الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته
قال: ثم وافا كتاب الوليد بن دومع من نواحى النوبة إلى عون يأمره أن ينفذ إليه الأزواد وينصب له الأسواق؛ فوجّه إليه ذلك فى المراكب وعلى الظهر «1» ، وحوّل جميع عياله ومن اصطفاه من بنات ملوك مصر وكبرائها إلى المدينة، حتى إذا قرب دخول الوليد إلى مصر خرج عون إلى مدينته وخلّف خليفة على مصر يكون بين يدى الوليد. ودخل الوليد مدينة منف وتلقاه أهل مصر وشكوا إليه عونا وما حلّ بهم منه. قال: وأين هو؟ قالوا: فرّ منك. فغضب الوليد وأمر بجيش كثيف ينفذ إليه، فعرّفوه أن الجيش لا يصل إليه، وأخبروه خبر المدينة وكيف بناها وخبر السّحرة الذين معه. فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه ويحذّره التخلف عنه، ويقسم أنه إن لم يفعل وظفر به بضّع لحمه بضعا. فردّ جوابه يقول: ما على الملك منى مؤنة، وأنا لا أتعرّض إلى بلده ولا أعيث فيه؛ لأنى عبده، وأنا له فى هذا الموضع أردّ كل عدوّ يأتيه من نواحى الغرب، ولا أقدر على المصير إليه لخوفى منه، فليقرّنى الملك بحالى كأحد عمّاله وأوجه إليه ما يلزمنى من الخراج والهدايا. ووجه إليه بأموال جليلة وجوهر نفيس. فلما رأى ذلك كفّ عنه. وأقام الوليد بمصر فآستعبد أهلها واستباح حريمهم وأموالهم. وملكهم مائة وعشرين سنة فأبغضوه وسئموا أيامه. واتفق أنه ركب فى بعض الأيام إلى الصيد فألقاه فرسه فى وهدة فهلك. وكان ابنه الريان ينكر عليه فعله ولا يرضاه. فلما هلك عمل له ناووسا قرب الأهرام. وقيل: بل دفن فى الهرم.
ثم ملك بعده ابنه الريان بن الوليد بن دومع؛ وهو فرعون يوسف عليه السلام، والقبط تسميه نهراوش «1» ، وجلس على سرير الملك. وكان عظيم الخلق، جميل الوجه، عاقلا متمكنا؛ فتكلم ومنّى الناس وضمن لهم الإحسان وأسقط عنهم الخراج ثلاث سنين، فأثنوا عليه وشكروه، وأمر بفتح الخزائن وفرّق ما فيها على الخاصّ والعامّ، وتمكنت منه أريحيّة الصّبا فملّك على الرعية رجلا من أهل بيته يقال له أطفين، وقيل فى اسمه: قطفير، وقيل: قوطيفر، وهو الذى يسميه أهل الأثر العزيز. وكان من أولاد الوزراء. وكان عاقلا أديبا متمكنا صائب الرأى كثير النزاهة مستعملا للعدل والعمارة والإصلاح. وأمر الريان أن ينصب له فى قصر الملك سرير من الفضة يجلس عليه ويغدو ويروح إلى باب الملك، ويخرج بجميع الوزراء والعمال والكتاب بين يديه؛ فكفى الريّان ما خلف سريره «2» وقام بجميع أمره وأخلاه للذّاته؛ فأقام الريان منعكفا على قصفه ولهوه منغمسا فى لذّته لا ينظر فى عمل ولا يظهر للناس ولا يخاطبهم، فأقاموا بذلك حينا. هذا والبلد عامر.
وبلغ الخراج فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف مثقال فجعلها أقساما، فما كان للملك وأسبابه وموائده حمل إليه، وما كان فى أرزاق الجيش والكهنة والفلاسفة وأصحاب الصنائع ومصالح البلد وأهل المهنة صرف إليهم، والملك مع ذلك غير سائل عن شىء؛ قد عملت له مجالس من الزجاج الملوّن وأجرى حولها الماء وأرسلت فيها الأسماك المقرّطة، فكانت الشمس إذا وقعت على المجلس منها أرسل شعاعا عجيبا يبهر العيون.
وعملت له عدّة متنزهات على عدد أيام السنة، فكان كل يوم فى موضع منها، وفى كل موضع منها من الفرش والآنية والآلات ما ليس فى غيره.
فلما اتصل بملوك النواحى تشاغل الريان بلذاته وتدبير العزيز لأمره، قصده رجل من العمالقة يقال له عاكن بن بيحوم وكنيته أبو قابوس، وقصد مصر حتى نزل على حدودها، فأنفذ إليه العزيز جيشا كثيفا وجعل عليه قائدا يقال له بريانس، فأقام ثلاث سنين يحاربه، ثم ظفر به العمليقى ودخل من الحدود وهدم أعلاما ومصانع كثيرة، وتمكن طمعه فى البلد فأعظم أهل مصر ذلك واجتمعوا إلى قصر الملك وجعلوا يصيحون ويستغيثون ويرفعون أصواتهم حتى سمعها الملك فقال: ما بال الناس؟ فأخبر خبر العمليقى وأنه قد دخل عمل مصر وعاث وأفسد المزارع والمصانع والأعلام، وأنه سار بجيشه إلى قصر الملك، فارتاع الريان لذلك وأنف منه وانتبه من غفلته وعرض جيوشه وأصلح أمره وخرج فى ستمائة ألف مقاتل سرى الأتباع، فالتقوا من وراء الأحواف فى تلك الصحراء، واقتتلوا قتالا شديدا فانهزم العمليقى واتبعه الربان إلى حدود الشام وقتل من أصحابه خلقا وأفسد زرعهم وأكثر أشجار الفواكه والزيتون، وأحرق وصلب ونصب أعلاما على الموضع الذى بلغه وزبر عليها: إنى لمن يجاوز هذا المكان بالمرصاد. فلما تمّ له هذا الظفر هابته الملوك ولا طفوه وأعظموه.
وقيل: إنه بلغ الموصل وضرب على الشام خراجا وبنى عند العريش مدينة لطيفة وشحنها هى وتلك الناحية بالرجال، ورجع إلى مصر فحشد جنوده من جميع الأعمال، واستعدّ لغزو ملوك الغرب فخرج فى تسعمائة ألف واتصل بالملوك خبره، فمنهم من تنحّى عن طريقه، ومنهم من دخل تحت طاعته. ومرّ بأرض البربر فأجلى كثيرا منهم، ووجه قائدا يقال له مريطس فى سفن فركب البحر من ناحية رقودة. ومرّ الريان بجزائر بنى يافث فعاث فيها واصطلم «1» أهلها، وخرج من ناحية أرض البربر فقتل بعضهم وصالح بعضهم وحملوا إليه الأموال، ومضى إلى إفريقية وقرطاجنّة فصالحوه على أموال
وألطاف كثيرة حملوها إليه، ومرّ حتى بلغ مصبّ البحر الأخضر «1» وهو موضع الأصنام النحاس، فأقام هناك صنما وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى خرج فيه، وضرب على أهل تلك النواحى خراجا، وعدّى إلى الأرض الكبيرة وصار فى الإفرنجة، والأندلس فى حوزهم وعليها لذريق الأصغر، فحاربه أياما وقتل من أصحابه خلقا وصالحه بعد ذلك على ذهب مضروب، وعلى ألا يغزو مصر ويمنع من رام ذلك من جميع أهل النواحى، وانصرف مشرّقا فشقّ بلد البربر فلم يمر بموضع إلا خرج أهله بين يديه وأهدوا له ودخلوا تحت طاعته. ثم أخذ نحو الجنوب ومر ببلد الكوسانيين فحاربوه فقتل خلقا كثيرا، وبعث قائدا إلى مدينة على عبر البحر الأخضر «2» فخرج إليه ملك المدينة وأهلها فعرّفهم حال الريان ومصالحة الملوك له فقالوا: ما بلغنا أحد قط، وسألهم هل ركب هذا البحر أحد؟ فقالوا: ما يستطيع أحد أن يركبه، وأخبروه أنه ربما أظله الغمام فلا يرونه أياما، وأتى الريان فتلقّوه بهدايا وفاكهة أكثرها الموز؛ وحجارة سود فإذا جعلت فى الماء صارت بيضاء، ثم تركهم وسار إلى أمم السودان حتى بلغ ملك الدمدم «3» الذين يأكلون الناس، فخرجوا إليه عراة بأيديهم العمد الحديد، وخرج ملكهم على دابة وهو عظيم الخلق له قرون، وكان جسيما أحمر العينين، فظفر بهم فانهزموا إلى أوحال وأدغال فلم يتهيأ له اتباعهم فيها، وجازهم إلى قوم على خلق القرود لهم أجنحة صغار يثبون بها من غير ريش. ومرّ على عبر البحر المظلم فغشيهم منه غمام فرجع شمالا حتى انتهى إلى جبل يقال له وسن، فرأى فوقه تمثالا من حجر أحمر يومى
بيده: إرجعوا، وعلى صدره مزبور: ما ورائى أحد. فتركه وسار راجعا فانتهى إلى مدينة النحاس فلم يصل إليها. ومضى حتى بلغ الوادى المظلم فكانوا يسمعون منه جلبة عظيمة ولا يرون أحدا لشدّة ظلمته. وسار حتى انتهى إلى وادى الرمل ورأى على عبره أصناما عليها أسماء الملوك قبله فأقام معها صنما وزبر عليها اسمه. فلما أسبت «1» الرمل جاز عليه إلى الخراب المتصل بالبحر الأسود، وسمع جلبة وصياحا هائلا فخرج فى شجعان أصحابه حتى أشرف على السباع المقرنة الأنوف، فإذا بعضها تهرّ وتأكل بعضها بعضا، فعلم أنه لا مذهب له من ورائها فرجع، وعدّى وادى الرمل ومرّ بأرض العقارب فهلك بعض أصحابه ورفعوها عنهم بالرّقى التى يعرفونها، ثم جاوزهم حتى انتهى إلى مكان صلوفة وهى حية عظيمة، فهجموا عليها ولم يعرفوها وظنوا أنها جبل، ثم عرجوا عنها وتعوّذوا منها بالرّقى. قال: ويزعم القبط أنه منعها من الحركة بسحره وتركها فهلكت. وقيل: إن تعريج هذه الحية ميل وأنها كانت تبتلع السباع هناك.
وسار حتى بلغ مدينة الكند «2» ، وهى مدينة الحكماء، فتهاربوا منه إلى جبل صعدوه من مواضع يعرفونها من داخل مدينتهم لم يعرفها غيرهم، ولم يجد الريان ومن معه إلى الصعود إليها سبيلا، فأقاموا عليها أياما وكادوا يهلكون من العطش، فنزل إليهم من الجبل رجل يقال له مندوس، كان من أفاضل الحكماء وقد لبس شعره جسده، فقال: أين تريد أيها المغرور الممدود له فى الأجل! المرزوق الكفاية! أتعبت نفسك وجيشك! ألا اقتنعت بما تملكه واتكلت على خالقك [وربحت الراحة «3» ] وتركت العناء والغرور بهذا الخلق. فعجب الملك من قوله وسأله عن الماء فدلّه عليه، وسأله عن
موضعهم فقال: موضع لا يصل إليه احد ولا بلغه قبلك أحد. قال: فما عيشكم؟ قال:
من أصول نبات لنا نعتصم به ونقنع بأكله ويكفينا اليسير. قال: فمن أين تشربون؟
قال: من نقار الماء من الأمطار. قال: فلم هربتم منا؟ قال: رغبة عن خلطتكم وإلا فليس لنا ما نخاف عليه. قال: فكيف تكونون إذا حميت عليكم الشمس؟
قال: فى غيران تحت هذه الجبال. قال: فهل تحتاجون إلى مال أخلفه لكم؟ قال:
إنما يريد المال أهل البذخ ونحن لا نستعمل منه شيئا، استغنينا عنه بما قد اكتفينا به، وعندنا منه ما لو رأيته لحقّرت ما عندك. قال: فأرنيه، فانطلق به مع نفر من أصحابه إلى أرض فى سفح جبلهم فيها قضبان الذهب نابتة، وأراهم واديا حافتاه حجارة الزبرجد والفيروذج، فأمر الرّيان أصحابه أن يأخذوا من كبار تلك الحجارة ففعلوا؛ ورآهم الحكيم يصلّون إلى صنم يحملونه معهم، فسألهم ألا يقيموا بأرضهم خوفا من عبادة الأصنام؛ فسأله الملك أن يدله على الطريق ففعل، وودّع الحكيم وسار على السمت الذى وصفه له. فلم يمر بأمة إلا أبادها وأثر فيها إلى أن بلغ بلد النوبة، فصالح أهلها على مال يحملونه إليه، ثم أتى دنقلة فأقام بها علما وزبر عليه اسمه ومسيره. ومرّ يريد منف؛ فكان أهل كل مدينة من مدائن مصر يتلقّونه بالفرح والسرور والطيب والرياحين والملاهى إلى أن بلغ منف، فلم يبق أحد من أهلها إلا خرج إليه مع العزيز وتلقّوه بأصناف الطيب والبخورات والرياحين.
وكان العزيز قد بنى له مجلسا من الزجاج الملوّن وفرشه بأحسن الفرش المذهبة، وغرس حوله جميع الأشجار والرياحين، وجعل فيه صهريجا من زجاج سمائى، وجعل فى أرضه شبه السمك من زجاج أبيض وأنزله فيه، وأقام الناس يأكلون ويشربون أياما كثيرة. وأمر بعرض جيشه فوجد أنه قد فقد منهم سبعون ألفا، وكان قد خرج فى ألف ألف، ووجد من انضاف إليه من الغرباء والمأسورين نيّفا
وخمسين ألفا، وكان مسيره وغيبته إحدى وعشرين سنة. فلما سمع الملوك بذكره وما فتح من البلاد وما أسرها بوه، وخافوا شدّة بأسه وعظم سلطانه. وتجبّر وبنى بالجانب الشرقى قصورا من الرخام ونصب عليها أعلاما، فكان يقيم بها الأيام الكثيرة. وكان الخراج قد بلغ فى وقته سبعة وتسعين ألف ألف فأحبّ أن يتمه مائة ألف ألف دينار، فأمر بوجوه العمارات وإصلاح الجسور والزيادة فى استنباط الأراضى حتى بلغ ذلك وزاد عليه.
ثم كان من خبر يوسف الصديق عليه السلام وبيعه بمصر وخبره مع امرأة العزيز وسجنه وقصته مع صاحبى الملك ورؤيا الملك وتعبيرها وتولية الريان بن الوليد يوسف عليه السلام رتبة العزيز وخبر القحط، ما قدّمنا ذكره فى أخبار يوسف عليه السلام، وهو فى السفر الحادى «1» عشر من نسخة الأصل. فلا فائدة فى إعادته. إلا أنه قد وردت زيادات أخر لم ترد هناك نحن نذكرها الآن. وهو ما حكاه مؤلف هذا الكتاب الذى نقلنا منه إبراهيم بن القاسم الكاتب عن إبراهيم بن وصيف شاه قال: إن يعقوب عليه السلام لما قدم مصر بأهله وولده، خرج يوسف عليه السلام فى وجوه أهل مصر فتلقاه وأدخله على الملك؛ وكان يعقوب عليه السلام مهيبا جميلا فقرّبه الملك وعظّمه وقال له: يا شيخ، كم سنوك وما صناعتك وما تعبد؟ فقال: أما سنّى فعشرون ومائة سنة، وأما صناعتى فلنا غنم نرعاها وننتفع بها، وأما الذى أعبد فربّ العالمين، وهو الذى خلقنى وخلقك، وهو إله آبائى وإلهك وإله كل شىء.
قال: وكان فى مجلس الملك فنيامين، وهو كاهن جليل القدر، فلما سمع كلام يعقوب ضاق به ذرعا وقال للملك بلغتهم: أخاف أن يكون خراب مصر على يد ولد هذا.
فقال له الملك: فأنّى «1» لنا خبره؟ فقال الكاهن: أرنا إلهك أيها الشيخ. قال:
إلهى أعظم من أن يرى. قال: فإنا نحن نرى آلهتنا. قال: لأن آلهتكم ذهب وفضة ونحاس وخشب، وما يعمله بنو آدم عبيد إلهى الذى احتجب عن خلقه بعزّ ربوبيته، لا إله إلا هو العزيز الحكيم. قال له فنيامين: إن لكل شىء دليلا، وكل شىء لا تراه العيون فليس بشىء، فغضب يعقوب وقال: كذبت يا عدوّ الله وطغيت فى هذه الدنيا؛ إن الله سبحانه وتعالى شىء وليس كالأشياء، وهو خالق كل شىء لا إله إلا هو. قال: فصفه لنا. قال: إنما يوصف المخلوقون ولا يوصف الخالق عزوجل؛ لأنه يرتفع عن الصفات؛ لأنه واحد قديم مدبّر للأشياء فى كل مكان يرى ولا يرى. ثم قام يعقوب مغضبا، فأجلسه الملك وأمر فنيامين أن يكفّ عنه ويكون بين يديه ويأخذ فى غير هذا. ثم قال الملك: كم عدّة من دخل معك إلى مصر؟ قال ستّون رجلا. قال الكاهن: كذلك نجده فى كتبنا؛ إن خراب مصر يجرى على أيديهم. قال الملك: فهل يكون فى أيامنا؟ قال: لا، ولا إلى مدّة كبيرة. والصواب أن يقتله الملك ولا يستبقى من ذرّيته أحدا. قال الملك: إن كان الأمر كما تقول فما يمكننا أن ندفعه ولا نقتل هؤلاء، وإن لهم إلها عظيما، وقد قبل قلبى هذا الشيخ، ومالى إلى قتله من سبيل، فخاطبه بألين الكلام؛ فجرت بينهما بعد ذلك مخاطبات ألان له فيها القول.
قال: ثم إن يعقوب عليه السلام أحبّ أن يعرف خبر مصر ومدائنها وكيف بنيت وخبر طلّسماتها وعجائبها. فسأله عن ذلك وسأله بحقّ الملك ألا يكتمه شيئا من أمرها فأخبره. قال: وأقام يعقوب عليه السلام مع الريان بن الوليد الملك يعظّمه ويبجّله إلى أن حضرته الوفاة، فأوصى أن يحمل إلى مكانه من الشأم، فحمل فى تابوت
وخرج معه يوسف عليه السلام ووجوه مصر حتى بلغ الى موضعه ورجعوا. وقيل:
إن عيصو منعهم من دفنه هناك لأن إسحاق عليه السلام كان قد وهبه الموضع فاشتراه يوسف عليه السلام منه. ويقال: إن الريان آمن بيوسف وكتم إيمانه خوفا من فساد ملكه.
وملك الريان مائة وعشرين سنة. وفى وقته عمل يوسف عليه السلام الفيوم لابنة الملك، وكان أهل مصر قد وشوا به وقالوا: قد كبر ونقص نفعه فاختبره.
فقال له الملك: قد وهبت هذه الناحية لابنتى، وكانت مغايض للماء فدبّرها.
قال: فقلع أدغالها، وساق المنهى «1» ، وبنى اللّاهون «2» ، وجعل الماء فيه مقسوما موزونا، وفرغ من ذلك كله فى أربعة أشهر، فعجبوا من حكمة يوسف عليه السلام.
قال: ولما مات الريان بن الوليد ملك بعده ابنه دريموس «3» بن الريان ابن الوليد ويسميه أهل الأثر دارم، وهو الفرعون الرابع عندهم. قال: ولما ملك خالف سنّة أبيه، وكان يوسف عليه السلام خليفته كما كان مع أبيه، وذلك بأمر الريان.
وكان يوسف يسدّده فربما قبل منه وربما خالفه، وظهر فى وقته معدن فضة على ثلاثة أيام من النيل فأبان «4» منه شيئا عظيما، وعمل منه صنما على اسم القمر؛ لأن طالعه كان بالسرطان، ونصبه على القصر الرخام الذى كان أبوه بناه فى شرقى النيل، ونصب حوله أصناما كلّها من الفضة وألبسها الحرير الأحمر، وعمل لها عيدا فى كل سنة «5» ، وهو إذا نزل القمر السرطان.
وكان يتنقّل الى مواضع شتّى يتنزّه فيها، وإذا أراد أن يضرّ الناس بشىء منعه يوسف عليه السلام ودفعه عنه الى أن توفّى يوسف عليه السلام، كما تقدّم فى خبر وفاته، فاستوزر الملك دارم بعده بلاطس بن منسا الكاهن، فكان بلاطس يطلق له ما كان يوسف يمنعه عنه، وحمله على أذى الناس وأخذ أموالهم فبلغ منهم كل مبلغ.
وعمل الوادى المنحوت بين الجبلين فى الناحية الغربية وكنز الأموال فلا يوصل إليها، وجعل صقالة من الوادى الى باب الخبّاء، وجعل له بابا من الحديد يتوصّل إليه من تلك الصقالة، وصمده بجماعة من العفاريت يمنعون من ذلك الخباء، فمن رامه من الناس سقط فى الوادى. وقال آخرون: كنزها فى موضع منه يدخل إليه وينظر الى الأموال مكشوفة مضروبة، فى كل دينار عشرة مثاقيل عليها صورته، فإن أخذ الداخل منها شيئا انطبق عليه الباب فلم يقدر على الخروج، فإذا ردّه الى موضعه انفتح له الباب. وهو بحاله الى هذا الوقت كما زعموا.
قال: ثم زاد دارم فى التجبّر الى أن اختلع كلّ امرأة جميلة بمدينة منف من أهلها؛ ولا يسمع بامرأة حسناء فى ناحية من النواحى إلا وجّه فحملت إليه. وفشا ذلك فى المملكة واضطرب الناس من فعله وشقّ عليهم أمره الى أن شغبوا عليه وعطّلوا الصنائع والأعمال والأسواق فعدا على جماعة منهم فقتلهم. وزاد الأمر حتى اجتمعوا على خلعه، فخاف بلاطس الوزير أن يفسد أمر المملكة فدخل على الملك وأشار عليه أن يتودّد الى الناس ويعتذر إليهم ويردّ نساءهم فأبى إلا مخالفته، وهمّ أن يخرج الى الناس فى خاصّته ويقتل منهم وقال: إنما هم عبيدى وعبيد آبائى. فلم يزل يرفق به الى أن سكن غضبه؛ فأمره أن يعتذر الى الناس عنه، ففعل الوزير ذلك وذكر عنه جميلا، فأبى الناس أن يقبلوا منه دون مخاطبتهم الملك فضمن لهم ذلك وخاطبه وأشار به عليه، فأمره أن ينادى فى الناس بالحضور فى يوم عيّنه،
ثم لبس أرفع ثيابه وأكبر تيجانه وجلس ودخل الناس عليه فذكروا ما حلّ بهم من أخذ أموالهم، وعرّفوه أنه لم يجر عليهم من ملك قبله مثل هذا، فاعتذر إليهم ووعدهم الإقلاع عما شكوا منه وأسقط عنهم خراج ثلاث سنين.
ثم أمر بعمل قصر من خشب على أساطين خشب ممدودة بأضلاع مسمّرة يتنزّه فيه، فعمل ودهن بالأدهان والأصباغ الملوّنة المذهبة، وضبّب بالفضة والنحاس المذهب، وعمل فوقه قبة من الفضة المذهبة مصوّرة بالزجاج الملوّن وعلّق فيها الحجر المضىء الذى أتى به أبوه من المغرب. فلما فرغ القصر فرشه بأحسن الفرش وجعله طبقتين: طبقة له يجلس فيها مع من يحبّه، وطبقة لحشمه، وجعل حول ذلك أروقة ملصقة بالمجلس يجلس فيها من يريد؛ فكان يركب فيه بمن احبّه من خاصته ونسائه ويصعّد فيه فى الماء إلى ناحية الصعيد وتتبعه المراكب فيها أصحابه وغلمانه بالعدد والسلاح وينحدر إلى أسفل الأرض، فإذا مرّ بمكان يستحسنه أقام فيه أياما.
واتفق أنه خرج فى بعض الأيام مصعّدا فوثب رجل من الإسرائليين على رجل من سدنة الهياكل فضربه حتى أدماه وعاب دين الكهنة، فغضب القبط لذلك وخاطبوا خليفة الملك أن يخرجهم من مصر فآمتنع دون مشاورة الملك، وكتب إليه يعرّفه ذلك، فكتب إليه ألا يحدث فى القوم حادثة دون موافاته، فشغبوا وأجمعوا على خلعه وتمليك غيره، وتعرّض بعضهم الى ذكر الملك فحشد أهل الصعيد وانحدر اليهم، فحاربوه فهلك بينهم خلق كثير. وعاونته امرأة أبيه، وكانت ساحرة، فأظهرت من سحرها وتخاييلها ودخنها ما أعماهم عن النظر، وأضعف حواسهم وأسكرهم، فقتل خلقا منهم وصلب خلقا على عبر النيل، ورجع إلى أكثر مما كان عليه من ابتزاز النساء ونهب الأموال واستخدام الأشراف والوجوه من القبط ومن بنى إسرائيل؛
فأجمع الكل على ذمه. وكانت الساحرة لا تخلّيه من معونتها الى أن ركب فى ذلك القصر فى بعض الليالى وقد أحدق النيل بالبلد، وهو من الجبل الى الجبل، وامتدّ القمر على الماء، فأراد أن يعدّى من العدوة الى العدوة الأخرى فلم يتهيأ له سوق القصر بسرعة لعظمه، فركب مركبا لطيفا مع ثلاثة من خدمه والساحرة، فلما توسّط البحر هاجت ريح عاصف فغرق هو ومن معه، وأصبح الناس شاكّين فى أمره لا يعلمون ما نزل به، الى أن وجدت جثته بشطّنوف «1» فعرف بخاتمه وبجوهر كان يتقلّد به فحمل الى منف.
وملك بعده ابنه معاديوس بن دريموس؛ ويسميه أهل الأثر معدان ابن دارم، وهو الفرعون الخامس. وذلك بتدبير الوزير؛ فأجلسه على سرير الملك وبايعه الجيش، وكان صبيا فكرهه الناس ثم رضوا به، فأسقط عن الناس الخراج الذى كان أبوه أسقطه، وزادهم سنة وأحسن إليهم فأطاعوه؛ واستقام له الأمر وردّ نساءهم. وكان ينكر على أبيه فعله ولا يرضاه؛ فلذلك رضوا به.
قال: وفى زمانه كان طوفان أضرّ ببعض البلد فلزم الملك الإقبال على الهياكل والتعبد، وطلب القاطر ووجوه الكهنة بالحضور معه، وأنصف بعض الناس من بعض. وكثر بنو إسرائيل وعابوا الأصنام وثلبوها. وكان الوزير قد هلك فاستوزر كاهنا يقال له املاده، فلما رأى ما فعله بنو إسرائيل أنكره وأمر أن يفردوا بناحية من البلد لا يختلط بهم أحد غيرهم، فأقطعهم موضعا فى قبلىّ منف، واجتمعوا إليه وعملوا لأنفسهم معبدا كانوا يتلون فيه صحف إبراهيم عليه السلام، واتفق أن رجلا من أهل بيت الكهنة عشق امرأة من بنى إسرائيل كانت قد جاءته
لتشتكى أخاها أنه غصبها ميراثها، وأرادت أن يعتنى بأمرها عند وزير الملك، فرآها ابنه فأحبها وسأل والده أن يزوّجه منها، فخطبها من أهلها فأبوا ذلك، فأنكر الناس فعلهم واجتمعوا الى الوزير وقالوا: هؤلاء قوم يعيبوننا ويرغبون عنّا، ولا نحب أن يجاورونا إلا أن يدينوا بديننا. فقال الوزير: قد علمتم إكرام الريان الملك لجدّهم يوسف عليه السلام، وقد وقفتم على بركة جدّهم يوسف عليه السلام حتى جعلتم قبره وسط النيل فأخصب جانبا مصر بمكانه فلا تخوضوا فى هذا، فأمسكوا.
قال: وتغلّب أحد ملوك الكنعانيين على الشام وامتنع أهله أن يحملوا الضريبة التى كانت عليهم لملك مصر، فأنكر أهل مصر ذلك وأشفقوا من غلبة صاحب الشام على بلدهم، فحضّوا الملك على غزو الشام فقال: إن رام أحد حدود بلدنا غزوناه، وما لنا فى ذلك البلد من حاجة؛ فاستنقصوا رأيه. وأقام على ملازمة الهياكل والتعبّد فيها؛ فيزعم القبط أنه بينا ذات يوم قائم فى هيكل زحل حذاء صورته، وقد أجهد نفسه فى التعبد، إذ تغشّاه النوم فتجلّى له زحل وخاطبه وقال:
قد جعلتك ربّا على أهلك وأهل بلدك، وحبوتك بالقدرة عليهم وعلى غيرهم، وسأرفعك إلىّ فلا تخل من ذكرى؛ فعظم عند نفسه، واتصل خبره بأهل البلد، وأخبرهم سدنة الهيكل أنهم رأوا النور وسمعوا الخطاب، وأعظم الناس أمره، فتجبّر فى نفسه وأمر الناس أن يسمّوه ربّا، وترفّع أن ينظر فى شىء من أمر الملك، وأحضر الناس وقال: قد وقفتم على ما خصصت به دون الملوك، وهذه موهبة يلزمنى الشكر لواهبها عليها، ولست أتفرّغ للنظر فى أموركم، وقد رأيت أن أجعل الملك إلى ابنى أكسامس، وأكون من ورائه إلى أن يغيب شخصى عنكم كما وعدت، وقد أيدته بالقاطرين، فانظروا كيف تكونون، ولا تتظالموا فإنكم منى بمرأى ومسمع،
فرضوا بذلك وقالوا: نحن عبيد الملك ومن رضيته الآلهة فحكم الخلق أن يرضوه ولا يخالفونه.
فملك ابنه أكسامس بن معاديوس؛ ويسميه أهل الأثر كاسم ابن معدان، وهو الفرعون السادس، وجلس على سرير الملك وتوّج بتاج أبيه وقام القاطرون بين يديه، فجعل لكل واحد منهم رتبة، ورتّب الناس مراتب، وقسم الكور والأعمال، وأمر باستنباط العمارات وإظهار الصناعات، ووسع على الناس فى أرزاقهم وعلى حاشيته وحاشية أبيه، وأمر بتنظيف الهياكل وتجديد لباسها وأوانيها، وزاد فى القرابين؛ وكلما أتى شيئا من ذلك لم تخالفه الكهنة وقدّروا أن ذلك عن أمر أبيه برضى الكواكب، واحتجب أبوه عن الناس. وأقام كاسم أعلاما كثيرة حول منف وجعل عليها أساطين يمرّ عليها من بعضها إلى بعض.
وعمل برقودة وصا ومدائن الصعيد وأسفل الأرض مدنا كثيرة وأعلاما ومنائر للوقود والطلّسمات. وعمل كرة من الفضة على عمل البيضة الفلكية ونقش عليها صور الكواكب الثابتة ودهنها بدهن الصينى وركّبها على منار فى وسط منف. وعمل فى هيكل أبيه روحانىّ زحل من ذهب أسود مدبّر. وعمل فى وقته الميزان الذى يعتبر به الناس، وجعلت كفّتاه من ذهب وعلائقه من فضّة وخيوطه سلاسل ذهب، وكان معلقا فى هيكل الشمس، وكتب على إحدى كفّتيه حقّ، والأخرى باطل، وتحته فصوص قد نقش عليها أسماء كل شىء من الكواكب؛ فيدخل الظالم والمظلوم ويأخذ كل واحد منهما فصّا من تلك الفصوص ويسمى عليها ما يريد، ويجعل أحد الفصين فى كفّة والآخر فى الأخرى، فتثقل كفة الظالم وترتفع كفة المظلوم. وكذلك من أراد سفرا أخذ فصين فذكر على واحد اسم السفر، والآخر اسم الجلوس، ويجعل كل واحد فى كفة، فإن لم يرتفع أحدهما على الآخر جلس،
وإن ارتفعا خرج، وإن ارتفع أحدهما مكث شهرا. ومن نحو هذا من غائب ودين وفساد وصلاح. ويقال إن بختنصّر لما ظفر بمصر حمله فى جملة ما حمل الى بابل وجعله فى بيت من بيوت النار.
قال: وطالب كاسم الناس بلزوم الأعمال وإظهار الصنائع، فعملت كل غريبة منها: التنّور الذى يشوى من غير نار فيه، والقدور التى يطبخ فيها من غير نار، والسكين التى تنصب فإذا رآها شىء من البهائم أقبل حتى يذبح نفسه بها، والماء الذى يستحيل نارا، والزجاج الذى يستحيل هواء، وأشياء من ذلك.
قال: فأقام فى أوّل ولايته ثلاث سنين بأجمل أمر وأصلح حال، ومات وزير أبيه الذى كان معه فاستخلف رجلا من أهل بيت المملكة يقال له طلما، وكان شجاعا فارسا كاهنا كاتبا حكيما دهيّا متصرّفا فى كل فنّ، وكانت نفسه تنازعه الملك فصلح أمر المملكة بمكانه وأحبه الناس، فعمل معالم كثيرة وعمر خرابا وبنى مدنا من الجانبين. ورأى فى نجومه أنه ستكون شدّة فاستعمل ما استعمله نهراوش، وبنى بناحية رقودة والصعيد ملاعب ومصانع. وشكا القبط اليه حال الإسرائليين فقال: هم عبيد لكم، فكان القبطىّ اذا أراد حاجة سخر الإسرائيلى، وكان القبطىّ يضرب الإسرائيلىّ فلا ينكر عليه أحد، وإن ضرب الإسرائيلىّ القبطىّ قتل، فكان أوّل من أذى بنى إسرائيل، ويفعل نساء القبط بنساء بنى إسرائيل ما يفعل الرجال بالرجال من السّخر والضرب.
قال: وفى أيام أكسامس بنيت منارة الإسكندرية. وفى زمانه هاج البحر المالح فغرّق كثيرا من القرى والجنان والمصانع. وحكى أن أكسامس تغيّب عن الناس مدّة. وقيل: مات وكتموا موته. وكانت مدّة ملكه إلى أن غاب إحدى وثلاثين سنة، وأقام طلما إحدى عشرة سنة يدبّر المملكة ثم اضطرب الناس على
طلما وتغيّروا واتصل بهم أنه قتل الملك بسمّ سقاه إياه فاجتمعوا وقالوا: لابدّ لنا من النظر إلى الملك، فعرّفهم أنه قد تخلّى عن الملك وولّى ابنه لاطس فلم يقبلوا ذلك.
فأمر طلما الجيوش فركبت فى السلاح وأجلس لاطس بن أكسامس على سرير الملك ولبس التاج. وكان جريئا معجبا فوعد الناس جميلا وقال: أنا مستقيم لكم ما استقمتم، وإن ملتم عن الواجب ملت عنكم، وأمر ونهى وألزم الناس أعمالهم، وحط جماعة من الوجوه عن مراتبهم، وصرف طلما عن خلافة المملكة واستخلف رجلا يقال له لاهوق من ولد صا الملك ودفع إليه خاتمه، وأنفذ طلما عاملا على الصعيد وأنفذ معه جماعة من الإسرائيليين، وعمل الأعلام وأصلح الهياكل وبنى قرى كثيرة، وأثيرت «1» فى أيامه معادن كثيرة وكنوز فى صحراء المشرق، واستعمل آنية كثيرة من الجوهر الأخضر وأصناف الزجاج. وكان محبّا للحكم ثم تجبّر وعلا، وأمر ألا يجلس أحد فى مجلسه ولا فى قصر الملك من الكهنة وغيرهم، بل يقومون على أرجلهم إلى أن ينصرفوا، وزاد فى أذى الناس والعنف بهم، ثم منع الناس فضول ما بأيديهم وقصرهم على القوت، وجمع أموالهم وطلب النساء فانتزع كثيرا منهنّ، وفعل فى ذلك أكثر من فعل من تقدّمه من الملوك، وقهر الناس بالسطوة واستعبد بنى إسرائيل وقتل جماعة من الكهنة فأبغضه الخاص والعامّ.
وكان طلما لما صرفه لاطس عن خلافته وجد «2» فى نفسه وأضمر الغدر به.
فلما خرج إلى الصعيد احتجز الأموال فلم يحملها، وحال بين الملك وبين المعادن، وأراد أن يقيم ملكا من ولد قبطريم ويجلسه فى الملك، فأشار بعض الكهنة على طلما أن يطلب الملك لنفسه وعرّفه أنه سيكون له حال. فلما شجّعه الكاهن وجرّأه على
ذلك دعا إلى نفسه وكاتب وجوه أهل البلد، فبعض أجابه وبعض توقف، ورفع كل واحد من ولد الملوك رأسه وطمع فى الملك.
قال: وفى بعض كتبهم أن بعض الروحانيين ظهر له وقال: إنى أطيعك إن أطعتنى، وأقلدك مصر زمانا طويلا، فأجابه إلى ما سأله وقرّب له أشياء ذكرها له، منها غلام إسرائيلىّ؛ فعاونه حينئذ وكان له رسولا الى رؤساء مصر، فكان يتصوّر بصور بعضهم ويشير بتمليكه عليهم إلى أن استقام له الأمر، قال:
ولما منع طلما لاطس من مال الصعيد كتب بصرفه عن العمل فأبى أن ينصرف، فوجه اليه قائدا من أهل بيته وقلده مكانه وأمره أن يحمله اليه، فحاربه وأعانه الروحانىّ فظفر به طلما واعتقله ثم خلّاه وقرّبه وأدخله فى جملته، واتصل الخبر بلاطس فأنفذ اليه قائدا آخر فهزمه طلما وسار فى أثره بجيش كثيف، وكاتب جميع القوّاد وأهل البلد وبذل لهم الأموال، وخرج اليه لاطس فحاربه طلما وعاونه الروحانىّ فظفر به طلما وقتله وسار حتى دخل منف وعاث فيها.
وملك طلما بن قومس؛ ونزل قصر المملكة وجلس على سرير الملك وحاز جميع ما كان فى خزائنهم. قال: وطلما هذا هو ابن قومس، وهو الذى يذكر القبط أنه فرعون موسى عليه السلام. وأهل الأثر يسمونه الوليد بن مصعب وأنه من العمالقة.
وذكروا أن الفراعنة سبعة فأوّلهم: طوطيس بن ماليا، ثم الوليد بن دومع، ثم ابنه الريان بن الوليد، ثم دريموس بن الريان، ثم معاديوس بن دريموس، ثم أكسامس بن معاديوس، ثم طلما.
قال: وكان طلما فيما زعموا قصيرا. قيل: كان طوله أربعة أشبار، طويل اللحية، أشهل العينين، صغير العين اليسرى، فى جبينه شامة. ويقولون: إنه
كان أعرج. وزعم قوم أنه من القبط. قال: والدليل على ذلك ميله إليهم ونكاحه فيهم؛ ونسب أهل بيته مشهور عندهم.
وقد اختلف الناس فى سبب ملكه وعمن تلقّى الملك، فقيل ما ذكرناه، وقيل ما قدّمناه «1» فى قصة موسى بن عمران عليه السلام، والله تعالى أعلم.
قال: ولما جلس طلما على سرير الملك اضطرب الناس عليه فبذل الأموال وأرغب من أطاعه، وقتل من خالفه، فاعتدل الأمر له. وكان أوّل ما عمل أن رتّب المراتب، وشيّد الأعلام، وبنى المدن، وخندق الخنادق، وعمل بناحية العريش حصنا، وكذلك على حدود مصر، واستخلف هامان، وكان يقرب منه فى نفسه ونسبه، فأثار بعض الكنوز وصرفها فى بناء المدن والعمارات، وحفر خلجانا كثيرة. ويقال: إنه الذى حفر خليج السّردوس «2» ، وكان كلما عرّجه الى قرية من قرى الحوف حمل إليه أهلها مالا؛ فاجتمع له من ذلك شىء كثير، فأمر بردّه «3» على أهله.
وانتهى الخراج فى وقته الى سبعة وتسعين ألف ألف دينار، وكان ينزل الناس على مراتبهم. وهو أوّل من عرّف العرفاء على الناس، وكان ممن صحبه من الإسرائليين رجل يقال له إمرى، وهو عمران أبو موسى عليه السلام، وهو أخو مزاحم لأبويه، ومزاحم أبو آسية، فهى ابنة عمّ موسى وبنت خالته، فجعل فرعون عمران حارسا لقصره يتولى حفظه وفتحه وإغلاقه. وكان رأى فى كهانته أن هلاكه على يد مولود من الإسرائليين، فمنعهم المناكحة ثلاث سنين؛ لأنه رأى أن ذلك المولود يكون فيها. ثم كان من خبر موسى فى حمل أمه به وولادته وغير ذلك من أمره ما قدّمنا «1» ذكره فى قصة موسى عليه السلام فلا فائدة فى إعادته.
وقد نقل أن موسى عليه السلام لمّا كبر عند فرعون عظم شأنه وردّ فرعون إليه كثيرا من أمره وجعله من قوّاده، وكانت له سطوة؛ ثم وجهه فرعون لغزو الكوثانيين، وكانوا قد عاثوا فى أطراف مصر، فخرج فى جيش كثيف فرزقه الله عزوجل الظّفر، فقتل منهم خلقا وأسر خلقا وانصرف سالما فسرّ به فرعون وآسية. قال: واستولى موسى وهو غلام على كثير من أمر فرعون وأراد أن يستخلفه حتى قتل رجلا من أشراف القبط فكان من أمره ما تقدّم ذكره.
والله أعلم.
هذا ما أورده إبراهيم فى كتابه؛ ولم يذكر من أخبار ملوك مصر بعد غرق فرعون شيئا ولا ذكر من ملك بعده. وقد أشار المسعودى فى مروج الذهب الى نبذة من أخبار من ملك مصر بعد غرق فرعون نحن نذكرها. وأما سياقة أخباره فيما كان قبل فرعون فهذا الذى ذكرناه أتمّ منه وأكثر استيعابا.