الأول (سنة 1933 م وعمره 35 عامًا) من السيدة فرانسيس، وهي كاتبة صحفية أمريكية تكبره بسبع سنوات،
ولها بنت (كارولين) من زواج سابق، وقد تعرف عليها أثناء مكوثه في بغداد، وتجولا معًا مستقلًا الطائرة لأول مرة في حياته في مصر وسوريا ولبنان واليونان وإيطاليا قبل مغادرتهما إلى نيويورك التي وصلاها بتاريخ 3/ 10/ 1935 م، ليصبح من أقدم المهاجرين السعوديين إلى أمريكا.
وقد خصص الفصل العاشر للحديث عن انطباعاته المبهورة بمدينة نيويورك، وصف حياتها المثيرة للانتباه، وقدم كثيرًا من المعلومات الإحصائية عن وضع هذه المدينة في الثلاثينيات، ثم أشار إلى بعض الأحداث التي جرت في أمريكا إبان تلك الفترة مما يتصل بالعالم العربي، ولم يلبث الزوجان بعد أن قضيا أسبوعين منذ وصولهما الأراضي الأمريكية حتى شجعته زوجته على التجوال معًا في الولايات الشرقية، فزارا تسعًا منها في رحلة دامت ثلاثة أشهر، كتب في الفصل الحادي عشر وصفًا دقيقًا لأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وخصص حيزًا كبيرًا منه لتاريخ الهنود الحمر، ولرواية الظلم الذي حل بهم على يد الرجل الأبيض المهاجر وعقد مقارنة بين أوضاعهم وبين حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال.
لكنه، وقد اتبع في تسلسل فصول ذكرياته تتابع الأحداث زمنيًا، يختم هذا الفصل فجأة بالحوار الذي جرى بينه وبين قرينته في إحدى الليالي التي قضياها في نهاية الجولة في أريزونا، والذي أدى إلى انفصالهما بعد ما تبين له، حسبما قال، أنها كانت تتكئ في علاقته الزوجية بها على يسرة حالتها المادية، ولم تتردد في تحذيره من الفراق منها كي لا يتيه في لجة أمريكا بعد أن أصبح في عمقها، فقرر الانفصال ثأرًا لكرامته، بعد أن استمر زواجهما ثلاثة سنوات.
لكنه لم يته كما توقعت زوجته - إذ قرر الاستقرار - في لوس أنجلوس، فحالفه الحظ منذ أول يوم وصوله إليها، حيث عمل في أعمال مؤقتة مختلفة، ليس أقلها مستشارًا للملابس العربية لدى أحد منتجي هوليود، وممثلًا في فيلم
للممثل الأميركي (جون وين)، وليته حينذاك قدم ثقافة العقيلات علها تكون موضوعًا ضمن اهتمامات مدينة السينما الأمريكية هذه أثناء وجوده هناك.
صحيح أنه ذاق من الغربة في كاليفورنيا على مدى عامين حلوها ومرها، عسرها ويسرها وفوت العديد من الفرص التي كان من أبسطها دراسته هندسة الطيران، لكنه يروي في الفصل الثاني عشر (لوس انجلس ولقاء في هوليوود العديد من المفاجآت والنوادر التي واجهته في الساحل الغربي الأمريكي، كما يدون الفصل الذي بعده قصة عودته إلى نيويورك، ومن ثم انتقاله إلى فلوريدا ثم إلى أيوا للإشراف على مدرسة أقامتها الجالية الإسلامية، وينتهي من التطواف برواية تجربته معلقًا سياسيًا في إذاعة صوت أمريكا في بداية الحرب العالمية الثانية.
ثم يستمر الرواف في سرد ما مر به من أحداث، معرجًا بين حين وآخر على أحداث العالم إبان الحرب العالمية الثانية، ومشيرًا إلى الزيارات التي قام بها إلى نيويورك ولي العهد الأمير (الملك سعود (1947 م) والزيارتين اللتين قام بهما الأمير (الملك فيصل) إلى نيويورك وسان فرانسيسكو في الأربعينيات، يرافقه إخوانه الأمراء (الملك) خالد والأمير (الملك فهد) والأمير نواف، ثم الزيارات الأخرى التي قام بها أمراء سعوديون آخرون كان من بينهم الأمير طلال الذي توثقت علاقة الرواف به فيما بعد عملًا ورفقة وصداقة، وقد شهد الرواف كل هذه الزيارات وكان له إسهامات في إنجاحها، كما تطرق إلى الجهود التجارية والتعليمية والإعلامية والدعوية التي قام بها في أمريكا في تلك الفترة.
وكان من أبرز ما رواه في الفصول الأخيرة من الكتاب قصة التحاقه بالجندية في الجيش الأمريكي، وقصة اقترانه بزوجته الأميركية الثانية (1945 م) والتي أنجبت ابنه الوحيد نواف، وقصة طلاقهما بعد ثلاث سنوات، والظروف التي أدت إلى غيبة ابنه نواف وتغير اسمه من نواف إلى كيف،
وهي الغيبة التي دامت (45) عامًا كما سلف وكليف عثر عليه (عام 1991 م) عندما قام وابن أخيه د. عثمان الرواف برحلة اقتفى أثره فيها بمساعدة مكتب تحريات خاص، بعدما كاد يفقد الأمل من العثور عليه، خاصة وأن الابن كان ممن جند للحرب في فيتنام وتزوج من هناك، ثم يروي قصة زواج طليقته أم نواف من الأديب الشاعر المصري المعروف أحمد زكي أبو شادي.
وقد كان عام 1949 م هو ختام هجرته إلى أميركا والتي دامت (15) عامًا والعودة بعدها إلى موطنه الأصلي وقد بلغ (50) عامًا من العمر أي بعد مضي نصف المدة التي عاشها.
ولم تطل به العزوبية القلقة كثيرًا، إذ اقترن في العام نفسه (1949 م) بسيدة مصرية رآها في القاهرة وقد رزق منها بابنتين ثم توفيت عام 1994 م.
خاتمة:
إن ذكريات الرواف المطبوعة مخزون ثري بمعلومات ثرة من شخصيات معاصرة له مثل: الأمير تركي (الأول) بن عبد العزيز والشيخ محمد بهجت البيطار وسليمان العنبر والشاعر محمد العوني وشاعر الحويطات عودة بن تايه والشيخ فوزان السابق والتاجر حمد المديفر والشيخ محمد المغيربي فتيح، والسيدة جيرتر ودبيل والشاعر بدوي الجبل (محمد سليمان الأحمد) وعبد الرحمن الطبيشي، وكانت مجلة (المجلة) قد أجرت معه حوارًا (ومع ابنه المعثور عليه عام 1991 م)، ووضعت صورتهما على غلافها في حينه.
الكتاب ذو حجم كبير كما سلف، وقد كتبت حروفه ببنط صغير، مما يضاعف من مساحة الذكريات التي تدعو تفاصيلها للعجب من قدرة مؤلفها على الرصد وسبك المعلومات وإدخال كثير من الاستشهادات ذات العلاقة فهو مرة، مع تكرار مقبول، يتناول في سرده سيرة إحدى الشخصيات أو مدينة من
المدن، وقد يورد أحيانًا قصيدة يتصل موضوعها بما ذكر، مما يزيد في متعة القراءة ومضاعفة الفائدة منه، ويجعله من أنفس كتب الذكريات العربية، التي يعلو فيها الجانب الموضوعي على الجانب الشخصي.
ولا شك أن ذكرياته هذه تشكل أحد المصادر المساندة فيما يتصل بحالة الأقاليم التي ركزت عليها، كوضع بلاد الشام والجوف وحائل والقصيم ونحوها، والآن وبعد مضي ثلاثة أعوام على رحيل الرواف بعد أن عاش قرنًا وأربعة أعوام، فإن المأمول بإلحاح أن تقوم الشركة السعودية للأبحاث والنشر، بإعادة طبع الكتاب بسبب نفاده، ففي سلاسته وموضوعاته وصوره التاريخية الفريدة النادرة، وفي بساطة عرضه للأحداث، متعة لا تماثلها إلَّا القلة من كتب الذكريات الأخرى المجانسة، على أن المرجو أيضًا أن يتم تدارك بعض الأخطاء اللغوية والمطبعية التي فاتت على مراجعي طبعته الأولى، وأن يضاف إلى الكتاب كشاف عام للأماكن والأعلام الواردة فيه مع التفريق بين الأزمنة الهجرية والميلادية فيه، حتى يستفيد الباحث والقارئ منه بشكل أفضل.
انتهى كلام الدكتور عبد الرحمن الشبيلي.
كتيب آخر:
وجدت أنا - مؤلف هذا الكتاب - في مكتبتي كتيبًا صغيرًا لخليل الرواف عنوانه: (شرح وجيز لقواعد الدين الإسلامي) وضع الشيخ خليل الرواف، نيويورك 1363 هـ، 1244 م.
طبع في مطبعة طوبيا التجارية.
ويتألف من قسمين أحدهما باللغة العربية فيه 20 صفحة والثاني بالإنكليزية فيه 27 صفحة فجميع صفحاته 47 صفحة.
قال الشيخ خليل الرواف في مقدمته:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله العلي القدير، والصلاة والسلام على نبيه النذير البشير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فضلًا عن أن الدين الإسلامي يعد من الأديان الثلاثة التي تدين بها أغلبية العالم المتمدين، وفضلًا عن أن عدد معتنقيه ينوف عن الثلاثمائة مليون من البشر منتشرين في أنحاء الأرض، فقد لاحظت منذ قدومي إلى الولايات المتحدة أن تعاليم هذا الدين مجهولة من أغلبية الشعب الأمريكي.
وكنت أينما حللت توجه إليَّ الكثير من الأسئلة عن تعاليم هذا الدين العظيم ومبادئه، وخاصة لما انتشرت الجنود الأمريكية في الأقطار الإسلامية، فأصبح للشعب الأمريكي مصالح تجارية وأدبية فيها، ولما وجدت من الناس ميلًا ملموسًا للوقوف على تعاليم هذا الدين، أخذت على عاتقي وضع هذا الشرح الأسس قواعد الإسلام بطريقة سهلة وجيزة باللغتين العربية والإنجليزية تحقيقًا لهذه الغاية.
أما تشريع الدين الإسلامي الذي يلامس كل عصر ومكان، ونظمة العمرانية، ومقاصده الإنسانية، وأدبه العالي، من الحث على الفضيلة والتمسك بالأخلاق السامية، فسيكون ذلك موضع كتاب آخر سيصدر عن قريب إن شاء الله.
وقبل الختام، لا أرى بدا من توجيه أصدق آيات الشكر إلى إخواني وزملائي الذين كان لعطفهم وتشجيعهم إياي على القيام بهذه الخطوة الأولى، خير عون على إخراجه.
والله ولي التوفيق ..
خليل الرواف
وبعد المقدمة قال: