الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر وقعة طسم وجديس
وطسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وجديس بن عابر بن إرم ابن سام بن نوح عليه السلام، وهم العرب العاربة، على ما ذكر بعض المؤرّخين.
وكان منزلهما اليمامة «1» ، واسمها فى وقتهم جوّ؛ وكان الملك عليهما رجلا من طسم يقال له:
عمليق، وكان غشوما ظلوما. وكان سبب فنائهما أنّ عمليقا أتته ذات يوم امرأة اسمها هزيلة بنت مازن مع زوج لها اسمه ماش «2» . وكان قد طلّقها وأراد أخذ ولده منها، فترافعا إليه ليحكم بينهما، فقالت هزيلة:«أيها الملك، هذا ابنى حملته تسعا، ووضعته دفعا، وأرضعته شفعا، ولم أنل منه نفعا، حتى إذا تمّت أوصاله، واستوت خصاله «3» ، أراد أن يأخذه منّى قهرا «4» ويسلبنيه سرّا، ويترك يدى منه صفرا» . فقال الزوج:«قد أخذت المهر كاملا، ولم أنل منك طائلا، إلّا ولدا «5» جاهلا، فافعل ما كنت فاعلا» . فأمر الملك أن يجعل الولد فى غلمانه، فقالت هزيلة:
أتينا أخا طسم ليحكم بيننا
…
فأبرم حكما فى هزيلة ظالما
لعمرى لقد حكّمت «6» لا متورّعا
…
ولا فهما عند الحكومة عالما
ندمت فلم أقدر على متزحزح
…
وأصبح زوجى عاثر الرأى نادما
فلمّا بلغ عمليقا ذلك غضب وأقسم أنه لا تهدى عروس فى جديس لبعلها حتى يكون هو الذى يبدأ بها قبل زوجها. فلم يزل على ذلك دهرا حتى أهديت عفيرة «1» بنت عفار «2» الجديسيّة أخت الأسود بن عفار «3» سيّد جديس إلى بعلها، ويقال: إنّ اسمها الشّموس، فحملت إلى عمليق، فلمّا افترعها وخلّى سبيلها خرجت على قومها فى دمائها شاقّة جيبها عن قبلها ودبرها وهى تقول:
لا أحد أذلّ من جديس
…
هكذا يفعل بالعروس
يرضى بهذا يا لقومى حرّ
…
أهدى وقد أعطى وسيق المهر
لأخذة الموت كذا لنفسه
…
خير من ان يفعل ذا بعرسه
ثم قالت تحرّض جديسا على طسم:
أيصلح ما يؤتى إلى فتياتكم
…
وأنتم رجال فيكم عدد الرّمل «4»
أيصلح تمشى فى الدّماء فتياتكم
…
صبيحة زفّت فى النساء إلى البعل
فإن كنتمو لا تغضبوا عند هذه
…
فكونوا نساء لا تفيق من الكحل
ودونكم طيب العروس فإنما
…
خلقتم لأثواب العرائس وللغسل
فلو أننا كنّا رجالا وكنتم
…
نساء لكنّا لا نقرّ على الذّلّ
فقبحا وسحقا للذى ليس دافعا
…
ويختال يمشى بيننا مشية الفحل
فموتواء كراما واصبروا لعدوّكم
…
لحرب تلظّى بالضّرام من الجزل
ولا تجزعوا فى الحرب يا قوم إنها
…
تقوم بأقوام كرام على رجل
فاجتمعت جديس فقال لهم الأسود بن عفار، وكان مطاعا فيهم: لتطيعنّنى [فيما آمركم به «1» ] أو لأتّكئنّ على سيفى حتى يخرج من ظهرى. قالوا: فإنّا نطيعك. قال: إنّ طسما ليسوا بأعزّ منكم، ولكن ملك صاحبهم هو الذى يذعننا إليهم بالطاعة، ولو امتنعتم منهم لكان لكم النّصف «2» . قالوا: إنّ القوم أكثر منّا عددا وعددا. قال: إنّى صانع طعاما فأدعوهم إليه، فإذا جاءوكم متفضّلين فى الحلل نهضنا إليهم بأسيافنا. فقالت عفيرة لأخيها: لا تفعل! فإنّ الغدر ذلّة وعار، ولكن كاثروا القوم فى ديارهم فتظفروا أو تموتوا كراما. قال: بل نمكر بهم فنكون أمكن منهم. ثم صنع الأسود طعاما وأمر قومه أن يخترطوا سيوفهم ثم يدفنوها فى الرمل. ودعا عمليقا وقومه، فلمّا أتوا استثارت جديس السيوف وشدّوا عليهم فما أفلت منهم إلّا رياح بن مرّة، ففرّ إلى حسّان بن تبّع فاستغاث به وأخبره بما صنعته جديس بطسم فوعده النصرة، ثم نادى حسّان فى حمير بالمسير وأخبرهم بما صنعت جديس بطسم؛ فقالوا:
وما جديس وطسم؟ قال: هما أخوان. قالوا: فما لنا فى هذا من أرب.
قال حسّان: أرأيتم لو كان هذا فيكم أكان حسنا لملككم أن يهدر «3» دماءكم.
وما علينا فى الحكم إلّا أن ننصف بعضهم من بعض. فقالوا: الأمر أمرك أيّها الملك فمرنا بما أحببت. فأمرهم بالمسير، فساروا حتى إذا كانوا من اليمامة على ثلاث ليال قال رياح بن مرّة لحسّان بن تبّع: أبيت اللعن! إنّ لى أختا متزوّجة فى جديس تنظر الراكب على مسيرة ثلاث ليال وأخاف أن تنذر قومها، فأمر كلّ إنسان أن يقتلع شجرة من الأرض ويجعلها أمامه، فأمرهم حسّان بذلك. ثم ساروا، فنظرت أخت رياح فقالت: يا جديس! لقد سارت إليكم الشّجر. فقالوا لها:
وما ذاك؟ قالت: أرى شجرا، من ورائه بشرا، وإنّى لا أرى رجلا من وراء شجرة ينهش كتفا أو يخصف نعلا، فكذّبوها وغفلوا عن أخذ أهبة الحرب حتى صبّحتهم حمير. ففى ذلك تقول زرقاء اليمامة:
خذوا لهم حذركم يا قوم ينفعكم
…
فليس ما قد أراه اليوم يحتقر
إنّى أرى شجرا من خلفه بشر
…
فكيف تجتمع الأشجار والبشر
صفّوا الطوائف منكم قبل داهية
…
من الأمور التى يخشى وتنتظر
إنّى أرى رجلا فى كفّه كتف
…
أو يختصف النّعل خصفا ليس يعتذر «1»
ثوروا بأجمعكم فى وجه أوّلهم
…
فإنّ ذلك منكم- فاعلموا- ظفر
وغوّروا كلّ ماء دون منزلهم
…
فليس من دونه «2» نحس ولا ضرر
أو عاجلوا القوم عند الليل إن رقدوا
…
ولا تخافوا «3» لها حربا وإن كثروا
فلمّا كان حسّان على مسيرة ليلة عبّأ جيشه ثم صبّحهم فاستباح اليمامة قتلا وسبيا، وهرب الأسود حتى نزل بطيّىء فأجاروه من كلّ من يطلبه وهم لا يعرفونه. وقبيلته فى طيّىء مذكورة. ثم إنّ حسانا أمر باليمامة فنزع عينيها فإذا فى داخلها عروق سود، فسألها عن ذلك فقالت: حجر أسود كنت أكتحل به يقال له الإثمد فثبّت لى بصرى. وقيل: إنها أوّل من اكتحل بالإثمد؛ فأمر بها فصلبت على باب جوّ.
وقيل: سمّى جوّ باليمامة من ذلك الوقت. وفى ذلك يقول رياح بن مرّة لمّا أخذ بثأره:
غدر الحىّ من جديس بطسم
…
آل طسم كما تدانى تدينى
قد أتيناهم بيوم كيوم
…
تركوا فيه مثل ما تركونى
ليت طسما على منازلها تع
…
لم أنّى قضيت عنّى ديونى
وقد كرّرت الشعراء قصّة هذه المرأة وجوّ. فمن ذلك قول الأعشى على رواية ابن قتيبة:
قالت أرى رجلا فى كفّه كتف
…
أو يخصف النّعل لهفى «1» آية صنعا
فكذّبوها بما قالت فصبّحهم
…
ذو آل حسّان يزجى السمّ والسّلعا «2»
فاستنزلوا آل جوّ من مساكنهم
…
وهدّموا رافع البنيان فاتّضعا «3»
وروى ابن إسحاق:
كونى كمثل التى إن غاب «4» واحدها
…
أهدت له من بعيد نظرة جزعا
ثم أتى بالأبيات التى ذكرها ابن قتيبة. وقال المسيّب بن علس:
لقد نظرت عين إلى الجزع نظرة
…
إلى مثل موج المقعم المتلاطم
إلى حمير إذ وجّهوا من بلادهم
…
تضيق بهم لأيا فروج المخارم «5»