الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر خبر دخولهم عليه فى المرّة الثانية
قال: فلمّا بلغوا مصر ودخلوا على يوسف قرّبهم، ونظر إلى أخيه بنيامين وأدناه وأجلسه بين يديه.
قال الله تعالى: وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ.
ثم قال له: أرى كلّ واحد من هؤلاء مع أخيه، فما بالك منفردا؟ فقال: أيّها العزيز، كان لى أخ، ولا أدرى ما أصابه، غير أنّه خرج مع هؤلاء الإخوة إلى الغنم، فذكروا أنّ الذئب أكله، وردّوا قميصه هذا الّذى علىّ وهو ملطّخ بالدم.
فقال لهم يوسف: يا أولاد يعقوب، إنّ فيكم من يصيح بالأسد فيخرّ ميتا ومن يأخذ برجل الذئب فيشقّه اثنين، وفيكم من يقتلع الشجرة من أصلها، وفيكم من يعدو مع الفرس فيسبقه.
قالوا: نعم أيها العزيز. فقال: سوءة لكم ولقوّتكم إذ يعدو الذئب على أخيكم فيأكله. فقالوا: إذا جاء القضاء ذهبت القوى.
فسكت يوسف، ثم أمر لهم بخمس موائد، وأمر كلّ اثنين منهم أن يجلسا على مائدة؛ ثم وضعت أخرى بين يدى بنيامين، فبكى؛ فقال له: ما يبكيك؟ قال:
أيّها العزيز، إخوتى يأكلون كلّ واحد مع أخيه، وأنا وحدى، ولو كان أخى يوسف باقيا أكل معى.
فقال يوسف: يا فتى، أنا لك كالأخ، ثم نزل عن السرير وأكل معه.
فلمّا فرغوا من الأكل جعل يوسف يسألهم عن أرض كنعان وهم يخبرونه.
ثم خرج صبىّ من القصر يتثنّى، فنظر إليه بنيامين وبكى؛ فقال له يوسف:
ممّ بكيت؟ قال: هذا الصبىّ يشبه أخى يوسف، فبكيت لأجله.
فقال يوسف: هل فيكم من حزن على يوسف؟ قالوا: نعم، كلّنا حزنّا عليه وبنيامين أشدّ منّا حزنا.
ثم قال: فما الّذى حملتم من البضاعة؟ قالوا: لم نحمل شيئا، لأنه لم يكن لنا شىء، غير أنا رددنا عليك البضاعة التى وجدناها فى رحالنا، لأنها ثمن الطعام الّذى حملناه من عندك.
فأمر أن يعطوا من الطعام ما تحمله إبلهم، وأمر غلمانه أن يجعلوا الصّواع فى رحل بنيامين؛ فكانوا يكيلون وإخوة يوسف يخيطون الأعدال، حتى فرغوا.
ورحل إخوة يوسف وهم لا يشعرون بالصّواع.
وقال الثعلبىّ: كانت السقاية مشربة يشرب فيها الملك، وكانت كأسا من ذهب مكلّلة بالجوهر، جعلها يوسف مكيالا يكال بها.
قال الله تعالى: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ* قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ* قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ* قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ* قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
فعند ذلك أمر يوسف أن تفتّش رحالهم. قال الله تعالى فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
الآية.
قال: فلما نظروا ذلك ضربوا بأيديهم على جباههم، وقالوا: ثكلتك أمّك فضحتنا يا بنيامين. قال: إنى لم أفعل ذلك. قالوا: من وضعه فى رحلك؟
قال: الّذى جعل البضاعة فى رحالكم. فسكتوا، ثم قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرّها يوسف فى نفسه ولم يبدها لهم قال أنتم شرّ مكانا والله أعلم بما تصفون.
قال الثعلبىّ: واختلف العلماء فى السرقة التى وصف بها يوسف، فقال سعيد وقتادة: سرق يوسف صنما لجدّه أبى أمّه وكان من ذهب، فكسره وألقاه فى الطريق.
وقال ابن جريج: أمرته أمّه- وكانت مسلمة- أن يسرق صنما لخاله كان يعبده.
وقال مجاهد: جاء سائل يوما، فسرق يوسف بيضة من البيت.
وقال ابن عيينة: دجاجة، فناولها السائل، فعيّروه.
وقال وهب: كان يخبأ الطعام من المائدة للفقراء.
وقال الضحاك وغيره: كان أوّل ما دخل على يوسف من البلاء أن عمّته بنت إسحاق كانت أكبر ولد إسحاق، وكانت لها منطقة إسحاق، وكانوا يتوارثونها بالكبر، وكانت راحيل أمّ يوسف قد ماتت، فحضنته عمّته وأحبّته حبّا شديدا فكانت لا تصبر عنه؛ فلما ترعرع وبلغ سنيّات وقع حبّه فى قلب يعقوب؛ فأتاها وقال: يا أختاه سلّمى إلىّ يوسف، فو الله ما أصبر عنه ساعة واحدة. فقالت:
ما أنا بتاركته.
فلما غلبها يعقوب قالت: فدعه عندى أياما أنظر إليه، لعل ذلك يسلينى عنه. ففعل ذلك يعقوب؛ فلمّا خرج يعقوب من عندها عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف تحت ثيابه وهو صغير، ثم قالت: لقد فقدت منطقة إسحاق
فانظروا من أخذها. فالتمست فلم توجد؛ فقالت: اكشفوا أهل البيت.
فكشفوهم، فوجدوها مع يوسف؛ فقالت: والله إنّه ليسلّم لى أصنع فيه ما شئت- وكان ذلك حكم آل إبراهيم فى السارق- فأتاها يعقوب، فأخبرته بذلك؛ فقال: إن كان فعل ذلك فهو يسلّم إليك، ما أستطيع غير ذلك.
فأمسكته بعلّة المنطقة، فما قدر يعقوب عليه حتى ماتت، فهو الذى قال له إخوته: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ.
قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ* قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ* فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا
أى يتناجون قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ* ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ.
قال: ثم تشاوروا فقالوا: إن هذا الملك وأهل مصر كفرة يعبدون الأصنام فتعالوا نتظاهر عليهم.
قال روبيل: أنا أكفيكم الملك وأعوانه.
وقال شمعون: أنا أكفيكم أمر العزيز وأعوانه.
وقال يهوذا: أنا أكفيكم الأسواق.
فعلم يوسف بذلك، فأحضرهم وقال: يا بنى يعقوب، ما الّذى غرّكم منّى؟
أحسنت إليكم مرّة بعد مرّة، وتفضّلت عليكم، وجنى أخوكم جناية فتشاورتم فى هلاك المدينة وأهلها، أتظنون أن هذه القوّة لكم دون غيركم؟ ثم ضرب برجله
السّدّة التى كان عليها فطحطحها وكسر صفائح رخامها؛ ثم قال: لولا أنكم من أولاد الأنبياء لصحت بكم صيحة تخرّون على أذقانكم.
قال: وكان يهوذا قد عزم على أن يفعل شيئا، وكان على كتفه شعرة إذا غضب خرجت من جبّته فيقطر منها الدم، ثم يصيح صيحة فلا يسمعها أحد إلّا سقط مغشيّا عليه؛ وكان لا يسكن غضبه إلا أن يمسّه أحد من آل يعقوب؛ فدعا يوسف بابنه منسّا وقال: اذهب الى ذلك الكهل فمسّه بيدك، وتنحّ عنه من حيث لا يشعر بك. ففعل ذلك، فسكن غضبه؛ فقال يهوذا لإخوته: من الذى مسّنى منكم فقد سكن غضبى. قالوا: لم يمسّك غير ذاك الصبىّ. فقال: والله لقد مسّتنى يد من آل يعقوب.
فلمّا عسر عليهم ما عزموا عليه، عزموا على العود إلى أبيهم، وتركوا روبيل عند بنيامين.
قال: فلمّا انصرفوا دخل يوسف إلى منزله وأحضر بنيامين، وقال: أتعرفنى؟
قال: نعم، أنت العزيز، والله ما سرقت، فلا تعجل علىّ، فإنك موصوف بالإحسان.
فضمّه يوسف إلى صدره، وقال له: أنا أخوك يوسف. ثم كساه وسأله عن أبيه، فأخبره بما يقاسيه من أجله.
قال: ورجع إخوة يوسف إلى أبيهم فذكروا ما كان من خبر بنيامين، وأن روبيل أقام عنده.
قال: وكيف يسرق ولدى وهو من الذرّيّة الطيّبة؟ فقالوا له: واسأل القرية الّتى كنّا فيها والعير الّتى أقبلنا فيها وإنّا لصادقون* قال بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتينى بهم جميعا إنّه هو العليم الحكيم* وتولّى عنهم وقال يأسفى على يوسف وابيضّت عيناه من الحزن فهو كظيم إلى قوله: ما لا تعلمون.