الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيام دولة بنى نصر:
حدث فى أعقاب وفاة أبى يعقوب يوسف المستنصر سنة 620 هـ (= 1224 م) دون أن يخلف ولدًا قيام نزاع أسرى أدى إلى تدهور الإدارة المركزية فى الأندلس، رافقه ظهور بأس بنى مَرْدنيش فى بلنسية وبنى "هود" فى مرسية إلى جانب استحواذ فرديناند الثالث صاحب قشتالة على ناج ليون سنة 1230 م، وقد أخذت جيوشه تتوغل منذ سنة 1231 م فى الولايات الإسلامية حتى أمكنها الإستيلاء على قرطبة (632 هـ = 1236 م) ثم أشبيلية (646 = 1248 م) وأدى ضياع هاتين المدينتين الكبيرتين إلى أنه لم يبق للإسلام قوة فى الوادى الكبير، كما انحسرت السيطرة الإسلامية الفعالة إلا عن جزء صغير من شبه جزيرة أيبريا.
فى هذه الظروف تأسست دولة يرجع الفضل فى تبوُّئها دروة القوة إلى مجهودات محمد (الأول) بن يوسف ابن نصر، وقامت هذه الأسرة فى أرجونة التى لم تكن تزيد عن كونها بلدة صغيرة على حدود نهر الوادى الكبير الجنوبية، ولا تبعد عن "جِيّان" أكثر من ثلاثين كيلو مترا، واستطاع محمد بن يوسف هذا أن يمد حدوده حتى بلغت وادى آش" Yuadut كما وصلت إلى تخوم غرناطة وبياسة Baeya على الساحل الشمالى لنهر الوادى الكبير، ولقد وجدت دولة بنى نصر معاونة من جانب أسرة عربية أسبانية هى أسرة بنى "أشْقِيلولة" التجيبية المعروفة فى المراجع القشتالية باسم escayola واستطاع محمد بن يوسف بفضل مساعدة هذه الأسرة له، وبفضل المصاهرات أن يصبح حاكم "أرجُونة" وأن يطلب إليه أشراف غرناطة أن يتولى أمر مدينتهم وذلك سنة 634 هـ (= 1237 م)، وقد اشتهر محمد بن يوسف بن نصر هذا فى مستهل حياته بأنه رجل "دعوة" دينية جذب بها الجماهير إلى جانبه، ونجح فى أن يضم إلى جانبه من أصبح يده اليمنى وهو على بن أشْقيلُولة"، كما استطاع أن يجعل المالكية يقفون إلى جانبه، ثم أراد الاستقلال بالأمور وجعلها فى أسرته بنى نصر فأعلن فى سنة 655 هـ (= 1257 م) أن وَلِيىّ عهده هما ولداه محمد ويوسف، وقد أسفر ذلك عن نزاع بين أسرته وبين
بنى "أشقيولة الذين استقلوا بالحكم فى مالقة وباعدوا ما بينهم وبين إمارة غرناطة، وانتهى الأمر أخيرًا بتمرد مالقة على غرناطة، وأخذ القشتاليون يشجعون كل طرف الآخر، ولقد تضاءل نفوذ بنى "أشقيلولة" بظهور فترة قشتالة، وبعد عشر سنوات من سقوط قرطبة فى يد فرديناند سعى ابن نصر لمسالمة فرديناند إذ أعلن خضوعه له وتعهد بدفع جزية سنوية كبيرة له، بل إنه ساهم فى الهجوم القشتالى الذى انتزع إشبيلية من يد الإسلام، ومات محمد الأول سنة 671 هـ (= 1273 م) دون أن يحرز أى نصر حربى أو يضم أرضا إلى مملكته. فلما خلفه محمد الثانى المعروف بالفقيه (وكان فى أخريات الثلاثين من عمره) سعى لضرب بنى "أشقيولة" وخاف فى الوقت ذاته من قشتالة فعقد معها صلحا تعهد فيه أن يدفع لها ثلاثمائة ألف درهم مروانية سنوية، ثم التفت هو وبنو أشقيلولة إلى طلب المعونة من سلطان بنى مرين أبى يوسف يعقوب، فاستجاب السلطان لكل منهما واستولى على طريف والجزيرة الخضراء بحملة بحرية كبيرة واتسمت حملته بالجهاد وأنزل الهزيمة الساحقة بأعوان الفونسو حتى لقد هلك أحد كبارهم واسمه "نينو جونزالتز" ولم يكتسب محمد الثانى كثيرًا من بنى مرين الذين رآهم يعاملونه معاملة تزرى به فترك الجزيرة الخضراء مجللًا بالعار، أما بنو أشقيلولة فقد أسلموا "مالقة" لحاكم مرينى.
ولقد صادفت غرناطة فى أبريل 1285 م مشلكة كبيرة، ذلك أن أبا يوسف تلقى استغاثة من "بنى أشقيلولة" لمعاونتهم ضد شانجة الرابع (الذى تولى بعد موت الفونسو سنة 1284 م) فاستجاب لهم أبو يوسف وعبر العدوة محاربًا شانجة الذى أجهده القتال فسعى للصلح بعد بضعة أشهر من الحرب فتم له ما أراد وقبل أن ينسحب من مناطق غرناطة، أما الحاكم المرينى الجديد أبو يعقوب يوسف فقد واجهته بضعة مشكلات داخلية فى المغرب ومن ثم عقد الصلح مع بنى نصر، وشهد مطلع عام 686 هـ (= 1288 م) نهاية بنى أشقيلولة. ثم أصبح هدف محمد الثانى يتركز فى السيطرة على مضيق جبل طارق
وإضعاف قوة بنى مرين فى أسبانيا ورأى أن تحقيق ذلك يتم بتوسيع هوة الخلاف بين القشتاليين وبين المرينيين فى "طريف"، ومن ثم اتبع سياسة تكوين حلف ضد بنى مرين يضم كلا من غرناطة وقشتالة وأرجونة وتلمسان ولما نجح شانجة فى أكتوبر 1292 م فى الاستيلاء على "طريف" بمعاونة الاتفاق بينهما فيسلمه "طريفا" فلما لم يفعل شانجة ذلك راح محمد يلتمس مساعدة بنى مريين لحصار طريف من جديد، ولكنه فشل فى مسعاه هذا، واضطر أبو يعقوب فى 694 هـ (= 1295 م) أن يسحب كل جيوشة وأسلم لمحمد كل المعاقل المرينية فى شبة الجزيرة العربية وأصبح همَّ محمد الآن أن يملأ الفراغ، ولكن انقلبت الأمور ضده حين شبت ثورة استمرت عامًا كاملًا وقد تزعمها بنو الحكيم من أهل "رُنْدَة" وانتهت بقبوله إلا يبقى أحد من بنى نصر فى تلك المنطقة.
ولما مات شانجة فى أبريل 1295 م وتولى ابنه فرديناند الخامس مكانه وكان لا يزال صبيا حدثت منازعات أدت إلى قيام محمد بحملة على النواحى الشمالية استولى فيها على القيجاطة" Ouesada فى ختام 1295 م ثم "القَبْذاق" Alcaudete فى يونيو 1300 م، وإذا كان قد مات فى شعبان 701 (أبريل 1302 م) فقد مات بعد أن عقد معاهدة مع أرجونة اعترفت فيها بحق غرناطة فى امتلاكها لطريف وغيره من الأماكن، وكان يعد العدة لحملة جديدة على قشتالة.
ولقد ورث محمد الثالث عهدا ينذر بالخطر، ومن ثم كان يؤثر السلم الذى كان فى صالح غرناطة، وإن أدى به إلى تبعية دامت ثلاث سنوات وأصبح فَصلًا لقشتالة واتفقت الدولتان القشتالية، والأرجونية سنة 1308 م فى معاهدة قلعة "الحنش" على أن يتقاسما فيما بينهما مملكة غرناطة.
أما سياسة محمد الثالث تجاه بنى مرين فقد اتسمت بعدم الاكتراث بهم، وتمكنت قواته فى سنة 1306 م من الاستيلاء على "سبته" كما أخرج "بنى العَزَفى" إلى غرناطة ونادى بنفسه الحاكم المطلق على سبتة عام 1307 م وأصبحت له السيطرة على المضيق إلا
أن ذلك أثار بنى مرين الذين كانوا قد تخلصوا من أعباء حربهم مع تلسمان (مايو 1307 م) كما أثار القشتاليين والأراجونيين فتكاتفت هذه القوى الثلاثة ضده، فاضطر محمد للارتداد إلى حصن المنكب، وأُغتيل وزيره ابن الحكيم فى مارس 1309.
ثم تولى حكم المملكة أبو الجيوش نصر وكان فى الثانية والعشرين من عمره، ووجدت غرناطة نفسها مضطرة لأن تقاتل للإبقاء على حياتها، ورافقه الحظ إذ أحل السبتيون بنى نصر محل حكم بنى مريين، وأظهرت فاس استعدادها لقبول شروط بنى نصر للسلم والموادعة، وساعد على ذلك غزو قشتالة لجبل طارق فى سبتمبر 1309 م فانتقلت الجزيرة الخضراء ورندة وما ينصبهما إلى بنى مرين، ولما كان منتصف نوفمبر 1309 م غادرت كتيبة قشتالية حصار الجزيرة الخضراء كما أعلن فرديناند الرابع قبوله لشروط نصر فتعهد بدفع الجزية له وأن يرد إليه بعض المعاقل التى على الحدود التى كانت قد أخذت من قشتالة، وعقدت معاهدة فى يناير 1310 م تعهد الأرجونيون بمقتضاها ألا يعودوا قط للأغارة على غرناطة، ولقد انتهى كل عدوان قشتالى فى سبتمبر 1312 م بموت فرديناند.
على أن واحدًا من أقارب نصر اسمه إسماعيل قام فى الحادى والعشرين من شوال 713 هـ (= فبراير 1314 م) بخلعه عن العرش وكان إسماعيل هذا ابن حاكم مالقة.
وأخذ إسماعيل هذا الذى عرف بالثانى مقاليد الأمور فى يديه ولكن نصر مضى يعد العدة لاسترداد مُلكه حسب اتفاقية قشتالة، ومن ثم جاءت حملة قشتالية إلى وادى أش فى صفر 716 هـ = أبريل 1316 م معترضة العسكر الإسلامى الذى كان بقيادة القائد المرينى عثمان بن أبى العُلاء احتدم القتال بين الجانبين عند وادى فرْتونة وأخذ المسيحيون يقتربون على غرناطة التى أخذت تستعيد سيطرتها على المضيق بفضل التعاون البحرى من جانب حاكم سبته العَزَفى يحيى بن أبى طالب، لكن قشتالة شنت هجومًا على غرناطة، وتمكن "دون بدرو" و"دون جوان" الوصيان على الصغير
ألفونسو الحادى عشر من أن يصلا إلى أسوار المدينة، وشبت معركة دارت الدائرة فيها على قشتالة وقتل فيها الأسبانيان الوصيان فى وقعة "فجة" ويرجع الفضل فى ذلك إلى القائد المرينى عثمان أبى الغلا، وقبلت قشتالة -إذا لم يعد لها من قائد- إمضاء معاهدة لمدة ثمانية أعوام، وما لبث "نصر" أن مات فانعدم كل تهديد من جانبه لإسماعيل الذى مضى يدعم مركزه على الحدود فاستعاد بعض الأماكن هناك مثل بازة ووشقة، ولكنه مالبث أن قتل فى شجار بينه وبين ابن عمه محمد بن إسماعيل وإلى الجزيرة الخضراء.
ثم جاء للحكم أبو عبد اللَّه محمد السادس المعروف بالغالب باللَّه وكان أكبر أربعة أولاد لإسماعيل ولكنه كان صغيرًا فحكم تحت وصاية وزير أبيه القوى ابن المحروق الذى سرعان ما اشتبك فى صراع عنيف مع عثمان بن أبى الغلا، وانتهى صراعهما هذا باغتيال الوزير بأمر الملك فى رمضان 729 هـ.
ولما بلغ الفونسو الحادى عشر السن فى سنة 1327 م خاف من تفاقم خطر القوات المغربية فى أسبانيا فقامت قشتالة وأرجونة بالاتفاق مع نفارة وبوهيميا وإنجلترا وفرنسا بالإعداد لحملة صليبية ضخمة ضد غرناطة، غير أن ماكان من شقاق بين بعضها والبعض الآخر عمل على ضعف الحملة وأن خرجت فى ربيع 1329 م غير متحمسة للقتال، ووجدت قشتالة نفسها وحيدة فى الحرب وقد استولت على بعض المعاقل الشمالية ومن ثم كان التماس المسلمين المعونة مرة أخرى من بنى مريين وأمكن استرداد جبل طارق من قشتالة فبادر الفونسو الحادى عشر فأمضى إتفاقية فى أغسطس 1330 م مثلما فعلت أرجونة قبل ذلك بشهر واحد ولقد اغتيل محمد فى طريقه عودته من جبل طارق يوم الخامس والعشرين من أغسطس 1333 م، اغتاله أبو ثابت وإبراهيم ولدا عثمان بن أبى العُلا.
وإذ ذاك نودى بيوسف الملقب بأبى الحجاج والمعروف بالمؤيد باللَّه وكان أصغر أخوى محمد الرابع، وكان أول عمل قام به هو إخراجه أبا ثابت الذى كان "شيخ الغزاة وأحل محله رجلا مِن بنى مرين اسمه يحيى بن عُمر بن رَحَّو.
ولقد تمت فى أوائل عهد يوسف اتفاقية مع قشتالة مهدت السبيل لإتفاقية ثلاثية بين قشتالة وغرناطة وفاس (1334 م) وكان من الأحداث ما جرى فى أبريل 1340 م من هجوم أدى إلى تحطيم الأسطول الإسلامى فى خليج الجزيرة الخضراء، وقام أبو الحسن بحصار طريف، وكانت وقفة "سلادو" نكبة إسلامية إذ اندحرت خيول المسلمين الخفيفة، فخاف أبو الحسن وفر إلى غرناطة، وجرت مناوشات وحروب، ثم عقدت هدنة مداها عشر سنوات إلا أن الفونسو نقض هذه الاتفاقية سنة 1349 م فى محاولة للاستيلاء على جبل طارق ولكنه مات بالموت الأسود قبل بقية رجاله فى مارس 1350 م، فبادر ولده "بدرو" الأول وتوصل إلى اتفاق مع يوسف إلا أن أيام يوسف كانت معدودة فقد حدث فى أول شوال 755 (= 19 أكتوبر 1354) أن طعنه مجنون فى جامع غرناطة الكبير طعنة أودت بحياته.
وتولى مكانه ولده محمد الخامس وكان أكبر أبنائه، وكان فى السادسة عشرة من عمره فقام بالوصاية عليه حاجب أبيه القوى رضوان الذى كان فى خدمته الشاب الموهوب ابن الخطيب، وأصبح هدف غرناطة الأكبر توفير السلام العام لذلك رحب محمد بفكرة رفع الجزية إلى "بدرو" الأول، مما عمل على الإسراع فى إقامة العلاقات الودية بينه وبين قشتالة، إلا أنه لم يصادف مثل هذا التوفيق والنجاح السريع مع أرجونة، والسبب فى ذلك أن "بدرو" الرابع آثر الحرب فاشعلها على حدود بلاده، وعلى الرغم من ذلك فإن إصرار غرناطة فى سيادتها أدى فى سنة 1358 م إلى تحسين العلاقات بين الجانبين مما أفضى إلى إمضاء اتفاقية موادعة بينهما، كذلك غرناطة حريصة كل الحرص على توثيق روابط المودة مع فاس التى كانت تحت حكم أبى غبان المرينى، فأرسل محمد سفارة على رأسها ابن الخطيب إلى سلطان فاس (سنة 755 هـ = 1354 م) وإذا لم تسفر هذه السفارة عن تحقيق مرماه الكامل إلا أنه فى سنة 760 هـ وجه أبو سالم المرينى ملجأ له فى غرناطة وتلا ذلك تحالف بين بنى نصر وبين مرين، غير أن الوفاق مع أرجونة انتهى
سنة 1385 م والسبب فى ذلك أن علاقات محمد الخامس الخاصة مع قشتالة أرغمته على أن يقف إلى جانب "بدرو الأول" لما كانت سنة 1359 وجد الأسطول القشتالى وقد أضيف إليه ثلاثة شوانى غرناطية تسهيلات فى ميناء مالقة، وكان الأمير محمد على وشك التحرك للهجوم على أرجونة برًا ولكنه زُحزح عن العرش بسبب ثورة بالقصر فى رمضان 760 هـ (أغسطس 1359 م) قام بها ضده أخوه غير الشقيق إسماعيل بن مريم أرملة يوسف وكانت مريم امرأة شديدة الشكيمة ووجدت التأييد والعون من زوج ابنتها أبى عبد اللَّه محمد المعروف عند النصارى بال: el Bermejo، ففاجأت مريم القصر بهجوم عنيف وقُتِل فى هذا الحادث رضوان وكُتِبت النجَاة لمحمد الخامس إذا كان فى هذه اللحظة خارج الحمراء ففَّر إلى وادى أش ثم إلى فاس Fea وذلك فى نوفمبر 1359 م ووجد الحماية فى بلاط أبى سالم.
وتولى الحكم إسماعيل (أبو الوليد) الثانى الذى لم تطل مدة حكمه غير أشهر قلائل وكان إسماعيل هذا ضعيفًا ليس فيه ما يحمل أحدًا على احترامه، وإذا كانت كراهية ابن الخطيب له لم تضرّه إلّا أن الخطر جاءه من ناحية أخرى فقد بادر "البرميخو" أبو عبد اللَّه محمد فأخذ الأمور فى يده، ثم عمد إلى اغتياله وذلك فى 8 شعبان 761 هـ (= 24 يونيو 1360 م).
كان محمد السادس "البرميخو" رجلًا خشنًا فى مظهره وعاداته ولم يكن أحسن من محمد قبولًا فى البلاط، وبدأ بمنع الجزية المتفق على دفعها لقشتالة، لذلك فإنه ما كاد بدرو الأول يهزم الأرجونيين فى "ناحرة" سنة 1360 م ثم يعقد معهم اتفاقية "تيرير" Terrer فى مايو 1361 م حتى التفت إلى محمد الخامس الذى كان ساعده فى الرجوع من فاس وإقامة حكومة فى "رنده" المرينية 763 هـ ولقد بدأ محمد الخامس ولايته الثانية فى جمادى الأولى 763 هـ وامتد حكمه ثلاثين عامًا وجنح فى معظمها إلى الهدوء ونعمت غرناطة بأطول فترة من الهدوء شهدتها فى تاريخها، ولما قام "بدرو
الأول" بمحاربة الثوار الذى كان يقودهم أخوه "أتريك تراستامارا" بعث محمد بطائفة من الفرسان إلى قشتالة لمعاونة "بدرو الأول" فى فتح "نيرويل" سنة 1363 م، إلّا أنه لم يقدر النصر وكانت الغَلبة لأنريك الذى نودى به يوم 16 مارس 1366 م حاكما على قشتالة واضطر بدرو الأول مغادرة بلده وخاف محمد من هجوم النصارى على "المرية" فبعث فى طلب النجدة من أفريقية التى وافته لكنها لم تحقق رغبته ومن ثم شجب محمد محالفته مع "بدرو" وتحول إلى جانب "أتريك" الذى عرف بأنريك الثانى وعقد معاهدة صلح مع أرجونة فى رجب 768 هـ، غير أنه مات فى آخر هذه السنة. عاد بدرو الأول إلى قشتالة يعاونه "الأمير الأسود" الإنجليزى وحينذاك نقض محمد خلفه السابق وساهم مع قوات قشتالة واش تخريبًا فى "جيان" ونهب بعض البلدان الأخرى وأن فشل فى الاستيلاء على قرطبة ومن ثم عاد إلى غرناطة إلا أن بدرو الأول مات فى مارس 1369 م ورجع أنريك الثانى فرأى محمد موارثه وعقد معه يوم 31 مايو 1370 م إتفاقية السنة فى عقد اتفاقيات ومعاهدات أتاحت لغرناطة فرصة طويلة من الهدوء والإستقرار والوفاق مع نجيرانها النصارى لكن ذلك العهد زال بموت أنريك الثانى سنة 1379 م حيث عادت الخصومة بين غرناطة وقشتالة إلّا أن انشغال جوان الأول ابن أنريك الثانى بمحاربته البرتغال وإنجلترا أثر السلم فأبرم مع محمد إتفاقية صلح تجددت سنة 1390 م. ولقد إمتاز عهد محمد بعدئذ بظاهرتين أولاهما تحطيم تحصينات الجزيرة الخضراء القوية والأخرى استعانته بقائد من "الغزاة" المغاربة ولم يبق أمامه سوى العمل على استرداد جبل طارق من أيدى بنى مرين، وقد تحقق له ذلك سنة 1374 م، ولقد تسرّب الخوف إلى نفس وزيره الأكبر إبن الخطيب الذى كان هواه مع بنى مرين فدبر الهروب من البلاد سنة 773 هـ (= 1371 م) واللجوء إلى فاس إلا أن خصمه القديم "إبن زَمْرَك" رماه بالهرطقة فسُجِن ومات فى حبسه 776 هـ.
ومات محمد الخامس سنة 793 هـ وهو فى ذروة قوته، بعد أن أتاح لغرناطة فرصة الإستقرار والطمأنينة ساعدتها على أن تنعم بالرخاء والرفاهية وتقدمت العلوم والفنون فى زمنه.
تولى بعده أكبر ولده يوسف الثانى أبو الحجاج المعروف بالمستغنى باللَّه (793 - 794 هـ) الذى سيطر عليه خالد وزير أبيه، وقد أمر خالد بسجن أخوى يوسف ودس لهما السم فماتا بتدبيره، كما ألقى القبض على ابن "زَمْرك" فى المرية، ثم ترامى إلى سمع يوسف الثانى أن خالدًا يعتزم زجه فى السجن فبادر هو فأمر بذبحه فى حضرته، وإذا كانت الممالك النصرانية لم تعد فى يوم مصدر خطر إلا أنه فتح الباب الذى هبت منه على البلد رياح الإضطرابات، ثم ما لبث هو أن مات يوم 16 ذى القعدة 794 هـ.
وحينذاك خلفه أصغر أولاده محمد السابع أبو عبد اللَّه (794 - 810 هـ) الذى أراد الإستفادة من المنازعات الموجودة فى بلاط أنريك صاحب قشتالة (1390 - 1406 م) فأغار على مدينة "كرافاكا" فى إقليم "لورقة" سنة 1392 م، وحدث بعد ذلك بعامين أن تم إعداد حملة صليبية شعبية ضد غرناطة بقيادة "مارتن البربودى" ولكنها انتهت بكارثة للنصارى، وأخذ كثير من أتباعه فى أقاليم الحدود ليثنون غارتهم، رأى "أنريك" أن يهاجم غرناطة ومعه أرهونة التى لم تتحمس لمشروعه هذا، فرّد عليه محمد فى سنة 1405 م بالهجوم على الحدود الشرقية ونجح فى الإستيلاء على "أيامونت"، القريبة من "رنده" ثم إنتهى الأمر بإمضاء معاهدة عدم اعتداء بين الجانبين، غير أن تطور الأحداث إلى ما هو أسوأ أدى بانريك لاعداد حملة ضد غرناطة، ورغم موته فى ديسمبر 1406 م إلا أن أخاه سفرناندو" وأرملته "كاترين" الانجليزية الوصيين على ولده الطفل "جوان" الثانى تابعًا خطته، وكان ثمة قتال بين المصافيين إنتهى باتفاقية صلح بينهما فى 1408 م، وما لبث محمد أن مات فتدهورت مكانة غرناطة وقوتها إزاء قشتالة.
ثم جاء بعده يوسف الثالث أبو الحجاج المعروف بالناصر لدين اللَّه (710 - 820 هـ) وحينذاك أجمع فردناندو عزمه على أن يدخل على المسلمين فى عقر دارهم فحاصر بلدة "انتكويرا" حصارًا شديدًا ولم ينجح المسلمون فى محاولتهم المفاوضة معه بشأنها واستمر الحال على ما هو عليه بين الجانبين، ثم اضطر يوسف لإرضاء عدوه بتسليمه البلدة المحاصرة، وأعقب ذلك فترة سلم نسبى بين غرناطة وجيرانها، واستمرت هذه الفترة حتى 1428 م.
ولقد مات يوسف الناصر لدين اللَّه يوم التاسع من نوفمبر سنة 1417 م بعد عام من وفاة عدوه فرناندو وقبل سنة من موت الوصية "كاترين اللانكسترية" التى كانت غرناطة تحمل إليها الهدايا بدلًا من الجزية.
ونوجز تاريخ مملكة بن نصر من 810 هـ (= 1417 م) حتى سقوطها سنة 897 هـ (= 1492 م)، وقد اتسم هذه التاريخ بانشقاق كبير فى البيت الحاكم نفسه فقد قام محمد التاسع السرّاج بخلع محمد الثامن بن يوسف وكان طفلًا فى الثامنة من عمره، وأصبح الحكم تارة فى يد هذا وتارة أخرى فى يد الآخر حتى انتهى الأمر بعد ثلاث مرات من تناوب الولاية فى يد محمد التاسع وإن تخللته فترات قصيرة كان الحكم فيها فى يد غيره. ولقد استطاعت غرناطة فى الأربعينيات من القرن الخامس عشر الميلادى أن تحرز بعض الانتصارات، إلا أن قوة قشتالة كانت تتزايد فى هذه الفترة، مما أرق خاطر غرناطة التى نجحت فى التوصل إلى هدنة مدتها ثلاث سنوات، غير أن ما أصاب قشتالة من انقسام داخلى قوى ساعد بنى نصر الذين اعتبرت سنوات 1440 م وما بعدها سنوات إنتصار حربى لهم، فقد استردوا معظم ما كان قد سلبه منهم فرناندو فى الشرق كما بلغت جيوشهم أبواب أشبيلية، ولما رأى جوان الثانى ما تم من التحالف بين نفارة" وغرناطة ألتمس من محمد التاسع عقد معاهدة بينهما فأجابه إلى ما ألتمسه حتى ينصرف هو إلى يوسف الخامس الذى
كان لائذًا بمالقة، كما أن جميع القوى المسيحية تعاونت فما بينها وتناست خلافاتها مع بعضها وصدوا تقدم الغرناطيين صدا عنيقا سنة 1452 م فى معركة قريبة من "لورقة".
ولما مات محمد التاسع تنازع على العرش أكثر من واحد وراحت القوى النصرانية يناصر كل منها واحدًا من المتنازعين لصالحها الخاص فأما المسلمون فقد امتد سلطان سعد بن أخى يوسف الثالث من أرشذونه حتى حدود رندة غربا، أما محمد الحادى عشر فحكم غرناطة ومالقة والمرية، ولم يكن معنى ذلك استقرار الأمور بل لا زال الاضطراب والفوضى منتشرين، مما أدى إلى استسلام جبل طارق إلى أمراء قشتالة الاقطاعيين. وأخذت الأمور تسوء وتتعقد، حتى إذا كان فبراير 1482 م استولى النصارى على "الحامة" التى تسيطر على الطريق الواصل ما بين غرناطة ومالقة ورندة، وكان ذلك أول خطوة حاسمة فى طريق النصر النهائى المسيحى، ولم تنجح محاولات أبى الحسن فى استرداد الحافة فى المدة ما بين فبراير ويوليو إلا أنه نجح فى منتصف هذا الشهر الأخير إلا أنه وقع ضحية مؤامرة بالقصر دبرها قائد فريق بنى السراج "يوسف بن كماشة" الذى أحل محله ولده عبد اللَّه (الذى عرف بمحمد الثانى فلما لم يستطيع استرداد غرناطة مضى إلى مالقة مع أخيه محمد بن سعد (المعروف بالازَّغَلْ) واتخذ من هذه المدينة عاصمة له، ولهذا انقسمت المملكة إلى قسمين أحدهما تتألف من غرناطة والمرية فى الشرق، والآخر من رنده ومالقة فى الغرب، ولما كان حارس 1483 م دارت الهزيمة على الغزاة القشتاليين فى الناحية الواقعة إلى الشرق بين مالقة، مما جمل أبا عبد اللَّه على الأندفاع من غيبر تفكير اندفاعًا معه الصفوة من كبار ضباطه حتى أنه هو نفسه وقع فى الأسر مما ساعد أبا الحسن على العودة إلى غرناطة إلا أن الأمر لم يستتب له فخلعه القوم عن العرش فى مطلع 1485 م وحل مكانه محمد الزَّغَل، ومضوا به إلى حصن
المنكب فوافاه أجله هنا، وعرف محمد الزغل بمحمد الثالث عشر والذى تولى مكان أخيه أو كما يقول المؤرخون "استولى على المُلك" بَعْدَهُ، لكن مالبث الفقهاء أن أصدروا فتوى بعدم شرعية أبى عبد اللَّه فى حكم البلد، وانتهى الأمر بمحمد الزغل أن باع كل أملاكه سنة 1490 م وأبحر إلى "وهران" فى المغرب، وكان العقد الأخير من حكم بنى نصر قد شاهد اتحاد الملوك الكاثوليك للتغلب على كل المنازعات التى بين بعضهم والبعض الآخر ونجاحهم فى جعل رعاياهم يسعون وراء غاية واحدة على حين أن المنازعات الأسرية كانت على أشدها فى عائلة بنى نصر، كما أن من كانوا خارج نطاق هذه الأسرة كانوا لا يعرفون معنى الإتحاد ونقصد بهم التجار والمزارعين والفقهاء أصحاب النفوذ فى الأمة على أن أشد الأمور خطورة كان الشقاق بين "بوعبدل" أبى عبد اللَّه وبين "الزَّغَل" مما أدى إلى أن تصبح غرناطة ذاتها فى سنة 1486 م ساحة مغطاة بالدماء، وتشهد صراعا مريرًا، وكان أقرب الاثنين إلى قلب قشتالة "بوعبدل" لأنه كان أكثر إستعدادا للتعاون معها عن "الزَّغَل" الذى كان فى الواقع محاربًا وأشد مراسًا فى القتال من الآخر إلى جانب أنه كان المدافع الحقيقى عن الإسلام ومصالحه والخلاصة أن قشتالة استغلت كل الإنقسامات الداخلية فى معسكر بنى نصر ووظفتها لصالحها، فقد ظلت محتفظة بجيش قوى ثابت، وفرسان تتزايد قوتهم وعددهم يوما بعد يوم، هذا إلى جانب ما عمدت إليه من استنزاف مواردها عددها الاقتصادية والنفسية بتخريبها أراضيه الزراعية، وبالإضافة إلى ذلك فإن المغرب لم يعد قادرًا على نجدة بنى نصر بما يعينهم فى محنتهم، وذلك لما اعترى المغرب تدهور وضعف، واستنجدت الأندلس بمصر المملوكية فما استطاعت أن تقدم شيئا من العون أكثر من التدخل الدبلوماسى وإبداء حسن النية ولم يكن الأمر لسقوط مملكة بنى نصر إلا مسألة وقت.
بدرية الدخاحنى [ج. د. لاثام H. Dlatham]