الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَسُئِلَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ عَمَّنْ حَلَفَ بِالصَّدَقَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَأَجَابَ يُؤَدِّي دَيْنَهُ وَمَهْرَ امْرَأَتِهِ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ تَصَدَّقَ بِثُلُثِهِ، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ قُلْتُ: هَذَا فِي الْحُقُوقِ الْمُعَيَّنَةِ، فَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقَ الذِّمَّةِ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَفِيهِ خِلَافٌ، انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) وَإِذَا وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الثُّلُثِ فَتَارَةً لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَتَارَةً يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَمَنْ جَعَلَ مَالَهُ هَدْيًا أَوْ صَدَقَةً أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ، وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ إنْ جَعَلَهُ لِمَسَاكِينَ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ، وَإِنْ جَعَلَهُ لِمُعَيَّنِينَ، فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ، وَإِنْ جَعَلَهُ لِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قِيلَ: يُقْضَى عَلَيْهِ، وَقِيلَ: لَا يُقْضَى عَلَيْهِ انْتَهَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ الْهِبَةِ: وَإِنْ قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ، وَفِي مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قَوْلَانِ، انْتَهَى. وَقَالَ فِي بَابِ الْعِتْقِ وَوَجَبَ بِالنَّذْرِ وَلَمْ يُقْضَ إلَّا بِبَتٍّ مُعَيَّنٍ، انْتَهَى. .
وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْهِبَاتِ: وَمَنْ قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ، أَوْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فِي يَمِينٍ فَحَنِثَ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ يَمِينٍ بَتْلًا فَلْيُقْضَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ الرَّجُلُ بِعَيْنِهِ، وَلَوْ قَالَ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَى صَدَقَةٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَآمُرْهُ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ ثُلُثٍ مِنْ عَيْنٍ وَعَرْضٍ وَدَيْنٍ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي أُمِّ وَلَدِهِ وَمُدَبَّرَتِهِ، وَأَمَّا الْمُكَاتَبُونَ فَيُخْرِجُ ثُلُثَهُ قِيمَةَ كِتَابَتِهِمْ، فَإِنْ رَقُّوا يَوْمًا مَا نُظِرَ إلَى قِيمَةِ رِقَابِهِمْ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ كِتَابَتِهِمْ يَوْمَ أَخْرَجَ ذَلِكَ فَلْيُخْرِجْ ثُلُثَ الْفَضْلِ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ ثُلُثَ مَالِهِ حَتَّى ضَاعَ مَالُهُ كُلُّهُ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَرَّطَ أَوْ لَمْ يُفَرِّطْ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ ذَلِكَ فِي يَمِينٍ فَحَنِثَ فَلَمْ يُخْرِجْ ثُلُثَهُ حَتَّى تَلِفَ جُلُّ مَالِهِ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا إخْرَاجُ ثُلُثِ مَا بَقِيَ فِي يَدَيْهِ، انْتَهَى.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ مَسْأَلَةِ الدَّارِ وَحَيْثُ قَالُوا: يُؤْمَرُ وَلَا يُجْبَرُ، لَيْسَ لِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ أَثِمَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِخْرَاجِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْبَاجِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ جَعْلِ مَالِهِ صَدَقَةً مِنْ إخْرَاجِ ثُلُثِهِ إنْ كَانَ لِمُعَيَّنٍ أُجْبِرَ عَلَيْهِ وَلِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فِي جَبْرِهِ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ مُحْتَجًّا بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ طَلَبَ مُعَيَّنٍ وَيَلْزَمُهُ فِي الزَّكَاةِ.
(قُلْتُ) لَهَا طَالِبٌ مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْإِمَامُ، انْتَهَى. ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الدَّارِ الْمَذْكُورَةَ عَنْ كِتَابِ الْهِبَاتِ وَلَمْ يَذْكُرْ نَصَّ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي بَعْدَهَا مَعَ أَنَّهُ صَرِيحٌ فِي مَسْأَلَةِ الْبَاجِيِّ، وَالْعَجَبُ مِنْ الْبَاجِيِّ حَيْثُ لَمْ يَعْزُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ الْجَبْرِ لِلْمُدَوِّنَةِ، وَإِنَّمَا عَزَاهُ لِأَشْهَبَ، بَلْ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ مُوَافِقٌ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ، وَقَدْ قَالَ سَنَدٌ فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَجِّ: إنَّ عَادَتَهُ إذَا رَوَى مَا لَا يَرْتَضِيهِ أَنْ يُبَيِّنَ مُخَالَفَتَهُ لَهُ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ مَا يُخْرِجُ ثُلُثَهُ وَمَا لَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَصِّ الْمُدَوَّنَةِ.
[فُرُوعٌ نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَكَانَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ]
(فُرُوعٌ الْأَوَّلُ) قَالَ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: وَلَوْ قَالَ كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ: لَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ إخْرَاجُ جَمِيعِ مَالِهِ، قَالَ: وَيُتْرَكُ لَهُ كَمَا يُتْرَكُ لِمَنْ فَلَّسَ مَا يَعِيشُ بِهِ هُوَ وَأَهْلُهُ الْأَيَّامَ ابْنُ الْمَوَّازِ كَالشَّهْرِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، انْتَهَى كَلَامُ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ عَنْ النَّوَادِرِ وَعَنْ صَاحِبِ النُّكَتِ، وَانْظُرْ هَلْ يُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا وَكَانَ ذَلِكَ جَمِيعَ مَالِهِ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّانِي) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَا يَفِيدُهُ أَوْ يَكْسِبُهُ أَبَدًا فَحَنِثَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ بِاتِّفَاقِ الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا إنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَفِيدُهُ أَبَدًا فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثِ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَفِيدُهُ إلَى أَجَلِ كَذَا فَيَلْزَمُهُ إخْرَاجُ ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَاخْتُلِفَ إذَا حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَا يَفِيدُهُ أَوْ يَكْتَسِبُهُ إلَى مُدَّةٍ مَا أَوْ فِي بَلْدَةٍ مَا فَحَنِثَ، عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَصْبَغَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَحَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ إخْرَاجُ جَمِيعِ مَا يَفِيدُهُ ابْنُ رُشْدٍ وَهُوَ الْقِيَاسُ، انْتَهَى.
[قَالَ لِرَجُلٍ كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ صَدَقَةٌ إنْ فَعَلْتَ كَذَا فَحَنِثَ]
(الثَّالِثُ) قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ
وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: كُلُّ مَالٍ أَمْلِكُهُ إلَى كَذَا مِنْ الْأَجَلِ صَدَقَةٌ إنْ فَعَلْتَ كَذَا فَحَنِثَ، فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ ثُلُثِ مَالِهِ السَّاعَةَ وَجَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ، انْتَهَى.
ص (إلَّا أَنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِيَ)
ش: سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ مِنْ سَبَبِهِ أَوْ مِنْ أَمْرٍ مِنْ اللَّهِ دُونَ تَفْرِيطٍ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَتَخَيَّرَهُ، وَظَاهِرُهُ كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ الْحِنْثِ أَوْ قَبْلَهُ، فَأَمَّا قَبْلَ الْحِنْثِ فَالْمَشْهُورُ مَا قَالَهُ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا بَعْدَ الْحِنْثِ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَضْمَنُ إذَا أَنْفَقَهُ أَوْ ذَهَبَ مِنْهُ كَزَكَاةٍ فَرَّطَ فِيهَا حَتَّى ذَهَبَ الْمَالُ، وَقَالَ أَشْهَبُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَهُ بَعْدَ الْحِنْثِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ إذَا فَرَّطَ فِي إخْرَاجِ الثُّلُثِ حَتَّى ذَهَبَ الْمَالُ ضَمِنَ، وَفِي الْوَاضِحَةِ مَنْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ مَالِهِ فَحَنِثَ، ثُمَّ ذَهَبَ مَالُهُ بِاسْتِنْفَاقٍ، فَذَلِكَ دَيْنٌ عَلَيْهِ، وَإِنْ ذَهَبَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ، فَلَا يَضْمَنُ، وَلَا يَضُرُّهُ تَفْرِيطٌ حَتَّى أَصَابَهُ ذَلِكَ.
ص (وَهُوَ الْجِهَادُ وَالرِّبَاطُ بِمَحَلٍّ خِيفَ) ش قَالَ فِي كِتَابِ النُّذُورِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ إذَا جَعَلَ مَالَهُ أَوْ غَيْرَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَذَلِكَ الْجِهَادُ وَالرِّبَاطُ مِنْ السَّوَاحِلِ وَالثُّغُورِ، وَلَيْسَ جُدَّةُ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّمَا كَانَ الْخَوْفُ فِيهَا مَرَّةً، انْتَهَى. وَقَالَ فِي كِتَابِ الْحَبْسِ: وَمَنْ حَبَسَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَرَسًا أَوْ مَتَاعًا، فَذَلِكَ فِي الْغَزْوِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ فِي مَوَاحِيزِ الرِّبَاطِ كَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَنَحْوِهَا، وَأَمَرَ مَالِكٌ فِي مَالٍ جُعِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَنْ يُفَرَّقَ فِي السَّوَاحِلِ مِنْ الشَّامِ وَمِصْرَ وَلَمْ يَرَ جُدَّةَ مِنْ ذَلِكَ، قِيلَ لَهُ: قَدْ نَزَلَ بِهَا الْعَدُوُّ، قَالَ: كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا خَفِيفًا وَسَأَلَهُ قَوْمٌ أَيَّامَ كَانَ مِنْ دَهْلِك مَا كَانَ، وَقَدْ تَجَهَّزُوا يُرِيدُونَ الْغَزْوَ إلَى عَسْقَلَانَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّة وَبَعْضِ السَّوَاحِلِ، وَاسْتَشَارُوهُ أَنْ يَنْصَرِفُوا إلَى جُدَّةَ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُمْ: الْحَقُوا بِالسَّوَاحِلِ، انْتَهَى. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ ذِكْرِهِ كَلَامَ مَالِكٍ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ حَالُهَا الْيَوْمَ كَحَالِهَا فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّغْرَ فِي الِاصْطِلَاحِ مَوْضُوعٌ لِلْمَكَانِ الْمَخُوفِ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ فَكَمْ مِنْ رِبَاطٍ فِي الزَّمَانِ الْمُتَقَدِّمِ زَالَ عَنْهُ ذَلِكَ الْوَصْفُ فِي زَمَانِنَا وَبِالْعَكْسِ، انْتَهَى. وَأَصْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَزَادَ: فَيَجِبُ أَنْ لَا يَحْكُمَ عَلَى مَوْضِعٍ مَا أَبَدًا بِأَنَّهُ ثَغْرٌ كَمَا يَعْتَقِدُهُ بَعْضُ جَهَلَةِ زَمَانِنَا، انْتَهَى. .
وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَالْبَاجِيُّ إذَا ارْتَفَعَ الْخَوْفُ مِنْ الثَّغْرِ لِقُوَّةِ الْإِسْلَامِ بِهِ أَوْ بُعْدِهِ عَنْ الْعَدُوِّ زَالَ حُكْمُ الرِّبَاطِ عَنْهُ، وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِيمَنْ جَعَلَ شَيْئًا فِي السَّبِيلِ لَا يَجْعَلُهُ بِجُدَّةِ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ الَّذِي كَانَ بِهَا قَدْ ذَهَبَ الشَّيْخُ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ رَوَى إذَا نَزَلَ الْعَدُوُّ بِمَوْضِعٍ مَرَّةً فَهُوَ رِبَاطٌ أَرْبَعِينَ سَنَةً، انْتَهَى.
وَالْمَوَاحِيزُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ النَّوَاحِي جَمْعُ مَاحُوزٍ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ: وَلَا بَأْسَ بِالطَّوَى مِنْ مَاحُوزٍ إلَى مَاحُوزٍ أَنْ يَقُولَ لِصَاحِبِهِ خُذْ بَعْثِي وَآخُذُ بَعْثَكَ، قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قَوْلُهُ: مَاحُوزٍ إلَى مَاحُوزٍ أَيْ مِنْ نَاحِيَةٍ إلَى نَاحِيَةٍ، قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ وَالطَّوِيُّ الْمُبَادَلَةُ، انْتَهَى.
وَجُدَّةُ هِيَ الْآنَ سَاحِلُ مَكَّةَ الْأَعْظَمُ، وَعُثْمَانُ رضي الله عنه أَوَّلُ مَنْ جَعَلَهَا سَاحِلًا بَعْدَ أَنْ شَاوَرَ النَّاسَ فِي ذَلِكَ لَمَّا سُئِلَ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ الشُّعْبِيَّةُ سَاحِلَ مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، قَالَ الْقَاضِي تَقِيُّ الدِّينِ فِي تَارِيخِهِ عَنْ الْفَاكِهِيِّ بِسَنَدِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«مَكَّةُ رِبَاطٌ وَجُدَّةُ جِهَادٌ» وَعَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ يَكُونَ فَضْلُ رِبَاطِ جُدَّةَ عَلَى سَائِرِ الْمَرَابِطِ كَفَضْلِ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبِلَادِ، وَعَنْ ضَوْءِ بْنِ فَخْرٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ عَبَّادِ بْنِ كَثِيرٍ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَقُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَنَا فِي أَفْضَلِ الْمَجَالِسِ وَأَشْرَفِهَا، قَالَ: وَأَيْنَ أَنْتَ عَنْ جُدَّةَ الصَّلَاةُ فِيهَا بِسَبْعَةَ عَشْرَ أَلْفَ أَلْفِ صَلَاةٍ، وَالدِّرْهَمُ فِيهَا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَأَعْمَالُهَا بِقَدْرِ ذَلِكَ، يُغْفَرُ لِلنَّاظِرِ مَدَّ بَصَرِهِ، قَالَ: قُلْتُ: رَحِمَكَ اللَّهُ مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ، قَالَ: مِمَّا يَلِي الْبَحْرَ، وَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: جَاءَنَا فَرْقَدٌ السِّنْجِيُّ بِجُدَّةِ، فَقَالَ: إنِّي رَجُلٌ أَقْرَأُ هَذِهِ الْكُتُبَ، وَإِنِّي لَأَجِدُ
فِيهَا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل مِنْ كُتُبِهِ جُدَّةُ أَوْ جَدِيدَةُ يَكُونُ بِهَا قَتْلَى وَشُهَدَاءُ لَا شَهِيدَ يَوْمئِذٍ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَفْضَلُ مِنْهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ: إنَّ الْحَبَشَةَ جَاءَتْ جُدَّةَ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ فِي مَصْدَرِهَا فَوَقَعُوا بِأَهْلِ جُدَّةَ فَخَرَجَ النَّاسُ مِنْ مَكَّةَ إلَى جُدَّةَ وَأَمِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ إبْرَاهِيمَ، فَخَرَجَ النَّاسُ غُزَاةً فِي الْبَحْرِ، وَاسْتُعْمِلَ عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ الْمَذْكُورُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيُّ وَإِبْرَاهِيمُ جَدُّ عَبْدِ اللَّهِ هَذَا هُوَ أَخُو السَّفَّاحِ وَعَبْدُ اللَّهِ هُوَ وَلِيُّ مَكَّةَ لِلرَّشِيدِ بْنِ الْمَهْدِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَسَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْخَبَرِ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ، انْتَهَى.
فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ النُّزُولَ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ صَارَتْ جُدَّةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ رِبَاطًا لِخَوْفِ نُزُولِ الْعَدُوِّ بِهَا خُصُوصًا فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ الشِّتَاءِ وَأَوَائِلِ فَصْلِ الرَّبِيعِ عِنْدَ وُصُولِ مَرَاكِبِ الْهِنْدِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ - خَذَلَهُمْ اللَّهُ - تَوَصَّلُوا إلَى بِلَادِ الْهِنْدِ فِي أَوَائِلِ هَذَا الْقَرْنِ وَأَوَاخِرِ الَّذِي قَبْلَهُ، ثُمَّ لَمْ يَزَالُوا يَسْتَوْلُونَ عَلَيْهِ حَتَّى اسْتَوْلَوْا عَلَى بِلَادٍ كَثِيرَةٍ مِنْهُ، ثُمَّ إنَّهُمْ خَذَلَهُمْ اللَّهُ قَصَدُوا إلَى جَدَّة فِي سَنَةِ تِسْعَةَ عَشْرَ وَتِسْعِمِائَةٍ وَوَصَلُوا إلَى سَاحِلٍ يُسَمَّى كَمَرَان مِنْ سَوَاحِلِ الْيَمَنِ بِالْقُرْبِ مِنْ جُدَّةَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَنَزَلَ النَّاسُ إلَى جُدَّةَ، ثُمَّ إنَّهُمْ خَذَلَهُمْ اللَّهُ رَجَعُوا مِنْ كَمَرَان بَعْدَ أَنْ نَزَلُوا فِيهَا وَبَنَوْا بِهَا حِصْنًا لِوَخَمٍ أَرْسَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ جَاءُوا فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ وَنَزَلُوا بِسَاحِلِ جُدَّةَ فِي ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ قِطْعَةً بَيْنَ غُرَابٍ وَبُرْشَةٍ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي عَشِيَّةِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ سَادِسَ عَشْرَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، أَوْ خَامِسَ عِشْرِينِهِ، وَحَصَلَ لِلنَّاسِ وَجَلٌ عَظِيمٌ وَأَيْقَنُوا بِالْأَخْذِ، وَنَزَلَ النَّاسُ إلَى جِدَّةَ وَأَتَوْا إلَيْهَا مِنْ الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ وَغَيْرِهَا، لَكِنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ لَمْ يُصَلُّوا إلَّا بَعْدَ أَنْ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ، وَكَانَ اجْتَمَعَ بِجُدَّةِ قَبْلَ وُصُولِهِمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ؛ لِأَنَّ النَّاسَ سَمِعُوا بِهِمْ قَبْلَ وُصُولِهِمْ بِمُدَّةٍ وَحَصَّنَ النَّاسُ جُدَّةَ بِالْمَدَافِعِ
ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْقَى فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ وَحَبَسَهُمْ عَنْ النُّزُولِ إلَى الْبَرِّ بِمَا حَبَسَ بِهِ الْفِيلَ فَلَمْ يَنْزِلُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا وَأَقَامُوا نَحْوَ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ إنَّهُمْ رَجَعُوا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ فَتَلَا النَّاسُ هَذِهِ الْآيَةَ كَأَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} [الأحزاب: 25] ثُمَّ إنَّهُمْ تَشَتَّتُوا وَتَفَرَّقُوا وَأَهْلَكَهُمْ اللَّهُ وَأَدْرَكَهُمْ الْأَمِيرُ سَلْمَانُ أَمِيرُ جُدَّةَ وَغَنِمَ مِنْهُمْ غُرَابًا وَأَخَذَهُ وَأَسَرَ مَنْ فِيهِ، وَاتَّفَقَ عِنْدَ رُجُوعِهِمْ مِنْ جُدَّةَ أَنْ تَأَخَّرَ مِنْهُمْ غُرَابٌ فَأَرَادَ الْأَمِيرُ سَلْمَانُ إدْرَاكَهُ فَنَزَلَ إلَيْهِ فَلَمَّا قَرُبَ مِنْهُ رَجَعَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ نَحْوُ عَشْرَةِ أَغْرِبَةٍ، فَقَصَدَهُمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَوْفَ أَنْ يَظْفَرُوا بِهِ، فَقَدَّرَ أَنَّهُمْ أَطْلَقُوا عَلَى الْكَفَرَةِ مِدْفَعًا فَرَجَعَ عَلَيْهِمْ وَأَحْرَقَ شِرَاعَهُمْ وَأَحْرَقَ بَعْضَهُمْ رَأَيْتُ مِنْهُمْ نَحْوَ الثَّلَاثَةِ مُحْرَقِينَ، فَلَمَّا رَأَى الْأَمِيرُ ذَلِكَ رَجَعَ بِسُرْعَةٍ إلَى جُدَّةَ فَلَمْ يُدْرِكُوهُ، وَشَنَقَ الَّذِي أَطْلَقَ الْمِدْفَعَ، فَإِنَّهُ يُقَالُ: إنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ عَمْدًا؛ لِأَنَّهُ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَيُقَالُ إنَّ إسْلَامَهُ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَآهُمْ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ قُرْبِ الْبَرِّ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَزَلُوا إلَى الْبَرِّ فَخَرَجُوا إلَيْهِمْ وَسَارُوا إلَى الْقُرْبِ مِنْهُمْ، فَلَمْ يَنْزِلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَخْذُلَهُمْ وَيَكُفَّ شَرَّهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ آمِينَ وَدَهْلَكُ الْمَذْكُورَةُ قَالَ عِيَاضٌ: بِفَتْحِ الدَّالِ اسْمُ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ السُّودَانِ وَبِهِ سُمِّيَ الْبَلَدُ، وَهُوَ جَزِيرَةُ سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ جِهَةِ الْيَمِينِ، قَالَ وَتِلْكَ النَّاحِيَةُ أَقْصَى تِهَامَةِ الْيَمَنِ، قَالَ عِيَاضٌ: دَهْلَكٌ أَقْدَمُ مِنْ الزَّمَنِ الَّذِي تَكَلَّمَ فِيهِ مَالِكٌ، انْتَهَى.
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ مَا هُوَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، ثُمَّ فِي سَنَةِ سِتٍّ وَعِشْرِينَ أَتَوْا إلَى قُرْبِ جُدَّةَ وَرَجَعُوا مَخْذُولِينَ، ثُمَّ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ أُشِيعَ أَنَّهُمْ وَاصِلُونَ إلَى جُدَّةَ، وَتَتَابَعَ الْخَبَرُ بِذَلِكَ إلَى رَابِعِ جُمَادَى الْأَخِيرَةِ، فَجَاءَ الْخَبَرُ بِأَنَّهُ مَرَّ بَعْضُ الْجُلَّابِ عَلَى مَوَاضِعَ قَرِيبَةٍ مِنْ جُدَّةَ وَسَمِعَ مَدَافِعَ كَثِيرَةً فِيهِ فَمَا شَكَّ النَّاسُ أَنَّهُمْ أَعْدَاءُ اللَّهِ الْكَفَرَةُ وَأَنَّهُمْ وَاصِلُونَ فِي الْقُرْبِ، فَبَادَرَ النَّاسُ إلَى