الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعلم والاتباع له من أعظم ما تزيّنت به الملوك. ومن أعظم المضرة على الملوك الأنفة من العلم والحميّة من طلبه، ولا يكون عالما من لا يتعلّم.
ولما استقصيت ما عند هاتين الأمتين من حكمة التدبير والسياسة، ووصلت بين مكارم أسلافى، وما أحدثته بالرأى، وأخذت به نفسى، وقبلته عن الملوك الذين لم يكونوا منا، وثبت على الأمر الذى نلت به الظفر والخير، ورفضت سائر الأمم لأنى لم أجد عندهم رأيا ولا عقولا ولا أحلاما، ووجدتهم أصحاب بغى وحسد وكلب وحرص وشحّ وسوء تدبير وجهالة ولؤم عهد وقلة مكافأة. وهذه أمور لا تصلح عليها ولاية، ولا تتمّ لها نعمة.
قال ابن مسكويه: وقرأت مع هذه السير فى آخر هذه الكتاب الذى كتبه أنوشروان فى سيرة نفسه أن أنوشروان لما فرغ من أمور المملكة وهذبها جمع إليه الأساورة مع القوّاد والعظماء والمرازبة والنساك والموابذة وأماثل الناس معهم فخطبهم فقال:
ذكر خطبة أنوشروان
قال: أيها الناس، أحضرونى فهمكم، وارعونى أسماعكم، وناصحونى أنفسكم، فإنى لم أزل واضعا سيفى على عنقى منذوليت عليكم غرضا للسيوف والأسنة، وكل ذلك للمدافعة عنكم، والإبقاء عليكم، وإصلاح بلادكم مرة بأقصى الشرق، وتارة فى آخر المغرب، وأخرى فى نهاية الجنوب، ومثلها فى جانب الشمال، ونقلت الذين اتهمتهم إلى غير بلادهم، ووضعت الوضائع فى بلدان الترك، وأقمت بيوت النيران بقسطنطنية، ولم أزل أصعد جبلا شامخا وأنزل عنه، وأطأ حزونه بعد سهوله، وأصبر على المخمصة «1» والمخافة، وأكابد البرد والحر، وأركب هول البحر وخطر المفازة؛
إرادة هذا الأمر الذى قد أتمة الله لكم: من الإثخان فى الأعداء، والتمكن فى البلاد، والسعة فى المعاش، ودرك العز، وبلوغ ما نلتم؛ فقد أصبحتم بحمد الله ونعمته على الشرف الأعلى من النعمة، والفضل الأكبر من الكرامة والأمن، وقد هزم الله أعداءكم وقتّلهم؛ فهم بين مقتول هالك، وحىّ مطيع لكم سامع؛ وقد بقى لكم عدوّ عددهم قليل، وبأسهم شديد، وشوكتهم عظيمة؛ وهؤلاء الذين بقوا أخوف عندى عليكم، وأحرى أن يهزموكم ويغلبوكم من الذين غلبتموهم من أعدائكم، وأصحاب السيوف والرماح والخيول؛ وإن أنتم أيها الناس غلبتم عدوّكم هذا الباقى، غلبتكم لعدوّكم الذين قاتلتم وحاصرتم، فقد تمّ الظّفر والنصر، وتمّت فيكم القوّة، وتمّ بكم العزّ، وتمّت عليكم النعمة، وتمّ لكم الفضل، وتمّ لكم الاجتماع والألفة والصحة والسلامة؛ وإن أنتم قصّرتم ووهنتم، وظفر هذا العدوّ بكم فأين الظّفر الذى كان منكم، فاطلبوا أن تقتلوا من هذا العدوّ الباقى مثل ما قتلتم من ذلك العدوّ الماضى؛ وليكن جدّكم فى هذا واجتهادكم واحتشادكم أكبر وأجلّ وأحزم وأعزم وأصح وأشدّ، فإن أحقّ الأعداء بالاستعداد له أعظمهم مكيدة، وأشدهم شوكة، وليس الذى كنتم تخافون من عدوّكم الذى قاتلتم بقريب من هؤلاء الذين آمركم بقتالهم الآن؛ فاطلبوه وصلوا ظفرا بظفر، ونصرا بنصر، وقوّة بقوّة، وتأييدا بتأييد، وعزما بحزم وعزم، وجهادا بجهاد؛ فإن بذلك اجتماع إصلاحكم، وتمام النعمة عليكم، والزيادة فى الكرامة من الله لكم، والفوز برضوانه فى الآخرة.
ثم اعلموا أن عدوّكم من الترك والروم والهند وسائر الأمم لم يكونوا ليبلغوا منكم- إن ظهروا عليكم وغلبوكم- مثل الذى يبلغ هذا العدوّ منكم إن غلبكم وظهر عليكم؛ فإن بأس هذا العدوّ أشدّ، وكيده أكبر، وأمره أخوف من ذلك العدوّ.
يأيها الناس، إنى قد نصبت «1» لكم كما رأيتم، ولقيت ما قد علمتم بالسيف والرّمح والمفاوز والبحار والسهولة والجبال؛ أقارع عدوّا عدوّا، وأكالب جندا جندا، وأكابد ملكا ملكا، لم أتضرّع إليكم هذا التضرّع فى قتال أولئك الجنود والملوك، ولم أسألكم هذه المسألة فى طلب الجدّ منكم، والاجتهاد والاحتفال والاحتشاد، وإنما فعلت هذا لعظم خطره، وشدّة شوكته، ومخافة صولته بكم. وإن أنا أيها الناس لم أغلب هذا العدوّ وأنفه عنكم، فقد أبقيت فيكم أكبر الأعداء، ونفيت عنكم أضعفها، فأعينونى على نفى هذا العدوّ المخوف عليكم، القريب الدار منكم؛ فأنشدكم الله أيها الناس لمّا أعنتموتى عليه حتى أنفيه عنكم، وأخرجه من بين أظهركم فيتمّ بلائى عندكم، وبلاء الله فيكم عندى، وتتمّ النعمة علىّ وعليكم، والكرامة من الله لى ولكم، ويتمّ هذا العز والنصر، وهذا الشرف والتمكين، وهذه الثروة والمنزلة.
يأيها الناس، إنى تفكرت بعد فراغى من كتابى هذا، وما وصفت من نعمة الله علينا فى الأمر الذى لمّا غلب دارا الملوك والأمم وقهرها، واستولى على بلادها، ولمّا تحكّم أمر هذا العدوّ، هلك وهلكت جنوده بعد السلامة والظّفر والنصر والغلبة؛ وذلك أنه لم يرض بالأمر الذى تمّ له به الملك، واشتدّ به السلطان، وقوى به على الأعداء، وتمّت عليه به النعمة، وفاضت عليه من وجوه الدنيا كلّها الكرامة، حتى احتال له بوجوه النميمة والبغى؛ فدعا البغى الحسد «2» فتقوّى به وتمكّن، ودعا الحسد بغض أهل الفقر لأهل الغنى، وأهل الخمول لأهل الشرف؛ ثم أتاهم الإسكندر وهم على ذلك من تفرّق الأهواء، واختلاف الأمور، وظهور البغضاء
وقوّة العداوة فيما بينهم والفساد منهم. ثم ارتفع ذلك إلى أن قتله صاحب حرسه وأمينه على دمه، للذى شمل قلوب العامة من الشر والضغينة، ونبت فيها من العداوة والفرقة، وكفى الإسكندر مؤنة نفسه؛ وقد اتعظت بذلك اليوم وذكرته.
يأيها الناس، فلا أسمعنّ فى هذه النعمة تفرقا ولا بغيا ولا حسدا ظاهرا، ولا وشاية ولا سعاية، فإن الله قد طهّر من ذلك أخلاقنا وملكنا، وأكرم عنه ولا يتنا، وما نلت ما نلت بنعمة ربنا وحمده بشىء من الأمور الخبيثة التى نفتها العلماء، وعافتها الحكماء؛ ولكن نلت هذه الرتبة بالصحة والسلامة، والحب للرعية، والوفاء والعدل والاستقامة والتؤدة. وإنما تركنا أن نأخذ عن هذه الأمم التى سميناها، أعنى من الترك والبربر والزنج والجبال وغيرهم، مثل ما أخذنا عن الهند والروم لظهور هذه الأخلاق فيهم وغلبتها عليهم. ولا تصلح أمة قط وملكها على ظهور هذه الأخلاق التى هى أعدى أعدائكم.
يأيها الناس، إن فيما بسط الله علينا بالسلامة والعافية والاستصلاح غنى لنا عما نطلب بهذه الأخلاق الرديئة المشئومة؛ فأكفونى فى ذلك أنفسكم، فإنّ قهر هذه الأعداء أحبّ إلىّ وخير لكم من قهر أعدائكم من الترك والروم. فأما أنا أيها الناس فقد طبت نفسا بترك هذه الأمور ومحقها وقمعها ونفيها عنكم.
يأيها الناس، إنى قد أحببت أن أنفى عدوّكم الظاهر والباطن؛ فأما الظاهر منهما فإنّا بحمد الله ونعمته قد نفيناه وأعاننا الله عليه وحصد لنا شوكته، وأحسنتم فيه وأجملتم وآسيتم وأجهدتم، فافعلوا فى هذا العدوّ كما فعلتم فى ذلك العدوّ، واعملوا فيه كالذى عملتم فى ذلك، واحفظوا عنّى ما أوصيكم به فإنى شفيق عليكم ناصح لكم.
أيها الناس، من أحيا هذه الأمور فينا فقد أفسد بلاءه عندنا بقتاله من كان يقاتلنا من أعدائنا، فإن هذه أكثر مضرة، وأشدّ شوكة، وأعظم بلية، وأضر تبعة.
واعلموا أن خيركم يأيها الناس من جمع إلى بلائه السالف عندنا المعونة لنا على نفسه فى هذا الغابر. واعلموا أن من غلبه هذا غلبه ذاك، ومن غلب هذا فقد قهر ذاك؛ وذلك أن بالسلامة والألفة والمودّة والاجتماع والتناصح منكم يكون العزّ والقدرة والسلطان، ومع التحاسد والبغى والنميمة والسبّ يكون ذهاب العز، وانقطاع القوّة وهلاك الدنيا والآخرة؛ فعليكم بما أمرناكم به، واحذروا ما نهيناكم عنه، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. عليكم بمواساة أهل الفاقة، وضيافة السابلة «1» ، وأكرموا جوار من جاوركم، وأحسنوا صحبة من دخل فيكم من الأمم، فإنهم فى ذمّتى، ولا تجبهوهم ولا تظلموهم، ولا تسلّطوا عليهم، ولا تحرجوهم، فإن الإحراج يدعو إلى المعصية، ولكن اصبروا لهم على بعض الأذى، واحفظوا أمانتكم وعهدكم، واحفظوا ما عهدت إليكم من هذه الأخلاق، فلا تصلحوا إلا معها، وبالله تعالى ثقتنا فى الأمور كلها. ثم هلك أنو شروان بعد ثمان وأربعين سنة من ملكه.
ثم ملك بعده ابنه هرمز بن كسرى أنو شروان. وأمه قاقم بنة خاقان ملك الترك. وقيل: بل ابنة ملك من ملوك الخزر. قال: وكان كثير الأدب، حسن السياسة، جميل النية، وافر الإحسان إلى الضعفاء والمساكين.
وكان من سيرته المرتضاة أنه يجرى الخير والعدل على الرعية، ويشدّد على العظماء المتسلطين على الضعفاء. وبلغ من عدله أنه كان يسير إلى المياه ليصيف هناك، فأمر فنودى فى مسيره أن يتحامى مواضع الحروث، ولا يسير فيها الراكب لئلا يضروا بأحد، ووكّل بتعهد ما يجرى فى عسكره، ومعاقبة من تعدّى أمره وتغريمه لصاحب
الحرث عوضا عما أفسده له. وكان ابنه كسرى أبرويز فى عسكره فغار مركب من مراكبه ووقع فى حرث كان على الطريق، فأفسد ما مرّ عليه، فأخذ ودفع إلى الرجل الموكل من جهة هرمز بمعاقبة من أفسد هو أو دوابّه شيئا من الحرث، فلم يجسر الرجل الموكل من جهة هرمز أن ينفّذ أمر هرمز فى ابنه أبرويز، فرفع الأمر إلى هرمز فأمره أن يجدع أذنيه، ويبتر ذنبه، ويغرّم كسرى أبرويز لصاحب الحرث؛ فخرج الرجل لإنفاذ الأمر، فدس له كسرى رهطا من العظماء يسألونه التثبت فى الأمر، فكلّموه فلم يجب إلى ذلك. فسألوه تأخير إنفاذ الأمر فى المركب حتى يكلموا هرمز، ففعل، ولقى أولئك الرهط هرمزا وأعملوه أن ذلك المركب الذى غار إنما غار زعارة «1» ، وأنه أخذ لوقته. وسألوه أن يأمر بالكف عن جدعه وبتره، لما فى ذلك من سوء الطّيرة فلم يجبهم إلى ما سألوه، وأمر بالمركب فجدعت أذناه وبترذنبه، وغرم كسرى كما يغرم غيره من الجند ثم ارتحل.
قال: وركب ذات يوم فى أوان إيناع الكرم يريد ساباط «2» المدائن، وكان ممرّه على بساتين وكروم، فنظر بعض الأساورة إلى كرم فرأى حصرما، فأصاب منه عناقيد ودفعها إلى غلامه وقال: اذهب بها إلى المنزلة واطبخها بلحم واصنع منها مرقة فإنها نافعة فى هذا الإبّان، فأتاه حافظ ذلك الكرم فلزمه وصاح به، فبلغ إشفاق الأسوار من عقوبة هرمز أن دفع إنى حافظ الكرم منطقة محلّاة بالذهب كانت فى وسطه، وسأله أن يأخذها عوضا عما أخذه من الحصرم، ولا يرفع الأمر إلى الملك.
فهذه كانت سيرته فى العدل، وهذا كان خوف جنده وأساورته منه. وكان مظفّرا منصورا، وكان أديبا داهيا، إلا أنه كان مقصيا للأشراف وأهل البيوتات والعلماء. وقيل: إنه قتل ثلاثة عشر ألف رجل وستمائة رجل منهم، ولم يكن له رأى إلا فى تآلف السّفلة وأسقاط الناس واستصلاحهم. وحبس خلقا كثيرا من العظماء، وحطّ مراتب جماعة كبيرة، وقصّر بالأساورة ففسدت عليه نيات أكابر جنده وعظماء مملكته، فكان عاقبة سوء هذا التدبير أن خرج عليه جماعة من الملوك منهم شابه [شاه «1» ] ملك الترك فى ثلاثمائة ألف مقاتل، وسار إلى باذغيس «2» ، وذلك بعد مضىّ إحدى عشرة سنة من ملكه، وخرج عليه ملك الروم فى ثمانين ألف مقاتل، وخرج عليه ملك الخزر حتى سار إلى باب الأبواب، وخرج عليه من العرب خلق كثير، فنزلوا فى شاطئ الفرات وشنّوا الغارات على أهل السواد، فاجترأ عليه أعداؤه وغزوا بلاده.
فأما شابه [شاه «3» ] ملك الترك فإنه أرسل إلى هرمز وإلى عظماء ملكه من الفرس يؤذنهم بإقباله فى جيوشه زمرا زمرا، وأعلمهم أنه يريد غزو الروم، ويسلك إليهم من بلادهم، وأمرهم أن يعقدوا له قناطر على كل نهر يمرّ عليه فى بلادهم من الأنهار التى لا قناطر عليها، وكذلك فى الأودية، وأن يسهّلوا له الطرق والمسالك وقال: فإننى قد أجمعت على المسير إلى بلاد الروم من بلادكم، فاستفظع هرمز ما ورد عليه من ذلك، وجمع أكابر مملكته وعرض ذلك عليهم، وشاورهم فيما يفعله، فاجتمعت الآراء على قصد ملك الترك وحربه، فندب إليه رجلا من أهل الرأى والنجدة يقال له بهرام جوبين، فاختار بهرام من العسكر اثنى عشر ألفا
من الكهول دون الشباب، وسار بهم حتى انتهى إلى هراة «1» وباذغيس، ولم يشعر شابه [شاه «2» ] ملك الترك ببهرام حتى وافاه ونزل بالقرب من معسكره، فكانت بينهما حروب كثيرة آخرها أن بهرام جوبين قتل شابه برمية رماه [بها «3» ] فاستباح عسكره، وأقام بهرام موضعه، فوافاه برموذة «4» بن شابه وكان يعدل بأبيه، فحار به فهزمه بهرام جوبين وحصره فى بعض الحصون، ثم ألحّ عليه حتى استسلم له، فوجهه أسيرا إلى هرمز، وغنم كنوزا عظيمة، فيقال إنه حمل إلى هرمز من الأموال والجواهر والأوانى وسائر الأمتعة وقرمائتى ألف وخمسين ألف بعير فى مدّة تلك الأيام، فشكره هرمز على ذلك، وأمره أن يتقدّم بمن معه إلى بلاد الترك فلم يره بهرام صوابا، ثم خاف سطوة هرمز.
وحكى له أن الملك يستقلّ ما حمله إليه من الغنائم فى جنب ما وصل إليه منها، وأنه يقول فى مجالسه قد ترفّه بهرام واستطاب الدّعة، وبلغ ذلك الجند فخافوا مثل خوفه. فيقال إن بهرام جمع ذات يوم وجوه عسكره وأجلسهم على مراتبهم ثم خرج عليهم فى زىّ النساء وبيده مغزل وقطن حتى جلس فى موضعه؛ وحمل إلى كل واحد من أولئك القوم مغزل وقطن ووضع بين أيديهم، فامتعضوا من ذلك وأنكروه وقالوا: ما هذا الزىّ! فقال بهرام: إن كتاب الملك ورد علىّ بذلك ولا بدّ من امتثال أمره إن كنتم طائعين له، فأظهروا أنفة وحميّة وأجمعوا كلهم على خلع
هرمز، فخلعوه وأظهروا أن ابنه كسرى أبرويز أصلح للملك منه، وساعدهم على ذلك خلق كثير ممن كان بحضرة هرمز.
ولما اتصل ذلك بهرمز أنفذ جيشا كثيفا مع بعض قوّاده لمحاربة بهرام جوبين، فأشفق أبرويز من الحديث وخاف سطوة أبيه ببهرام، فهرب إلى أذربيجان، فاجتمع إليه هناك عدّة من المرازبة ومن الأصبهبذين، فأعطوه بيعتهم ولم يظهر أبرويز شيئا، وأقام بمكانه إلى أن بلغه قتل القائد الذى كان قد بعثه هرمز لمحاربة بهرام جوبين، وهو أذبيحشيش، وهزيمة الجيش الذى كان معه واضطراب أمر هرمز أبيه، وكتبت أخت أذبيحشيش إلى كسرى أبرويز تخبره بضعف أبيه هرمز، وأعلمته أن العظماء والوجوه قد أجمعوا على خلعه، وأن بهرام جوبين إن سبقه إلى المدائن احتوى على الملك. قال: ولم يلبث العظماء أن وثبت على هرمز وفيهم بندويه «1» وبسطام خالا أبرويز وخلعوه وسملوا عينيه، وتركوه تحرّجا من قتله. فكان ملكه إلى أن خلع وسمل اثنتى عشرة سنة.
ثم ملك بعده ابنه كسرى أبرويز بن هرمز بن كسرى أنو شروان. قال:
ولما ملك بادر بمن معه إلى المدائن وسبق إليها بهرام جوبين وتتوّج وجمع إليه الوجوه والأشراف، وجلس على السرير ومنّاهم، وأمرهم بالسمع والطاعة، فاستبشر الناس به ودعوا له وأجابوه ودخلوا تحت طاعته. فلما كان فى اليوم الثانى أتى إلى أبيه فسجد له، واعتذر وقال: إنك تعلم أيها الملك إننى برىء مما جناه إليك هؤلاء القوم الذين فعلوا بك ما فعلوا، وإنما هربت خوفا منك وإشفاقا على نفسى، فصدّقه هرمز وقال: يا بنىّ! إن لى إليك حاجتين فاسعفنى بهما، إحداهما: أن
تنتقم لى ممن عاون على خلعى وسمل عينىّ ولا تأخذك بهم رأفة، والأخرى تؤنسنى كل يوم بثلاثة نفر ممن لهم أصالة رأى، وتأذن لهم بالدخول إلىّ؛ فتواضع له أبرويز وقال: عمرك الله أيها الملك، إن المارق بهرام قد أطلنا «1» ومعه أهل الشجاعة والنجدة، ولسنا نقدر أن نمدّ يدا إلى من أتى إليك ما أتى؛ فإنهم وجوه أصحابك؛ ولكن إن أمكننى الله من المنافق فأنا خليفتك وطوع أمرك.
قال: وأما بهرام جوبين فإنه ورد إلى النهروان، فخرج كسرى أبرويز إليه وواقفه بها وجعل النهر بينه وبينه، ودار بينهما كلام كثير. كل ذلك فى استصلاح بهرام ورجوعه إلى الطاعة، وهو لا يجيب إلى ذلك ولا يردّ إلا ما يسوء أبرويز حتى يئس منه وأجمع على حربه والتقوا واقتتلوا. وكان بينهما أخبار كثيرة وأحاديث طويلة آخرها أن أبرويز ضعف عنه بعد أن قتل بيده ثلاثة نفر من الأتراك، وكانوا من أشدهم وأعظمهم شجاعة ووسامة، وكانوا قد التزموا لبهرام بقتل أبرويز، وضمن لهم بهرام على ذلك أموالا عظيمة.
قال: ثم رأى أبرويز من أصحابه فتورا فسار الى أبيه وشاوره فرأى المسير الى الروم، وأحرز نساءه وشخص فى عدّة يسيرة فيهم بندويه وبسطام وكردى أخو بهرام؛ لأنه كان معاديا لأخيه، شديد الطاعة والنصيحة لأبرويز. فلما خرجوا من المدائن خاف القوم من بهرام، وأشفقوا أن يردّ هرمز الى الملك، ويكاتب ملك الروم عن هرمز فى ردّهم فيتلفوا؛ فذكروا ذلك لأبرويز واستأذنوه فى إتلاف هرمز فلم يحر جوابا، فانصرف بندويه وبسطام وطائفة معهما الى هرمز فخنقوه ثم رجعوا الى كسرى فقالوا: سر على خير طالع، وأيمن طائر؛ فحثّوا دوابّهم وساروا الى الفرات فقطعوه، وأخذوا طريق المفازة بدلالة رجل يقال له: خرشيذان
وساروا الى بعض الديارات التى فى أطراف العمارة، فلما أوطنوه للراحة لحقتهم خيل بهرام جوبين، فلما نذروا بهم أنبه بندويه أبرويز من نومه وقال له: احتل لنفسك فإن القوم قد طلبوك «1» . فقال كسرى: ما عندى حيلة. فقال بندويه:
إنى سأحتال لك بأن أبذل نفسى دونك؛ قال: وكيف ذلك؟ قال: تدفع لى ثوبك وزينتك لأعلو الدير وتنجو أنت ومن معك من وراء الدير، فإن القوم إذا وصلوا ورأوا هيئتك علىّ اشتغلوا بى عن غيرى، وطاولتهم حتى تفوتهم، ففعل ذلك.
وخرج أبرويز ومن معه، ثم وافت خيل بهرام الدير وعليهم قائد لهم يقال له بهرام ابن سياوش فاطلع عليهم بندويه من فوق الدير وعليه زينة أبرويز وثيابه، وأوهمهم أنه هو، وسأله أن ينظره الى غد ليصير فى يده سليما ويسير به الى بهرام جوبين، فأمسك عنه وحفظ الدير ليلة كاملة بالحرس. فلما أصبح اطلع عليه فى بزّته وحليته وقال: إن علىّ وعلى أصحابى بقية شغل من استعداد وصلوات وعبادات فأمهلنا.
ولم يزل يدافعه حتى مضى عامة النهار وأمعن أبرويز، وعلم بندويه أنه قد فاتهم، ففتح الباب حينئذ وأعلم بهرام سياوش بأمره، فانصرف به الى بهرام جوبين فحبسه.
وأما بهرام جوبين فإنه دخل المدائن وجلس على سرير الملك، وجمع العظماء فخطبهم وذمّ أبرويز ودار بينهم كلام، فكان كلهم منصرفا عنه إلا أن بهرام تتوّج وانقاد له الناس خوفا، ثم إن بهرام بن سياوش واطأ بندويه على الفتك ببهرام جوبين، فظهر بهرام على ذلك، فقتل سياوش وأفلت بندويه ولحق بأذربيجان، وسار أبرويز حتى أتى أنطاكية فكاتب ملك الروم منها، وراسله بجميع من كان معه وسأله نصرته، فأجابه الى ذلك وزوّجه ابنته مريم وحملها إليه، وأمدّه بثياذوس أخيه ومعه ستون ألفا من المقاتلة، عليهم رجل يقال له سرجس، يتولى تدبير
أمرهم، ورجل آخر من أبطال الروم، كان يعدّ بينهم بألف رجل، وسأله ترك الأتاوة التى كان أبوه ومن قبله من ملوك الفرس يستأدونها من ملوك الروم إذا هو ملك، فأجابه الى ذلك، وفرح بالجيش الذى أمدّه به ملك الروم، واغتبط بهم وأراحهم خمسة أيام، ثم عرضهم وعرّف عليهم العرفاء وسار بهم حتى نزل من أذربيجان فى صحراء تدعى الدنق «1» فوافاه هناك بندويه ورجل من أصبهبذى الناحية يقال له موسيل فى أربعين ألف مقاتل، فانضمّوا إليه، ووافاه الناس بالخيل من أصبهان وفارس، وانتهى الى بهرام جوبين مكانه بصحراء الدنق، فشخص نحوه من المدائن، فجرت بينهما حروب شديدة قتل فيها الكمىّ الرومىّ بضربة ضربه بها بعض الفرس على رأسه فقدّ رأسه وبدنه، وعاد فرسه بنصف بدنه الباقى الى المعركة.
فلما رآه أبرويز استضحك؛ فعظم ذلك على الروم وعاتبوا أبرويز وقالوا له: هذا جزاؤنا منك! يقتل كميّنا وواحد عصره فى طاعتك وبين يديك ونصحك ونصرتك وأنت تضحك لقتله! فاعتذر بأن قال: إنى والله ما ضحكت لما تكرهون. ولقد شقّ علىّ أن فقدت مثله أكثر مما شقّ عليكم، ولكنى رأيتكم تستصغرون شأن جوبين وتنكرون هربى منه، فذكرت ذلك من قولكم الآن وعلمت أنكم برؤيتكم هذه الضربة تعذروننى وتعلمون يقينا أن هربى إنما كان من أمثال هؤلاء القوم الذين هذا مبلغ نكايتهم فى الأبطال. ويقال إن أبرويز حارب بهرام منفردا عن العسكر بأربعة عشر رجلا منهم كردى أخو جوبين وبندويه وبسطام حربا شديدا وصل فيها بعضهم الى بعض، وآخر الأمر أن أبرويز استظهر استظهارا يئس منه بهرام جوبين، وعلم
أنه لا حيلة له فيه ولا قدرة عليه، فانحاز عنه نحو خراسان، ثم سار الى الترك، وسار أبرويز الى المدائن بعد أن فرق فى الجنود من الروم أموالا عظيمة وصرفهم الى ملك الروم.
قال: ولبث بهرام جوبين فى الترك مكرما عند الملك حتى احتال عليه كسرى أبرويز بتوجيهه رجلا يقال له هرمز الى الترك بجوهر نفيس وغيره من الهدايا الى امرأة ملك الترك حتى دسّت لبهرام من قتله؛ فاغتمّ خاقان لموته وأرسل إلى أخته كردية وامرأته يعلمهما بلوغ الحوادث ببهرام، وسأل كردية أخت بهرام أن يتزوّجها وفارق امرأته خاتون بهذا السبب، فأجابته كردية جوابا لينا، ثم ضمت إليها من كان مع أخيها بهرام من المقاتلة، وخرجت بهم من بلاد الترك إلى حدود مملكة فارس، فأتبعها ملك الترك أخاه نطرا «1» فى اثنى عشر ألف فارس. فيقال إن كردية قاتلت وقتلت نطرا بيدها، ومضت لوجهها حتى بلغت حدود أرض فارس، وكتبت إلى أخيها كردى فأخذ لها أمانا من أبرويز، فلما قدمت عليه اغتبط بها وتزوّج بها أبرويز.
قال: ولم يزل أبرويز يلاطف ملك الروم الذى نصره وأمدّه ويهاديه إلى أن وثبت الروم عليه فى شىء أنكروه منه فقتلوه وملّكوا غيره، فبلغ ذلك أبرويز فتألم له وأوى إلى أبرويز ابن الملك المقتول، فتوجه أبرويز وملكه على الروم، ووجه معه جنودا كثيفة مع شهرياز فدوّخ بهم البلاد. وملك صاحب كسرى بيت المقدس وأخذ خشبة الصلب وبعث بها إلى كسرى، وذلك فى أربع وعشرين سنة من ملكه، ثم احتوى على مصر والاسكندرية وبلاد النوبة، وبعث مفاتيح ثغر الإسكندرية إلى كسرى فى سنة ثمان وعشرين من ملكه، وقصد قسطنطينية فأناخ
على ضفة الخليج الذى هو بالقرب منها وخيم هنالك، فأمره كسرى فخرّب بلاد الروم غضبا على أهلها لما انتهكوا من ملكهم وانتقاما له، ومع ذلك لم يخضعوا لابن ملكهم المقتول ولا منحوه الطاعة، ولا مال اليه واحد منهم؛ غير أنهم قتلوا الملك الذى ملّكوه عليهم بعد أبيه المسمى قوقا لما ظهر لهم من فجوره وسوء تدبيره؛ وملّكوا عليهم رجلا يقال له هرقل. فلما رأى هرقل عظم ما فيه أهل بلاد الروم من تخريب جنود فارس بلادهم، وقتلهم مقاتلتهم، وسبيهم ذراريهم، واستباحتهم أموالهم تضرّع إلى الله وأكثر الدعاء وابتهل. فيقال إنه رأى فى منامه رجلا ضخم الجثة رفيع المجلس قد دخل عليه، فدخل عليهما داخل فألقى ذلك الرجل عن مجلسه وقال لهرقل: إنى قد أسلمته فى يدك، فلم يقصص رؤياه تلك فى يقظته على أحد حتى توالت عليه أمثالها، فرأى فى بعض لياليه كأن رجلا دخل عليهما وبيده سلسلة طويلة فألقاها فى عنق صاحبه، أعنى صاحب المجلس الرفيع، ثم دفعه إليه وقال له: ها قد دفعت اليك كسرى برقبته.
فلما تتابعت هذه الأحلام قصّها على عظماء الروم وذوى العلم منهم، فأشاروا عليه أن يغزوه، فاستعدّ هرقل واستخلف ابنه على مدينة قسطنطينية، وأخذ عن الطريق الذى فيه شهرياز «1» صاحب كسرى وعدل الى غيرها، وسار حتى أوغل فى بلاد أرمينية ونزل نصيبين سنة، وكان صاحب ذلك الثغر من قبل كسرى استدعى لموجدة كانت من كسرى عليه. وأما شهرياز فقد كانت كتب كسرى ترد عليه فى الجثوم على الموضع الذى هو به وترك البراح، ثم بلغه أن هرقل قد أقام بجنوده
بنصيبين، فوجه كسرى لمحاربة هرقل رجلا من قوّاده يقال له: راهزار «1» فى اثنى عشر ألف رجل من الأنجاد، وأمره أن يقيم بنينوى- وهى الموصل- على شاطئ دجلة ويمنع الروم أن يجوزوها. وكان كسرى بلغه خبر هرقل، وهو يومذاك بدسكرة «2» الملك، فنفذ الجيش لمنعه من جواز دجلة، فعسكروا حيث أمرهم كسرى، فقطع هرقل دجلة من موضع آخر الى الناحية التى فيها جنود فارس، فأذكى راهزار العيون عليه، فأخبروه أن هرقل فى سبعين ألف مقاتل، فأيقن راهزار ومن معه من الجند أنهم عاجزون عن مناهضته، فكتب إلى كسرى غير مرة أن هرقل قد دهمه بما لا طاقة له به ولا قبل من الجنود الكثيرة. كل ذلك يجيبه كسرى بأنه إن عجز عن الروم فلن يعجز عن استقبالهم، وبذل دماء الفرس فى طاعته.
فلما تتابعت على راهزار أجوبة كسرى بذلك عبّأ جنده وناهض الروم بهم؛ فقتلت الروم راهزار وستة آلاف رجل من الفرس، وانهزم بقيتهم وهربوا على وجوههم لا يلوون على شىء، وبلغ كسرى ذلك فانحاز من دسكرة الملك الى المدائن، وتحصّن بها لعجزه عن محاربة هرقل، وسار هرقل بجيوش الروم حتى كان قريبا من المدائن، فاستعدّ كسرى لقتاله، فلما بلغه ذلك انصرف الى أرض الروم، وكتب كسرى الى قوّاد الجند الذين انهزموا يأمرهم أن يدلّوه على كل رجل انهزم منهم، ومن فشل فى تلك الحرب، ولم يرابط مركزه، وأمر بعقوبتهم بحسب ما استوجبوا، فأحوجهم بهذا الكتاب الى الخلاف عليه، وطلب الحيل لنجاة أنفسهم منه، وكتب الى شهرياز يأمره بالقدوم عليه ويستعجله فى ذلك ويصف ما نال هرقل منه ومن بلاده.
وقد حكى أن كسرى عرّف أن له امرأة فى فارس لا تلد إلا الملوك والأبطال فدعاها وقال: إنّى أريد أن أبعث الى الروم جيشا وأستعمل عليهم رجلا من بنيك فأشيرى علىّ أيّهم أستعمل، فوصفت له أولادها فقالت: هذا فرّخان أنفذ من سنان؛ وهذا شهرياز «1» أحكم من كذا، وهذا فلان أروغ من كذا؛ فاستعمل شهرياز؛ فسار الى الروم فظهر عليهم وهزمهم وخرّب مدائنهم.
فلّما ظهرت فارس على الروم جلس فى بعض الأيام فرّخان يشرب؛ فقال فرّخان لأصحابه: لقد رأيت أنّى جالس على سرير كسرى، فبلغت كلمته كسرى، فكتب إلى شهرياز: اذا أتاك كتابى هذا فابعث إلىّ برأس فرّخان، فكتب اليه:
أيها الملك، إنك لن تجد مثل فرّخان، وإن له نكاية فى العدوّ وصيتا فلا تفعل، فكتب اليه: إنّ فى رجال فارس خلفا منه، فعجّل إلىّ برأسه، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه، وبعث بريدا الى أهل فارس: إنّى قد نزعت عنكم شهرياز واستعملت فرّخان، فانقاد له شهرياز وقال: سمعا وطاعة، ونزل عن سريره وجلس عليه فرّخان، ثم دفع البريد صحيفة صغيرة الى فرّخان كان كسرى قد أعطاها له وقال له: اذا انقاد شهرياز الى طاعة فرّخان فاعط فرّخان هذه الصحيفة، فلما قرأها فرّخان قال: علىّ بشهرياز! فأتى به فقدّم ليضرب عنقه فقال: لا تعجّل علىّ حتى أكتب وصيّتى، ثم دعا بسفط وأخرج منه ثلاث صحائف، وهى التى كان كسرى أمر شهرياز فيها بقتل فرّخان وقال له: كلّ هذه راجعت كسرى فيها عنك، وأنت تريد أن تقتلنى بكتاب واحد؟ فردّ الملك إلى «2» أخيه واعتذر