الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأصنام؛ وكان فيهم رجل من أشرافهم اسمه الخلود بن معيد بن عاد، وكان له بسطة فى الخلق وقوّة فى الجسم، مع الحسن والفصاحة؛ وكان إذا قيل له: لم لا تتزوّج وقد بلغت سنّ أبيك؟ يقول: رأيت فى المنام كأن سلسلة بيضاء قد خرجت من ظهرى، ولها نور كالشمس، وقيل لى: إذا رأيت هذه السلسلة قد خرجت من ظهرك ثانية فتزوّج بالتى تؤمر بتزوّجها؛ ولم أرها بعد، وقد عزمت على التزوّج.
وقام ليعبر بيت الأصنام يدعو بالتوفيق فى التزوّج، فلما همّ بالدخول لم يقدر، وسمع هاتفا يقول: يا خلود، ما لمن فى ظهرك والأصنام؟ فلم يعد إليها. ثم رأى بعد ذلك فى منامه السلسلة وقد خرجت من ظهره وقائلا يقول:«قم يا خلود فتزوّج بابنة عمك» فانتبه وخطبها وتزوّجها، وواقعها فحملت بهود؛ وأصبح القوم وهم يسمعون من جميع النواحى: هذا هود قد حملت به أمّه، ويلكم، إن لم تطيعوه هلكتم.
ووضعته أمّه فى ليلة الجمعة، فوقعت الرّعدة على قبائل عاد، ولم يعلموا ما حالهم؛ فعلموا أنه قد ولد لخلود ولد، فقال بعضهم لبعض: ليكونن لهذا الولد شأن فاحذروه. فخرج أحسن الناس وجها، وأكملهم عقلا، وسمّته أمّه عابر، فرأته أمّه ذات يوم يصلّى، فقالت: لمن هذه العبادة يا بنىّ؟ قال: لله الذى خلقنى وخلق الخلق. قالت: أليس هى لأصنامنا؟ قال: إنّ أصنامكم لا تضرّ ولا تنفع وإنما الشيطان قد زين لكم عبادتها. قالت: اعبد إلهك يا بنىّ، فقد رأيت منك حين كنت حملا وطفلا عجائب كثيرة.
ذكر مبعث هود عليه السلام
قال: ولم يزل هود فى ديار قومه يجادلهم فى أصنامهم، حتى أتت عليه أربعون سنة؛ فبعثه الله- عز وجل إلى قومه رسولا، وأتاه الوحى، فانطلق إليهم وهم
متفرّقون فى الأحقاف، وهى الرمال والتّلال- وكانت مساكنهم ما بين عمان إلى حضرموت إلى الأحقاف إلى عالجة- فأتاهم فى يوم عيد لهم وقد اجتمع الملوك على الأسرّة والكراسىّ، وملكهم الخلجان على سرير من ذهب وهو متوّج وقد أحدقت به قبائل عاد، وهم فى اللهو والطرب؛ فلم يشعروا إلا وهود قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ
وهذه الأصنام التى تعبدونها هى الّتى أغرقت قوم نوح، ولستم أكرم على ربّكم منهم؛ فآستغفروا ربّكم من عبادة هذه الأصنام. والأصنام ترتجّ؛ فقال له ملكهم: ويحك يا هود، أقبل إلىّ. فتقدّم إليه، فلما صار بين يدى الملك صاح صيحة أجابه الوحش والسباع: أبلغ «1» ولا تخف. فامتلأت قلوب الناس خوفا، فقام إليه رجل منهم وقال: يا هود، صف لنا إلهك. فوصف عظمة الله، وأنه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
- وكان الذى سأله عمرو بن الحلى- فلمّا فرغ من كلامه قال له الملك: يا هود، أتظن أنّ إلهك يقدر علينا وهذه كثرة جموعنا وشدّة قوّتنا؟
قال الله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً.
فأوّل من آمن بهود رجل من قومه يقال له جنادة بن الأصمّ وأربعون من بنى عمّه؛ ثم انصرف إلى منزله.
فلمّا كان من الغد أقبل جنادة وبنو عمّه حتى وقفوا على جماعة من سادات قومه، فقال: يا قوم لا تمنعكم مرارة الحق أن تقبلوه، ولا حلاوة الباطل أن تتركوه؛ وهذا ابن عمّكم هود قد عرفتم صدقه، وقد أتاكم من عند الله رسولا وواعظا فاتقوا الله وأطيعوه. وحذّرهم، فحصبوه وشتموه، فرجع إلى هود.
فلما كان من الغد خرج هود فوقف عليهم وقال: يا قوم لا تبدّلوا نعمة الله كفرا. وأخذ يعظهم؛ فكذّبوه وواجهوه بالقبائح؛ فبقى على ذلك دهرا طويلا يلاطفهم وهم على كفرهم وعتوّهم؛ فأعقم الله أرحام نسائهم، فلم تحمل امرأة منهم؛ فشكوا ذلك إلى الملك، فأمرهم أن يخرجوا أصنامهم ويقرّبوا القرابين إليها؛ ففعلوا ذلك؛ فأتاهم هود وقال: يا قوم ألا تفزعون إلى الله الّذى خلقكم وأعطاكم هذه النعمة والقوّة، فإنه مجيبكم إذا سألتموه، ويزيدكم ملكا إلى ملككم وقوّة إلى قوّتكم وهو أن تقولوا معى:«لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإنى هود عبده ورسوله» وإن لم تفعلوا ذلك ضربكم الله بالذلّ والنّقمة، وهبّت عليكم الريح العقيم حتّى تذركم فى دياركم هشيما. فلمّا سمعوا ذلك منه ضربوه حتى سال الدم على وجهه وهو يقول:
وأقبل إلى هود بعد انصرافه رجل من قومه يعرف بمرثد بن عاد، وقال:
يا هود، إنّى قد جئتك فى أمر، فإن أخبرتنى به فأنت رسول الله. قال له هود:
يا مرثد، كنت البارحة نائما مع زوجتك فواقعتها، فقالت لك: أتظنّ أنى قد حملت؟
فقلت لها: إنى صائر غدا إلى هود، فإن أخبرنى بهذا الكلام آمنت به. فقال مرثد:
أشهد أنّك رسول الله حقا؛ ولكن أخبرنى هل حملت؟ قال: نعم حملت بولدين ذكرين يكونان من أمّتى، سيخرجان من بطنها سليمين مؤمنين؛ وستلد لك عشرة أبطن فى كلّ بطن ذكران، ويكونان من أمّتى. فوثب مرثد وقبّل رأس هود وكان من خيار أصحابه، وجعل مرثد يقول:
من كان يصدق يوما فى مقالته
…
فإنّ هودا رسول صادق القيل
نبىّ صدق أتى بالحقّ من حكم
…
وقد أتانا ببرهان وتنزيل
فالحمد لله حمدا دائما أبدا
…
مضاعفا «1» شكره فى كلّ تفصيل
ثم انصرف مرثد إلى امرأته وأخبرها، فآمنت؛ وكان مرثد يكتم إيمانه ويجالس قومه، فإذا سمعهم يذكرون هودا بسوء يقول: مهلا يا بنى عمّ فإنه كأحدكم وابن عمّكم.
قال: ثم اجتمعوا فى متنزّه لهم وملكهم ونصبوا أصنامهم؛ فأقبل هود عليهم وقال: يا قوم اعبدوا الله فإن هذه الأصنام لا تضرّ ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع. فقال الرؤساء من قومه: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً.
فنادوه من كلّ ناحية: يا هود أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ.
وكان القوم يشتمونه ويضربونه ويدوسونه تحت أرجلهم حتى يظنّوا أنه قد مات، ثم يولّون عنه ضاحكين؛ فيقوم غير مكترث بفعلهم؛ فلما أكثر عليهم قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ
فآمن به فى ذلك اليوم رجل يقال له نهيل.