الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكانت تمجّ من فيها إلى فم الفصيل حتّى يروى؛ فإذا كان يوم القوم أتوا البئر ونزحوا ما فيها؛ وكانت الناقة تقول إذا أصبحت: إلهى كلّ من شرب من لبنى وآمن بك وبرسولك فزده إيمانا ويقينا، ومن لم يؤمن بك وبرسولك فاجعل ما يشرب من لبنى فى بطنه داء لا دواء إنّك على كلّ شىء قدير.
ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود
قال: فلما كانت تدعو بذلك صار القوم إذا شربوا لبنها اعترتهم الحكّة فى أبدانهم؛ فاجتمعوا وقالوا: ليس لنا فى هذه من خير؛ وأجمعوا على عقرها؛ وكانت فيهم امرأة يقال لها: عنيزة بنت غنم بن مجلز «1» ، وتكنى أمّ غنم، وهى من بنات عبيد «2» بن المهل، وكانت امرأة ذؤاب «3» بن عمرو، وهى عجوز مسنّة، ولها أموال ومواش، ولها أربع بنات من أجمل النساء، وبجوارها امرأة يقال لها: صدوف بنت المحيّا بن فهر، ولها أيضا مواش كثيرة؛ فدعتا قومهما إلى عقر الناقة، فلم يجيبوهما إلى ذلك؛ فبينما صدوف كذلك إذ مرّ بها رجل يقال له الحباب «4» - وكان مولعا بالنساء- فعرضت نفسها عليه على أن يعقر الناقة؛ فامتنع، فقالت له:
لقد جبن قلبك، وقصرت يدك. وتركته؛ وأقبلت على ابن عمّ لها يقال له:
مصدع «5» فكشفت عن وجهها، وعرضت نفسها عليه على أن يصدقها عقر الناقة؛ فأجاب. وأقبلت صدوف إلى عنيزة فأخبرتها بذلك، ففرحت به. قالت: إلّا أنه منفرد، ولكن قومى إلى عزيز ثمود قدار، فإنه شابّ لم يتزوّج، فاعرضى عليه بناتك
لعلّه يفعل؛ ففعلت عنيزة ذلك، وزيّنت بناتها، وأقبلت بهنّ إلى قدار، وكان أقبح رجل فى ثمود، وكان فى عينيه زرقة، وكأنّهما عدستان، وأنفه أفطس ولحيته بطوله، غير أنه كان يمرّ بالشجرة العظيمة فينطحها برأسه فيكسرها؛ فلمّا رأته عنيزة رجعت ببناتها إلى صدوف، وقالت: من تطيب نفسه أن يزوّج مثل هؤلاء من هذا؟ فلم تزل بها حتى رجعت بهنّ إليه، وعرضتهنّ عليه؛ فاختار منهنّ (الرّباب) ، وأجاب إلى عقر الناقة، واجتمع إليه «مصدع وأخوه «1» ورعين «2» وداود خادم الأصنام وريّان ولبيد والمصرد وهزيل «3» ومفرّج «4» » فهؤلاء التسعة الذين ذكرهم الله فى كتابه، قال الله تعالى: وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ.
فطافوا بأجمعهم على قبائل ثمود وأعلموهم بما أجمعوا عليه من عقر الناقة؛ فرضى بذلك كبيرهم وصغيرهم، واجتمع هؤلاء التسعة بسيوفهم وقسيّهم، وذلك فى يوم الأربعاء، وقعدوا ينتظرون الناقة، فأقبلت حتى قربت من البئر؛ فنادت عنيزة:
يا قدار، اليوم يومك، فأنت السيّد فى قومك. قال الله: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ.
قال: فشدّ قدار قوسه ورماها بسهم فأصاب لبّتها، وهو أوّل من رماها، ثم مصدع، وأقبلوا عليها بالسيوف فقطّعوها، وأنذرت فصيلها، فهرب إلى رأس جبل، ودعا باللّعنة على ثمود، فأتبعه القوم وعقروه، وتقاسموا لحمه.
وحكى الثعلبىّ فى كتابه المترجم (بيواقيت البيان فى قصص القرآن) : أنّ الفصيل لمّا عقرت الناقة أتى جبلا منيعا يقال له: صور «1» . وقيل: اسمه فاره؛ وأن صالحا لمّا بلغه عقر الناقة أقبل إلى قومه، فخرجوا يتلقّونه ويعتذرون إليه ويقولون: إنّما عقرها فلان وفلان، ولا ذنب لنا.
فقال لهم صالح: أنظروا، هل تدركون فصيلها؟ فعسى أن تدركوه فيرفع عنكم العذاب. فخرجوا يطلبونه، فلما رأوه على الجبل ذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله تعالى إلى الجبل أن يتطاول؛ فتطاول فى السماء حتى ما يناله الطير؛ وجاء صالح، فلمّا رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه؛ ثم دعا ثلاثا فانفرجت الصخرة حتّى دخلها؛ فقال صالح: بكلّ دعوة أجل يوم فتمتّعوا فى داركم ثلاثة أيّام ذلك وعد غير مكذوب.
نرجع إلى رواية الكسائىّ، قال: وصاح قدار بأصحابه: هلمّوا. فقدموا فأمرهم أن يقطّعوا لحم الناقة؛ فقطّعوا وطبخوا وقعدوا للأكل والشرب، وصالح لا يعلم بذلك، فنادته الوحوش: يا صالح، هتكت ثمود حرمة ربّها، وتعدّوا أمره.
فأقبل بالمؤمنين من قومه؛ فلمّا رآها بكى وقال: إلهى أسألك أن تنزل على ثمود عذابا من عندك.
فأوحى الله إليه: أن أنذر قومك بالعذاب. فبشّرهم بعذاب الله. فقالوا له: افعل ما بدا لك، فقد عقرناها، وقد أنذرت بالعذاب منذ بعيد وما نرى له أثرا. فقال لهم: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ
. وبات القوم ليلتهم، فلمّا أصبحوا تفجّرت آثار وطء الناقة بعيون الدم، وظهرت الصفرة فى ألوانهم؛ فقالوا: يا صالح، ما هذا التغيّر فى ألواننا وبلادنا؟ قال:
غضب ربّكم عليكم. فأجمعوا على قتله، وقالوا: إذا قتلناه امتنع عنّا سحره ولا تمكنه الإساءة إلينا. فتقدّم التسعة لقتله عند ما أقبل الليل، فوقف لهم جبريل ورمى كلّ واحد منهم بحجر فقتله.
فلمّا كان من الغد نظرت ثمود إليهم وقد قتلوا، فقالوا: هذا من فعل صالح.
فعزموا على الهجوم عليه وقتله، فأمره الله تعالى بالخروج من المسجد، فجاءوا ليقتلوه فما رأوه، وأصبحوا فى اليوم الثانى وقد أحمرّت وجوههم، وفى اليوم الثالث اسودّت، فأيقنوا بعذاب الله، وحفروا لأنفسهم حفائر، ولأهليهم وأولادهم ولبسوا الأنطاع، وجلسوا فى الحفائر ينتظرون العذاب، وصالح يخوّفهم وينذرهم عذاب الله وهم لا يبالون به.
فلما كان فى اليوم الرابع- وهو صبيحة الأحد- أرسل الله تعالى جبريل فنشر جناح غضبه، وأتاهم بشرارة من نار لظى، وجعل يرميهم منها بجمر متوهّج كأمثال الجبال، وثمود باركة فى حفائرها.
وأخذ جبريل بتخوم الأرض، فزلزلت بيوتهم وقصورهم، ثم نشر جناح غضبه على ديار ثمود، وصاح صيحة، فكانوا كما قال الله تعالى: فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ.
ثم أقبلت سحابة سوداء على ديارهم، فرمتهم بوهج الحريق سبعة أيّام حتّى صاروا رمادا.
فلمّا كان فى اليوم الثامن انجلت السحابة وطلعت الشمس، وجاء صالح بمن معه من المؤمنين، فطاف بديارهم، واحتملوا ما قدروا عليه من أموالهم وارتحل بقومه إلى أرض الشأم، فنزل بأرض فلسطين، وأقام- عليه السلام حتى مات.