الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منقلب، وعلى رأسه مثل التاج؛ فلمّا نظروا إليه خرّوا سجّدا؛ وخرج الولىّ إليه وقال: ائتنى طوعا أو كرها باسم الله الكريم.
فنزل عند ذلك عن أحواته؛ فقال له الولىّ: ائتنى راكبا لئلا يكون القوم فى شكّ. فأتى الحوت وأتت به الحيتان حتى أفضوا إلى البرّ يجرّونه ويجرّهم؛ ثم كذّبوه بعد ما رأوا ذلك، ونقضوا العهود؛ فأرسل الله تعالى عليهم ريحا تقذفهم فى البحر ومواشيهم وما كانوا يملكون من ذهب وفضّة وآنية؛ فأتى الولى الصالح إلى البحر حتّى أخذ التّبر والفضّة والأوانى، فقسمها على أصحابه بالسويّة على الصغير والكبير، وانقطع ذلك النسل.
وأمّا الرسّ الآخر
- فهم قوم كان لهم نهر يدعى الرسّ، وذلك النهر بمنقطع أذربيجان، بينهما رسّ أرمينية، فإذا قطعته مدبرا دخلت فى حدّ أرمينية وإذا قطعته مقبلا دخلت فى حدّ أذربيجان، وكان من حولهم من أهل أرمينية يعبدون الأوثان، ومن قدّامهم من أهل أذربيجان يعبدون النيران، وكانوا هم يعبدون الجوارى العذارى، فإذا تمّت لإحداهنّ ثلاثون سنة قتلوها واستبدلوا غيرها، وكان عرض نهرهم ثلاثة فراسخ، وكان يرتفع فى كلّ يوم وليلة حتّى يبلغ أنصاف الجبال الّتى حوله، ولا ينصبّ فى برّ ولا بحر، وإذا خرج من حدّهم يقف ويدور ثم يرجع إليهم، فبعث الله إليهم ثلاثين نبيّا فى شهر واحد، فقتلوهم جميعا فبعث الله إليهم نبيّا وأيّده بنصره، وبعث معه وليّا، فجاهدهم فى الله حقّ جهاده.
ثم بعث الله تعالى ميكائيل حين نابذوه- وكان ذلك فى أوان وقوع الحبّ فى الزرع، وكانوا إذ ذاك من أحوج ما يكون إلى الماء- فبحر «1» نهرهم فى البحر
فانصبّ ما فى أسفله، وأمّا عيونه من فوق فسدّها، ثم بعث الله تعالى خمسائة ألف ملك من الملائكة أعوانا له، ففرّغوا ما بقى فى نهرهم.
ثم أمر الله تعالى جبريل فنزل فلم يدع فى أرضهم عينا ولا نهرا إلّا أيبسه بإذن الله تعالى.
وأمر ملك الموت فانطلق إلى المواشى فأماتها فى ربضة واحدة.
وأمر الرياح الأربع: الجنوب والشمال والدّبور والصّبا فضمّت ما كان لهم من متاع، وألقى الله تعالى عليهم السّبات.
ثم خفقت الرياح الأربع بذلك المتاع أجمع فشتّتته فى رءوس الجبال وبطون الأودية.
وأمر الله الأرض فابتلعت ما كان لهم من حلىّ وتبر وآنية؛ فأصبحوا لا ماشية عندهم ولا بقر ولا مال يرجعون إليه ولا ماء يشربون ولا طعام يأكلون، فآمن بالله تعالى عند ذلك قليل منهم، وهداهم الله تعالى إلى غار فى الجبل له طريق إلى خلفه، فنجوا، وكانوا أحدا وعشرين رجلا وأربع نسوة وصبيّين، وكان عدّة الباقين من الرجال والنساء والذرارىّ ستّمائة ألف، فماتوا عطشا وجوعا، ولم تبق منهم باقية.
ثم عاد القوم إلى منازلهم فوجدوها قد صار أعلاها أسفلها، فدعا القوم عند ذلك مخلصين أن يحييهم الله تعالى بماء وزرع وماشية، وأن يجعل ذلك قليلا لئلّا يطغوا. فأجابهم الله تعالى إلى ذلك، وأطلق لهم نهرهم، وزادهم على ما سألوه.
فأقام أولئك القوم على طاعة الله تعالى باطنا وظاهرا حتى مضوا وانقرضوا؛ فحدث من بعدهم من نسلهم قوم أطاعوا الله تعالى فى الظاهر، ونافقوا فى الباطن؛
وأملى الله تعالى لهم، ثم بعث الله عليهم عدوّهم ممّن قاربهم وخالفهم، فأسرع فيهم القتل، وبقيت منهم شرذمة، فسلّط الله عليها الطاعون، فلم يبق منهم باقية وبقى نهرهم ومنازلهم مائتى عام لا يسكنها أحد.
ثم أتى الله بعد ذلك بقرن فنزلوها وكانوا صالحين سنين، ثم أحدثوا فاحشة وجعل الرجل منهم يدعو ابنته وأخته وزوجته فيلقى بهنّ جاره وأخاه وصديقه يلتمس بذلك البرّ والصلة؛ ثم ارتفعوا عن ذلك إلى نوع آخر، ترك الرجال النساء حتى شبقن، واشتغلن عن الرجال، فجاءت النساء شيطانة فى صورة امرأة- وهى الولهانة بنت إبليس- فشبّهت للنساء ركوب بعضهن بعضا؛ وعلمتهنّ كيف يصنعن؛ فأصل ركوب النساء النساء منها؛ فسلّط الله تعالى على ذلك القرن صاعقة من أوّل ليلتهم، وخسفا فى آخر اللّيل، وصيحة مع الشمس، فلم تبق منهم باقية وبادت مساكنهم.
قال الثعلبىّ: ولا أحسب مساكنهم اليوم مسكونة.
وقال أبو إسحاق الثعلبىّ أيضا: وروى علىّ بن الحسين زين العابدين عن أبيه الحسين بن علىّ بن أبى طالب- رضى الله عنهم- أن رجلا من أشراف بنى تميم يقال له: عمرو، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرنى عن أصحاب الرس وأى عصر كانوا فيه؟ وأين كانت منازلهم؟ ومن كان ملكهم؟ وهل بعث الله تعالى إليهم رسولا أو لا؟ وبماذا هلكوا؟ فإنّى أجد فى كتاب الله تعالى ذكرهم ولا أجد خبرهم.
فقال له: لقد سألتنى عن حديث ما سألنى عنه أحد قبلك، ولا يحدّثك به أحد بعدى.
كان من قصّتهم يا أخا تميم أنهم كانوا يعبدون شجرة صنوبر يقال لها:
ساب درحب «1» ، كان يافث بن نوح غرسها على شفير عين يقال لها: دوسات «2» كانت أنبطت لنوح بعد الطوفان، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على شاطئ نهر يقال له الرّس من بلاد المشرق، ولم يكن يومئذ فى الأرض نهر أغزر ولا أعذب منه ولا قرى أكثر سكّانا وعمرانا منها؛ وذلك قبل سليمان بن داود، وكان من أعظم مدائنهم اسفيدبا «3» ، وهى التى كان ينزلها ملكهم، وكان يسمّى بركون «4» بن عابور بن بلوش بن سارب بن النّمروذ بن كنعان، وفيها العين والصّنوبرة، وقد غرسوا فى كلّ عين حبّة من تلك الصنوبرة، فنبتت الحبّة وصارت شجرة عظيمة، وحرّموا ماء تلك العيون والأنهار، لا يشربون منها ولا أنعامهم، ومن فعل ذلك منهم قتلوه ويقولون: هى مياه آلهتنا، ولا ينبغى لأحد أن ينقص من حياتها، ويشربون هم وأنعامهم من نهر الرسّ الّذى عليه قراهم؛ وقد جعلوا فى كلّ شهر من السنة فى كلّ قرية عيدا يجتمع أهلها ويضربون على تلك الشجرة مظلّة من الحرير، فيها من أصناف الصّور؛ ثم يأتون بشياه وبقر فيذبحونها قربانا للشجرة، ويشعلون فيها النيران، فإذا سطع دخان تلك الذبائح وقتارها وبخارها فى الهواء، وحال بينهم وبين النظر إلى السماء، خرّوا سجّدا، ويتلون ويتضرّعون إليها أن ترضى عنهم.
وكان الشيطان يجىء فيحرّك أغصانها ويصيح من ساقها صياح الصبىّ: عبادى قد رضيت عنكم، فطيبوا نفسا، وقرّوا عينا. فيرفعون عند ذلك رءوسهم، ويشربون الخمر، ويضربون بالمعازف؛ فيكونون على ذلك يومهم وليلتهم، ثم ينصرفون؛ حتى إذا كان عيد قريتهم العظمى، اجتمع إليه صغيرهم وكبيرهم، فضربوا عند الصّنوبرة
والعين سرادقا من ديباج، عليه من أنواع الصّور، له اثنا عشر بابا، كلّ باب لأهل قرية منهم؛ ويسجدون للصنوبرة خارجا من السرادق، ويقرّبون لها الذبائح أضعاف ما يقرّبون للأشجار الّتى فى قراهم؛ فيجىء إبليس عند ذلك فيحرّك الشجرة تحريكا شديدا، ويتكلّم من جوفها كلاما جهرا، ويعدهم ويمنّيهم بأكثر ممّا وعدهم به الشياطين كلّهم؛ فيرفعون رءوسهم من السجود وبهم من الفرح والنشاط ما لا يفيقون ولا يتكلّمون [معه] ؛ فيداومون الشرب والعزف، فيكونون على ذلك اثنى عشر يوما بلياليها بعدد أعيادهم فى السنة؛ ثم ينصرفون؛ فلما طال كفرهم بالله تعالى وعبادتهم غيره، بعث الله إليهم نبيّا من بنى إسرائيل من ولد يهوذ بن يعقوب، فلبث فيهم زمنا طويلا يدعوهم إلى الله تعالى، ويعرّفهم ربوبيّته؛ فلا يتّبعونه ولا يسمعون مقالته؛ فلما رأى شدّة تماديهم فى البغى والضلالة وتركهم قبول ما دعاهم إليه من الرشد والصلاح، وحضر عيد قريتهم العظمى قال: يا ربّ إنّ عبادك أبوا تصديقى ودعوتى لهم، فما زادوا إلّا تكذيبى والكفر بك، وغدوا يعبدون شجرة لا تنفع ولا تضرّ، فأيبس شجرهم أجمع، وأرهم قدرتك وسلطانك.
فأصبح القوم وقد يبس شجرهم كلّه، فها لهم ذلك وتضعضعوا، فصاروا فرقتين: فرقة قالت: سحر هذا الرجل الّذى زعم أنّه رسول ربّ السماء، ألهاكم ليصرف وجوهكم عنها إلى إلهه؛ وفرقة قالت: بل غضبت آلهتكم حين رأت هذا الرجل يعيبها ويقع فيها، ويدعوكم إلى عبادة غيرها، فحجبت حسنها وبهاءها لكى تغضبوا لها، فتنتصروا منه.
فأجمعوا رأيهم على قتله، فاتخذوا مثال بئر، واتخذوا أنابيب طوالا من رصاص واسعة الأفواه، ثم أرسلوها إلى قرار العين واحدة فوق الأخرى مثل البرانج، ونزحوا
ماء العين، ثم حفروا فى قرارها بئرا ضيّقة المدخل عميقة، وأرسلوا فيها نبيّهم، وألقوا عليه فيها صخرة عظيمة؛ ثم أخرجوا الأنابيب من الماء وقالوا: الآن نرجو رضا آلهتنا عنّا إذا رأت أنا قد قتلنا من كان يقع فيها، ويصدّ عن عبادتها.
فبقوا عامّة يومهم يسمعون أنين نبيّهم، وهو يقول: سيّدى، ترى ضيق مكانى وشدّة كربى، فارحم ضعف ركنى وقلّة حيلتى، وعجّل قبض روحى ولا تؤخّر إجابة دعوتى. حتى مات عليه السلام.
فقال الله تعالى لجبريل: انظر عبادى هؤلاء الّذين غرّهم حلمى، وأمنوا مكرى، وعبدوا غيرى، وقتلوا رسولى؛ وأنا المنتقم ممّن عصانى ولم يخش عذابى وإنّى حلفت بعزّتى لأجعلنّهم عبرة ونكالا للعالمين.
فبينما هم فى عيدهم إذ غشيتهم ريح عاصف حمراء، فتحيّروا وذعروا منها وانضمّ بعضهم إلى بعض، ثم صارت الأرض من تحتهم حجر كبريت يتوقّد؛ وأظلّتهم سحابة سوداء، فألقت عليهم كالقبّة حجرا يلتهب نارا، فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص فى النار؛ نعوذ بالله من غضبه ودرك نقمته «1» .