الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر ميلاد إبراهيم- عليه السلام
-
قال: ودخلت أمّه الغار فوجدت فيه جميع ما تحتاج إليه، وخفّف الله عنها الطلق، فولدته فى ليلة جمعة، وهى ليلة عاشوراء؛ فلمّا سقط إلى الأرض قطع جبريل سرّته، وأذّن فى أذنه، وكساه ثوبا أبيض؛ ثم عاد بها الملك إلى منزلها فرجعت خفيفة كأن لم تلد، وقال لها الملك: اكتمى أمرك وما قد رأيت. فدخلت منزلها، وجاء تارح فرآها نشطة خفيفة، فقالت: إن الذى كان فى بطنى لم يكن ولدا، وإنّما كانت ريحا وقد انفشّت عنّى. ففرح بذلك، وألقى الله تعالى على نمروذ النسيان فى أمر إبراهيم؛ فلمّا كان فى اليوم الثالث خرجت أمّه إلى الغار فرأت الوحش والسباع على بابه، فتوهّمت أن يكون هلك؛ فدخلت فرأته على فراش من السندس، وهو مدهون مكحول، فتحيّرت وعلمت أنّ له ربّا، ورجعت إلى منزلها وأخبرت تارح الخبر، فنهاها عن العود إلى الغار، فكانت تروح إليه سرّا فى كلّ ثلاثة أيّام تنظر إليه وتعود، حتى تمّ له حولان، فأتاه جبريل بطعام من الجنّة، فأطعمه وسقاه؛ فلمّا استكمل أربع سنين جاءه ملك بكسوة من الجنّة، وسقاه شربة التوحيد وقال: اخرج الآن منصورا.
ذكر خروج إبراهيم- عليه السلام من الغار واستدلاله
قال: ولمّا قال له الملك ذلك خرج عند غروب الشمس، فجعل ينظر إلى السموات، فذلك قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي
يعنى على سبيل الاستفهام، أى أهذا ربّى؟. فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى
الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وهبط جبريل- عليه السلام فقال له: انطلق إلى أبيك وأمّك ولا تخف فإن الله معك. فخرج إبراهيم وجبريل معه حتى وقفه على الباب وقال: هذا بيت أبيك، فدونك هو. فاستأذن إبراهيم وقال: أدخل؟ قال تارح: ادخل. فلمّا دخل نظر إليه فعجب من حسنه وجماله، وقامت أمّه مسرعة إليه واعتنقته وقالت: ولدى وعزّة نمروذ. فقال لها: لا تحلفى بعزّة نمروذ، فإن العزة لله الّذى خلقنى فى بطنك وأخرجنى منك، وكلأنى وربّانى وهدانى.
فارتعد تارح من كلامه وقال لأمّه: أخشى أن تزول عنّى هذه المنزلة بسببه.
ونظر إليه وقال: ما أحسنك! فلولا ما وقع فى قلبى من محبّتك لرفعت خبرك إلى نمروذ.
ثم بكى تارح خوفا عليه أن يقتل، فقال له: يا أبت لا تخف علىّ من القتل فإن الله يعصمنى من نمروذ. فقال له: ألك ربّ غير نمروذ، وله مملكة الأرض شرقها وغربها، وله ثلاثمائة صنم؟ فقال إبراهيم: بل ربّى الله الّذى لا إله إلّا هو خالق السموات والأرض وما بينهما لا شريك له.
وبلغ خبر إبراهيم بعض أقارب تارح، فدخل عليه وقال: ما هذا الغلام الجميل؟
قال: هو ابنى ولد لى على كبر. قال: فما الّذى بلغك من قوله عن نمروذ وأصنامنا؟
قال تارح: هو ما بلغكم، فكلّموه حتى يعود إلى ديننا. فحاجّه قومه وخوّفوه بعذاب نمروذ، وهو يجادلهم ويحتجّ عليهم، ويذكر عظمة ربّه حتى عجزوا عنه فذلك قوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ
الآيات إلى قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.
فانصرفوا عنه، وخاف تارح أن يسعوا به وبولده إلى نمروذ، فقال: يا إبراهيم كفّ عن هذا الكلام حتّى استخلفك على خزانة الأصنام فقد كبرت. فقال:
يا أبت، إنّ المعبود هو الله، والأصنام لا تضرّ ولا تنفع.
فغضب تارح وأقبل على نمروذ، فسجد له، وقال: إن المولود الذى كنت تحذره هو ولدى، ولم يولد فى دارى، ولا أعلم به حتّى الآن، وقد جاءنى وهو غلام يعقل ويفهم، ويزعم أن له ربا سواك، وقد أعلمتك فاصنع ما أنت صانع.
فلمّا سمع نمروذ ذلك داخله الرعب وقال: صفه. فوصفه. قال نمروذ:
هو الّذى رأيته فى منامى. وقال لأعوانه: ائتونى به. فأتوه به، فردّد النظر إليه وقال: احبسوه إلى غد؛ فلمّا أصبح أحضره وقد أمر بتزيين قصره بأعظم زينة، وهوّل عليه بجنوده وأصناف السلاح؛ فالتفت إبراهيم إلى الناس يمينا وشمالا وقال: ما تَعْبُدُونَ
؟ فذلك قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ* إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ
إلى قوله: إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ
ثم قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ
إلى قومه: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ
ثم التفت وقال:
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ
إلى قوله: وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ.
فلمّا فرغ من كلامه قال له نمروذ، يا إبراهيم، تقع فى دينى وأنا الّذى خلقتك ورزقتك؟ قال: كذبت، إنّ خالقى ورازقى وخالق الخلق ورازقهم، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ*
فبهت الناس، ووقعت فى قلوبهم محبّته لحسنه وحسن كلامه؛ فالتفت نمروذ إلى تارح وقال: إنّ ولدك صغير لا يدرى ما يقول ولا يجوز لمثلى فى قدرتى وعظم مملكتى أن أعجّل عليه؛ فخذه إليك، وأحسن إليه وحذّره بأسى حتى يرجع عما هو فيه.