الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفسها وولدها من الملك لكونها تزوّجت بمن ليس منهم؛ فلمّا وضعته هناك وأرادت الانصراف قالت: وانوحاه. وانصرفت، فبقى فى الغار أربعين يوما؛ ثم توفّى أبوه لمك؛ فاحتملته الملائكة ووضعته بين يدى أمّه مزيّنا مكحولا، ففرحت به وربّته حتى بلغ.
وكان ذا عقل وعلم ولسان وصوت حسن، واسع الجبهة، أسيل الخدّ، وكان يرعى الغنم لقومه مدّة، وربما عالج التجارة؛ ثم كره مجاورة قومه لعبادتهم الأصنام.
وكان لهم ملك يقال له درمشيل؛ وكان جبّارا عاتيا قويّا، وهو أوّل من شرب الخمر واتّخذ القمار وقعد على الأسرة واتخذ الثياب المنسوجة بالذهب وأمر بصنعة الحديد والنحاس والرصاص؛ وكان هو وقومه يعبدون الأصنام الخمسة:
ودّا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا؛ ثم اتخذ ألف صنم وسبعمائة صنم على صور شتّى، واتخذ لها كراسىّ من الذهب والفضة، وأقام لها الخدم يخدمونها؛ فاعتزلهم نوح إلى البرارىّ ولم يخالطهم حتى بعثه الله تعالى نبيّا؛ والله أعلم بالصواب.
ذكر مبعث نوح عليه السلام
قال: فأمر الله تعالى جبريل- عليه السلام أن يهبط إلى نوح ويبشره بالنبوّة والرسالة؛ فهبط جبريل عليه، وجاءه بوحى الله أن يسير إلى درمشيل الملك وقومه ويدعوهم إلى عبادة الله تعالى؛ فأقبل نوح إلى قومه من يومه- وكان يوم عيدهم وقد نصبوا أصنامهم على أسرّتها وكراسيّها، وهم يقرّبون القرابين لها، وكانوا إذا فعلوا ذلك يخرّون لها سجّدا ويشربون الخمر، ويضربون بالصّنج، ويأتون النساء كالبهائم من غير تستّر- فجاءهم وهم يزيدون على تسعين زمرة، كلّ زمرة لا يحصون كثرة، فاخترق الصفوف حتى صار فى وسط القوم، وسأل الله تعالى أن ينصره
عليهم؛ فلما أرادوا السجود للأصنام نادى: أيها القوم، إنى قد جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم أدعوكم إلى عبادته وطاعته، وأنهاكم عن عبادة هذه الأصنام (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ) *
. فخرقت دعوته الأسماع، وهوت الأصنام عن كراسيّها، وسقط الملك عن سريره مغشيّا عليه، فلمّا أفاق قال: يا أولاد قابيل، ما هذا الصوت الّذى لم أسمع مثله؟ قالوا: أيّها الملك، هذا صوت رجل منّا اسمه نوح بن لمك كان يجانبنا قبل ذلك بجنونه، والآن قد اشتدّ عليه فقال ما قال. فغضب الملك واستدعاه، فأتوه به بعد أن ضربوه الضرب الشديد؛ فقال له: من أنت، فقد ذكرت آلهتنا بسوء؟ قال: أنا نوح بن لمك رسول ربّ العالمين، جئتكم بالنصيحة من عند ربّكم لتؤمنوا به وبرسوله، وتهجروا هذه الأصنام والقبائح. فقال درمشيل:
إنّك قد جئتنا بما لا نعرفه، ولا نعتقد أنك عاقل، فإن كان بك جنّة فنداويك أو فقر فنواسيك. قال: يا قوم، ما بى جنون ولا حاجة إلى ما فى أيديكم، ولكنّى أريد أن تقولوا: لا إله إلا الله وإنى نوح رسول الله. فغضب درمشيل وقال:
لولا أنه يوم عيد لقتلناك.
فأوّل من آمن به امرأة من قومه يقال لها: (عمرة) فتزوّجها فأولدها (ساما)(وحاما)(ويافث) وثلاث بنات؛ ثم آمنت به امرأة أخرى من قومه يقال لها: (والعة) فتزوّجها فأولدها كنعان؛ ثم نافقت وعادت إلى دينها.
وكان نوح يخرج فى كلّ يوم فى أندية لقومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى فيضربونه حتى يغشى عليه، ويجرّون برجله فيلقونه على المزابل، فاذا أفاق عاد إليهم بمثل ذلك، ويعاملونه بمثله؛ حتى أتى عليه ثلاثمائة سنة وهو على هذه الحال؛ ثم مات ملكهم درمشيل، وملك بعده ابنه بولين، وكان أعتى وأطغى من أبيه- وكان نوح يدعوهم فى القرن الرابع على عادته، فيضربونه ويشتمونه، وربما سفوا
عليه التراب ويقولون: إليك عنا يا ساحر يا كذّاب. ويضعون أصابعهم فى آذانهم؛ فينصرف عنهم ويعود إليهم، وإذا خلا بالرجل منهم دعاه، وهم لا يزدادون إلّا عتوّا وتمرّدا واستكبارا، وذلك قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً
الآيات.
ثم دعاهم حتى استكمل ستّة قرون؛ فلمّا دخل القرن السابع مات ملكهم (بولين) واستخلف عليهم ابنه (طفردوس) - وكان على عتوّ أبيه- وكان نوح يأتى أصنامهم بالليل وينادى بأعلى صوته: يا قوم، قولوا (لا إله إلا الله، وإنى نوح رسول الله) .
فتنكّس الأصنام؛ وكانوا يضربون نوحا ضربا شديدا، ويدوسون بطنه حتى يخرج الدم من أنفه وأذنيه؛ وكان الرجل منهم عند وفاته يوصى أولاده ويأخذ عليهم العهد ألا يؤمنوا به؛ ويأتى الرجل بابنه إلى نوح ويقول: يا بنىّ انظر إلى هذا فإنّ أبى حملنى إليه وحذّرنى منه، فاحذره أن يزيلك عمّا أنت عليه فإنّه ساحر كذّاب. وهو بعد ذلك يدعوهم؛ فضجّت الأرض إلى ربّها وقالت: ما حلمك على هؤلاء؟
وضجّ كلّ شىء إلى ربّه من عتوّهم، ونوح يدعوهم ويذكّرهم بآيات الله؛ فلمّا كان فى بعض الأيّام إذا هو برجل من كبار قومه قد أقبل بولده يحذّره منه؛ فضرب الغلام بيده إلى كفّ تراب وضرب به وجه نوح، فعند ذلك قال نوح ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا إنّك إن تذرهم يضلّوا عبادك ولا يلدوا إلّا فاجرا كفّارا. فأمّنت الملائكة على دعوته، فمنع الله عنهم القطر والنبات؛ فعلم نوح أنّ الله مهلك قومه؛ فأحبّ أن يؤمن بعضهم إن لم يؤمنوا كلّهم؛ فأوحى الله تعالى