المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب- عليه السلام وابتلائه وعافيته - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ١٣

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثالث عشر

- ‌الفنّ الخامس فى التاريخ

- ‌القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام ودخولهما الجنة، و

- ‌الباب الأوّل- من هذا القسم فى مبدأ خلق آدم وحوّاء- عليهما السلام وما كان من أخبارهما إلى حين وفاتهما

- ‌ذكر خلق آدم عليه السلام

- ‌ذكر سجود الملائكة لآدم

- ‌ذكر خلق حوّاء عليها السلام

- ‌ذكر عرض الأمانة على آدم عليه السلام

- ‌ذكر خبر إبليس والطاوس والحيّة

- ‌ذكر خروج آدم وحوّاء من الجنة

- ‌ذكر سؤال إبليس- لعنه الله تعالى

- ‌ذكر سؤال آدم- عليه السلام

- ‌ذكر سؤال حوّاء- عليها السلام

- ‌ذكر توبة آدم عليه السلام

- ‌ذكر أخذ الميثاق على ذرّية آدم- عليه السلام

- ‌ذكر اجتماع آدم بحوّاء

- ‌ذكر إبناء آدم وزرعه وحرثه

- ‌ذكر حمل حوّاء- عليها السلام وولادتها

- ‌ذكر مبعث آدم- عليه السلام إلى أولاده

- ‌ذكر قتل قابيل هابيل

- ‌ذكر وفاة آدم- عليه السلام

- ‌ذكر وفاة حوّاء

- ‌الباب الثانى من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر شيث ابن آدم- عليهما السلام وأولاده

- ‌ذكر قتال شيث قابيل

- ‌الباب الثالث من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار إدريس النبى- عليه السلام

- ‌الباب الرابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة نوح- عليه السلام وخبر الطوفان

- ‌ذكر مبعث نوح عليه السلام

- ‌ذكر عمل السفينة

- ‌ذكر خبر دعوة نوح على ابنه حام ودعوته لابنه سام

- ‌ذكر وصيّة نوح ووفاته

- ‌ذكر خبر أولاد نوح- عليه السلام من بعده

- ‌الباب الخامس من القسم الأوّل من الفن الخامس فى قصة هود- عليه السلام مع عاد وهلاكهم بالريح العقيم

- ‌ذكر مبعث هود عليه السلام

- ‌ذكر خبر وفد عاد إلى الحرم يستسقون لهم

- ‌ذكر إرسال العذاب على قوم هود

- ‌ذكر خبر مرثد ولقمان

- ‌ذكر خبر إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِوقصّة شديد وشدّاد بنى عاد

- ‌الباب السادس من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى قصة صالح- عليه السلام مع ثمود وعقرهم الناقة وهلاكهم

- ‌ذكر ميلاد صالح- عليه السلام

- ‌ذكر مبعثه- عليه السلام

- ‌ذكر خروج الناقة

- ‌ذكر خبر عقر الناقة وهلاك ثمود

- ‌الباب السابع من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى أخبار أصحاب البئر المعطّلة والقصر المشيد وما كان من أمرهم وهلاكهم

- ‌الباب الثامن من القسم الأوّل من الفنّ الخامس فى خبر أصحاب الرّس وما كان من أمرهم

- ‌وأمّا الرسّ الآخر

- ‌القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام وخبره مع نمروذ، وقصّة لوط، وخبر إسحاق ويعقوب، وقصّة يوسف وأيّوب وذى الكفل وشعيب

- ‌الباب الأوّل منه فى قصّة إبراهيم الخليل- عليه الصلاة والسلام وخبر نمروذ بن كنعان

- ‌ذكر خبر نمروذ بن كنعان

- ‌ذكر الآيات التى رآها نمروذ قبل مولد إبراهيم- عليه السلام

- ‌ذكر حمل أمّ إبراهيم- عليه السلام وطلوع نجمه

- ‌ذكر ميلاد إبراهيم- عليه السلام

- ‌ذكر خروج إبراهيم- عليه السلام من الغار واستدلاله

- ‌ذكر معجزة لإبراهيم- عليه الصلاة والسلام

- ‌ذكر مبعث إبراهيم- عليه السلام

- ‌ذكر سؤال إبراهيم- عليه السلام فى إحياء الموتى

- ‌ذكر آية لإبراهيم- عليه السلام

- ‌ذكر خبر تكسير إبراهيم الأصنام وإلقائه فى النار

- ‌ذكر خبر صعود نمروذ إلى السماء على زعمه

- ‌ذكر خبر إرسال البعوض على نمروذ وقومه

- ‌ذكر هجرة إبراهيم- عليه السلام

- ‌ذكر خبر ميلاد إسماعيل- عليه السلام ومقامه وأمّه فى البيت المحرّم

- ‌ذكر خبر بشارة إبراهيم بإسحاق- عليهما السلام

- ‌ذكر خبر الذبيح وفدائه

- ‌ذكر وفاة إبراهيم- عليه السلام

- ‌الباب الثانى من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة لوط- عليه السلام وقلب المدائن

- ‌ذكر خبر نزول العذاب على قوم لوط وقلب المدائن

- ‌الباب الثالث من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر إسحاق ويعقوب- عليهما السلام

- ‌ذكر مبعث يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

- ‌الباب الرابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصّة يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام

- ‌ذكر خبر ميلاد يوسف- عليه السلام

- ‌ذكر رؤيا يوسف- عليه السلام وكيد إخوته له

- ‌ذكر رجوع إخوة يوسف إلى يعقوب

- ‌ذكر كلام الذئب بين يدى يعقوب

- ‌ذكر خبر خروج يوسف من الجبّ وبيعه من مالك بن دعر

- ‌ذكر خبر بيع يوسف من عزيز مصر

- ‌ذكر خبر يوسف وزليخا

- ‌ذكر خبر النسوة اللاتى قطّعن أيديهنّ

- ‌ذكر إلهام يوسف- عليه السلام التعبير

- ‌ذكر خبر الخبّاز والساقى

- ‌ذكر رؤيا الملك وتعبيرها وما كان من أمر يوسف وولايته

- ‌ذكر حاجة زليخا إلى الطعام وزواج يوسف بها

- ‌ذكر دخول إخوة يوسف- عليه السلام فى المرّة الأولى

- ‌ذكر خبر دخولهم عليه فى المرّة الثانية

- ‌ذكر خبر دخولهم عليه فى الدفعة الثالثة

- ‌ذكر خبر حديث الصاع

- ‌ذكر دعوة يوسف- عليه السلام وارتحاله عن بلد الريّان

- ‌ذكر خبر وفاة يوسف- عليه السلام

- ‌الباب الخامس من القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة أيوب- عليه السلام وابتلائه وعافيته

- ‌ذكر كشف البلاء عن أيّوب- عليه السلام

- ‌الباب السادس من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر (ذى الكفل)

- ‌الباب السابع من القسم الثانى من الفن الخامس فى خبر شعيب النبى عليه السلام

- ‌ذكر مبعث شعيب- عليه السلام

- ‌ذكر خبر الظّلّة

- ‌القسم الثالث من الفنّ الخامس يشتمل على قصة موسى بن عمران عليه السلام وخبره مع فرعون؛ و

- ‌الباب الأوّل من القسم الثالث من الفن الخامس فى قصة موسى بن عمران وهارون- عليهما السلام

- ‌ذكر خبر قتل الملك واستيلاء فرعون على ملكه وما كان من أمره

- ‌ذكر خبر آسية بنة مزاحم وزواج فرعون بها

- ‌ذكر شىء من الايات التى رآها فرعون قبل مولد موسى عليه السلام

- ‌ذكر خبر قتل الأطفال

- ‌ذكر خبر ميلاد موسى وما كان من أمره وإلقائه فى التابوت

- ‌ذكر دخول التابوت فى دار فرعون ورجوع موسى إلى أمّه

- ‌ذكر شىء من عجائب موسى- عليه السلام وآياته

- ‌ذكر خبر القبطىّ وخروج موسى من مصر

- ‌ذكر خبر ورود موسى مدين وما كان بينه وبين شعيب وزواجه ابنته

- ‌ذكر خبر خروج موسى- عليه السلام من أرض مدين ومناجاته ومبعثه إلى فرعون

- ‌ذكر خبر مسير موسى إلى مصر واجتماعه بأخيه هارون وأمّه

- ‌ذكر خبر دخول موسى- عليه السلام إلى فرعون وما كان من أمره معه

- ‌ذكر خبر العصا حين صارت ثعبانا واليد البيضاء

- ‌ذكر خبر السّحرة واجتماعهم وما كان من أمرهم وإيمانهم

- ‌ذكر خبر حزقيل مؤمن آل فرعون

- ‌ذكر خبر بناء الصرح وما قيل فيه

- ‌ذكر خبر الآيات التسع

- ‌ذكر خبر مسخ قوم فرعون

- ‌ذكر خبر قتل الماشطة

- ‌ذكر خبر قتل آسية بنت مزاحم امرأة فرعون

- ‌ذكر خبر انقطاع النيل وكيف أجراه الله عز وجل لفرعون

- ‌ذكر خبر غرق فرعون وقومه

- ‌ذكر خبر ذهاب موسى- عليه السلام لميقات ربه وطلبه الرؤية وخبر الصاعقة والإفاقة

- ‌ذكر خبر الألواح ونزول التوراة والعشر كلمات

- ‌ذكر خبر السامرى واتخاذه العجل وافتتان بنى إسرائيل به

- ‌ذكر خبر رجوع موسى إلى قومه وما كان من أمرهم

- ‌ذكر خبر امتناع بنى إسرائيل من قبول أحكام التوراة ورفع الجبل عليهم وإيمانهم

- ‌ذكر خبر الحجر الذى وضع موسى- عليه السلام ثيابه عليه

- ‌ذكر خبر طلب بنى إسرائيل رؤية الله تعالى وهلاكهم بالصاعقة، وكيف أحياهم الله- عز وجل وبعثهم من بعد موتهم

- ‌ذكر خبر قارون

- ‌ذكر خبر موسى والخضر- عليهما السلام

- ‌ذكر خبر البقرة وقتل عاميل

- ‌ذكر بناء بيت المقدس وخبر القربان والتابوت والسكينة وصفة النار

- ‌ذكر ما أنعم الله تعالى به على بنى إسرائيل بعد خروجهم من مصر

- ‌ذكر مسير موسى- عليه السلام وبنى إسرائيل لحرب الجبّارين ودخولهم القرية

- ‌ذكر خبر مدينة بلقاء وخبر بلعم بن باعورا وما يتّصل بذلك

- ‌ذكر خبر وفاة هارون عليه الصلاة والسلام

- ‌ذكر وفاة موسى بن عمران- عليه الصلاة والسلام

- ‌استدراك

الفصل: ‌الباب الخامس من القسم الثانى من الفن الخامس فى قصة أيوب- عليه السلام وابتلائه وعافيته

‌الباب الخامس من القسم الثانى من الفنّ الخامس فى قصّة أيوب- عليه السلام وابتلائه وعافيته

عن وهب بن منبّه أنه لم يكن بعد يوسف نبىّ إلّا أيوب، وهو أيّوب بن أموص ابن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم.

وكان أموص كثير المال والماشية، لم يكن فى أرض الشأم أغنى منه؛ فلما مات صار ذلك جميعه لأيوب؛ وكان أيوب يومئذ ابن ثلاثين سنة، فأحبّ الزواج فخطب رحمة بنت أفرايم بن يوسف؛ فتزوّجها، وكانت أشبه الخلق بيوسف وكانت كثيرة العبادة، فرزقه الله منها اثنى عشر بطنا، فى كلّ بطن ذكر وأنثى؛ ثم بعثه الله تعالى إلى قومه رسولا- وهم أهل حوران والبثنية- ورزقه الله حسن الخلق والرفق، فشرع لقومه الشرائع، وبنى المساجد، ووضع موائده للفقراء والأضياف؛ وأمر وكلاءه ألّا يمنعوا أحدا من زراعته وثماره، فكان الطير والوحش وجميع الأنعام تأكل من زرعه وبركة الله تزداد صباحا ومساء؛ وكانت كلّ مواشيه تحمل فى كلّ سنة بتوءم.

وكان أيّوب إذا أقبل الليل جمع من يلوذبه فى مسجده، ويصلّون بصلاته ويسبّحون بتسبيحه حتى يصبح، فحسده إبليس؛ وكان لا يمر بشىء من ماله وماشيته إلا رآه وهو مختوم بخاتم الشكر؛ وكان إذ ذاك يصعد إلى السموات ويقف فى أى مكان أحبّ منها، حتى رفع الله عيسى بن مريم، فحجب عن أربع سموات منها؛ حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، فحجب عن جميعا فصعد إبليس فى زمن أيّوب- عليه السلام وقال: يا ربّ إنى طفت الأرض ففتنت من أطاعنى إلّا عبادك منهم المخلصين. فنودى: يا ملعون، هل علمت

ص: 157

بعبدى أيّوب؟ وهل نلت منه مع طول عبادته؟ وهل تستطيع أن تغيّره عن عبادتى؟ فقال إبليس: إلهى إنك ذكرته بالخير، وقد نظرت فى أمره فإذا هو عبد عافيته بعافيتك، ورزقته شكرك، ولم تختبره بالبلاء؛ فلو ابتليته بالمصائب لوجدته بخلاف ما هو عليه، فلو سلّطتنى على ماله لرأيته كيف ينساك.

فسلّطه الله على ماله؛ فآنقضّ وجمع العفاريت، وأخبرهم أنه سلّط على مال أيوب، وحضّهم على زرعه وأشجاره ومواشيه، فأحرقوا الأشجار، وصاحوا بالمواشى صيحة فماتت برعاتها.

قيل: وكان له ألف فرس وألف رمكة وألف بغل وبغلة، وثلاثة آلاف بعير، وألف وخمسمائة ناقة، وألف ثور، وألف بقرة، وعشرة آلاف شاة وخمسائة فدّان، وثلاثمائة أتان، مع ما يتبع ذلك من النّتاج؛ فهلك جميع ذلك؛ ثم أقبل إبليس إلى أيوب فى صورة راع من رعاته، وخيل له أن عليه وهج الحريق وقد اسودّ وجهه، وهو ينادى: يا أيّوب، أدركنى فأنا الناجى دون غيرى ما رأيت قطّ مثل هذا اليوم، رأيت نارا أقبلت من السماء فأحرقت أموالك، وسمعت نداء من السماء: هذا جزاء من كان مرائيا فى عمله يريد به الناس دون الله.

وسمعت النار تقول: أنا نار الغضب. فأقبل أيوب على صلاته، ولم يكترث به حتى فرغ منها، وقال: يا هذا، لقد كثّرت علىّ، ليست الأموال لى، بل هى لربّى يفعل فيها ما يشاء. فقال إبليس: صدقت.

وماج الناس بعضهم فى بعض، وقالوا: هلّا قبضها قبضا جميلا.

فشقّ ذلك على أيّوب من قولهم، ولم يجبهم، غير أنه قال: الحمد لله على قضائه وقدره. وانصرف إبليس عنه، وصعد الى السماء، فنودى: يا ملعون

ص: 158

كيف وجدت عبدى أيّوب وصبره على ذهاب أمواله؟ فقال إبليس: إلهى إنك قد متّعته بالأولاد، فلو سلّطتنى عليهم لوجدته غير صابر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك عليهم. فانقضّ إبليس على باب قصر أيّوب الّذى فيه أولاده فزلزله حتّى سقط عليهم، وشدخهم بالخشب، ومثّل بهم كلّ مثلة؛ فأوحى الله إلى الأرض: احفظى أولاد أيّوب فإنّى بالغ فيهم مشيئتى.

وأقبل إبليس إلى أيّوب وقال له: لو رأيت قصورك كيف تهدّمت، وأولادك وما حلّ بهم. ولم يزل يعدّ له ما حلّ بهم حتّى إبكاه؛ ثم ندم على بكائه، فاستغفر وخرّ ساجدا؛ وأقبل على إبليس وقال: يا ملعون، انصرف عنّى خائبا؛ فإن أولادى كانوا عارية عندى لله.

فانصرف وصعد إلى السماء، ووقف موقفه، فنودى: يا ملعون، كيف رأيت عبدى أيوب واستغفاره عند بكائه؟ فقال: إلهى إنّك قد متّعته بعافية نفسه، وفيها عوض عن المال، فلو سلّطتنى على بدنه لكان لا يصبر. فنودى: يا ملعون اذهب فقد سلّطتك على جسده إلّا عينيه ولسانه وقلبه وسمعه. فانقضّ إبليس عليه وهو فى مسجده يتضرّع الى الله ويشكره على جميع بلائه؛ فلمّا سمع إبليس ذلك منه اغتاظ، ولم يتركه يرفع رأسه من السجود حتى نفخ فى منخريه كالنار الملتهبة؛ فاسودّ وجهه، ومرّت النفخة فى سائر جسده؛ فتمعّط منها شعره، وتقرّح جميع بدنه، وورم فى اليوم الثانى، وعظم فى الثالث، واسودّ فى الرابع، وامتلأ قيحا فى الخامس، ووقع فيه الدود فى السادس، وسال منه الصديد فى اليوم السابع ووقع فيه الحكاك، فجعل يحكّه حتى سقطت أظافيره؛ فحكّ بدنه بالخروق والمسوح والحجارة، وكان إذا سقطت دودة من بدنه ردّها إلى موضعها، ويقول: كلى إلى أن يأذن الله بالفرج.

ص: 159

فقالت له رحمة: يا أيوب، ذهب المال والولد، وبدء الضرّ فى الجسد.

فقال لها: يا رحمة، إنّ الله ابتلى الأنبياء من قبل فصبروا، وإن الله وعد الصابرين خيرا؛ وخرّ ساجدا لله تعالى، وقال: إلهى لو جعلت ثوب البلاء سرمدا وحرمتنى العافية، ومزّقتنى كلّ ممزّق، ما ازددت إلّا شكرا؛ إلهى لا تشمت بى عدوّى إبليس.

ثم قال لرحمة: انقلينى إلى موضع غير مسجدى، فإنّى لا أحبّ أن يتلوّث المسجد.

فانطلقت إلى قوم كان أيوب يحسن إليهم؛ فالتمست منهم أن يعينوها على إخراجه من المسجد؛ فقالوا: إنه قد غضب عليه ربّه بما كان فيه من الرياء، فليت كان بيننا وبينه بعد المشرقين. فرجعت رحمة واحتملته إلى الموضع الّذى كان يضع فيه الموائد للناس بالفضاء.

ثم قال لها: يا رحمة، إن الصدقة لا تحلّ علينا، فآحتالى فى خدمة الناس. وبكى وبكت، فكانت تخدم أهل البلد فى سقى الماء وكنس البيوت وإخراج الكناسات الى المزابل، وتتكسّب من ذلك ما تنفقه على أيّوب؛ فأقبل إبليس فى صورة شيخ، فوقف على أهل القرية وقال: كيف تطيب نفوسكم بمخالطة امرأة تعالج من زوجها هذا القيح والصديد وتدخل بيوتكم، وتدخل يدها فى طعامكم وشرابكم؟! فوقع ذلك فى قلوبهم ومنعوها أن تدخل بيوتهم.

قال: واشتد بأيّوب البلاء، ونتن حتى لم يقدر أحد من أهل القرية أن يستقرّ فى بيته لشدّة رائحته؛ فاجتمعوا على أن يرسلوا عليه الكلاب لتأكله؛ فأرسلوها فعدت حتى قربت منه وولّت هاربة ولم ترجع إلى القرية.

ص: 160

ثم قال لرحمة: إنّ القوم قد كرهونى، فاحتالى فى نقلى عنهم.

فتوجّهت واتخذت له عريشا، واستعانت بمن يحمله؛ فأعانها الله بأربعة من الملائكة، فحملوه بأطراف النّطع إلى العريش، وعزّوه فى مصيبته ودعوا له بالعافية؛ واتخذت له رحمة فى العريش رمادا، فألقى نفسه عليه؛ ثم توجّهت فى طلب القوت، فردّها أهل القرية، وقالوا: إنّ أيّوب سخط عليه ربّه.

فعادت إليه باكية، وقالت: إنّ أهل القرية غلّقوا أبوابهم دونى. فقال:

إن الله لا يغلق بابه دوننا. فحملته إلى قرية أخرى، وصنعت له عريشا ودخلت القرية، فقرّبوها وأكرموها، وحملت فى ذلك اليوم عشرة أقراص من خمسة بيوت؛ ثم شمّ أهل القرية رائحة أيّوب بعد ذلك، فمنعوا رحمة أن تدخل إليهم، وقالوا: نحن نواسيك من طعامنا بشىء. فرضيت بذلك؛ فبينما هى تتردّد إلى أيّوب إذ عرض لها إبليس فى صورة طبيب وقال: إنى أقبلت من أرض فلسطين لما سمعت خبر زوجك، وقد جئت لأدويه، وأنا صائر إليه غدا فيجب أن تخبريه، وقولى له: يحتال فى عصفور أو طائر فيذبحه ولا يذكر اسم الله عليه، ويأكله ويشرب عليه قدحا من خمر، ففرجه فى ذلك. فجاءت رحمة إلى أيّوب وأخبرته بذلك، فتبيّن الغضب على وجهه، وأخبرها أنه إبليس وحذّرها أن تعود لمثل ذلك؛ ثم أقبلت بعد ذلك إلى أيّوب بشىء من الطعام فعرض لها إبليس فى صورة رجل بهىّ على حمار، فقال: كأنى أعرفك، ألست رحمة امرأة أيّوب؟ قالت: بلى. قال: إنى أعرفكم وأنتم أهل غناء ويسار فما الّذى غيّر حالكم؟ فذكرت ما أصاب أيّوب من البلاء فى المال والولد والنفس قال: وفى أىّ شىء أصابتكم هذه المصائب؟ قالت: لأنّ الله أراد أن يعظم لنا الأجر على قدر بلائه.

ص: 161

قال إبليس: بئس ما قلت، ولكن للسماء إله وللأرض إله؛ فأمّا إله السماء فهو الله؛ وأمّا إله الأرض فأنا، فأردتكم لنفسى فعبدتم إله السماء ولم تعبدونى ففعلت بكم ما فعلت، وسلبتكم نعمكم، وكلّ ذلك عندى، فاتّبعينى حتى تنظرى إلى ذلك، فإنّه عندى فى وادى كذا وكذا.

فلما سمعت (رحمة) ذلك منه عجبت، واتبعته غير بعيد حتى وقفها على ذلك الوادى، وسحر عينيها حتى رأت ما كانت فقدته من أموالهم. فقال:

أنا صادق أم لا؟ فقالت: لا أدرى حتى أرجع إلى أيّوب. فرجعت وأخبرته بذلك، فتألم وأنكر عليها وغضب؛ فسألته أن يعفو عنها ولا تعود؛ فقال:

قد نهيتك مرّة وهذه أخرى، وأقسم إن عافاه الله ليجلدنها مائة جلدة على كلامها لإبليس.

قال: ولبث أيّوب فى بلائه ثمانى عشرة سنة حتى لم يبق إلّا عيناه تدوران فى رأسه، ولسانه ينطق به، وقلبه على حالته، وأذناه يسمع بهما.

قال: وعجزت (رحمة) فى بعض الأيام عن تحصيل القوت، وطافت القرية حتى أتت إلى امرأة عجوز فشكت لها ذلك؛ فقالت العجوز: يا رحمة، قد زوّجت ابنتى، فهل لك أن تعطينى ضفيرتين من ضفائرك لأزين بهما ابنتى، وأعطيك رغيفين. فأجابتها رحمة إلى ذلك، وأخذت الرغيفين، وجاءت بهما إلى أيوب؛ فأنكرهما أيوب وقال: من أين لك هذين؟ فأخبرته بالقصة؛ فصاح أيوب وقال ما أخبر الله تعالى: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

فأوحى الله إليه: يا أيّوب، قد سمعت كلامك، وسأجزيك على قدر صبرك؛ وأمّا رحمة فلأرضينّها بالجنة.

ص: 162