الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصفّحوها بالزجاج وحبسوا فيها الرياح بتدبيرهم، واتخذ فرعان منها عدّة له ولأهل بيته. وكان فرعان قد أقصى الكهّان وباعدهم، وكانوا مع الملوك على خلاف ذلك.
ولنصل هذا الخبر بخبر الكهّان وما كانوا عليه.
ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك
قال: وكهّان مصر أعظم الكهان علما، وأجلّهم فى الكهانة حديثا. وكان حكماء اليونان يصفونهم بذلك، ويشهدون لهم به ويقولون: أخبرنا حكماء مصر بذلك فاستفدناه منهم. وكانوا ينحون فى كهانتهم نحو الكواكب، ويزعمون أنها هى التى تفيض عليهم العلوم وتخبرهم بالغيوب، وهى التى علّمتهم أسرار الطبائع، ودلّتهم على العلوم المكنونة؛ فعملوا الطلّسمات المشهورة، والنواميس الجليلة، وولّدوا الولادات الناطقة، والصور المتحرّكة؛ وبنوا العالى من البنيان، وزبروا علومهم فى الصلب من الصّوّان، وانفردوا بعمل البرابى، ومنعوا بها الأعداء من بلدهم، وعجائبهم ظاهرة. وكان الذى يتعبّد منهم الكواكب السبعة المدبّرة، لكلّ كوكب سبع سنين، فإذا بلغ هذه الرتبة سمّى قاطرا «1» ، وكان يجلس مع الملك فى المرتبة ويصدر الملك عن رأيه، وإذا رآه قام له.
وكان من رسمهم فى كل يوم أن يدخل القاطر إلى الملك فيجلس إلى جانبه، ويدخل الكهنة ومعهم أصحاب الصناعات فيقفوا حذاء القاطر، وكلّ واحد من الكهنة منفرد بكوكب يخدمه لا يتعدّاه إلى سواه، ويسمّى عبد كوكب كذا، كما كانت العرب تسمّى عبد شمس، فيقول القاطر للكاهن: أين صاحبك؟ فيقول:
فى البرج الفلانى فى الدرجة الفلانية فى دقيقة كذا، ويسأل الآخر حتى إذا عرف مستقرّ الكواكب قال للملك: ينبغى لك أن تعمل اليوم كذا، وتضع بنيان كذا، وتوجّه جيشا إلى ناحية كذا، وتجامع فى وقت كذا، وتأكل فى وقت كذا، وجميع ما يراه صلاحا له فى أموره كلّها؛ والكاتب قائم يكتب جميع ما يقوله القاطر، ثم يلتفت إلى أهل الصناعات فيقول: انقش أنت صورة كذا على حجر كذا، واغرس أنت كذا، واصنع أنت كذا، حتى يمرّ على أهل الصناعات؛ فيخرجون إلى دار الحكمة ويضعون أيديهم فى تلك الأعمال، ويستعمل الملك جميع ما يأمره القاطر. ويشرح ذلك اليوم فى الصحيفة وتطوى وتودع فى خزانة الملك، فعلى ذلك كانت تجرى أمورهم.
وكان الملك إذا نابه أمر جمعهم واصطفّ الناس لهم فى شارع المدينة، ثم يدخلون ركبانا يقدم بعضهم بعضا، ويضرب بين أيديهم بطبل الاجتماع، فيدخل كلّ واحد منهم بأعجوبة: فمنهم من يعلو وجهه نور كنور الشمس فلا يقدر أحد على النظر إليه، ومنهم من يكون عليه بدنة «1» جوهر أخضر أو أحمر أو من ذهب منسوج. ومنهم من يدخل راكبا أسدا متوشّحا بحيّات عظام. ومنهم من تكون عليه قّبة من نور أو من جوهر فى صنوف من العجائب كثيرة. ويصنع كلّ واحد منهم ما يدلّه عليه كوكبه الذى يعبده؛ فإذا دخلوا على الملك قالوا: أرادنا الملك لأمر كذا وقد علمنا، أو أضمر الملك كذا والصواب فيه كذا. فكانوا مع ملوكهم على هذه الحال حتى ملك فرعان فأبعدهم. وكان فليمون «2» رئيس الكهّان، فرأى فيما يرى النائم كأنّ مدينة أمسوس قد انقلبت بأهلها، وكأنّ الأصنام
تهوى على رءوسها، وكأنّ ناسا ينزلون من السماء معهم مقامع «1» فيضربون الناس بها، وكأنه قد تعلّق بأحدهم وقال له: ما لكم تفعلون بالخلق هذا! أما ترحمونهم؟ فقال:
لأنهم كفروا بإلهم. قال: أفما لهم من خلاص؟ قالوا: نعم، من أراد الخلاص فليلحق بصاحب السفينة، فانتبه وهو يخاطبه، فبقى مرعوبا مما رآه. وكان له امرأة وولدان ذكر وأنثى ومعه تلاميذه، فأجمع على أن يلحق بنوح عليه السلام، ثم نام أيضا فرأى كأنه فى روضة خضراء، وكأنّ فيها طيورا بيضاء تفوح منها رائحة طيّبة، وكأنه تعجّب من حسنها إذ تكلّم بعض الطيور فقال لأصحابه: سيروا بناننج المؤمنين. قال له فليمون: ومن هؤلاء المؤمنون؟ قال: أصحاب السفينة. فانتبه مرعوبا وأخبر أهله وتلاميذه بذلك ثم نام.
فلمّا كان الغد أتى الملك فقال: إن رأى الملك أن ينفذنى إلى در مسيل لأعرف حال هذا الرجل الذى عمل السفينة فأشاهده وأناظره على ما جاء به من هذا الدّين الذى أظهره وأتبيّن حقيقة أمره فليفعل؛ فإنى أرجو أن يكون ذلك سببا لهلاكه ودفعه عما يدّعيه، فأعجب الملك ذلك منه وأذن له فى الخروج، فسار بأهله وولده وتلاميذه حتى انتهوا إلى أرض بابل وقصد نوحا وسأله أن يشرح له دينه ففعل ذلك، فآمن به وجميع من معه، فقال نوح عليه السلام: من أراد الله عزوجل به الخير لم يصدفه أحد عنه. فلم يزل فليمون مع نوح عليه السلام يخدمه هو وولده وتلاميذه إلى أن ركبوا السفينة.
وأمّا فرعان الملك فإنه أقام منهمكا فى ضلاله وظلمه، مقبلا على لهوه، واستخفّ بالكهنة والهياكل، وضاقت الدنيا بأهلها، وكثر الهرج والظلم، وفسدت الزروع،