الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فى كلّ سبع سنين مرّة فيسلب أموالهم؛ فوثب صالح إلى سيف أبيه وسلاحه وخرج يعدو، وإذا هو بالملك جندع وسادات قومه قد اجتمعوا، وقد انتزع الملك منهم أموالهم، وهم لا يستطيعون دفعه عنها لكثرة جموعه؛ فصاح بهم صالح صيحة أزعجتهم، وألقى الله الرعب فى قلوبهم، واستنقذ منهم جميع ما أخذوه من قومه.
فعجب جندع وأصحابه منه، وأقبلوا يقبّلون صالحا ويكرمونه؛ فخشى الملك على ملكه أن يعزلوه ويولّوا صالح بن كانوه، فهمّ أن يقتله، ودسّ إليه جماعة من خواصّه فدخلوا منزله، فأيبس الله أيديهم عنه، وأخرس ألسنتهم؛ فعلم الملك أنّه معصوم، فبعث يسأله فيهم؛ فدعالهم، فأطلق الله أيديهم والسنتهم، وبقى صالح مكرّما معظّما فى قومه.
ذكر مبعثه- عليه السلام
-
قال: ولمّا أتى عليه أربعون سنة بعثه الله- عز وجل رسولا إلى قومه؛ فجاءه جبريل بالوحى عن الله، وأمره أن يدعوهم الى قول لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ*
والإقرار بأن صالحا عبده ورسوله، وترك عبادة الأصنام، وأعلمه بما سيظهر على يديه من العجائب.
قال: فأقبل صالح إلى قومه فى يوم عيد لهم وقد نصبوا أصنامهم واجتمعوا على يمينها وشمالها، والملك جندع مشرف عليهم ينظر إليهم وإلى قربانهم؛ فتقدّم حتى وقف على الملك وقال: قد علمت نصحى لك أبدا، وقد جئتك رسولا أدعوك إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّى صالح رسول الله. فقال الملك له: إن قبائل ثمود لا ترضى أن يكون مثلك رسولا إليهم، غير أنى أنظر فيما تقول، فعد إلىّ غدا.
ثم أصبح الملك ودعا بأشراف قومه، وأحبرهم بخبر صالح؛ فقالوا: أحضره حتى نسمع ما يقول. فأحضره فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ
فقال له نفر منهم: يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ* قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ
فقال له الملك: كيف خصّك ربّك بالرسالة من بيننا، ورفعك علينا وفى قبائل ثمود من هو أعزّ منك؟ فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ*
ثم قال: يا قوم اتقوا الله وأطيعون، وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ* فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ
، أى ليّن وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ
أى حاذقين فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ* قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قال: فأقبل الملك عليهم وقال: قد عرفتم صالحا فى حسبه ونسبه، وأنا رجل منكم؛ فما تقولون؟ وما عندكم من الرأى فى أمره؟ قالوا: أيّها الملك أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ
قال الله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ.
قال: فآمن به منهم جماعة، وخرج صالح من عند الملك، فأمره الله تعالى أن يبنى مسجدا لنفسه ولمن معه من المؤمنين. فأعانته الملائكة على بنائه؛ فلمّا كمل جاءه جبريل بشجرة فغرسها على باب المسجد. وأنبع الله له عينا من الماء العذب.
وكان صالح يخرج فى كلّ يوم إلى قبيلة من قومه يدعوهم إلى عبادة الله تعالى ويعظهم بأيّام عاد وما حلّ بهم فيقول الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ
فكان المستضعفون يقولون: إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
والمتكبّرون يقولون: إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ.
ولم يزل صالح يدعوهم حتّى استكمل سبعين عاما؛ ثم أعقم الله نساءهم وجفّت أشجارهم فلم تثمر، ولم تضع لهم بقرة ولا شاة.
ثم لم يزل يدعوهم حتى استكمل مائة سنة وهم لا يزدادون إلا كفرا؛ فلمّا أيس منهم خرج يريد أن يدعو عليهم بالهلاك، وقال لقومه: لا تبرحوا حتى أعود إليكم. وقصد جبلا فطاف به حتى أمسى، فنظر إلى عين ماء، فتقدّم وتوضأ وقام ليصلّى ويدعو على قومه، فرأى فى الجبل كهفا، فدخله فرأى فيه سريرا من الذهب، عليه فرش الحرير، وفى وسط الكهف قنديل؛ فعجب من ذلك، وصعد على السرير، فضرب الله على أذنه فنام أربعين سنة؛ وأخذ قومه فى العبادة؛ فكان يموت منهم الوحد بعد الواحد، فيدفن إلى جانب المسجد، ويكتب على قبره:
قال: ثم بعث الله- عز وجل صالحا من نومته، فخرج من الكهف وتوضّأ وصلّى ركعتين، وأراد أن يدعو على قومه؛ فقيل له: لا تعجل عليهم، فإنّ عجلتك غيّبتك عن قومك أربعين سنة.
فعاد إلى قومه، وإذا برسوم وآثار لا يعرفها، وأشرف على مسجده وهو خراب ليس فيه إلّا الملائكة يحفظونه من فسّاق أهل ثمود؛ فقال: إلهى ما فعل
أهل هذا المسجد؟ فنادته الملائكة: مات بعضهم ورجع الباقون إلى دينهم الأوّل لمّا أيسوا منك.
ثم أمره الله تعالى أن يأتى قومه ويدعوهم إلى عبادة الله والكفّ عن عبادة الأصنام؛ فأقبل وهم مجتمعون فى يوم عيدهم ومعهم ملكهم، فناداهم: قولوا (لا إله إلا الله وإنى صالح رسول الله) يا قوم إنى أرسلت إليكم مرّة وهذه أخرى.
فتحيّروا وتساقطت أصنامهم، ونطقت الدوّاب: جاء الحقّ من ربّنا. قال له الملك: من أنت؟ قال: أنا صالح. قال: أليس قد بقى صالح فينا طويلا وغاب عنّا منذ مدّة طويلة؟ ما أنت إلّا ساحر جئتنا بعده. وهمّ بقتله.
وكان للملك ابن عمّ يقال له: هذيل، فقال: يا صالح، لا نحتاج إلى نصحك فانصرف عنّا. فقال: يا هذا أما إنك ميت فى يومك هذا أنت وأهلك وولدك فى وقت كذا وكذا، وفى غد يموت أبوك وأمّك، فبادر إلى الإيمان، فإن آمنت أحياك الله وجعلك حجّة على قبائل ثمود.
فانصرف الرجل وهم ينظرون إلى الوقت الذى ذكره صالح؛ فلما جاء الوقت مات الرجل وأهله وولده، وانتشر الخبر فى قبائل ثمود، ومات أبوه وأمّه من الغد؛ فعجب الناس وجزعوا، وخاف الملك.
وأقبل صالح فقال: يا آل ثمود، كيف كان هذا الميّت عندكم؟ قالوا: خير رجل حتى مات. قال: فإن أحياه الله بدعائى، أتؤمنون بى وبإلهى وتبرأون من أصنامكم؟ قالوا: نعم. فجاء صالح إلى الميت فدعا ربّه، ثم ناداه باسمه فقال: لبّيك يا نبىّ الله، وقام وهو يقول:(لا إله إلا الله صالح عبد الله ورسوله) .
فلما عاين قومه ذلك ازدادوا كفرا، ودخلوا على صنمهم وشكوا ما يلقونه من صالح؛ فنطق إبليس من جوفه وقال: انصرفوا إلى ما أنتم عليه؛ وإذا رأيتم صالحا فقولوا: ائتنا ببرهان كما أتى به هود ونوح.
فخرجوا مسرورين حتى أتوا صالحا، فقال لهم: قد رأيتم وسمعتم كلام الوحش والطير وإحياء الموتى وغير ذلك من الآيات ما فيه كفاية، فأىّ آية تريدون؟
قالوا: نخرج نحن وأنت إلى هذا الوادى، وندعو وتدعو، وننظر أىّ الدعوتين تستجاب؛ وتواعدوا إلى يوم عيدهم.
فلمّا كان فى ذلك اليوم اجتمعوا وخرجوا بأصنامهم وزينتهم؛ وأقبل صالح يخترق صفوفهم؛ حتّى وقف أمام ملكهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله. قالوا: أرنا آية. قال: ما تريدون؟ قالوا: اخرج لنا ناقة من هذه الصخرة ونؤمن بك ونعلم أنّك صادق. قال: إنّ ذلك هيّن على ربّى، ولكن صفوها لى.
فأقبل القوم يصف كلّ منهم صفة حتى أكثروا. فقال الملك: إنّ هؤلاء قد أكثروا وأنا أصفها بما فى قلبى: تكون ناقة ذات فرث ودم ولحم وعظم وعصب وعروق وجلد وشعر يخالطه وبر، وتكون شكلاء «1» شقراء هيفاء، ولها ضرع كأكبر ما يكون من القلال، يدرّ من غير أن يستدرّ، يشخب لبنا غزيرا صافيا، ويكون لها فصيل يتبعها على مثالها، فإذا رغت أجابها بمثل رغائها، ويكون حنينها الإخلاص لربّك بالتوحيد، والإقرار لك بالنبوّة، فإن أخرجتها على هذه الصفة آمنّا.
فأوحى الله إليه: أن أعطهم ما سألوا. فقال لقومه: إن الله قد شفّعنى فى حاجتكم، فإن أخرجتها تؤمنون؟ قالوا: نعم، على شرط أن يكون لبنها ألذّ