الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العجيبة والنقوش المؤلّفة، يطلع من تحتها الماء فى فوّارات وتنصب الى أنهار مصفّحة بالفضّة تفضى الى حدائق فيها بدائع الغروس، عليها تماثيل تصفر بأصناف اللغات، ونضّدت بأنواع الفواكه، وأرخت عليها ستور الدّيباج المنسوجة بالذهب، واختارت له من بنات الملوك الحسان وأزوجته منهنّ، وبنت حول تلك الجنة مجالس يجلس فيها الوزراء والكهنة وأشراف أهل الصناعات يرفعون اليه ما يعملونه، فكان أكثر مقام الملك فى تلك الجنة، فإذا فرغوا من أعمالهم نقل اليهم الطعام والشراب من مطبخه، ولا يزالون فى أكل وشرب بقية يومهم وليلتهم، وأقاموا على ذلك والأمور جارية على السداد.
وكانت أيامه سعيدة كثيرة الخصب والسعة للناس والعدل فيهم والإحسان اليهم. وكان له يوم يخرج فيه الى الصيد ويرجع الى جنّته فيأمر لمن معه بالجوائز والأطعمة والأشربة، ويجلس يوما للناس فينظر فى أمورهم ومصالحهم ويقضى حوائجهم، ويجلس يوما للخلوة بنسائه، ثم جدر فمات؛ وعمل له ناووس فى جنّته وجعل فيه من الأموال والجواهر والصنعة والتماثيل كما كان يجعل لآبائه. وكان ملكه ثلاث عشرة سنة، وانتقل الملك إلى أعمامه.
ذكر أخبار أتريب الملك
هو أتريب بن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام. قال:
وكان أتريب قد انتقل إلى حيّزه بعد وفاة أبيه قبطيم، وهى المدينة التى كان أبوه بناها له، وكان طولها اثنى عشر ميلا، ولها اثنا عشر بابا، وفى شارعها الأعظم ثلاث قباب عالية على عمد بعضها فوق بعض، منها قبّة فى وسط المدينة، وقبّتان فى طرفيها، وجعل على كل ركن منها مرقبا كبيرا يوقد ليلا، وعلى كل باب من أبوابها
حرسا كثيرا، وجعل فى كل جانب منها ملعبا ومجالس ومتنزّهات تشرف من تلك المجالس عليها، وشقّ فى عرضها «1» نهرا وعمل عليه قناطر معقودة، وبنى فوقها مجالس يتّصل بعضها ببعض، وجعل حوله منازل تدور بالخليج متّصلة بالقناطر على رياض مزروعة وخلفها الأجنّة والبساتين؛ وعلى كل باب من أبوابها أعجوبة من تماثيل وأصنام متحرّكة وأصنام ينبع الماء من آذانها، ومن داخل كل باب صورة شيطانين من صفر، فكان إذا قصدها أحد من أهل الخير قهقه الشيطان الذى عن يمنة الباب، وإن كان من أهل الريب «2» بكى الشيطان الذى عن يسرة الباب، وجعل فى كل متنزّه منها من الوحوش الآلفة والطير المغرّدة كل مستحسن، وجعل فوق قباب المدينة صورا تصفر إذا هبّت الرياح، ونصب له فيها مرايا ترى البلدان البعيدة والعجائب الغريبة، وبنى حذاءها فى الشرق مدينة وجعل فيها ملاعب وأصناما بارزة كثيرة فى خلق مختلفة، وجعل فى وسطها بركة إذا مرّ بها الطير سقط عليها فلا يبرح حتى يؤخذ، وجعل لها حصنا [باثنى عشر بابا «3» ] وجعل على كل باب من أبوابها تمثالا يعمل أعجوبة وعمل حولها أجنّة، وجعل ما يقرب منها من ناحية الشرق مجلسا منقوشا على ثمانى أساطين، وفوق المجلس قبّة عليها طائر منشور الجناحين يصفر كل يوم ثلاث صفرات: بكرة، ونصف النهار، وعند الغروب، وأقام فيها أصناما وعجائب كثيرة، وبنى مدنا كثيرة وأكثر من العمارات، وأقام رجلا يقال له برسان يعمل الكيمياء، وضرب منها دنانير، فى كل دينار سبعة مثاقيل عليها صورته، وعمل منها تماثيل كثيرة. وعاش أتريب فى الملك ثلاثمائة سنة وستين سنة،
وكانت سنّه خمسمائة سنة. وعمل له ناووس فى جبل بالشرق حفر [له «1» ] تحته سرب بطّن بالزجاج [والمرمر «2» ] وجعل على سرير من ذهب [مرصّع «3» ] وحملت إليه ذخائره، وجعل على بابه صورة تنّين لا يدنو منه أحد إلّا أهلكه، وزبر عليه اسمه وتاريخ وقته، وسفوا عليه الرمال.
وملكت بعده ابنته [تدرورة «4» ] فدبّرت الملك وساسته بأيد وقوّة خمسا وثلاثين سنة ثم ماتت.
فقام بالملك بعدها أخوها «5» فليمون «6» بن أتريب؛ فردّ الوزراء إلى مراتبهم، وأقام الكهّان [على مواضعهم «7» ] ولم يخرج الأمر عن رأيهم، وجدّ فى العمارات وطلب الحكم وعمل بها. وفى أيامه بنيت تنّيس الأولى التى غرّقها البحر، وكان بينها وبين البحر شىء كثير، وحولها الزروع والأشجار والكروم والقرى ومعاصر الخمر وغيرها وعمارة لم يكن أحسن منها، فأمر الملك أن يبنى له [فى «8» ] وسطها مجالس، وينصب له عليها قباب، وتزيّن بأحسن الزينة والنقوش، وأمر بفرشها وإصلاحها، وكان إذا بدأ النيل فى الزيادة انتقل الملك إليها فأقام بها إلى النّوروز ورجع. وكان للملك بها أمناء يقسّمون المياه ويعطون كل قرية قسطها، وكان على تلك القرى حصن يدور بقناطر، وكان كل ملك يأتى يأمر بعمارتها والزيادة فيها ويجعلها له متنزّها.
ويقال: إن الجنّتين اللتين ذكرهما الله تعالى فى كتابه كانتا لأخوين من أهل بيت الملك أقطعهما الملك ذلك الموضع. وقد تقدّم ذكر خبرهما عند ذكرنا لبحيرة «1» تنّيس، وهو فى الباب السادس من القسم الرابع من الفن الأوّل فى ذكر البحار والجزائر وهو فى السفر الأوّل من كتابنا هذا.
قال: وفى زمان فليمون بنيت دمياط على اسم غلام له كانت أمّه ساحرة لفليمون. قال: وملك فليمون تسعين سنة، وعمل لنفسه ناووسا فى لجبل الشرقىّ، وحوّل إليه من الأموال والجواهر وسائر الذخائر شيئا كثيرا، وجعل من داخله تماثيل تدور بلوالب فى أيديها سيوف فمن دخلها قطّعته بسيوفها. وجعل عن يمينه ويساره أسدين من نحاس مذهب بلوالب أيضا فمن دنا منهما حطّماه، وزبر على الناووس:
هذا قبر فليمون بن أتريب بن قبطيم بن مصريم، عمّر عمرا، وبقى دهرا، وأتاه الموت فما استطاع له دفعا، فمن وصل إليه فلا يسلبه ما عليه، وليأخذ مما بين يديه.
وصار الملك بعده إلى ابنه قرسون بن فليمون؛ وجلس على سرير الملك، ودخل إليه عظماء أهل البلد والخاص والعام فهنؤه بالملك، فتقدّم فى أمر الهياكل والكهنة وطلب الحكمة؛ وكان حدثا جميلا فعشقته إحدى نساء أبيه، وكانت تتولى طيبة «2» وتزعم أن أباه أمرها بذلك، ثم بعثت إلى ساحرة من أعلم السحرة بمنف «3»
فسألتها أن تسحره لها وبذلت لها على ذلك أموالا، وإذا الساحرة قد عشقته أشدّ من عشقها، فسعت بامرأة أبيه وعرّفته ما بذلت لها على ذلك، فأبعدها عن مجلسه ومنعها من الدخول إليه.
وبلغ ملكا من ملوك حمير أن ملك مصر صار إلى غلام حدث غرّ فطمع فيه وسار إليه فى جموع عظيمة، فخرج قرسون نحوه فالتقوا بأيلة «1» واقتتلوا قتالا شديدا حتى تفانّى الفريقان، فأتت تلك الساحرة إلى الملك فقالت: ما تجعل لى إن أعنتك على عدوّك حتى تفضّ جموعه وتظفر به؟ قال حكمك؛ فأخذت عليه بذلك العهود والمواثيق، وأصبحوا للحرب فدخّنت الساحرة بدخن عجيبة وأظهرت تخاييل هائلة، فهرب الحميرىّ فى نفر يسير من ثقاته، وقتل بقية أصحابه، وحاز جميع ما كان فى خزائنهم، وعاد الملك إلى منف بالظفر والغنيمة، فأتته الساحرة فسألته الوفاء بالشرط فقال:
احتكمى ما أحببت، فهذه الأموال والخزائن بين يديك؛ فقالت: ما أريد غير الملك؛ فقال: ويحك! إنك لست من أهل بيت الملك، وقد علمت ما فى هذا على الملك؛ فقالت: قد كان الملوك قبلك يغصبون نساء الناس ويلدن منهم ولا يسألون عن ولاداتهم، وأنا ابنة فلان رئيس الكهنة، ويوشك أن يحتاج الملك إلىّ بعد هذا. ولم تزل به حتى انصرف قلبه اليها، فتزوّجها وأحبّها وحظيت عنده. فضاقت الأرض بامرأة أبيه فأخذت فى أعمال الحيلة عليها؛ فدسّت جارية لها عاقلة لطيفة على ساقى الملك الذى يتولّى شرابه، فاختلطت بجواريه حتى
تمكّنت من إناء كان فيه شراب للملك فألقت فيه سمّا وعادت فى الوقت إلى مولاتها وأخبرتها، فدخلت إلى الملك فسجدت له وقالت: قد كنت للملك ناصحة، وعليه مشفقة، فأقصانى واختصّ هذه الساحرة الفاجرة، وقد سمّت شرابه فى إناء من صفته كذا وكذا، فليسقها الملك منه ليعلم صدقى؛ فدعا الملك بالإناء فوجده على ما ذكرت، فأحضر الساحرة وأمرها بشرب قدح منه فشربته ولم تعلم ما فيه فسقط لحمها عن عظمها، فأمر بدفنها فى ناووس وزبر عليه اسمها وما همّت به وما صار أمرها إليه، وعاد إلى امرأة أبيه وتزوّج بها وحسنت حالها عنده.
قال: وفى أيامه عمل المنار على بحر القلزم «1» وجعلت على رأسه مرآة من أخلاط تجتذب المراكب على شاطىء البحر، فلا يمكنها أن تبرح أو تعشّر، فإذا عشّرت سترت المرآة فتجوز المراكب.
قال: وأقام قرسون ملكا مائتين وستين سنة؛ وقد كان عمل لنفسه ناووسا خلف الجبل الأسود الشرقىّ. وجعل فى وسطه قبّة فيها اثنى عشر بيتا، فى كل بيت أعجوبة لا تشبه الأخرى، وزبر عليها اسمه ومدّة ملكه. قال: وملك بعده ثلاثة أو أربعة. فهؤلاء الذين سمّاهم من أولاد أتريب ممن ملك منهم. والله أعلم «2» .