الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَيْءٌ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ انْتَهَى.
ص (ثُمَّ أُوجِرَ لِلضَّرُورَةِ فَقَطْ غَيْرُ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ، وَإِنْ امْرَأَةً)
ش: لَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ ثُمَّ أُوجِرَ لِلضَّرُورَةِ فَقَطْ مِنْ تَمَامِ مَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ إذَا عَيَّنَ الْمَيِّتُ شَخْصًا يَحُجُّ عَنْهُ، وَلَمْ يُسَمِّ مَا يُعْطِي، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَرْضَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهِ زِيدَ عَلَيْهَا قَدْرُ ثُلُثِهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ تَرَبَّصَ بِهِ قَلِيلًا لَعَلَّهُ يَرْضَى، فَإِنْ لَمْ يَرْضَ، فَإِنَّهُ يُسْتَأْجَرُ لِلْمَيِّتِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ إنْ كَانَ صَرُورَةً، وَأَمَّا إنْ كَانَ غَيْرَ صَرُورَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَحُجُّ عَنْهُ وَيَرْجِعُ الْمَالُ مِيرَاثًا، وَقَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ وَنَصُّ الْمُدَوَّنَةِ: وَلَوْ كَانَ صَرُورَةً فَسَمَّى رَجُلًا بِعَيْنِهِ يَحُجُّ فَأَبَى ذَلِكَ الرَّجُلُ فَلْيَحُجَّ عَنْهُ غَيْرُهُ بِخِلَافِ الْمُتَطَوِّعِ الَّذِي قَدْ حَجَّ إذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ تَطَوُّعًا هَذَا إنْ أَبَى الرَّجُلُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجَعَتْ مِيرَاثًا انْتَهَى.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: بَعْدَ أَنْ يُزَادَ مِثْلُ ثُلُثِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ انْتَهَى.
وَنَصُّ كَلَامِ التَّوْضِيحِ: وَلَوْ قَالَ: أَحِجُّوا فُلَانًا عَنِّي فَأَبَى فُلَانٌ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ زِيدَ مِثْلُ ثُلُثِهَا، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ إلَّا بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهَا لَمْ يُزَدْ عَلَى ذَلِكَ، وَاسْتُؤْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ غَيْرُهُ بَعْدَ الِاسْتِينَاءِ، وَلَمْ يَرْجِعْ ذَلِكَ إلَى الْوَرَثَةِ إنْ كَانَتْ الْحَجَّةُ فَرِيضَةً بِاتِّفَاقٍ أَوْ نَافِلَةً عَلَى قَوْلٍ غَيْرِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ خِلَافَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيهَا قَالَهُ فِي الْبَيَانِ انْتَهَى كَلَامُ التَّوْضِيحِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: غَيْرِ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ فَلَيْسَ خَاصًّا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي مَسْأَلَةَ مَنْ عَيَّنَ غَيْرَ وَارِثٍ وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ عَنْ الْمَيِّتِ يَكُونُ غَيْرَ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ إلَّا إنْ كَانَ الْمَيِّتُ صَرُورَةً، وَلَا يَحُجُّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ وَأَمَّا غَيْرُ الصَّرُورَةِ فَيَحُجُّ عَنْهُ الْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ نَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ، وَنَحْوُهُ فِي أَبِي الْحَسَن الصَّغِيرِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: مَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ وَكَانَ صَرُورَةً فَلَا يَحُجُّ عَنْهُ عَبْدٌ، وَلَا صَبِيٌّ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ فِي ذَلِكَ الْمُوصِي قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ: يَدْفَعُ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمَا، وَإِنْ أَوْصَى لَهُمَا أَمَّا إنْ ظَنَّ الْوَصِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ، وَقَدْ اجْتَهَدَ فَلَا يَضْمَنُ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَمَنْ حَجَّ ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى.
زَادَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَغِلٌ فَغَايَةُ شَرْطِهِ التَّمْيِيزُ وَالْإِسْلَامُ انْتَهَى.
فَانْظُرْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ التَّمْيِيزِ وَكَأَنَّهُ لِلْخِلَافِ الَّذِي فِي صِحَّةِ حَجِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ أُنْفِذَ ذَلِكَ وَيَحُجُّ عَنْهُ مَنْ قَدْ حَجَّ أَحَبُّ إلَيَّ، وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ مَنْ لَمْ يَحُجَّ أَجْزَأَ وَتَحُجُّ الْمَرْأَةُ عَنْ الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ عَنْ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ أَوْ مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ؛ إذْ لَا حَجَّ عَلَيْهِمْ، وَيَضْمَنُ الدَّافِعُ إلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَظُنَّ أَنَّ الْعَبْدَ حُرٌّ، وَقَدْ اجْتَهَدَ، وَلَمْ يَعْلَمْ، فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يَزُولُ عَنْهُ الضَّمَانُ بِجَهْلِهِ انْتَهَى.
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: قَوْلُهُ: وَمَنْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ يَعْنِي حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَيَحُجُّ عَنْهُ مَنْ قَدْ حَجَّ أَحَبُّ إلَيَّ وَقَوْلُهُ: وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ يَعْنِي حَجَّةَ الْفَرِيضَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: يَحُجُّ عَنْهُ مَنْ قَدْ حَجَّ أَحَبُّ إلَيَّ وَقَوْلُهُ: وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ انْتَهَى.
[فَرْعٌ عَيَّنَ الْمَيِّتُ لِلْحَجِّ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا]
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَّةِ، وَإِذَا عَيَّنَ الْمَيِّتُ لِلْحَجِّ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أُنْفِذَ ذَلِكَ عَنْهُ حَسْبَمَا أَوْصَى بِهِ إنْ أَذِنَ لِلْعَبْدِ سَيِّدُهُ وَلِلصَّبِيِّ أَبُوهُ أَوْ وَلِيُّهُ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمَا رَجَعَتْ وَصِيَّةُ الْعَبْدِ مِيرَاثًا وَاسْتُؤْنِيَ بِالصَّبِيِّ مِلْكُ نَفْسِهِ، فَإِنْ حَجَّ، وَإِلَّا رَجَعَتْ مِيرَاثًا هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَ مَنْ لَا حَجَّ لَهُ فَكَأَنَّهُ قَصَدَ التَّطَوُّعَ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُتَوَفَّى قَدْ حَجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ لِفُلَانٍ حُرٍّ بَالِغٍ، فَإِنَّهُ إنْ أَبَى يَرْجِعُ مِيرَاثًا انْتَهَى.
وَفِي النَّوَادِرِ خِلَافُ هَذَا وَنَصَّهُ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِنْ أَوْصَى، وَهُوَ صَرُورَةٌ أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ صَبِيٌّ دَفَعَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِمَا مَكَانَهُمَا، وَلَا يُنْتَظَرُ عِتْقُ الْعَبْدِ وَكِبَرُ الصَّبِيِّ قَالَ أَشْهَبُ وَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ يُوصِي أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ عَبْدٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ فَلْيَنْفُذْ ذَلِكَ لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الصَّبِيِّ مَضَرَّةٌ، فَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ وَصِيُّهُ أَوْ سَيِّدُ الْعَبْدِ تَرَبَّصَ ذَلِكَ حَتَّى يُؤَيِّسَ مِنْ عِتْقِ الْعَبْدِ وَبُلُوغِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ عَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَأَبَيَا رَجَعَ
مِيرَاثًا انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ الْمُتَيْطِيُّ هُوَ فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي الْوَصَايَا إلَّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُسْتَأْنَى عِتْقُهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَا إذَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ لَكِنْ نَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ عَنْ ابْنِ يُونُسَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ فُقَهَائِهِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَأْذَنْ السَّيِّدُ لَا يُسْتَأْنَى عِتْقُ الْعَبْدِ كَمَا يُسْتَأْنَى بُلُوغُ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْعَبْدِ يُوصِي أَنْ يُشْتَرَى فَيُعْتَقَ هُنَا يُنْتَظَرُ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَقَالَ أَشْهَبُ، وَذَكَرَ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اسْتِينَاءِ الْعَبْدِ حَتَّى يُؤَيِّسَ مِنْ عِتْقِهِ ابْنُ يُونُسَ، وَهَذَا صَوَابٌ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يُنْتَظَرُ لِحُرْمَةِ الْعِتْقِ كَذَلِكَ حُرْمَةُ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ مَا قَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ؛ لِأَنَّ لِبُلُوغِ الصَّبِيِّ حَدًّا، وَلَا حَدَّ لِعِتْقِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: رُبَّمَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَيْضًا سَفِيهًا، وَقَوْلُ أَشْهَبَ: حَتَّى يُؤَيِّسَ مِنْ عِتْقِ الْعَبْدِ وَبُلُوغِ الصَّبِيِّ، أَمَّا عِتْقُ الْعَبْدِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا بُلُوغُ الصَّبِيِّ فَكَيْفَ يُؤَيِّسُ مِنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي النَّوَادِرِ: وَمَنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَأُنْفِذَ ذَلِكَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَقَبَتُهُ، فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْحُرِّيَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ، وَلَا عَلَى الْأَجِيرِ وَمَا لَمْ يَفُتْ مِنْ ذَلِكَ رُدَّ انْتَهَى.
ص (وَلَمْ يَضْمَنْ وَصِيٌّ دَفَعَ لَهُمَا مُجْتَهِدًا)
ش: مَفْهُومُهُ: أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِمَا غَيْرَ مُجْتَهِدٍ ضَمِنَ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَلَزِمَهُ الْحَجُّ بِنَفْسِهِ)
ش: هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ أَمَّا إنْ ظَهَرَتْ قَرِينَةٌ فِي التَّعْيِينِ أَوْ عَدَمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُصَارُ إلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا مَحِلُّ الْخِلَافِ وَقِيَاسُ الْإِجَارَةِ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّعْيِينِ انْتَهَى.
وَفِي الْجَلَّابِ: وَمَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَحُجَّ عَنْ غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ مَنْ يَسْتَأْجِرُ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ: إنْ شَرَطَ عَلَيْهِ الْفِعْلَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَقْدِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ، وَكَانَ مَرْغُوبًا فِيهِ لَعِلْمه وَصَلَاحِهِ تَعَيَّنَ، وَإِلَّا لَمْ يَتَعَيَّنْ انْتَهَى.
وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَفِي تَعْلِيقِ الْفِعْلِ بِذِمَّةِ الْأَجِيرِ قَوْلَانِ انْتَهَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (لَا الْإِشْهَادِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ)
ش: قَالَ سَنَدٌ إنْ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرْطٌ أَوْ عُرْفٌ عُمِلَ بِهِ، وَإِنْ انْتَفَيَا، فَإِنْ قَبَضَ الْأُجْرَةَ فَهُوَ أَمِينٌ عَلَى مَا يَفْعَلُ، وَلَا تُسْتَرَدُّ مِنْهُ الْإِجَارَةُ حَتَّى يَثْبُتَ خِيَانَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْأُجْرَةَ فَلَا شَيْءَ لَهُ يَثْبُتُ أَنَّهُ وَفَّى، وَلَا يُصَدَّقُ إنْ اُتُّهِمَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَقَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِيمَنْ يَأْخُذُهُ فِي حَجَّةٍ) ش يَعْنِي أَنَّ وَارِثَ الْأَجِيرِ يَقُومُ مَقَامَهُ إذَا مَاتَ أَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مَضْمُونَةً فِي ذِمَّةِ الْأَجِيرِ كَمَا قَالَ فِي قَوْلِ الْمُسْتَأْجَرِ: مَنْ يَأْخُذُ كَذَا فِي حَجَّةٍ قَالَ فِي الطِّرَازِ فِي أَوَّلِ بَابِ النِّيَابَةِ: لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى مَوْتِ الْأَجِيرِ فَلَوْ كَانَ الْحَجُّ مَضْمُونًا، وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَجُّهُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَ الْمَالَ عَلَى حَجَّةٍ مَضْمُونَةٍ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: مَنْ يَأْخُذُ كَذَا فِي حَجَّةٍ؟ أَوْ مَنْ يَضْمَنُ لِي حَجَّةً بِكَذَا؟ وَلَمْ يُعَيِّنْ لِفِعْلِهَا أَحَدًا فَهَذَا إنْ مَاتَ، وَلَمْ يُحْرِمْ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِهِ الْأُجْرَةَ وَتَوْفِيَةِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْكِرَاءِ الْمَضْمُونِ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ
وَمَنْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ عَيْنًا أَوْ عَرَضًا أَوْ جَارِيَةً عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ عَنْ فُلَانٍ فَمَاتَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَجُّ فَذَلِكَ فِي مَالِهِ حَجَّةٌ لَازِمَةٌ تَبْلُغُ مَا بَلَغَتْ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سِلْعَةٍ مِنْ السِّلَعِ، وَقَالَهُ أَصْبَغُ إلَّا أَنَّ الْوَارِثَ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَيَكُونُ فِي مَالِهِ كَمَا فِي الْكِرَاءِ، فَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يُحْرِمَ بِذَلِكَ إنْ لَمْ تَفُتْ السَّنَةُ الْمُعَيَّنَةُ، وَإِنْ فَاتَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ إلَّا أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُشْتَرَطِ لِلْإِحْرَامِ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْمِيقَاتِ الْمُسْتَأْجَرِ، وَلَا يَجْتَرِئُ بِمَا فَعَلَ الْمَيِّتُ، وَلَا يَبْنِي عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ كَانَتْ مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَضْمُونَةِ الْمُعَيَّنَةِ الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ بَاقٍ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَحُجَّ أَوْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ، وَإِنْ فَاتَ وَقْتُ الْوُقُوفِ فُسِخَ الْعَقْدُ وَرَدَّ بَاقِيَ الْأُجْرَةِ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَإِذَا أَرَادَ الْوَارِثُ مِنْ قَابِلٍ وَرَضِيَ الْمُسْتَأْجَرُ جَازَ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجَرُ الْفَسْخَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَفْسَخَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَهُ حَجٌّ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ سَنَةً بِعَيْنِهَا، وَقَالَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ: لَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِتَأْخِيرِ الْحَجِّ عَنْهُ انْتَهَى.
فَاَلَّذِي قَالَ إنَّهُ الْقِيَاسُ هُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَوَّلًا أَعْنِي قَوْلَهُ: إنْ لَمْ تَفُتْ السَّنَةُ فِي السَّنَةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنْ فَاتَتْ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ الَّذِي لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَنَقَلَ الْقَرَافِيُّ كَلَامَ صَاحِبِ الطِّرَازِ مُخْتَصَرًا، وَنَقَلَهُ ابْنُ غَازِيٍّ عَنْهُ فَلِذَا ذَكَرْتُ كَلَامَ الطِّرَازِ مِنْ أَصْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ مَنْ حَجَّ عَنْهُ، وَلَهُ أَجْرُ النَّفَقَةِ وَالدُّعَاءِ)
ش قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي شَرْحِ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَقَالَ يَتَطَوَّعُ عَنْهُ بِغَيْرِ هَذَا يُهْدِي عَنْهُ أَوْ يَتَصَدَّقُ أَوْ يُعْتِقُ قَالَ: لِأَنَّ ثَوَابَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِلُ إلَى الْمَيِّتِ، وَثَوَابُ الْحَجِّ هُوَ لِلْحَاجِّ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ بَرَكَةُ الدُّعَاءِ، وَثَوَابُ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْمُبَاشَرَةِ بِمَا يَصْرِفُ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ انْتَهَى.
وَلَهُ نَحْوُ ذَلِكَ فِي مَنَاسِكِهِ، وَقَالَ فِيهَا أَيْضًا بَعْدَهُ: وَتَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ بِالْحَجِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالشَّاذُّ لَا تَنْفُذُ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ فَهَلْ يَكُونُ الْحَجُّ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ؟ وَعَلَيْهِ نَزَلَتْ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ لَا يَحُجُّ عَنْهُ صَرُورَةً، وَلَا مَنْ فِيهِ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ، فَاعْتِبَارُ الْمُبَاشَرَةِ لِلْحَجِّ يَدُلُّ أَنَّهُ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ، وَقِيلَ: لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ أَجْرُ النَّفَقَةِ، وَإِنْ تَطَوَّعَ عَنْهُ أَحَدٌ فَلَهُ أَجْرُ الدُّعَاءِ انْتَهَى.
وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ ثَوَابَ الْحَجِّ لِلْحَاجِّ مَا قَالَهُ سَنَدٌ فِي شَرْحِ أَوَّلِ مَسْأَلَةٍ مِنْ بَابِ النِّيَابَةِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَلْزَمُ الْمَعْضُوبَ الْغَنِيَّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ، وَيَلْزَمُ الْأَجِيرَ أَنْ يَنْوِيَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَعْضُوبِ ثُمَّ يَقَعُ الْحَجُّ لِلْأَجِيرِ تَطَوُّعًا دُونَ الْمَعْضُوبِ، وَإِنَّمَا لَهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فِي إنْفَاقِ الْأَجِيرِ وَتَسْهِيلِ الطَّرِيقِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ انْتَهَى.
وَإِنَّمَا قَالَ قَرِيبٌ؛ لِأَنَّ مَالِكًا لَا يَقُولُ: يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْجَارُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
، وَنَقَلَهُ عَنْهُ التَّادَلِيُّ فِي أَوَّلِ بَابِ النِّيَابَةِ، وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنَاسِكِهِ، وَقَالَ سَنَدٌ بَعْدَ كَلَامِهِ السَّابِقِ بِنَحْوِ الْوَرَقَةِ: وَالْحَجُّ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ لِفَاعِلِهِ؛ لِأَنَّهُ سَعْيُهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلا مَا سَعَى} [النجم: 39] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 40]{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الأَوْفَى} [النجم: 41] فَهُوَ يَرَى سَعْيَهُ وَيُجَازِيهِ أَوْفَى جَزَاءٍ، وَإِنَّمَا لِلْمُسْتَنِيبِ بِقَصْدِ اسْتِنَابَتِهِ وَإِعَانَتِهِ وَسَعْيِهِ فِي ذَلِكَ انْتَهَى.
، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَعْضُوبُ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنَاسِكِهِ بِعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ وَضَادٍ مُعْجَمَةٍ مِنْ الْعَضْبِ، وَهُوَ الْقَطْعُ كَأَنَّهُ قَطَعَ عَنْ كَمَالِ الْحَرَكَةِ وَالتَّصَرُّفِ، وَيُقَالُ بِالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ كَأَنَّهُ ضَرَبَ عَلَى عَصَبِهِ فَانْقَطَعَتْ أَعْضَاؤُهُ انْتَهَى.
(فَرْعٌ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ حَجَّ عَنْ مَيِّتٍ فَالنِّيَّةُ تُجْزِئُهُ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ انْتَهَى.
قَالَ سَنَدٌ مَقْصُودُهُ أَنَّ الْحَجَّ يَنْعَقِدُ عَنْ الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَمَا يَنْعَقِدُ عَنْ الْمُحْرِمِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَرُكْنُهَا الْإِحْرَامُ)
ش: لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَشَرْطِ صِحَّتِهِمَا وَشُرُوطِ وُجُوبِ الْحَجِّ، وَمَا انْجَرَّ إلَيْهِ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ كَالْمُقَدِّمَاتِ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْمَقَاصِدِ، وَهِيَ الْأَرْكَانُ وَلَمَّا كَانَتْ الْعُمْرَةُ تُشَارِكُ الْحَجَّ فِي ثَلَاثَةِ أَرْكَانٍ أَعَادَ الضَّمِيرَ عَلَيْهَا مُثَنًّى
لِلِاخْتِصَارِ فَقَالَ وَرُكْنُهُمَا الْإِحْرَامُ ثُمَّ قَالَ: الطَّوَافُ لَهُمَا ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ السَّعْيُ ثُمَّ ذَكَرَ الرُّكْنَ الرَّابِعَ الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ الْحَجُّ، وَهُوَ الْوُقُوفُ فَقَالَ: وَلِلْحَجِّ حُضُورُ جُزْءِ عَرَفَةَ فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ الْإِحْرَامُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ وَأَرْكَانُ الْعُمْرَةِ ثَلَاثَةٌ الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَأَمَّا الْإِحْرَامُ فَحَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ يَقُولُونَ إنَّهُ شَرْطٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ؛ لِأَنَّهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَاهِيَّةِ، وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ قَرِيبٌ، فَإِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ، وَلَا يَنْجَبِرُ تَرْكُهُ بِشَيْءٍ
وَأَمَّا الْوُقُوفُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَأَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِمَا نَصَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى رُكْنِيَّةِ الْوُقُوفِ أَبُو عُمَرَ وَغَيْرُهُ، وَنَقَلَهُ الْقَبَّابُ وَنَصَّ عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى رُكْنِيَّةِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فِي الْإِكْمَالِ، وَنَقَلَهُ التَّادَلِيُّ، وَإِنْ كَانَ الطَّحَاوِيُّ حَكَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ نَابَ الدَّمُ مَنَابَهُ حَكَاهُ فِي الطِّرَازِ، وَقَدْ حَكَى الْإِجْمَاعَ عَلَى رُكْنِيَّةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنَاسِكِهِ، وَأَمَّا السَّعْيُ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَابْنُ حَنْبَلٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَرَوَى ابْنُ الْقَصَّارِ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيل عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ عَنْ مَالِكٍ هِيَ قَوْلُهُ: إنَّ مَنْ تَرَكَ السَّعْيَ حَتَّى تَبَاعَدَ وَتَطَاوَلَ الْأَمْرُ فَأَصَابَ النِّسَاءُ أَنَّهُ يُهْدِي وَيُجْزِئُهُ فَفَهِمَ صَاحِبُ الطِّرَازِ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَفَهِمَهُ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ عَلَى أَنَّهُ قَالَهُ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ
وَعَدَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ الْأَرْكَانِ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ ذَكَرَهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَفِي رَسْمٍ لَيَرْفَعَنَّ أَمْرَهُ إلَى السُّلْطَانِ، وَلَفْظُهُ فِي الرَّسْمِ الْمَذْكُورِ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ إلَى أَنَّهُ مِنْ فَرَائِضِ الْحَجِّ لَا يُجْزِئُ عَنْهُ الدَّمُ لِقَوْلِهِ: عز وجل {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ تَقْدِيمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ، وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِعَرَفَةَ مَعَ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ بِعَرَفَةَ أَمَسُّ انْتَهَى.
، وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَحَكَى اللَّخْمِيُّ عَنْهُ أَيْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ انْتَهَى.
وَلَفْظُ اللَّخْمِيِّ وَاخْتُلِفَ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ: الْأَوَّلُ: إذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى، وَلَمْ يَنْزِلْ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ مَالِكٌ: عَلَيْهِ الدَّمُ، وَإِنْ نَزَلَ بِهَا ثُمَّ دَفَعَ أَوَّلَ اللَّيْلِ أَوْ وَسَطَهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ فِي الْمَبْسُوطِ: لَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى انْتَهَى.
ثُمَّ قَالَ: وَالثَّالِثُ: إذَا نَزَلَ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَلَمْ يَقِفْ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ: لَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَلَمْ يَنْزِلْ بِمُزْدَلِفَةَ عَلَيْهِ الدَّمُ وَجَعَلُوا النُّزُولَ بِهَا أَوْكَدَ مِنْ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ شِهَابٍ وَغَيْرُهُمَا: عَلَيْهِ الدَّمُ، وَقَالَ عَلْقَمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: إذَا لَمْ يَقِفْ بِالْمَشْعَرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ انْتَهَى.
فَأَنْتَ تَرَاهُ لَمْ يُصَرِّحْ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ بِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا فَهِمَهُ الْمُصَنِّفُ عَنْهُ مِمَّا تَقَدَّمَ عَنْهُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى تَرْكِ الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَذَكَرَ الْخِلَافَ فِي لُزُومِ الدَّمِ قَالَ: وَالْقَوْلُ بِالسُّقُوطِ لِابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَهُوَ مِمَّا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ قَوْلَهُ: اُخْتُلِفَ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَمْ لَا؟ انْتَهَى وَكَذَلِكَ فَهِمَ الْقَبَّابُ أَنَّ نَقْلَ اللَّخْمِيُّ مُخَالِفٌ لِنَقْلِ ابْنِ رُشْدٍ وَكَذَلِكَ أَبُو إبْرَاهِيمَ الْأَعْرَجُ قَالَ: لَعَلَّ لَهُ قَوْلَيْنِ نَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنَاسِكِهِ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مَا فَهِمُوهُ بِظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ النُّزُولَ بِمُزْدَلِفَةَ غَيْرُ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّخْمِيُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ يَقُولُ بِرُكْنِيَّةِ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ وَعَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ بِتَرْكِ النُّزُولِ، وَقَدْ قَالَ الْحَنَفِيَّةُ بِأَنَّ الْمَبِيتَ سُنَّةٌ لَا يَجِبُ بِتَرْكِهَا دَمٌ، وَالْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ وَاجِبٌ يَجِبُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ هَكَذَا نَقَلَ عَنْهُمْ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ عَنْهُمْ فِي الْبَابِ الْحَادِيَ عَشَرَ أَنَّ الْمَبِيتَ بِمُزْدَلِفَةَ سُنَّةٌ وَحَكَى فِي آخِرِ الْبَابِ
الثَّانِي عَشَرَ أَنَّ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَهُمْ وَاجِبٌ قَالَ: وَالْوَاجِبُ عِنْدَهُمْ مُنْجَبِرٌ بِالدَّمِ إلَّا رَكْعَتِي الطَّوَافِ، وَالْفَرْضُ لَا يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ، وَغَيْرُهُمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى جَابِرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ عَدَّهُمَا أَيْضًا ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ فَرَعَيْنَ، وَقَالَ بَعْدَ ذِكْرِهِ عَنْ عَلْقَمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقِفْ بِجَمْعٍ فَاتَهُ الْحَجُّ وَيَجْعَلُ إحْرَامَهُ فِي عُمْرَةٍ إلَّا أَنَّ الطَّحَاوِيَّ رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ قَوْله تَعَالَى {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] لَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْوُقُوفِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَ تَعَالَى بِالذِّكْرِ، وَقَدْ أُجْمِعَ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الذِّكْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَجِبَ الْوُقُوفُ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي رَدَّهُ الطَّحَاوِيُّ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمَاجِشُونِ انْتَهَى.
وَذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ، وَذَكَرَ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنَاسِكِهِ عَنْ ابْنِ عُبَيْدٍ أَنَّهُ يَقُولُ بِهِ، وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَالَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي مَنَاسِكِهِ
وَعَدَّ ابْنُ الْمَاجِشُونِ أَيْضًا مِنْ الْأَرْكَانِ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَحَقِيقَةُ مَذْهَبِهِ أَنَّ رَمْيَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي أَيَّامِ مِنًى رُكْنٌ، فَإِنْ رَمَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ تَحَلَّلَ، وَإِنْ لَمْ يَرْمِهَا لَمْ يَتَحَلَّلْ، فَإِنْ رَمَى الْجِمَارَ ثَانِيَ يَوْمٍ تَحَلَّلَ بِرَمْيِ الْعَقَبَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْيِينُ نِيَّةٍ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى زَالَتْ أَيَّامَ مِنًى بَطَلَ حَجُّهُ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ، وَالْهَدْيُ صَرَّحَ بِهِ فِي الطِّرَازِ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ قَبْلَ بَابِ تَقْلِيدِ الْهَدْيِ وَنِيَّةِ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَهُ فِي بَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ «إذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ» فَجَعَلَ رَمْيَهَا شَرْطًا فِي التَّحْلِيلِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَكَرَّرُ سَبْعًا فَتَكُونُ رُكْنًا كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَالْمَذْهَبُ عَدَمُ رُكْنِيَّتِهَا، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ لِقَوْلِهِ: عليه السلام «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» رَوَاهُ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الْأَبْهَرِيُّ بِإِسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد اُنْظُرْ الْمَقَاصِدَ الْحَسَنَةَ لِلسَّخَاوِيِّ، وَذَكَرَهُ الشَّيْخُ جَلَالُ الدِّينِ الْأَسْيُوطِيُّ فِي قَوَاعِدِهِ بِلَفْظِ «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ» وَعَزَاهُ لِلطَّبَرَانِيِّ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُهُ: عليه السلام «مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ وَأَتَى قَبْلَ ذَلِكَ عَرَفَاتٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ رُكْنًا لَمَا فَاتَتْ بِخُرُوجِ وَقْتِهَا كَالطَّوَافِ بِالسَّعْيِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ أَبَا دَاوُد حَرَّفَهُ، وَقَالَ: إنَّهُ ضَعِيفٌ، وَتَكْرَارُهُ سَبْعًا لَا يُوجِبُ رُكْنِيَّتَهَا كَغَيْرِهَا مِنْ الْجِمَارِ، وَقِيَاسُهَا عَلَى بَقِيَّةِ الْجِمَارِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهَا عَلَى الطَّوَافِ قَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَالِكٍ مِثْلَ قَوْلِ عَبْدِ الْمَلِكِ بِوُجُوبِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَحَكَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ عَنْ الْوَاقِدِيِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ قَوْلًا بِرُكْنِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَلَيْسَ بِمَعْرُوفٍ، وَلَيْسَ النُّزُولُ بِمُزْدَلِفَةَ رُكْنًا خِلَافًا لِبَعْضِ التَّابِعِينَ، وَهُوَ وَجْهٌ ضَعِيفٌ لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الْحَلْقُ لَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ فِي الْأَصَحِّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحِلَاقَ رُكْنٌ وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَفِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَأَحَدِ الْأَقْوَالِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَعَدَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوَاعِدِهِ مِنْ الْأَرْكَانِ النِّيَّةَ، قَالَ شَارِحُهُ: جَمْعُ الْمُؤَلِّفِ بَيْنَ عَدِّ النِّيَّةِ فِي الْحَجِّ فَرِيضَةً وَعَدِّ الْإِحْرَامِ فَرِيضَةً أُخْرَى وَمَا رَأَيْتُهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ النِّيَّةَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعُدُّ الْإِحْرَامَ، وَالْإِحْرَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّجَرُّدِ وَالْغُسْلِ وَالرُّكُوعِ وَالنِّيَّةِ وَلَيْسَ فِي الْجَمِيعِ مَا هُوَ فَرْضٌ غَيْرُ النِّيَّةِ خَاصَّةً فَلِذَلِكَ اكْتَفَى غَيْرُهُ بِعَدِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، وَهُوَ الْبَيِّنُ انْتَهَى.
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ الْإِحْرَامَ مِنْ الْفُرُوضِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا، وَالنِّيَّةَ مِنْ الْفُرُوضِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْجُمْهُورِ فَرْضِيَّتُهَا، وَذَهَبَ بَعْضُ النَّاسِ إلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَرْضٍ قَالَ: ذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ ذَلِكَ.
ذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ إلَى أَنَّ التَّلْبِيَةَ شَرْطٌ فِي انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ فَتَكُونُ كَالنِّيَّةِ قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ قَوْلِ الرِّسَالَةِ: وَيَنْوِي مَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يَعْنِي مَعَ التَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ بِمَثَابَةِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْغُسْلُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقَامَةُ، وَالرُّكُوعُ كَرَفْعِ
الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ وَعَدَّ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْفُرُوضِ دُخُولَ وَقْتِ الْحَجِّ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى الْوُقُوفِ فَيَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ لَيْلَةَ الْعَاشِرِ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ وَزَادَ التَّادَلِيُّ تَقْدِيمَ الطَّوَافِ عَلَى السَّعْيِ ذَكَرَهُ فِي الْبَابِ الثَّامِنِ، وَهَذَا رَاجِعٌ إلَى السَّعْيِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ تَقَدُّمُ طَوَافٍ عَلَيْهِ كَمَا سَيَأْتِي، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ الْوَاجِبَاتِ الْمُسْتَقِلَّةَ تِسْعَةٌ ثَلَاثَةٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا، وَهِيَ الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ وَالطَّوَافُ وَثَلَاثَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا فِي الْمَذْهَبِ وَخَارِجِهِ، وَهِيَ السَّعْيُ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَالْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ، وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ بَلْ الْأَوَّلُ: مُسْتَحَبٌّ، وَالثَّانِي: سُنَّةٌ أَوْ الْأَوَّلُ سُنَّةٌ وَالثَّانِي وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ عَلَى الْخِلَافِ الْآتِي وَوَاحِدٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ فَقَطْ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ وَالْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَالثَّانِي: مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا خَارِجَ الْمَذْهَبِ فَقَطْ، وَهُمَا النُّزُولُ بِمُزْدَلِفَةَ وَالْحِلَاقُ وَالْمَذْهَبُ: أَنَّهُمَا لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ بَلْ سُنَّتَانِ أَوْ وَاجِبَتَانِ يُجْبَرَانِ بِالدَّمِ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَيْضًا إذَا أَتَى بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا الرُّكْنِيَّةَ لِيَخْرُجَ مِنْ الْخِلَافِ وَلِيَكْثُرَ الثَّوَابُ؛ إذْ ثَوَابُ الْوَاجِبِ أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِ السُّنَّةِ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الشَّبِيبِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي التَّعْبِيرِ عَنْهَا فَمِنْهُمْ مَنْ يُقَسِّمُهَا إلَى أَرْكَانٍ وَوَاجِبَاتٍ وَسُنَنٍ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَاجِبَاتٌ أَرْكَانٌ غَيْرُ مُنْجَبِرَةٍ وَوَاجِبَاتٌ غَيْرُ أَرْكَانٍ مُنْجَبِرَةٌ وَسُنَنٌ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَسِّمُهَا إلَى فُرُوضٍ وَسُنَنٍ وَفَضَائِلَ أَوْ يَقُولُ مُسْتَحَبَّاتٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَسِّمُهَا إلَى فُرُوضٍ وَوَاجِبَاتٍ وَسُنَنٍ، وَبَعْضُ هَؤُلَاءِ يُسَمِّي الْقِسْمَ الثَّانِيَ سُنَنًا مُؤَكَّدَةً أَوْ سُنَنًا وَاجِبَةً، وَهُوَ رَاجِعٌ إلَى اخْتِلَافٍ فِي الْعِبَارَةِ فَمَا يُسَمِّيهِ الْأَوَّلُ أَرْكَانًا يُسَمِّيهِ الثَّانِي وَاجِبَاتٍ أَرْكَانًا غَيْرَ مُنْجَبِرَةٍ وَيُسَمِّيهِ الْآخَرَانِ فُرُوضًا، مَا يُسَمِّيهِ الْأَوَّلُ وَالرَّابِعُ وَاجِبَاتٍ يُسَمِّيهِ الثَّانِي وَاجِبَاتٍ غَيْرَ أَرْكَانٍ مُنْجَبِرَةٍ وَيُسَمِّيهِ الْآخَرُ سُنَنًا أَوْ سُنَنًا مُؤَكَّدَةً أَوْ سُنَنًا وَاجِبَةً وَمَا يُسَمِّيهِ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالرَّابِعُ سُنَنًا يُسَمِّيهِ الثَّالِثُ فَضَائِلَ أَوْ مُسْتَحَبَّاتٍ فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ هُوَ مَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ بَدَلٌ لَا دَمٌ، وَلَا غَيْرُهُ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِهِ، وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٍ يَفُوتُ الْحَجُّ بِتَرْكِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ حُكْمٌ بِسَبَبِ تَرْكِهِ، وَهُوَ الْإِحْرَامُ إمَّا بِتَرْكِهِ بِالْكُلِّيَّةِ أَوْ بِتَرْكِ مَا هُوَ شَرْطٌ فِيهِ، وَهُوَ النِّيَّةُ وَتَرْكُ التَّلْبِيَةِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ كَتَرْكِ الْإِحْرَامِ وَقِسْمٍ يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّحَلُّلِ بِأَفْعَالِ عُمْرَةٍ وَالْقَضَاءِ فِي قَابِلٍ، وَإِنْ بَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى قَابِلٍ فَأَتَمَّهُ أَجْزَأَهُ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ بِاتِّفَاقٍ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُضَافُ إلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ الْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَيُضَافُ إلَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ النُّزُولُ بِمُزْدَلِفَةَ وَقِسْمٍ لَا يَفُوتُ الْإِحْرَامُ بِتَرْكِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِفِعْلِهِ، وَلَوْ صَارَ إلَى أَقْصَى الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ لِيَفْعَلهُ، وَهُوَ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِاتِّفَاقٍ، وَالسَّعْيُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ عِنْدَ مَنْ قَالَ بِرُكْنِيَّتِهِ
وَالْقِسْمُ الثَّانِي مَا يُطَالَبُ بِالْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ، وَهَلْ يَأْثَمُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: تَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي التَّسْمِيَةِ بِالتَّأْثِيمِ وَعَدَمِهِ فَمَنْ يَرَى وُجُوبَهَا يَقُولُ بِالتَّأْثِيمِ لِتَارِكِهَا، وَمَنْ يَقُولُ: إنَّهَا سُنَّةٌ لَا يَقُولُ بِذَلِكَ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي التَّوْضِيحِ ثُمَّ قَالَ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: أَصْحَابُنَا يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ بِثَلَاثِ عِبَارَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وَاجِبَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: وُجُوبُ السُّنَنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ قَالَ: وَلَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا هَلْ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا أَوْ لَا أَوْ أَرَادُوا بِالْوُجُوبِ وُجُوبَ الدَّمِ وَالْأَمْرُ مُحْتَمَلٌ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا هُوَ فِي مَحْضِ عِبَارَةٍ كَمَا قَالَ فِي الطِّرَازِ وَالْخِلَافُ عِنْدِي آيِلٌ إلَى عِبَارَةٍ مَحْضَةٍ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ قَالُوا فِي تَرْكِهِ دَمٌ انْتَهَى.
وَأَمَّا التَّأْثِيمُ بِتَعَمُّدِ التَّرْكِ فَقَدْ صَرَّحَ بِهِ عَصْرِيٌّ الطُّرْطُوشِيُّ
الْإِمَامُ الْقَاضِي أَبُو عَبْد اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَاجِّ فِي مَنْسَكِهِ قَالَ فِيهِ: أَمَّا سُنَنُ الْحَجِّ فَمِنْهَا مَا يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ، وَلَا يَلْحَقُ مَأْثَمٌ بِالْقَصْدِ إلَى تَرْكِهِ كَالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ قَالَ: وَمِنْهَا سُنَنٌ مُؤَكَّدَةٌ يَجِبُ فِعْلُهَا وَيَتَعَلَّقُ الْإِثْمُ مَعَ الْقَصْدِ إلَى تَرْكِهَا كَالتَّلْبِيَةِ ثُمَّ ذَكَرَ مِنْهَا ثَمَانِيَةً ثُمَّ قَالَ: وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ انْتَهَى.
وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي الْبَابِ الثَّامِنِ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِي هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لَصَدَقَ حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا، وَهُوَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فَيَكُونُ كَالْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ غَايَةَ الْأَمْرِ أَنَّ الشَّارِعَ خَصَّصَ كُلًّا مِنْهَا بِحُكْمٍ يَخُصُّهُ فَجَعَلَ الْأَرْبَعَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَا، وَجَعَلَ هَذِهِ تُجْبَرُ بِالدَّمِ كَمَا أَنَّهُ خَصَّصَ بَعْضَ الْأَرْبَعَةِ بِأَنَّهُ يَفُوتُ الْحَجُّ بِهِ، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ شَيْءٌ، وَبَعْضُهَا بِأَنَّهُ يَتَحَلَّلُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ فَوْتِهِ، وَيَلْزَمُ الْقَضَاءُ، وَبَعْضَهَا بِأَنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْإِتْيَانِ بِهِ، وَبِإِطْلَاقِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ صَدَّرَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ وَغَيْرُهُمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَالْوَاجِبَاتُ الْمُنْجَبِرَةُ، وَقِيلَ: سُنَنٌ، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ: الْقِسْمُ الثَّانِي: وَاجِبَاتٌ لَيْسَتْ بِأَرْكَانٍ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُعَبِّرُ عَنْهَا بِالسُّنَنِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ سُنَنًا مُؤَكَّدَةً، وَيَلْزَمُ عَلَى الْأَوَّلِ التَّأْثِيمُ لَكِنْ قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ لَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنْ عُلَمَائِنَا هَلْ يَأْثَمُ بِتَرْكِهَا أَمْ لَا، وَإِنْ أَرَادُوا بِالْوُجُوبِ وُجُوبَ الدَّمِ، فَالْأَمْرُ مُحْتَمَلٌ انْتَهَى.
وَقَدْ تَقَدَّمَ النَّصُّ بِالتَّأْثِيمِ، فَظَهَرَ إطْلَاقُ الْوُجُوبِ عَلَيْهَا وَهَذَا أَيْضًا ظَاهِرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْجَوَاهِرِ حَيْثُ قَالَ فِي أَوَائِلِ الْبَابِ الْخَامِسِ فِي الْمَقَاصِدِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ: تَنْبِيهٌ: اصْطِلَاحُ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ إلَّا فِي الْحَجِّ فَقَدْ خَصَّصَ ابْنُ الْجَلَّابِ وَغَيْرُهُ اسْمَ الْفَرْضِ بِمَا لَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ فَقَالَ: فُرُوضُ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ وَاجِبٌ كَمَا خَصَّصَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِي السَّهْوِ السُّنَّةَ بِمَا يُجْبَرُ بِالسُّجُودِ فَجَعَلَهَا خَمْسَةً مَعَ أَنَّ سُنَنَ الصَّلَاةِ قَدْ عَدَّهَا صَاحِبُ الْمُقَدِّمَاتِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَقَالَ يَسْجُدُ مِنْهَا لِثَمَانِيَةٍ فَلْيُعْلَمْ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ حُلُولُو فِي شَرْح جَمْعِ الْجَوَامِعِ: الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ مُتَرَادِفَانِ، قَالَ: وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي كِتَابِ الْحَجِّ انْتَهَى.
لَكِنْ قَدْ عُلِمَ أَنَّ تَفْرِيقَ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ كَتَفْرِيقِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفَرْضَ مَا يَثْبُتُ بِقَطْعِيٍّ وَالْوَاجِبَ بِظَنِّيٍّ بَلْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَإِيجَابُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الدَّمَ فِي تَرْكِ هَذِهِ الْأَفْعَالِ كَمَا أَوْجَبُوا السُّجُودَ فِي بَعْضِ سُنَنِ الصَّلَاةِ، وَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ أَظْهَرُ مِنْهَا لِكَثْرَةِ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِسُجُودِ السَّهْوِ، وَالْهَدْيُ إنَّمَا جَاءَ فِي التَّمَتُّعِ خَاصَّةً فِيمَا نَعْلَمُهُ، وَفِي إلْحَاقِ هَذِهِ الصُّوَرِ، وَفِيهِ نَظَرٌ انْتَهَى.
وَلَيْسَ الْمُوجِبُ لِلدَّمِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ الْقِيَاسَ فَقَطْ بَلْ قَوْلُهُ: عليه السلام «مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ» ذَكَرَهُ فِي الطِّرَازِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الْقِسْمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٍ مُتَّفَقٍ عَلَى وُجُوبِ الدَّمِ فِيهِ، وَقِسْمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ الْوُجُوبُ، وَقِسْمٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الْوُجُوبِ، فَالْأَوَّلُ: كَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمُرِيدِ النُّسُكِ، وَتَرْكِ التَّلْبِيَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَتَرْكِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ وَتَرْكِ الْجِمَارِ كُلِّهَا أَوْ حَصَاةً مِنْهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ الرَّمْيِ، وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةً كَامِلَةً مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَتَرْكِ الْحِلَاقِ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ أَوْ يُطَوِّلَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِوَجَعٍ بِرَأْسِهِ لَكِنْ لَا إثْمَ مَعَ الْعُذْرِ وَتَأْخِيرِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ السَّعْيِ أَوْ هُمَا مَعًا إلَى الْمُحَرَّمِ وَتَرْكِ الْبُدَاءَةِ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي الطَّوَافِ ثُمَّ لَمْ يُعِدْهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ وَالدَّفْعُ مِنْ عَرَفَةَ نَهَارًا قَبْلَ الْإِمَامِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَّا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ ثُمَّ لَمْ يُعَاوِدْهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ وَالْقِسْمِ الثَّانِي: كَتَرْكِ التَّلْبِيَةِ فِي أَوَّلِ الْإِحْرَامِ حَتَّى يَطُولَ أَوْ فَعَلَهَا فِي أَوَّلِ الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَرَكَهَا عَلَى مَا شَهَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ عَدَمُ وُجُوبِ الدَّمِ فِي هَذَا وَكَتَرْكِ طَوَافِ الْقُدُومِ لِغَيْرِ الْمُرَاهِقِ وَتَرْكِ السَّعْيِ بَعْدَهُ وَتَرْكُهُمَا مَعًا كَتَرْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ ذِي الْجِمَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ لِمَرَضٍ بِهِ، وَلَوْ رَمَى
عَنْهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ لَا يَأْثَمُ حِينَئِذٍ وَكَتَرْكِ الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ لِلْقَادِرِ ثُمَّ لَمْ يُعِدْهُ أَيْضًا وَتَرْكِ الْمَشْيِ فِي السَّعْيِ لِقَادِرٍ ثُمَّ لَمْ يُعِدْهُ أَيْضًا وَكَتَرْكِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَعَ الْإِمَامِ نَهَارًا لِلْمُتَمَكِّنِ وَتَأْخِيرِ شَيْءٍ مِنْ الْجِمَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ، وَلَوْ كَانَ لِمَرَضٍ بِهِ، وَلَوْ رَمَى عَنْهُ غَيْرُهُ، وَلَكِنْ لَا يَأْثَمُ حِينَئِذٍ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى جُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الرَّمْيِ وَتَرْكِ النُّزُولِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَتَرْكِ السَّعْيِ فِي حَقِّ مَنْ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ مِنْ مَكَّةَ وَطَافَ وَسَعَى قَبْلَ خُرُوجِهِ إلَى عَرَفَةَ وَتَقْدِيمِ الْإِفَاضَةِ عَلَى الرَّمْيِ وَالْقِسْمِ الثَّالِثِ: كَتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ، وَلَا يُرِيدُ النُّسُكَ وَتَرْكِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَالسَّعْيِ بَعْدَهُ نِسْيَانًا حَتَّى يَخْرُجَ لِعَرَفَةَ وَتَرْكِ الْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ عَلَى مَا نَقَلَهُ التَّادَلِيُّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ قَالَ: وَهُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ انْتَهَى.
وَتَرْكِ الْحَلْقِ أَوْ الْإِفَاضَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى كَمَا نَقَلَهُ التَّادَلِيُّ وَغَيْرُهُ وَتَقْدِيمِ النَّحْرِ عَلَى الرَّمْيِ وَتَقْدِيمِ الْحَلْقِ عَلَى النَّحْرِ وَتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ وَتَرْكِ الْخَبَبِ فِي السَّعْيِ وَتَفْرِيقِ الظُّهْرِ مِنْ الْعَصْرِ بِعَرَفَةَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي الْبَابِ الْخَامِسِ وَأَمَّا الدَّمُ اللَّازِمُ لِتَرْكِ الْإِفْرَادِ فَلَيْسَ لِتَرْكِ وَاجِبٍ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ اخْتَصَّتْ بِهِ هَذِهِ الصِّفَاتُ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَقُولُ: إنَّ التَّمَتُّعَ وَالْقِرَانَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْإِفْرَادِ يَقُولُ بِلُزُومِ الدَّمِ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَهُوَ مَا يُطَالَبُ بِالْإِتْيَانِ بِهِ، فَإِنْ تَرَكَهُ فَلَا دَمَ، وَلَا إثْمَ، وَهُوَ كَثِيرٌ وَأَكْثَرُهُ مُسْتَحَبَّاتٌ كَالْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ وَالرُّكُوعِ لَهُ وَمُقَارَنَةِ التَّلْبِيَةِ نِيَّةَ الْإِحْرَامِ، وَذَلِكَ عِنْدَ تَوَجُّهِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى الرَّاحِلَةِ إلَّا بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا سَيَأْتِي، وَتَكْرَارِ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ كُلِّ شَرَفٍ وَصُعُودٍ وَهُبُوطٍ، وَأَنْ يُسْمِعَ بِهَا نَفْسَهُ، وَمَنْ يَلِيهِ، وَأَنْ تُسْمِعَ بِهَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالدُّخُولِ مِنْ أَعْلَاهَا، وَقَطْعِ التَّلْبِيَةِ إذَا دَخَلَهَا، وَالْمُبَادَرَةِ لِلْمَسْجِدِ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَالدُّخُولِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ثُمَّ تَقْبِيلِهِ فِي غَيْرِ الْأُولَى، وَاسْتِلَامِ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الذِّكْرِ، وَالدُّعَاءِ، وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ لِلسَّعْيِ، وَالْخُرُوجِ لِلسَّعْيِ عَقِبَ فَرَاغِهِ مِنْ الطَّوَافِ مِنْ بَابِ الصَّفَا أَوْ غَيْرِهِ، وَالصُّعُودِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَى أَعْلَاهُمَا إنْ أَمْكَنَ، وَالتَّوَجُّهِ عَلَيْهِمَا لِلْقِبْلَةِ، وَالسَّعْيِ مُتَطَهِّرًا، وَالْخُرُوجِ إلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَدْرَ مَا يُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ، وَالْغُسْلِ لِلْوُقُوفِ، وَالْوُقُوفِ رَاكِبًا، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَرْكَبُ فَعَلَى قَدَمَيْهِ، وَالِابْتِهَالِ بِالدُّعَاءِ، وَالذِّكْرِ، وَالدَّفْعِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَالْإِتْيَانِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ مِنْ طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ وَالْإِسْرَاعِ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَالدَّفْعِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَرَمْيِهِ الْعَقَبَةِ حِينَ وُصُولِهِ عَلَى هَيْئَتِهِ مِنْ رُكُوبٍ أَوْ مَشْيٍ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ لِلدُّعَاءِ وَالتَّكْبِيرِ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَتَتَابُعِ الرَّمْيِ وَلَقْطِ الْحَصَاةِ لَا كَسْرِهَا وَإِيقَاعِ الرَّمْيِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالْمَشْيِ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَالْجَهْرِ بِالتَّكْبِيرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقْتًا بَعْدَ وَقْتٍ وَالنُّزُولِ بِالْأَبْطَحِ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ وَالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ فِي أَشْهُرِهِ، وَفِي مِيقَاتِهِ الْمَكَانِيِّ وَسَوْقِ الْهَدْيِ فِيهِ وَالْإِحْرَامِ فِي الْبَيَاضِ وَإِيقَاعِ أَعْمَالِهِ كُلِّهَا بِطَهَارَةٍ وَإِيقَاعِ رُكُوعِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا مُفَصَّلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ عَلَى جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى هِدَايَةَ السَّالِكِ الْمُحْتَاجِ إلَى بَيَانِ أَفْعَالِ الْمُعْتَمِرِ وَالْحَاجِّ فَمَنْ أَرَادَ الشِّفَاءَ فِي ذَلِكَ فَعَلَيْهِ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَسَّمَ ابْنُ الْحَاجِبِ أَفْعَالَ الْحَجِّ إلَى مَا تَقَدَّمَ وَإِلَى الْمَحْظُورِ الْمُفْسِدِ وَالْمَحْظُورِ الْمُنْجَبِرِ فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ تَقْسِيمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ إلَى الْمَحْظُورِ الْمُفْسِدِ وَالْمُنْجَبِرِ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ إلَّا مَا كَانَ مَشْرُوعًا فِيهِ، وَمَا عَدَاهُ فَيُعَدُّ مِنْ الْمَوَانِعِ كَمَا يُفْعَلُ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُفْسِدَةَ لِلصَّلَاةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهَا: إنَّهَا مِنْ أَفْعَالِهَا؟ انْتَهَى.
وَاعْتَذَرَ ابْنُ رَاشِدٍ عَنْهُ بِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يُبَيِّنَ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْحَاجِّ وَأَضَافَ الْمَحْظُورَاتِ إلَى الْحَجِّ لِكَوْنِهَا وَاقِعَةً فِيهِ وَالْإِضَافَةُ تَكْفِي فِيهَا أَدْنَى، مُلَابَسَةٍ وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: الْفِعْلُ
الصَّادِرُ مِنْ الْحَاجِّ إمَّا مَطْلُوبُ الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَالْأَوَّلُ قِسْمَانِ: وَاجِبٌ وَغَيْرُهُ، وَالْوَاجِبُ قِسْمَانِ: رُكْنٌ وَغَيْرُهُ، وَمَطْلُوبُ التَّرْكِ: مُفْسِدٌ وَمُنْجَبِرٌ انْتَهَى مِنْ التَّوْضِيحِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ تَرْكَ اللِّبَاسِ وَالْحِلَاقِ وَالْوَطْءِ، وَإِزَالَةَ الْوَسَخِ، وَشِبْهَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَاتٌ، وَتَقْسِيمُهُ لَيْسَ بِشَامِلٍ لِمَا يَصْدُرُ مِنْ الْحَاجِّ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ الْأُمُورُ الْمَكْرُوهَةُ وَيَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ الْمَحْظُورَاتُ أَيْضًا.
وَعُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ مِنْ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَنَّ أَرْكَانَ الْعُمْرَةِ ثَلَاثَةٌ الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ: أَمَّا الْإِحْرَامُ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فِيهِ الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ، أَمَّا الطَّوَافُ فَاتَّفَقَ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَمَّا السَّعْيُ فَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ قَالَ فِي الطِّرَازِ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ: أَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِهِ إلَّا بِهِ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُمْرَةِ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْهُ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِرُكْنٍ وَيَكُونُ عَنْهُ الدَّمِ، وَهَذِهِ رِوَايَةُ ابْنِ الْقَصَّارِ عَنْ الْقَاضِي إسْمَاعِيلَ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَهُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَاخْتَلَفَ فِيهِ قَوْلُ ابْنِ حَنْبَلٍ انْتَهَى.
وَيَأْتِي فِيهَا الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ عَلَى النِّيَّةِ، وَكَذَلِكَ التَّلْبِيَةُ وَزَادَ الشَّافِعِيُّ الْحِلَاقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْإِحْرَامُ مَصْدَرُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ الْحَرَمَ أَوْ إذَا دَخَلَ فِي حُرْمَةِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ الصَّلَاةِ كَمَا يُقَالُ: أَنْجَدَ وَأَتْهَمَ وَأَمْسَى وَأَصْبَحَ إذَا دَخَلَ نَجْدًا أَوْ تِهَامَةَ وَالْمَسَاءَ وَالصَّبَاحَ؛ وَلِذَلِكَ يَتَنَاوَلُ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] الْفَرِيقَيْنِ انْتَهَى. مِنْ أَوَّلِ الْبَابِ الْخَامِسِ مِنْ الذَّخِيرَةِ، وَقَالَ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ: الْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ} [المائدة: 95] الْآيَةِ، وَالْحُرُمُ جَمْعُ مُحْرِمٍ، وَالْمُحْرِمُ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ، أَوْ فِي الْحُرُمَاتِ فَتَتَنَاوَلُ الْآيَةُ السَّبَبَيْنِ وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ
قَتَلُوا ابْنَ عَفَّانَ الْخَلِيفَةَ مُحْرِمًا
…
فَدَعَا فَلَمْ أَرَ مِثْلَهُ مَظْلُومًا
أَيْ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَالشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ ذُو الْحِجَّةِ انْتَهَى. قَالَ التَّادَلِيُّ، وَفِيهِ دَرَكٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ مُحْرِمًا لَيْسَ بِمُفْرَدِ حُرُمٍ إنَّمَا مُفْرَدُهُ حَرَامٌ.
الثَّانِي: أَنَّ حُرُمًا مُطْلَقٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا أَحَدَ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ لَا عَلَى الْجَمْعِ ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ الْبَاجِيِّ أَنَّهُ قَالَ الْحُرُمُ جَمْعُ حَرَامٍ يُقَالُ: أَحْرَمَ فَهُوَ مُحْرِمٌ وَحَرَامٌ إذَا أَتَى الْحَرَمَ أَوْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَذَكَرَ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ: يُرِيدُ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِنُسُكٍ فَتُحْمَلُ الْآيَةُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ أَوْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ انْتَهَى.
وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا الثَّانِي فَمَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ جَوَازُهُ إذَا كَانَتْ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ تَحْمِلُهُ فَيَكُونُ مُجْمَلًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَالدَّلِيلُ هُنَا سِيَاقُ الْآيَةِ وَيُقَالُ: أَيْضًا فِي اللُّغَةِ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي ذِمَّةٍ وَحُرْمَةٍ لَا تُنْتَهَكُ، وَيُقَالُ أَيْضًا إذَا دَخَلَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ ذَكَرَهُ فِي الصِّحَاحِ.
وَأَنْشَدَ عَلَيْهِ الْبَيْتَ الْمُتَقَدِّمَ، وَالْحُرْمُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ، وَالتَّحْرِيمُ أَيْضًا الْإِحْرَامُ، وَفِي الْحَدِيثِ:«كُنْتُ أُطَيِّبُهُ لِحِلِّهِ وَحَرَمِهِ» وَالْحُرْمَةُ مَا لَا يَحِلُّ انْتِهَاكُهُ وَكَذَا الْحُرْمَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا، وَالْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أَرْبَعَةٌ مَعْرُوفَةٌ كَانَتْ الْعَرَبُ لَا تَسْتَحِلُّ فِيهَا الْقِتَالَ إلَّا حَيَّيْنِ خَثْعَمَ وَطَيْءٍ وَكَانَ الَّذِينَ يَنْسَئُونَ الشُّهُورَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ يَقُولُونَ: حَرَّمْنَا عَلَيْكُمْ الْقِتَالَ فِي هَذِهِ الشُّهُورِ إلَّا دِمَاءَ الْمُحِلِّينَ، وَهِيَ: رَجَبٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَاخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ عَدِّهَا قِيلَ: كَمَا تَقَدَّمَ، وَقِيلَ: مِنْ الْمُحَرَّمِ لِتَكُونَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْحِكْمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. فِي تَفْرِقَتِهَا كَذَلِكَ لِتَصِيرَ وِتْرًا، فَإِنَّهُ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْحِرْمُ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ كَالْحَرَامِ وَقُرِئَ وَحِرْمٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا قَالَ الْكِسَائِيُّ: أَيْ وَاجِبٌ وَالْحِرْمَةُ بِالْكَسْرِ وَالسُّكُونِ أَيْضًا الْغُلْمَةُ بِالضَّمِّ، وَهِيَ شَهْوَةُ الْجِمَاعِ، وَفِي الْحَدِيثِ «الَّذِينَ تُدْرِكُهُمْ السَّاعَةُ يُبْعَثُ عَلَيْهِمْ الْحِرْمَةُ وَيُسْلَبُونَ الْحَيَاءَ» وَالْحُرْمَةُ أَيْضًا: الْحِرْمَانُ، وَالْمُحْرِمُ: مَنْ لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا، وَالْمَحْرُومُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ هُوَ الْمُحَارِبُ انْتَهَى.
مِنْ الصِّحَاحِ بِالْمَعْنَى، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ اللُّغَةِ، أَمَّا فِي الشَّرْعِ فَقَالَ
ابْنُ عَرَفَةَ اسْتَشْكَلَ عِزُّ الدِّينِ مَعْرِفَتَهُ وَأَبْطَلَ كَوْنَهُ التَّلْبِيَةَ بِعَدَمِ رُكْنِيَّتِهَا وَكَوْنِهِ النِّيَّةَ بِأَنَّهَا شَرْطُ الْحَجِّ وَعَرَّفَهُ تَقِيُّ الدِّينِ بِأَنَّهُ الدُّخُولُ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ، وَالتَّشَاغُلُ بِأَفْعَالِهِمَا وَرَدَّهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ مَا يَدْخُلُ بِهِ النِّيَّةُ وَالتَّلْبِيَةُ وَالتَّوَجُّهُ لِغَيْرِ الْمَكِّيِّ، وَالْأَوَّلَانِ لَهُ، وَالْوَاجِبُ مِنْهُمَا النِّيَّةُ فَقَطْ، وَغَيْرُ الْوَاجِبِ لَا يَكُونُ رُكْنَ الْوَاجِبِ، وَيُرَدُّ بِوُجُوبِ التَّوَجُّهِ مُطْلَقًا لِتَوَقُّفِ سَائِرِ الْأَرْكَانِ عَلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: مُطْلَقًا أَيْ لِلْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ ثُمَّ قَالَ الصَّقَلِّيّ وَالْقَاضِي هُوَ اعْتِقَادُ الدُّخُولِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (قُلْتُ:) إنْ أَرَادَ تَقِيُّ الدِّينِ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ لَزِمَ كَوْنُهُ بَعْدَهُ غَيْرَ مُحْرِمٍ، وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ فِعْلِهِمَا لَزِمَ نَفْيُهُ فِي الْإِحْصَارِ وَالنَّوْمِ وَالْإِغْمَاءِ، وَيَبْطُلُ الثَّانِي بِنَفْيِهِ فِي الْآخَرَيْنِ وَالْغَافِلِ عَنْ اعْتِقَادِهِ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ اتِّفَاقًا أَوْ إجْمَاعًا، وَلَا يُرَدُّ بِأَنَّ الدُّخُولَ فِي حَجٍّ مُضَافٌ إلَيْهِ فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَى الْحَجِّ، وَالْإِحْرَامُ جُزْؤُهُ فَتَتَوَقَّفُ مَعْرِفَتُهُ عَلَيْهِ فَيَدُورُ لِمَنْعِ الثَّانِيَةِ لِجَوَازِ مَعْرِفَتِهِ بِغَيْرِ الْحَدِّ التَّامِّ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: إنْ أَرَادَ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ لَمْ يَذْكُرْ قَسِيمَهُ، وَتَقْدِيرُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ لَمْ يُرِدْ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ بَلْ تَجَوَّزَ وَأَطْلَقَ الدُّخُولَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَدْخُلُ فِيهِ، وَعَلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْحُدُودِ الْمَجَازُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَإِنْ أَرَادَ مُطْلَقَ فِعْلِهِمَا هُوَ إيرَادٌ ثَانٍ عَلَى قَوْلِهِ: وَالتَّشَاغُلُ بِأَفْعَالِهِمَا، وَلَمْ يَذْكُرْ قَسِيمَهُ أَيْضًا، وَتَقْدِيرُهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - وَإِنْ أَرَادَ فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ بِخُصُوصِهِ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَوْلُهُ: وَيَبْطُلُ الثَّانِي أَيْ: التَّعْرِيفُ الثَّانِي الَّذِي عَزَاهُ لِلصَّقَلِّيِّ وَالْقَاضِي.
ثُمَّ قَالَ: وَكَلَامُهُمْ غَلَطٌ، وَسَبَبُهُ عَدَمُ الشُّعُورِ بِمَيْزِ الْإِحْرَامِ عَمَّا بِهِ يَقَعُ الْإِحْرَامُ، فَالْإِحْرَامُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُرْمَةَ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَإِلْقَاءِ الشَّعْثِ وَالطِّيبِ وَلُبْسِ الذُّكُورِ الْمَخِيطَ وَالصَّيْدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَا تُبْطِلُ بِمَا يَمْنَعُهُ قَالَ: وَعَدَمُ نَقْضِهِ بِإِحْرَامِ الصَّلَاةِ وَحُرْمَةِ الِاعْتِكَافِ وَاضِحٌ انْتَهَى.
(قُلْتُ:) الظَّاهِرُ: أَنَّهُ غَيْرُ جَامِعٍ لِخُرُوجِ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ فَقَطْ مَعَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الطِّرَازِ فِي آخِرِ بَابِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَصَاحِبُ الْمُعَلِّمِ وَغَيْرُهُمَا وَنَصُّ كَلَامِ صَاحِبِ الْمُعَلِّمِ لَمَّا ذَكَرَ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَأَنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَيْهِ عِنْدَنَا قَالَ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] ، وَهَذَا يُسَمَّى مُحْرِمًا حَتَّى يُفِيضَ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَفَرَائِضِهِ فَلَا يَذْهَبُ عَنْهُ تَسْمِيَةُ الْمُحْرِمِ حَتَّى يَفْعَلَهُ انْتَهَى.
. وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَالصَّيْدِ، وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: يُوجِبُ حُرْمَةَ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَالصَّيْدِ لَدَخَلَ ذَلِكَ، وَلَا يَرُدُّ إحْرَامَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الصَّيْدَ، وَلَا يَرُدُّ مَنْعَ مَنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَالصَّيْدِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِيهِ لَيْسَ صِفَةً حُكْمِيَّةً فَلَيْسَ دَاخِلًا فِي الْمَحْدُودِ، وَلَا يُقَالُ: حَدُّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِدُخُولِ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا بِتَرْكِ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ مَا ذَكَرَهُ مَعَهَا فِيهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَتْ الْيَمِينُ تَمْنَعُ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَتَقْضِي تَحْرِيمَ الْحَلَالِ إنَّمَا تُوجِبُ الْكَفَّارَةَ بِالْفِعْلِ فَقَطْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ وَشَيْخِهِ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَذَكَرَ عَنْ الشَّيْخِ تَقِيِّ الدِّينِ أَنَّ الشَّيْخَ عِزَّ الدِّينِ كَانَ يُحْرِمُ عَلَى تَعْيِينِ فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ النِّيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ، وَلَفْظُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي الْإِيرَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ لَوْ قَالَ الْمُؤَلِّفُ: هُوَ الدُّخُولُ لَقِيلَ: لَهُ الدُّخُولُ حَقِيقَةٌ مُرَكَّبَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ أَجْزَاؤُهَا وَاجِبَةً؛ لِأَنَّ جُزْءَ الْوَاجِبِ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَجْزَاءِ بِوَاجِبٍ إلَّا النِّيَّةُ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْإِحْرَامَ؛ لِأَنَّ مَا قَارَنَهَا مِنْ تَلْبِيَةٍ وَسَيْرٍ لَيْسَا بِرُكْنَيْنِ، وَهُوَ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ مِنْ اعْتِرَاضِ الشَّيْخِ عِزِّ الدِّينِ لَكِنْ فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّا نَمْنَعُ أَنَّ النِّيَّةَ شَرْطٌ، فَإِنْ قَالَ: حَقِيقَةُ الشَّرْطِ مُنْطَبِقَةٌ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ، وَكَذَلِكَ النِّيَّةُ.
(قُلْنَا:) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ حَقِيقَةُ الشَّرْطِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ، وَلَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي الْمَاهِيَّةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ هَذَا اللَّفْظِ، وَإِلَّا فَرُكْنُ الْمَاهِيَّةِ وَجُزْءُ عِلَّتِهَا يُشَارِكَانِ الشَّرْطَ فِيمَا ذَكَرْتُ فَلَا يَكُونُ حَدُّ
الشَّرْطِ مَانِعًا انْتَهَى.
وَعَرَّفَهُ الْمُصَنِّفُ فِي مَنَاسِكِهِ بِأَنَّهُ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ مَعَ قَوْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ كَالتَّلْبِيَةِ أَوْ فِعْلٍ كَالتَّوَجُّهِ عَلَى الطَّرِيقِ انْتَهَى. وَيَرِدُ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ غَيْرُ شَامِلٍ لِمَنْ أَحْرَمَ بِالنُّسُكَيْنِ أَوْ مُطْلَقًا أَوْ كَإِحْرَامِ زَيْدٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِّ: الْإِحْرَامُ هُوَ الدُّخُولُ فِي التَّحْرِيمِ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ بِنِيَّةٍ وَيَلْتَزِمَ بِخَالِصِ مُعْتَقَدِهِ تَحْرِيمَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُنَافِيهَا الْإِحْرَامُ عَنْ نَفْسِهِ مَا دَامَ مُحْرِمًا انْتَهَى. .
وَيَرِدُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَا تَقَدَّمَ، وَعَرَّفَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّهُ النِّيَّةُ، وَعَرَّفَهُ ابْنُ طَلْحَةَ بِأَنَّهُ إخْلَاصُ النِّيَّةِ، وَبَحَثَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِ مَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ الدُّخُولُ.
وَأَطَالَ، وَاعْتِرَاضُهُ عَلَى ابْنِ عَرَفَةَ بِذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ فِي لِسَانِ الْفُقَهَاءِ يُطْلَقُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الصِّفَةُ الْمُقْتَضِيَةُ لِحُرْمَةِ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ أَعْنِي الصِّفَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا، وَهُوَ بِذَلِكَ غَيْرُ النِّيَّةِ وَالتَّوَجُّهِ وَالدُّخُولِ وَجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِكَذَا، وَيَمْنَعُ الْإِحْرَامُ مِنْ كَذَا، وَالْمَعْنَى الثَّانِي: الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ فِي حُرْمَةِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ أَوْ كِلَاهُمَا مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقَيْنِ بِهِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: هُوَ النِّيَّةُ أَوْ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: الْإِحْرَامُ رُكْنٌ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَ هُوَ الَّذِي يَصِحُّ التَّكْلِيفُ بِهِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فَالتَّكْلِيفُ بِهَا إنَّمَا هُوَ تَكْلِيفٌ بِمَا يَصْلُحُ بِهِ، وَهُوَ مَا تَقَدَّمَ فَكَانَ تَعْرِيفُ الْجَمَاعَةِ لِلْإِحْرَامِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ أَوْلَى مِنْ تَعْرِيفِ ابْنِ عَرَفَةَ لِلصِّفَةِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُمْ بِصَدَدِ بَيَانِ الْأَرْكَانِ الَّتِي يُطَالَبُ الْمُكَلَّفُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
، فَإِنْ قِيلَ: الرُّكْنُ مَا كَانَ دَاخِلَ الْمَاهِيَّةِ، وَالْإِحْرَامُ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، فَالنِّيَّةُ هِيَ الْمُمَيِّزَةُ لِلْحَجِّ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمُمَيِّزُ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْمُمَيَّزِ فَيَكُونُ شَرْطًا قِيلَ: الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلِ: أَنَّ الْمُرَادَ كَوْنُهُ رُكْنًا أَنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْقَرَافِيُّ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ لَكِنْ لَمَّا أَنْ كَانَ تَنْشَأُ عَنْهُ صِفَةٌ تُلَازِمُ تِلْكَ الْمَاهِيَّةَ وَتُقَارِنُ جَمِيعَ الْأَرْكَانِ كُلِّهَا صَارَ كَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَدَاخِلٌ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ فِعْلُهُ صلى الله عليه وسلم وَأَمْرُهُ قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِّ وَغَيْرُهُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ الْمُنْعَقِدُ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَوَقْتُهُ لِلْحَجِّ شَوَّالٌ لِآخِرِ ذِي الْحَجَّةِ)
ش: الضَّمِيرُ عَائِدٌ إلَى الْإِحْرَامِ وَلَمَّا كَانَ الْإِحْرَامُ رُكْنًا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بَدَأَ بِالْكَلَامِ عَلَى وَقْتِ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ ذَكَرَ وَقْتَ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلْإِحْرَامِ مِيقَاتَيْنِ: أَحَدُهُمَا زَمَانِيٌّ، وَالْآخَرُ مَكَانِيٌّ، وَمُرَادُ الْمُؤَلِّفِ: بَيَانُ الْأَوَّلِ فَمَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْمِيقَاتَ الزَّمَانِيَّ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ أَوَّلِ شَوَّالٍ إلَى آخِرِ الْحَجَّةِ، وَالْمِيقَاتُ إنْ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ الزَّمَانُ، فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْمَكَانِيِّ إنَّمَا هُوَ بِالْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ:«وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ» الْحَدِيثَ، وَإِنْ كَانَا مَأْخُوذَيْنِ مِنْ التَّوْقِيتِ وَالتَّأْقِيتِ اللَّذَيْنِ هُمَا بِمَعْنَى التَّحْدِيدِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا حَقِيقَةٌ لُغَوِيَّةٌ بَاقِيَةٌ عَلَى أَصْلِهَا، وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رحمه الله مُسَامَحَةٌ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الشَّيْءِ مَا يُفْعَلُ فِيهِ، وَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ بِكَمَالِهِ وَقْتًا لِلْإِحْرَامِ بَلْ بَعْضُهُ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا هِيَ أَشْهُرُ الْحَجِّ.
وَأَمَّا الْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ فَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَمِيقَاتُهُ الزَّمَانِيُّ فِي الْحَجِّ مَا قَبْلَ زَمَنِ الْوُقُوفِ مِنْ الشَّهْرِ، وَهُوَ شَوَّالٌ وَتَالِيَاهُ وَآخِرُهَا رَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ، وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ وَأَيَّامُ الرَّمْيِ، وَذَكَرَ ابْنُ شَاسٍ رِوَايَةَ أَشْهَبَ بَاقِيهِ انْتَهَى.
لَكِنْ فِي عِبَارَةِ ابْنِ عَرَفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - حَذْفٌ، وَتَقْدِيرُهُ: مَا قَبْلَ آخِرِ زَمَنِ الْوُقُوفِ إلَخْ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ وَقْتَهُ الْمُخْتَصَّ بِهِ دُونَ الْوُقُوفِ وَمِثْلُهُ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ لِلْحَجِّ وَقْتٌ يُبْتَدَأُ فِيهِ عَقْدُهُ وَمُنْتَهَى مَحَلٍّ مِنْهُ بَيْنَهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَأَوَّلُهَا: شَوَّالٌ وَاخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي آخِرِهَا فَقَالَ: عَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، وَقَالَ: ذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ، وَقَالَ: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ إلَى الزَّوَالِ مِنْ تِسْعِ ذِي الْحَجَّةِ مَحِلٌّ لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِمَنْ أَتَى مِنْ الْحِلِّ، فَإِذَا زَالَتْ
الشَّمْسُ كَانَتْ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْعَاشِرِ، فَإِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَارَ وَقْتًا لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ مَا لَمْ تَطْلُعْ الشَّمْسُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُؤَخِّرَ لِبَعْدِ الْأَسْفَارِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا صَارَ وَقْتًا لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ لِمَنْ تَعَجَّلَ مِنْ ضَعَفَةِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ثُمَّ ذَلِكَ وَقْتٌ لِلرَّمْيِ وَالنَّحْرِ وَالْحِلَاقِ وَالطَّوَافِ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ، وَهَذَا هُوَ الْمُسْتَحَبُّ، فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ فَعَلَ وَأَجْزَأَهُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ لِمَا أَخَّرَ مِنْ الْحِلَاقِ وَالطَّوَافِ؛ لِأَنَّهُ وَقْتٌ لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الدَّمِ عَنْ تَأْخِيرِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إذَا أَخَّرَهَا رَمَاهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ خَرَجَتْ لَمْ تُرْمَ.
وَكَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ، وَاخْتُلِفَ إذَا أَخَّرَ الطَّوَافَ وَالْحِلَاقَ بَعْدَ أَنْ خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقِيلَ: عَلَيْهِ الدَّمُ، وَقِيلَ: لَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ بَاقٍ حَتَّى يَخْرُجَ الشَّهْرُ، فَإِنْ خَرَجَ الشَّهْرُ كَانَ عَلَيْهِ الدَّمُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَحْلِقَ وَيَطُوفَ انْتَهَى.
وَمُرَادُهُمْ أَنَّ بِالزَّوَالِ مِنْ التَّاسِعِ انْقَطَعَ وَقْتُ الْإِحْرَامِ فَقَدْ صَرَّحَ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ أَسْلَمَ أَوْ احْتَلَمَ أَوْ أَعْتَقَ بِعَرَفَةَ عَشِيَّةً أَوْ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ أَحْرَمَ حِينَئِذٍ وَوَقَفَ بِهَا وَتَمَّ حَجُّهُ، وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ عَنْ الْمَوَّازِيَّةِ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ النَّوَادِرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُسَامَحَةُ الَّتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَاقِعَةٌ فِي كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ وَالْقَرَافِيِّ وَابْنِ الْحَاجِّ وَصَاحِبِ الشَّامِلِ وَغَيْرِهِمْ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُمْ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْهُرَ وَقْتٌ لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالْإِحْلَالِ مِنْهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بَيَانُ الْوَقْتِ الَّذِي يُبْتَدَأُ فِيهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ لَا وَقْتِ التَّحَلُّلِ مِنْهُ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَوَّلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَاخْتُلِفَ فِي آخِرِهَا عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ الْمُتَقَدِّمَةِ.
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَالْمَشْهُورُ: أَنَّهَا شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلَى حَقِيقَتِهِ انْتَهَى.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مِنْ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَجْهُهُ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَأَتَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَأَقَلُّهُ اثْنَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هُنَا شَهْرَيْنِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ انْتَهَى.
مِنْ مَنْسَكِ ابْنِ الْحَاجِّ، وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ الْحَاجِّ وَعَبْدُ الْحَقِّ وَسَنَدٌ وَغَيْرُهُمْ إلَّا قَوْلَيْنِ إلَى آخِرِ ذِي الْحَجَّةِ أَوْ إلَى عَاشِرِهِ، وَذَكَرَ ابْنُ شَاسٍ وَتَابِعُوهُ وَغَيْرُهُمْ الْقَوْلَ الثَّالِثَ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ وَعَزَا الشَّارِحُ فِي الْوَسَطِ الْقَوْلَ بِأَنَّ آخِرَهَا عَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ يَكُونُ إطْلَاقُ الْأَشْهُرِ عَلَى ذَلِكَ مَجَازًا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ دَمُ تَأْخِيرِ الْإِفَاضَةِ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ فَعَلَى الْمَشْهُورِ: لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْمُحَرَّمِ، وَعَلَى الْعَشْرِ يَلْزَمُهُ إذَا أَخَّرَهُ إلَى الْحَادِيَ عَشَرَ وَهَكَذَا قَالَ الْبَاجِيُّ وَعَبْدُ الْحَقِّ وَاللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُمْ.
وَلَيْسَ مَا زَعَمَهُ ابْنُ الْحَاجِّ فِي مَنَاسِكِهِ مِنْ أَنَّهُ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ وَأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِخُرُوجِ الشَّهْرِ بِجَيِّدٍ انْتَهَى وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ ابْنِ الْحَاجِّ هُوَ فِي أَوَائِلِ مَنَاسِكِهِ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ عَنْ الْبَاجِيِّ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ: وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ اخْتِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ فِي أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا يَجِبُ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ حَتَّى يَتَأَخَّرَ عَنْ ذِي الْحَجَّةِ كُلِّهِ انْتَهَى.
، مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ فَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي النُّكَتِ خِلَافُ ذَلِكَ وَنَصُّهُ: قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ: وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَفِي بَعْضِهَا وَعَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ: ذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ فِي إحْدَى الرِّوَايَاتِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ مَنْ أَخَّرَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ الدَّمُ حَتَّى يَفْرَغَ ذُو الْحَجَّةِ وَيَدْخُلَ الْمُحَرَّمُ فَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْ جَمِيعِهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ وَأَعْرِفُ أَنِّي رَأَيْتُ نَحْوَ هَذَا لِبَعْضِ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى.
فَتَأَمَّلْهُ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ فِي كَلَامِ اللَّخْمِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ دَمٌ بَلْ صَرَّحَ بِنَفْيِ الدَّمِ إذَا أَوْقَعَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا كَمَا تَقَدَّمَ لَفْظُهُ، وَقَالَ فِي مَوْضِعِ آخَرَ: وَقَالَ: يَعْنِي مَالِكًا فِيمَنْ أَخَّرَ الْإِفَاضَةَ وَطَافَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ أَيَّامُ مِنًى إنْ قَرُبَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَطَاوَلَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ، وَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ:
فِي مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فَقَالَ مَرَّةً شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ، وَقَالَ مَرَّةً ذُو الْحَجَّةِ كُلُّهُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ هَدْيٌ إلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ الْحِلَاقَ وَالْإِفَاضَةَ حَتَّى يَخْرُجَ ذُو الْحَجَّةِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ عَلَيْهِ الدَّمُ إذَا خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى وَقَوْلُهُ: فِي الْمُدَوَّنَةِ: لَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِ الطَّوَافِ، وَإِنْ خَرَجَتْ أَيَّامُ مِنًى مَا لَمْ يُطِلْ اسْتِحْسَانٌ لِلِاخْتِلَافِ فِي الْأَصْلِ انْتَهَى.
فَأَنْتَ تَرَاهُ لَمْ يَحْكِ وُجُوبَ الدَّمِ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ أَيَّامِ مِنًى لَكِنْ فِي بِنَائِهِ ذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آخِرَهَا عَشْرُ ذِي الْحَجَّةِ نَظَرٌ بَلْ الظَّاهِرُ: عَلَى هَذَا الْقَوْلِ - كَمَا قَالَ الْمُؤَلِّفُ -: أَنَّهُ يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْحَادِيَ عَشَرَ لَكِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِهِ بَلْ صَرَّحَ صَاحِبُ الطِّرَازِ بِنَفْيِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ، وَنَصُّهُ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ مِنًى حَتَّى مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ إلَى آخِرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ أَخَّرَهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ بَلْ لَا يُعْرَفُ فِي الْأُمَّةِ خِلَافُ ذَلِكَ انْتَهَى.
فَعَلَى هَذَا فِي إطْلَاقِ ابْنِ الْحَاجِبِ أَنَّ فَائِدَةَ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الدَّمِ وَقَبُولِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفِ لِذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ الْبَاجِيِّ نَظَرٌ أَوْ يَكُونُ مِنْ اخْتِلَافِ الطُّرُقِ وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي نَقْلِ الْمُصَنِّفِ ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الْحَقِّ وَاللَّخْمِيِّ وَأَشَارَ ابْنُ عَرَفَةَ إلَى أَنَّ ظَاهِرَ تَوْجِيهِ اللَّخْمِيِّ لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ الْمُتَقَدِّمِ بِأَنَّهُ اسْتِحْسَانٌ لِرَعْيِ الْخِلَافِ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي لُزُومِ الدَّمِ لَيْسَ مَبْنِيًّا عَلَى الْخِلَافِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ إثْرَ نَقْلِهِ الْخِلَافَ فِي كَلَامِهِ الْمُتَقَدِّمِ الْبَاجِيُّ: فَائِدَةُ دَمِ تَأْخِيرِ الْإِفَاضَةِ فَتَوْجِيهُ اللَّخْمِيِّ قَوْلَهُ فِيهَا إنْ أَفَاضَ قُرْبَ أَيَّامِ مِنًى فَلَا دَمَ، وَإِنْ طَالَ فَالدَّمُ لِرَعْيِ الْخِلَافِ خِلَافَهُ انْتَهَى.
، وَلَا يَظْهَرُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ بَلْ صَرِيحُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ أَنَّ لُزُومَ الدَّمِ تَرَتَّبَ عَلَى الْخِلَافِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَإِنْ أَطَالَ فَعَلَيْهِ الدَّمُ غَيْرَ مَحْدُودٍ بِوَقْتٍ، وَلَا يَتَفَرَّعُ عَلَى قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ التَّفْرِيعَ الْمَذْكُورَ ذَكَرَ بَعْدَهُ لَفْظَ الْمُدَوَّنَةِ ثُمَّ قَالَ: وَذَلِكَ خَارِجٌ عَمَّا قَالُوهُ انْتَهَى.
، وَكَذَلِكَ أَشَارَ صَاحِبُ الطِّرَازِ إلَى أَنَّ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ التَّحْدِيدِ مُخَالِفٌ لِلتَّحْدِيدِ بِآخِرِ ذِي الْحَجَّةِ فَلَمَّا رَأَى اللَّخْمِيُّ ذَلِكَ قَالَ إنَّهُ اسْتِحْسَانٌ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَمْ يُفَرِّعْ فِي التَّوْضِيحِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ آخِرَهَا أَيَّامُ الرَّمْيِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فَقَالَ: وَمَنْ أَوْقَعَهُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ عَشَرَ لَزِمَهُ الدَّمُ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَى أَنَّ الْغَايَةَ آخِرُ أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي قَبْلَهُ انْتَهَى.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا أَنَّ فِي آخِرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا: أَنَّ آخِرَهَا آخِرُ ذِي الْحَجَّةِ، وَهَلْ الْخِلَافُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِّ أَوَّلًا، وَعَلَيْهِ فَهَلْ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ لُزُومِ الدَّمِ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهُوَ قَوْلُ سَنَدٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ وَعَبْدِ الْحَقِّ أَوْ يَدْخُلُهُ الْخِلَافُ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرُ مَا نُقِلَ عَنْ الْبَاجِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَابْنِ شَاسٍ وَصَرِيحُ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنِّفِ فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا التَّوْفِيقُ بَيْنَ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَشْهُورِ فَسَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْمُؤَلِّفِ لِلُزُومِ الدَّمِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَسُمِّيَ أَوَّلُهَا شَوَّالًا؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ فِيهِ الْحُجَّاجُ فَتَشُولُ الْإِبِلُ بِأَذْنَابِهَا أَيْ: تَرْفَعُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: شَالَ الشَّيْءُ يَشُولُ شَوْلًا ارْتَفَعَ، وَشُلْتُ بِهِ: لَازِمٌ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ الْجَرِّ، وَهُوَ بِالضَّمِّ مِنْ بَابِ فَعَلَ قَالَ فِي الصِّحَاحِ، وَلَا تَقُلْ: شِلْتُ يَعْنِي بِكَسْرِ الشِّينِ، وَالْجَمْعُ شَوَّالَاتٌ، وَشَوَائِلُ، وَشَوَاوِيلُ وَذُو الْقَعْدَةِ بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَكَذَا ذُو الْحَجَّةِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا، وَالْفَتْحُ فِيهَا أَشْهُرُ سُمِّيَ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَقْعُدُونَ فِيهِ عَنْ الْقِتَالِ، وَسُمِّيَ الْآخَرُ بِذَلِكَ لِوُقُوعِ الْحَجِّ فِيهِ، وَالْجَمْعُ ذَوَاتُ الْقَعْدَةِ وَذَوَاتُ الْحَجَّةِ، وَلَمْ يَقُولُوا ذَوُو عَلَى وَاحِدَةٍ وَمَنْ يُسَمِّي شَوَّالًا عَادِلًا؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْدِلُهُمْ عَنْ الْإِقَامَةِ فِي أَوْطَانِهِمْ، وَقَدْ حَلَّتْ وَيُسَمَّى ذُو الْقَعْدَةِ هُرَاعًا؛ لِأَنَّهُ يَهْرَعُ النَّاسَ أَيْ: يُخْرِجُهُمْ إلَى الْحَجِّ يُقَالُ: هَاعَ فُلَانٌ إذَا قَاءَ، وَيُسَمَّى ذَا الْحَجَّةِ بَرَكَا بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا
لِأَنَّهُ وَقْتُ الْحَجِّ فَتَكْثُرُ فِيهِ الْبَرَكَاتُ وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخَرُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ فَيُسَمُّونَ شَوَّالًا جَيْفَلًا وَذَا الْقَعْدَةِ مَجْلِسًا وَذَا الْحَجَّةِ مُسَبَّلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَكُرِهَ قَبْلَهُ كَمَكَانِهِ، وَفِي رَابِغٍ تَرَدُّدٌ وَصَحَّ)
ش: أَيْ: وَكُرِهَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ مِيقَاتِهِ الزَّمَانِيِّ كَمَا يُكْرَهُ الْإِحْرَامُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ بِهِمَا قَبْلَ مِيقَاتِهِ الْمَكَانِيِّ وَتَرَدَّدَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ الشُّيُوخِ فِي رَابِغٍ هَلْ هُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْمِيقَاتِ فَيُكْرَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ أَوْ هُوَ أَوَّلُ الْمِيقَاتِ فَلَا يُكْرَهُ بَلْ يَكُونُ هُوَ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ إنَّ الْإِحْرَامَ يَصِحُّ وَيَنْعَقِدُ فِي الصُّورَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَكْرُوهًا أَعْنِي فِيمَا إذَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَفِيمَا إذَا أَحْرَمَ قَبْلَ الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ، وَقَوْلُ ابْنِ الْفُرَاتِ أَيْ: وَصَحَّ الْإِحْرَامُ مِنْ رَابِغٍ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَالصَّوَابُ: حَمْلُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ فَائِدَةً فَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى وَهِيَ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ مِيقَاتِهِ الزَّمَانِيِّ، فَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّهُ يُكْرَهُ ذَلِكَ، وَيَصِحُّ إنْ وَقَعَ فَهُوَ: الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ قَالَ فِيهَا: وَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يُحْرِمَ أَحَدٌ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ مِيقَاتُهُ أَوْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ فَعَلَ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لَزِمَهُ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِأَنَّهُ: الْمَشْهُورُ وَمُقَابِلُهُ ذَكَرَهُ اللَّخْمِيُّ، وَلَمْ يَعْزُهُ، وَنَصُّهُ: وَاخْتُلِفَ إذَا عُقِدَ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ حُلُولِ شَوَّالٍ فَقَالَ مَالِكٌ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ وَيَكُونُ فِي حَجٍّ بِمَنْزِلَةِ مِنْ عَقَدَ ذَلِكَ بَعْدَ حُلُولِهِ، وَقِيلَ: لَا يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَدَّمَ الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ شَوَّالًا، مَا بَعْدَهُ إلَى الزَّوَالِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ مَحَلٌّ لِلْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَلَيْسَ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ شَوَّالٍ ثُمَّ قَدِمَ مُرَاهِقًا لَمْ يُعِدْ الْإِحْرَامَ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ الْمُحَرَّمُ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ شُهُورِ السَّنَةِ إلَى شَوَّالٍ مَحِلًّا لِلْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ، وَلَا لِاخْتِصَاصِ الذِّكْرِ بِالْأَشْهُرِ لِلْإِحْرَامِ وَالسَّعْيِ فَائِدَةٌ إذَا كَانَ غَيْرُهَا مِنْ الشُّهُورِ بِمَنْزِلَتِهَا، وَأَمَّا قَوْلُهُ: يَتَحَلَّلُ بِعُمْرَةٍ فَاسْتِحْسَانٌ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ عَلَى شَفْعٍ قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: فَإِنْ قَطَعَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ انْتَهَى.
يَعْنِي، فَإِنْ قَطَعَ الصَّلَاةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ رَاجِعًا لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ؛ إذْ لَا نَصَّ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي ذَلِكَ وَقَوْلُهُ: إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَلَّاهَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِثْلَهُ بَلْ إنَّمَا يُشْبِهُ مَنْ أَحْرَمَ بِصَلَاةٍ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَتَأَمَّلْهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَانْظُرْ قَوْلَهُ: وَلَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ شَوَّالٍ إلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ بَيِّنٍ لَمْ أَفْهَمْهُ، وَالْقَوْلُ بِعَدَمِ الِانْعِقَادِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا، وَلَمْ أَرَ مَنْ عَزَاهُ لِمَالِكٍ غَيْرَهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فَيَجِبُ أَنْ يَرْجِعَا لِغَيْرِ وَاحِدٍ، وَالْأَشْهُرُ زَمَانٌ، وَالْحَجُّ لَيْسَ بِزَمَانٍ فَيَتَعَيَّنُ حَذْفُ أَحَدِ الْمُضَافَيْنِ تَصْحِيحًا لِلْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ زَمَانُ الْحَجِّ أَوْ أَشْهُرُ الْحَجِّ، أَوْ وَقْتُ الْحَجِّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ أَوْ يُقَدَّرُ الْحَجُّ ذُو أَشْهُرٍ مَعْلُومَاتٍ فَيُحْذَفُ الْمُبْتَدَأُ وَخَبَرُهُ ثُمَّ الْمُبْتَدَأُ يَجِبُ حَصْرُهُ فِي الْخَبَرِ فَيَجِبُ انْحِصَارُ الْحَجِّ فِي الْأَشْهُرِ فَيَكُونُ الْإِحْرَامُ بِهِ قَبْلَهَا كَالْإِحْرَامِ بِالظُّهْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ فَلَا يَنْعَقِدُ وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ: قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ سَائِرَ الْأَهِلَّةِ مِيقَاتٌ لِلْحَجِّ وَنَقُولُ فِي الْجَوَابِ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ: الْإِحْرَامُ شَرْطٌ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ الْمُمَيِّزَةُ لِلْحَجِّ، وَالْمُمَيِّزُ غَيْرُ الْمُمَيَّزِ فَيَكُونُ شَرْطًا فَيَجُوزُ تَقْدِيمُهُ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ كَالطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: إنَّهُ رُكْنٌ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْنُونَ بِكَوْنِهِ رُكْنًا أَنَّهُ لَا يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ، وَإِذَا عُلِمَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْمَحْصُورُ إنَّمَا هُوَ الْمَشْرُوطُ أَوْ نَقُولُ: هُوَ رُكْنٌ، وَالْمَحْصُورُ فِي الْأَشْهُرِ الْحَجُّ الْكَامِلُ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الْإِحْرَامُ فِيهِ أَفْضَلُ؛ لِيَحْصُلَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ قَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الشُّهُورَ كُلَّهَا وَقْتًا لِلْإِحْرَامِ وَيَجْعَلَ شُهُورَ الْحَجِّ وَقْتًا لِلِاخْتِيَارِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ التَّحْدِيدَ وَقَعَ فِي الْمِيقَاتِ الْمَكَانِيِّ وَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ
الْإِحْرَامِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْجَوَابُ أَنْسَبُ لِلْمَذْهَبِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ جَوَّزُوا لِلْقَارِنِ تَقْدِيمَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ وَلِمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى قَابِلٍ تَقْدِيمَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَجَعَلَ ابْنُ بَشِيرٍ وَتَابِعُوهُ سَبَبَ الْخِلَافِ هَلْ إيقَاعُهُ فِي أَشْهُرِهِ أَوْلَى أَوْ وَاجِبٌ؟ قَالَ فِي التَّوْضِيحِ، وَفِيهِ بَحْثٌ، وَلَمْ يُبَيِّنْهُ وَلَعَلَّهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَرُبَّمَا جَعَلَ سَبَبَ الْخِلَافِ اخْتِلَافَهُمْ فِي الْإِحْرَامِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟ ، وَهَذَا الْبَحْثُ حَسَنٌ فِي إحْرَامِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا هُنَا فَعِبَارَةُ الْأَئِمَّةِ فِيهِ أَنَّهُ رُكْنٌ، وَلَكِنْ مَنْ جَوَّزَ تَقْدِيمَهُ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] الْآيَةِ، وَوَجْهُ الدَّلِيلِ: أَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي الْأَهِلَّةِ لِلْعُمُومِ فَعَلَى هَذَا كُلُّ هِلَالٍ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلنَّاسِ فِي انْتِفَاعَاتِهِمْ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَفِي الْحَجِّ وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِصِحَّةِ انْعِقَادِ الْحَجِّ فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي فَضْلِ الْحَجِّ أَنَّهُ يُحْرِمُ بِهِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، وَكَثِيرٌ مِنْ الْمَنَازِلِ لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ مِنْهَا إلَى مَكَّةَ إلَّا إذَا خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ شَوَّالٍ وَمَنْ لَمْ يُصَحِّحْ الْإِحْرَامَ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ، وَهَذَا خَاصٌّ إذَا نُسِبَ إلَى دَلِيلِ الْأَوَّلِينَ، وَالْأَثَرُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ عَنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ لِبَعْضِهِمْ انْتَهَى.
مَا ذَكَرَهُ فِي الْإِحْرَامِ هَلْ هُوَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ؟ قَدْ عَلِمْتَ مَا فِيهِ، وَأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ تَرْجِيحُ دَلِيلِ الْقَوْلِ الثَّانِي، وَقَدْ عَلِمْتَ جَوَابَهُ، وَدَلِيلَ الْأَوَّلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ فِي النُّكَتِ: اعْتَرَضَ عَلَيْنَا مُخَالِفُنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِالْإِحْرَامِ فِي الصَّلَاةِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَأَصْلُ الْحَجِّ مُبَايِنٌ لِلصَّلَاةِ فِي أُمُورٍ شَتَّى قَالَ الْأَبْهَرِيُّ: وَجَدْنَا الْحَجَّ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يُوقَعَ فِي وَقْتِهِ، وَهُوَ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَلِذَلِكَ جَازَ الْإِحْرَامُ قَبْلَ أَشْهُرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهُ قَبْلَ أَشْهُرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ لَوْ جَوَّزْنَا الدُّخُولَ فِيهَا قَبْلَ وَقْتِهَا لَخَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ وَقْتِهَا انْتَهَى.
(فَإِنْ قِيلَ:) مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمِيقَاتِ الزَّمَانِيِّ وَالْمَكَانِيِّ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ مَعَ أَنَّ مُرَاعَاةَ الْمَكَانِ أَوْلَى لِشَرَفِهِ لِقُرْبِ الْبَيْتِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ عليه السلام قَالَ فِي الْمَكَانِيِّ «هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ» فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمَاكِنَ مَحْصُورَةٌ فِي النَّاسِكِينَ، وَلَمْ يَحْصُرْ النَّاسِكِينَ فِيهَا فَجَازَ التَّقْدِيمُ وَالْمِيقَاتُ الزَّمَانِيُّ عَلَى الْعَكْسِ؛ لِأَنَّهُ حَصَرَ النُّسُكَ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ انْتَهَى.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ:) قَالَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَإِنْ فَعَلَ لَزِمَهُ، وَإِنْ أَحْرَمَ فِي الْمُحَرَّمِ إلَى ذِي الْحَجَّةِ لَزِمَهُ، وَلَا يَزَالُ مُلَبِّيًا مُحْرِمًا حَتَّى يَرْمِيَ وَيَحْلِقَ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ فِي الطِّرَازِ
وَحُكْمُ مَا بَعْدَ طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى أَوَّلِ الْمُحَرَّمِ حُكْمُ مَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ فِي الطِّرَازِ بِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُفِقْ حَتَّى فَاتَ الْوُقُوفُ لَمْ يُطَالَبْ بِالْإِحْرَامِ، وَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيُّ إذَا أَسْلَمَ، وَلِأَنَّ كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ شَامِلٌ لِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّ مِيقَاتَ إحْرَامِ الْحَجِّ مَا تَقَدَّمَ قَالَ: فَلَا يُحْرِمُ قَبْلَهُ، فَإِنْ فَعَلَ انْعَقَدَ، وَنَقَلَ اللَّخْمِيُّ لَا يَنْعَقِدُ، وَمَالَ إلَيْهِ انْتَهَى.
فَقَوْلُهُ: فَلَا يُحْرِمُ قَبْلَهُ شَامِلٌ لِذَلِكَ وَلِقَوْلِ الْقَرَافِيِّ فِي تَعْلِيلِ الْكَرَاهَةِ: بَقَاءُ مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ عَلَى إحْرَامِهِ إلَى قَابِلٍ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ قَبْلَ مِيقَاتِهِ الزَّمَانِيِّ، وَنَصُّهُ قَالَ سَنَدٌ: يُكْرَهُ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الْإِحْرَامِ خَشْيَةَ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ، وَلِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ مِيقَاتِهِ الزَّمَانِيِّ بِسَنَةٍ، وَهُوَ يُكْرَهُ فِي الْيَسِيرِ انْتَهَى.
بَلْ ظَاهِرُ مَا ذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَنَقَلَهُ عَنْهُ اللَّخْمِيُّ وَالتُّونُسِيُّ وَصَاحِبُ الطِّرَازِ وَغَيْرُهُمْ، وَنَقَلَهُ عَنْهُمْ ابْنُ عَرَفَةَ وَالتَّادَلِيّ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفُوتُهُ، وَلَوْ كَانَ الْآنَ وَقْتُهُ بَاقٍ، وَأَنَّهُ إنْ فَعَلَ وَفَاتَهُ لَا يَتَحَلَّلُ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ عَلَى الْبَقَاءِ هَذَا ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
قَالَ فِي الطِّرَازِ فِي أَوَائِلِ بَابِ الْمُحْصَرِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ بَلَدٍ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَقْتِ مَا لَا يُدْرِكُ فَلْيَلْبَثْ هَذَا حَرَامًا حَتَّى يَحُجَّ مِنْ قَابِلٍ، فَإِنْ حَصَرَهُ عَدُوٌّ لَمْ يَنْفَعْهُ وَبَقِيَ عَلَى إحْرَامِهِ
إلَى قَابِلٍ؛ لِأَنَّ الْعَدُوَّ لَيْسَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْ الْحَجِّ انْتَهَى.
وَلَفْظُ اللَّخْمِيِّ: وَمَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ لَا يُدْرِكُ فِيهِ الْحَجَّ مِنْ عَامِهِ ثُمَّ أُحْصِرَ عَنْ ذَلِكَ الْعَامِ لَمْ يَحِلَّ إلَّا أَنْ يَصِيرَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يُدْرِكْ الْحَجَّ عَامًا قَابِلًا انْتَهَى.
(الثَّانِي) حُكْمُ الْإِحْرَامِ بِالْقِرَانِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ حُكْمُ الْإِفْرَادِ فِي الْوَقْتِ، وَفِي كَرَاهَةِ تَقْدِيمِ الْإِحْرَامِ قَبْلَ وَقْتِهِ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الطِّرَازِ وَنَصُّهُ فِي الْبَابِ السَّادِسِ: وَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِرَانَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يُكْرَهُ عِنْدَ الْكَافَّةِ وَنَصَّ عَلَيْهِ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْجَمِيعِ، وَذَلِكَ لِمَكَانِ إحْرَامِهِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَرَوَى ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ سُئِلَ أَيُهِلُّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَيَّامِ الْحَجِّ؟ فَقَالَ: لَا.
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ إنْ وَقَعَ فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ حَنْبَلٍ وَالثَّوْرِيُّ وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إنَّهُ إذَا وَقَعَ صَحَّ وَانْعَقَدَ الْإِحْرَامُ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي الْحَجِّ بِعُمْرَةٍ، وَفِي الْقِرَانِ لَا يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ وَيَكُونُ مُعْتَمِرًا فَقَطْ انْتَهَى.
، وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ وَالظَّاهِرُ: أَنَّ إرْدَافَ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَذَلِكَ أَيْ: يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ فَعَلَ انْعَقَدَ، وَكَانَ قَارِنًا فَلَوْ شَكَّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ هَلْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ؟ فَظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ الْآتِي: أَنَّهُ شَامِلٌ لِهَذَا وَأَنَّ الْحُكْمَ وَاحِدٌ وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) : لَوْ أَحْرَمَ مُطْلَقًا فَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ انْعَقَدَ إحْرَامُهُ عُمْرَةً مُجْزِئَةً عَنْ عُمْرَةِ الْإِسْلَامِ قَالَ ابْنُ جَمَاعَةَ فِي مَنْسَكِهِ الْكَبِيرِ: وَإِطْلَاقُ ابْنِ الْحَاجِبِ الْمَالِكِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي التَّعْيِينِ انْتَهَى يَعْنِي إطْلَاقَهُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا أَحْرَمَ مُطْلَقًا جَازَ وَخُيِّرَ فِي التَّعْيِينِ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ: أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ صَرْفُهُ إلَى الْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الرَّابِعُ) : عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي نَقَلَهُ اللَّخْمِيُّ: أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ قَبْلَ أَشْهُرِهِ يَنْعَقِدُ الْقِرَانُ عُمْرَةً فَقَطْ، وَكَذَا الْإِحْرَامُ الْمُطْلَقُ، وَلَا يَصِحُّ الْإِرْدَافُ، وَإِنْ شَكَّ هَلْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَإِنْ تَعَيَّنَ أَنَّهُ بِحَجٍّ وَشَكَّ بَعْدَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ هَلْ وَقَعَ قَبْلَ أَشْهُرِهِ أَمْ لَا كَانَ حَجًّا؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْمَانِعِ، وَهَذَا التَّفْرِيعُ لَمْ أَرَهُ مَنْصُوصًا، وَلَكِنْ هُوَ مُقْتَضَى عَدَمِ الِانْعِقَادِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الْخَامِسُ) : قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ مَالِكٌ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحْرِمَ أَهْلُ مَكَّةَ إذَا أَهَلَّ هِلَالُ ذِي الْحَجَّةِ قَالَ سَنَدٌ هَذَا يُخْتَلَفُ فِيهِ فَعِنْدَ مَالِكٍ يُحْرِمُ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ كَانَ بِهَا إذَا أَهَلَّ ذُو الْحَجَّةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الْمُسْتَحَبُّ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ لِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ عليه السلام قَالَ «إذَا تَوَجَّهْتُمْ إلَى مِنًى فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ» ، وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ سَأَلَ ابْنَ عُمَرَ فَقَالَ رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا وَسَاقَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ وَرَأَيْتُكَ إذَا كُنْتُ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ، وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَوَجْهُ الْمَذْهَبِ: مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ مَا بَالُ النَّاسِ يَأْتُونَ شُعْثًا، وَأَنْتُمْ مُدْهِنُونَ أَهِلُّوا إذَا رَأَيْتُمْ الْهِلَالَ، وَلَمْ يُعْرَفْ أَحَدٌ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ، وَقَدْ قَالَ عليه السلام «الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» ، وَهَذَا لِمَا يَكُونُ لِبُعْدِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْوُقُوفِ رَوَى مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَقَامَ بِمَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ يُهِلُّ لِهِلَالِ ذِي الْحَجَّةِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهَذَا ابْنُ الزُّبَيْرِ يَفْعَلُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَأَنَّهُ الْعَادَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْآبَاءِ، وَسُنَّةٌ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَحَدِيثُ جَابِرٍ مَحْمُولٌ عَلَى الْجَوَابِ وَلِقُرْبِ إحْرَامِهِمْ مِنْ إحْلَالِهِمْ، وَأَثَرُ ابْنِ عُمَرَ حُجَّةٌ لَنَا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ غَيْرُهُ عَلَى مَا قُلْنَا، عَلَى أَنَّهُ رَوَى مَالِكٌ عَنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ إلَى مَا قُلْنَا، وَقَالَ التَّادَلِيُّ قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِلْمَكِّيِّ أَنْ يُهِلَّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ لِيَكُونَ إحْرَامُهُمْ مُتَّصِلًا بِسَيْرِهِمْ وَتَلْبِيَتُهُمْ مُطَابِقَةً لِمُبَادَرَتِهِمْ لِلْعَمَلِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ لِأَوَّلِ ذِي الْحَجَّةِ لِيَلْحَقَهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَحِقَ غَيْرَهُمْ وَالْقَوْلَانِ عَنْ مَالِكٍ انْتَهَى.
وَهَذَا الْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ الْبَاجِيُّ، وَعَلَيْهِ كَانَ جُمْهُورُ الصَّحَابَةِ انْتَهَى.
كَلَامُ التَّادَلِيِّ، وَاَللَّهُ