الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قد أرانى هناك دهرا مكينا
…
عند ذى التاج مقعدى ومكانى «1»
قال: فبكى حتى سالت دموعه على لحيته، ثم قال: أتدرى من يقول هذا؟
قلت: لا، قال: حسّان، ثم أنشد: تنصّرت الأشراف الأبيات ثم سألنى عن حسّان أحىّ هو؟ قلت: نعم، فأمر له بكسوة ولى بمثلها، وأمر بمال لحسّان ونوق موقرة برّا ثم قال: إن وجدته حيّا فادفع الهديّة إليه، وإن وجدته ميتّا فادفعها إلى أهله وانحر النّوق على قبره.
قال: فلمّا أخبرت عمر بخبره وما اشترط علىّ وما ضمنت له قال: فهلّا ضمنت له الأمر فإذا أفاء الله به قضى الله علينا بحكمه! ثم جهّزنى عمر إلى القسطنطينية إلى هرقل ثانية وأمرنى أن أضمن له ما اشترط، فلمّا دخلت القسطنطينية وجدت الناس قد انصرفوا من جنازته، فعلمت أنّ الشقاء غلب عليه فى أمّ الكتاب.
ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان
وأوّلهم مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك ابن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «2» . وكان قد خرج من اليمن مع عمرو بن عامر حين أحسّوا بسيل العرم، وقد ذكرنا أنّ الملك ربيعة ابن نصر كان قد بعثهم إلى سابور فأسكنهم الحيرة وملكوا ما حولها. والله أعلم.
قال: وكان ملك مالك على الحيرة عشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه جذيمة «1» وهو الوضّاح. قال: وكان يقال له ذلك لبرص كان به؛ ويقال أيضا فيه الأبرش، وكان ينزل الأنبار، وكان لا ينادم أحدا من الناس ذهابا بنفسه على الندماء، وكان ينادم الفرقدين فإذا شرب قدحا صبّ [فى الأرض «2» ] لهذا قدحا ولهذا قدحا. ويقال: إنه أوّل من عمل المنجنيق من الملوك، وأوّل من حذيت له النّعال. وأوّل من وقد بين يديه الشمع، وهو الذى قتلته الزّبّاء بحيلة.
ثم ملك بعده ابن أخته عمرو بن عدىّ بن ربيعة. قالوا: وعمرو هذا هو الذى استهوته الجنّ دهرا طويلا ثم رجع؛ فبينما مالك وعقيل ابنا فارح وقيل- قالح- يقصدان جذيمة الملك بهديّة إذ نزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها: أمّ عمرو، فتعرّض لهما عمرو، وقد طالت أظفاره وشعره وساءت حالته وهيئته، فجلس إليهما- وكانا يأكلان- فمدّ إليهما يده مستطعما فناولته تلك الجارية طعاما فأكله، ثم مدّ يده ثانية فقالت: إن يعط العبد كراعا يبتع ذراعا! ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكأت «3» سقاءها، فقال عمرو:
صددت الكأس عنّا أمّ عمرو
…
وكان الكأس مجراها اليمينا
وما شرّ الثلاثة أمّ عمرو
…
بصاحبك الذى لا تصبحينا «4»
فقالوا له: من أنت؟ فانتسب لهما، ففرحا به وأقبلا على خاله- وقد كان جعل الجعائل لمن يأتيه به- فلمّا أتياه به قال جذيمة لهما: لكما حكمكما. فقالا:
منادمتك. فكانا كما اختارا، وسار بهما المثل. ويقال: إنهما نادماه أربعين سنة، فما أعادا عليه حديثا مما حدّثاه به مرّة أخرى، بل كانا يحدّثانه بحديث جديد لم يسمعه منهما قبل.
وعمرو هذا هو الذى أخذ بثأر خاله جذيمة من الزّبّاء وقتلها. وذلك أنّ قصير ابن سعد كان من غلمان جذيمة قال لعمرو: اضرب ظهرى واقطع أرنبة أنفى واتركنى والزّبّاء، فإنّى سأحتال لك عليها، ففعل به ذلك، ففرّ قصير إلى الزّبّاء وصار فى جملة رجالها وأراها النصح والاجتهاد فى حوائجها، وأنه غاشّ لعمرو ابن عدىّ؛ وجعل يتّجر لها ويذهب لعمرو فى السرّ فيعطيه الأموال فيأتيها بها، كأنّ ذلك من اجتهاده وحذقه فى التجارة حتى اطمأنّت له؛ فذهب إلى عمرو وأخذه وأخذ معه ألفى رجل وجعلهم فى جوالق على ألف جمل، ومعهم دروعهم وسيوفهم وجاء بهم على طريق يقال له الغوير «1» ، ولم يكن يسلكه قبل ذلك، فلمّا قرب من حصنها تقدّم إليها وأعلمها أنه قد أتاها بمال صامت، فأشرفت من أعلى قصرها تنظر إلى الجمال، فرأتها وكأنّها تنزع أرجلها من أوحال لثقل ما عليها، فقالت:«عسى الغوير أبؤسا» . فذهبت مثلا. ثم قالت:
ما للمطايا مشيها وئيدا
…
أجندلا يحملن أم حديدا
أم صرفانا «2» باردا شديدا
…
أم الرّجال جثّما قعودا
وقد كان قصير قال لها قبل ذلك كالناصح: ما ينبغى لمثلك «1» إلا أن يكون له موضع ليوم، فإنه لا يدرى ما تحدثه الأيام؛ فأرته سربا فى ناحية قصرها قد نفذت فيه إلى حصن أختها- وكانا على ضفّتى الفرات- قال: فلمّا دخلت الإبل على البوّاب ضجر لكثرتها، حتى إذا كان آخرها طعن فى جوالق بعود كان فى يده، فقابلت الطعنة خاصرة الرجل الذى كان فى الجوالق فحنق فقال البوّاب: لشنا لشنا «2» ؛ أى شىء فى الجوالق، فثارت الرجال من الجوالق بأيديهم السيوف، فهربت الزّبّاء إلى ذلك السّرب فإذا هى بقصير عند النفق ومعه عمرو بن عدىّ، والسيف فى يده، فمصّت خاتما كان فى يدها فيه سمّ ساعة وقالت:«بيدى لا بيد عمرو» . وفى ذلك يقول المتلمس:
وفى طلب الأوتار ما حزّ أنفه
…
قصير ورام الموت بالسيف بيهس
وعمرو هذا هو الذى يقال فيه: «شبّ عمرو عن الطّوق» . وكانت مدّة ملكه مائة سنة.
ثم ملك بعده ابنه امرؤ القيس. فكان ملكه ستين سنة.
ثم ملك بعده ابنه عمرو بن امرئ القيس وهو محرّق العرب «1» . وكان ملكه خمسا وعشرين سنة، وكانت أمّه مارية التى يضرب المثل بقرطيها.
ثم ملك بعده النعمان «2» بن المنذر فارس حليمة «3» ، وهو الذى بنى الخورنق «4» وكردس «5» الكراديس. وكان أعور «6» ، ويقال: إنه أشرف فى بعض الأيّام على ما حول الخورنق فقال: أكّل ما أرى إلى نفاد؟ قيل: نعم. قال: فأىّ خير فى ملك يكون آخره إلى نفاد! ثم انخلع من ملكه ولبس المسوح وسار فى الأرض. وقد ذكره عدىّ بن زيد فقال:
وتفكّر ربّ الخورنق إذ أشرف
…
يوما وللهدى تفكير
سرّه حاله وكثرة ما يملك
…
والبحر معرضا «7» والسّدير
فارعوى قلبه وقال: فما غبطة
…
حىّ إلى الممات يصير؟
وكان ملكه خمسا وثلاثين سنة.
ثم ملك الأسود بن النعمان. فكان ملكه عشرين سنة. ويقال: إنّ الأسود هذا هو الذى انتصر على غسّان وأسر عدّة من ملوكهم، وأراد أن يعفو عنهم، وكان للأسود ابن عمّ يقال له: أبو أذينة، قد قتل آل غسّان له أخا فى بعض الوقائع، فقال قصيدته المشهورة يغرى بهم الأسود بن النعمان:
ما كلّ يوم ينال المرء ما طلبا
…
ولا يسوّغه المقدار «1» ما وهبا
وأحزم النّاس من إن فرصة عرضت
…
لم يجعل السبب الموصول مقتضبا
وأنصف الناس فى كلّ المواطن من
…
سقى المعادين بالكأس الذى شربا
وليس يظلمهم من راح يضربهم
…
بحدّ سيف به من قبلهم ضربا
والعفو إلّا عن الأكفاء مكرمة
…
من قال غير الذى قد قلته كذبا
قتلت عمرا وتستبقى يزيد لقد
…
رأيت رأيا يجرّ الويل والحربا
لا تقطعن ذنب الأفعى وترسلها
…
إن كنت شهما فأتبع رأسها الذّنبا
هم جرّدوا السيف فاجعلهم له جزرا «2»
…
وأوقدوا النار فاجعلهم لها حطبا
إن تعف عنهم تقول الناس كلّهم
…
لم يعف حلما ولكن عفوه رهبا «3»
وكان أحسن من ذا العفو لو هربوا
…
لكنّهم أنفوا من مثلك الهربا
همو أهلّة غسّان ومجدهم
…
عال فإن حالوا ملكا فلا عجبا
وعرضوا بفداء واصفين لنا
…
خيلا وابلا يروق العجم والعربا
أيحلبون دما منّا ونحلبهم
…
رسلا «1» لقد شرّفونا فى الورى حلبا
علام تقبل منهم فدية وهمولا
…
فضّة قبلوا منّا ولا ذهبا
فلمّا أنشده هذه القصيدة رجع عن رأيه فى العفو عنهم وقبول الفداء منهم وقتلهم. والله أعلم.
ثم ملك بعده المنذر «2» بن الأسود؛ وكانت أمّه ماء السماء «3» . وكانت مدّة ملكه أربعا وثلاثين سنة.
ثم ملك بعده عمرو بن المنذر. فكان ملكه أربعا وعشرين سنة.
ثم ملك بعده المنذر بن عمرو بن المنذر. وكان ملكه ستّين سنة.
ثم ملك بعده قابوس بن المنذر. فكانت مدّة ملكه ثلاثين سنة.
ثم ملك بعده أخوه المنذر بن ماء السماء.
ثم ملك بعده النعمان بن المنذر؛ وهو الذى قيل له: «أبيت اللّعن» وهو آخر من ملك من آلهم. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة. وها نحن نذكر ما قيل فى سبب ملكه وزواله.
قالوا: وكان عدىّ بن زيد العبّادىّ وابنه زيد بن عدىّ سبب ولايته وسبب هلاكه، وذلك أنّ عديّا وأخويه، وهما عمّار وعمرو، كانوا فى خدمة الأكاسرة ولهم من جهتهم قطائع، وكان قابوس الأكبر عمّ النعمان بعث إلى كسرى أبرويز بعدىّ بن زيد وأخويه ليكونوا فى كتّابه يترجمون له، فلمّا مات
المنذر ترك من الأولاد اثنى عشر رجلا، وهم الأشاهب «1» ، سمّوا بذلك لجمالهم، وفيهم يقول الأعشى:
وبنو المنذر الأشاهب بالحيرة
…
يمشون غدوة كالسيوف «2»
فجعل المنذر ابنه النعمان فى حجر عدىّ بن زيد هذا، وجعل ابنه الأسود فى حجر رجل يقال له: عدىّ بن أوس بن مرينا، وبنو مرينا «3» قوم لهم شرف، وهم من لخم، وترك المنذر بقيّة بنيه، وهم عشرة، يستقلّ كلّ واحد منهم بنفسه، وجعل المنذر على أمره كلّه إياس بن قبيصة الطائىّ، فلمّا مات قابوس طلب كسرى من يملّكه على العرب، فدعا عدىّ بن زيد فقال له: من بقى من بنى المنذر، وما هم؟ وهل فيهم خير؟ فقال: بقيّتهم فى ولد هذا الميّت، يعنى المنذر، وهم رجال نجباء؛ فكتب إليهم بالقدوم عليه، فقدموا فأنزلهم، على عدىّ بن زيد، وكان عدىّ يرى موضع النعمان لأنه فى حجره ويختاره على بقيّة إخوته فى الباطن، وهو يظهر لهم خلاف ذلك ويفضّلهم عليه فى الظاهر، ويكرم نزلهم ويخلو بهم ويريهم أنه لا يرجو النعمان، كلّ ذلك، ليطمئنّوا إليه ويرجعوا إلى رأيه، ثم خلا بكلّ منهم على انفراده وقال لهم: إن سألكم الملك: أتكفونى العرب فقولوا: نكفيهم إلّا النعمان، وقال للنعمان: إن سألك الملك عن إخوتك فقل له: إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز.
قال: وكان عدىّ بن أوس بن مرينا داهية أريبا، وكان يوصى الأسود ابن المنذر ويقول: قد عرفت أنّى لك راج، وأنّ طلبتى اليك ورغبتى أن تخالف عدىّ بن زيد فيما يشير به عليك، فإنه والله لا ينصح لك أبدا، فلم يلتفت الأسود الى قوله. فلمّا أمر كسرى عدىّ بن زيد أن يدخلهم عليه قدّمهم رجلا رجلا، وكسرى يرى رجالا قلّما رأى مثلهم، فإذا سألهم هل تكفونى العرب قالوا: نكفيك العرب كلّها إلّا النعمان. فلمّا دخل النعمان عليه رأى رجلا دميما قصيرا أحمر الشعر فكلمّه وقال: هل تستطيع أن تكفينى العرب؟ قال نعم، قال: فكيف تصنع بإخوتك؟ قال: أيّها الملك إن عجزت عنهم فإنّى عن غيرهم أعجز، فملكه وكساه وألبسه تاجا قيمته ستّون ألف درهم. فلمّا خرج وملك على العرب قال عدىّ ابن أوس بن مرينا للأسود بن المنذر: دونك فإنك خالفت الرأى.
قال: ثم إنّ عدىّ بن زيد صنع طعاما فى بيعة وأرسل الى ابن أوس أن ائتنى مع من أحببت فإن لى حاجة، فأتاه فى أناس فتغدّوا فى البيعة، فقال عدىّ بن زيد لعدىّ بن أوس: يا عدىّ إنّ أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، إنّى عرفت أنّ صاحبك الأسود كان أحبّ إليك أن يملّك من صاحبى النعمان، فلا تلمنى على شىء كنت على مثله، وأنا أحبّ ألّا تحقد علىّ شيئا لو قدرت عليه ركتبه، وأحبّ أن تعطينى من نفسك ما أعطيك من نفسى، فإنّ نصيبى من هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك. فقام عدىّ بن زيد الى البيعة وحلف ألّا يهجوه ولا يبغيه غائلة أبدا، ولا يروى عنه خيرا، وحلف عدىّ بن أوس على مثل يمينه ألّا يزال يهجوه أبدا ويبغيه الغوائل ما بقى. وخرج النعمان حتى أتى منزله بالحيرة، وافترق العديّان على وحشة، فقال عدىّ بن أوس للأسود: إن لم تظفر أفلا تعجز أن تطلب بثأرك من هذا المعدّىّ الذى عمل بك ما عمل؟ فقد كنت أخبرتك
أن معدّا لا تنام عن مكرها، وأمرتك أن تخالفه فعصيتنى. قال: فما تريد؟ قال:
ألّا تأتيك فائدة من ملكك ولا أرضك إلّا عرضتها علىّ، ففعل. وكان عدىّ بن أوس كثير المال، فلم يمرّ به يوم إلّا بعث فيه الى النعمان هديّة أو تحفة. فلمّا توالى ذلك وكثرت هداياه عند النعمان صار من أكرم الناس عليه، وصار لا يقضى فى ملكه شيئا إلّا برأى عدىّ بن أوس. فلمّا رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن أوس عنده تابعوه ولزموه؛ فكان يقول لمن يثق به من أصحاب النعمان: إذا رأيتمونى أذكر عدىّ بن زيد عند الملك بخير فقولوا: إنه لكما يقول ولكنّه لا يسلّم عليه أحد، وإنه يقول: إن الملك- يعنى النعمان- إنما هو عامله، وإنه هو الذى ولّاه ما ولّاه.
فلم يزالوا بهذا وأشباهه حتى أضغنوا النعمان عليه. ثم إنهم كتبوا كتابا عن عدىّ الى قهرمان «1» كان له، ودسّوا من أخذ الكتاب وأتى به النعمان فقرأه فغضب، وأرسل إلى عدىّ بن زيد يقول: عزمت عليك إلّا زرتنى فإنى قد اشتقت إليك، وكان عند كسرى، فاستأذنه فى زيارة النعمان فأذن له، فلمّا أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه، فجعل يقول الشعر ويستعطفه به، فكان مما قاله:
أبلغ النّعمان عنّى مألكا «2»
…
إنه قد طال حبسى وانتظارى
لو بغير الماء حلقى شرق
…
كنت كالغصّان بالماء اعتصارى «3»
وقال أشعارا كثيرة كانت تبلغ النعمان فندم على حبسه وعلم أنه كيد فيه، فكان يرسل إليه ويعده ويمنّيه، فلمّا طال سجنه وأعياه التضرّع إلى النعمان كتب الى أخيه أبىّ- وهو عمّار- وهو مع كسرى يخبره بحاله، ويبعثه على السعى فى خلاصه، فدخل أبىّ على كسرى وكلّمه، فكتب إلى النعمان فى أمره وبعث رسولا بكتابه، فقال له أبىّ: إبدأ بعدىّ وانظره قبل أن تجتمع بالنعمان، ورشاه على ذلك، ففعل الرسول ذلك ودخل الى الحبس واجتمع بعدىّ وقال له: ما تحبّ أن أصنع؟ قال:
أحبّ ألّا تخرج من عندى، وأعطنى كتاب كسرى لأرسله من قبلى. قال:
لا أستطيع ذلك. قال: فإنك إن خرجت من عندى قتلت. فقال: لا بدّ أن آتى النعمان وأوصّله الكتاب من يدى، فانطلق إلى النعمان وأوصله الكتاب فقبّله وقال: سمعا وطاعة، ووصله بأربعة آلاف مثقال [ذهبا «1» ] وجارية [حسناء «2» ] وقال: إذا كان من غد فادخل عليه وأخرجه بنفسك. وكان أعداء عدىّ أتوا النعمان وأخبروه أنّ رسول كسرى دخل إلى عدىّ وأنه إن خرج من الحبس لم يستبق منّا أحدا، ولم تنج أنت ولا غيرك، فأمرهم النعمان بقتله، فدخلوا عليه لمّا خرج الرسول من عنده وغمّوه «3» حتى مات، فلمّا أصبح الرسول دخل السجن فقال له الحرس: إنّ عديّا قد مات منذ أيام، ولم نجرؤ أن نخبر النعمان فرقا منه لعلمنا بكراهيته لذلك، فرجع الرسول إلى النعمان فقال:
إنّى كنت بدأت به فدخلت عليه وهو حىّ. فقال له النعمان: يبعثك الملك إلىّ فتدخل إليه قبلى، كذبت! ولكنّك ارتشيت وتهدّده، ثم استدعاه بعد ذلك وزاده جائزة وكسوة واستوثق «1» منه وصرفه الى كسرى. فلمّا رجع إليه قال له: قد مات قبل مقدمى على النعمان.
قال: ثم ندم النعمان على قتل عدىّ ندما شديدا واجترأ أعداء عدىّ على النعمان وهابهم، ثم ركب النعمان فى بعض أيّامه للصّيد فلقى ابنا لعدىّ بن زيد، فكلّمه فإذا هو غلام ظريف ففرح به النعمان وقرّبه ووصله واعتذر إليه، ثم جهّزه «2» الى كسرى وكتب إليه: إنّ عديّا كان ممن أعين به الملك فى نصيحته ورأيه، فانقضت مدّته وانقطع أجله، ولم يصب به أحد أشدّ من مصيبتى، وإنّ الملك لم يكن ليفقد رجلا من عبيده إلّا جعل الله له منه خلفا، وقد أدرك له ابن ليس هو دونه، وقد سرّحته إلى الملك فإن رأى أن يجعله مكان أبيه ويصرف عمّه إلى عمل آخر فعل. فأجابه كسرى إلى ذلك ورتّبه فى وظيفة أبيه، وسأله عن النعمان فأحسن الثناء عليه، فمكث سنوات على منزلة أبيه وأعجب به كسرى. وكان لصاحب هذه الرّتبة على العرب وظيفة فى كلّ سنة من الأفراس والمهارة «3» والكمأة والأقط والأدم وغير ذلك، وهو يلى ما يكتب عن كسرى إلى العرب.
قال: ثم تمكّن زيد بن عدىّ بن زيد عند كسرى حتّى كان يجتمع به فى أوقات خلواته، فدخل عليه فى بعض الأيّام فكلّمه فيما دخل بسببه؛ ثم جرى ذكر النساء.
وكانت عند الأكاسرة صفات امرأة، ومن رسمهم أن يطلبوا للملك من هى متّصفة
بتلك الصفات. وكانت الصفة أنّ المنذر الأكبر أهدى إلى أنو شروان جارية كان أصابها لمّا أغار على الحارث الأكبر الغسّانىّ، فكتب إلى أنو شروان بصفة الجارية فقال: هى معتدلة الخلق، نقيّة اللّون والثّغر، بيضاء قمراء وطفاء «1» دعجاء «2» حوراء عيناء [قنواء «3» ] شمّاء «4» [برجاء «5» ] زجّاء «6» أسيلة الخدّ، [شهيّة المقبّل «7» ] جثلة «8» الشّعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط عيطاء «9» ، عريضة الصدر، كاعب الثدى، ضخمة مشاش «10» المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكفّ، سبطة البنان، لطيفة طىّ البطن، خميصة الخصر، غرثى «11» الوشاح، رداح «12» الأقبال، رابية الكفل، مفعمة الساق «13» ، لفّاء الفخذين. ريّا الروادف، ضخمة المأكمتين «14» ، عظيمة الركبة، مشبعة «15» الخلخال، لطيفة
الكعب [والقدم، قطوف المشى «1» ] ، مكسال «2» الضّحى، بضّة «3» المتجرّد، سموع للسيّد، ليست بخنساء «4» ولا سفعاء «5» ، رقيقة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذّ فى بؤس، حييّة رزينة، حليمة ركينة «6» ، كريمة الخال، تقتصر «7» بنسب أبيها، وبفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها التجارب «8» فى الأدب، رأيها رأى أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفّين، قطيعة «9» اللسان، رهوة «10» الصوت [ساكنته 1»
] ، تزين البيت «12» وتشين العدوّ إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق «13» عيناها، وتحمرّ وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة [إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست «14» ] . فقبلها أنو شروان وأمر بإثبات هذه الصفة فى ديوانه، «15» فكانت تتوارث
حتى انتهى الملك إلى كسرى أبرويز بن هرمز. فلمّا قرئت هذه الصفة عليه قال له زيد بن عدىّ: أيها الملك، أنا أخبر بآل المنذر، وعند عبدك النعمان من بناته وبنات عمّه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة. فقال له كسرى: اكتب فيهنّ إليه. فقال: أيها الملك، إنّ شرّ شىء فى العرب وفى النعمان [خاصّة «1» ] أنهم يتكرّمون-[زعموا «2» ] فى أنفسهم- عن «3» العجم، فابعثنى اليه وابعث معى رجلا [من ثقاتك «4» ] يفقه العربية. فبعث معه رجلا جلدا [فهما «5» ]، فخرج به زيد حتى أتى الحيرة ودخل على النعمان؛ فلما دخل عليه عظّم الرسول أمر كسرى وقال له: إنه قد احتاج إلى نساء لأهله وولده فأراد كرامتك [بصهره «6» ] وبعث إليك فيهنّ. فقال النعمان: وما صفة هؤلاء النّسوة؟ قال: هذه صفتهنّ قد جئناك بها، وقرأها على زيد بن عدىّ، فشقّ ذلك على النعمان وقال لزيد وللرسول: أما فى مها السّواد وعين فارس ما تبلغون به حاجتكم؟ فقال الرسول لزيد: ما المها والعين؟ قال: البقر. فقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أنّ ذلك يشقّ عليك لما كتب إليك، فأنزلهما [يومين عنده «7» ] ثم كتب الى كسرى. إنّ الذى طلب الملك ليس عندى. ثم قال لزيد:
أعذرنى عنده. فلمّا رجعا الى كسرى قال لزيد: أين ما كنت أخبرتنى به؟ قال:
قد كنت أخبرتك بضنّتهم بنسائهم على غيرهم، وإنّ ذلك من شقائهم، فسل هذا الرسول عن مقالة النعمان فإنى أكره أن أواجه الملك بما قاله، فقال للرسول:
وما قال؟ قال إنه قال: أما فى بقر السواد [وفارس «8» ] ما يكفى الملك حتى يطلب
ما عندنا! فعرف الغضب فى وجه كسرى ثم قال: ربّ عبد قد قال هذا فصار أمره الى التّباب «1» ، فبلغ كلامه النعمان. وسكت كسرى على ذلك أشهرا، وهو «2» يستعدّ ويتوقّع حتى أتاه كتاب كسرى يستدعيه، فانطلق النعمان حتى أتى جبال طيّىء وهو متزوّج «3» منهم، فأرادهم أن يمنعوه فأبوا ذلك وقالوا: لولا صهرك لقتلناك، فإنه لا حاجة لنا فى معاداة كسرى، فأقبل يعرض نفسه على العرب فلا يقبلوه، حتى نزل بذى قار «4» ببنى شيبان سرّا فلقى هانئ بن قبيصة [بن هانئ «5» ] بن مسعود فأودعه سلاحه وتوجه إلى كسرى فلقى زيد بن عدىّ على قنطرة ساباط «6» ، فقال له: انج نعيم! فقال: أنت يا زيد فعلت هذا! أما والله لئن أفلت لأسقينّك بكأس أبيك! فقال له زيد: امض نعيم، فقد والله وضعت لك عنده أخيّة «7» لا يقطعها المهر الأرن «8» . قال: فلما بلغ كسرى أنه بالباب أمر به فقيّد وأبعده الى خانقين «9» ، فلم يزل بالسجن حتى مات بالطاعون.
قال ابن مسكويه فى كتاب تجارب الأمم: والناس يظنون أنه مات بساباط لبيت قاله الأعشى «1» . والصحيح ما قلناه.
وقال ابن عبدون: إنّ النعمان لمّا أقبل «2» الى المدائن «3» صفّ له كسرى ثمانية آلاف جارية عليهنّ المصبّغات وجعلهنّ صفّين، فلمّا صار النعمان بينهنّ قلن له: أما فينا للملك غنى عن بقر السّواد؟ وأنّ كسرى أمر بالنعمان فحبس بساباط المدائن، ثم أمر به فرمى بين أرجل الفيلة فوطئته حتى مات. وفى ذلك يقول سلامة بن جندل «4» وذكر [قتل «5» ] كسرى أبرويز [للنّعمان «6» ] فقال:
هو المدخل النّعمان بيتا سماؤه
…
نحور الفيول بعد بيت مسردق «7»
ثم ملك بعده إياس بن قبيصة وأتى الله تعالى بالإسلام. فهؤلاء ملوك العرب باليمن والشام والحيرة.
ذكر خبر سدّ «1» مأرب وسيل العرم
قد ذكر الله عز وجل ذلك فى كتابه العزيز فقال: (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ «2» آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ)
»
الآية. روى عن فروة «4» بن مسيك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لمّا أنزل فى سبأ ما أنزل قال رجل: يا رسول الله، وما سبأ؟ أرض أو امرأة؟ فقال:«ليس بأرض ولا امرأة، ولكنّه رجل ولد عشرة من العرب فتيامن منهم ستّة وتشاءم منهم أربعة، فأمّا الذين تشاءموا فلخم وجذام وغسّان وعاملة، وأمّا الذين تيامنوا فالأزد والأشعرون «5» وحمير وكندة ومذحج وأنمار» فقال رجل: يا رسول الله، وما أنمار؟ قال:«الذين منهم خثعم وبجيلة» .
أخرجه أبو داود فى سننه والترمذىّ فى جامعه.
وكانت أرض مأرب من بلاد اليمن متّصلة العمارة مسيرة ستّة أشهر، وقيل أزيد من شهرين للراكب المجدّ، وكانوا يقتبسون النار بعضهم من بعض مسيرة ستّة أشهر؛
فكانت المرأة إذا أرادت أن تجتنى من ثمارها [شيئا «1» ] وضعت المكتل «2» على رأسها وخرجت تمشى بين الأشجار وهى تغزل وتعمل ما شاءت، فلا ترجع إلّا وقد امتلأ مكتلها مما يتساقط فيه من الثمار.
واختلف فى مأرب، فقيل: إنه اسم ملك تلك الأرض فسمّيت به، قال الشاعر «3» :
من سبأ «4» الحاضرين مأرب إذ
…
يبنون من دون سيله العرما
وقيل: هو اسم لقصر الملك، وفيه يقول أبو الطّمحان:
ألم تروا مأربا ما كان أحصنه
…
وما حواليه من سور وبنيان
قال: وكان أوّل من خرج من اليمن بسبب سيل العرم عمرو بن عامر مزيقيا، وقد ذكرناه فى الأنساب «5» ، وإنّ سبب تسميته مزيقيا أنه كان يلبس فى كلّ يوم حلّة وقيل حلّتين، وهو الأشهر، ثم يمزّقهما عشيّة نهاره لئّلا يلبسهما غيره، فكان هذا دأبه فى كلّ يوم.
وكان سبب خروجه من اليمن واطّلاعه على خبر سيل العرم قبل حدوثه دون غيره من الناس أنه كان له امرأة كاهنة يقال لها: طريفة الخير، وكانت قد رأت فى منامها أنّ سحابة غشيت أرضهم فأرعدت وأبرقت ثم أصعقت فأحرقت كلّ ما وقعت عليه، ففزعت طريفة الخير لذلك فزعا شديدا وأتت إلى زوجها عمرو بن عامر وقالت: ما رأيت اليوم أزال عنى النوم. فقال لها: ما رأيت؟ قالت: رأيت غيما أرعد وأبرق طويلا ثم أصعق فما وقع على شىء إلّا احترق. قال: فلمّا رأى ما داخلها من الرّوع والفزع سكّنها.
ثم إنّ عمرا بعد ذلك دخل حديقة له ومعه جارية من بعض جواريه، فبلغ ذلك امرأته طريفة فخرجت إليه ومعها وصيف لها اسمه سنان «1» ، فلمّا برزت من بيتها عرض لها ثلاث مناجد منتصبات على أرجلها، واضعات أيديها على أعينها. قال:
والمناجد: دوابّ تشبه اليرابيع «2» . فلمّا نظرت طريفة إليها قعدت الى الأرض ووضعت يديها على عينيها وقالت لغلامها: إذا ذهبت هذه المناجد فأخبرنى، فلمّا ذهبت أعلمها فانطلقت مسرعة، فلمّا عارضها خليج الحديقة التى فيها عمرو وثبت سلحفاة من الماء فوقعت فى الطريق على ظهرها وجعلت تروم الانقلاب ولا تستطيع، وتستعفر بيديها وتحثو التراب على بطنها من جنباته وتقذف بالبول. فلمّا رأتها طريفة الخير جلست إلى الأرض. فلمّا عادت السّلحفاة إلى الماء مضت طريفة حتى دخلت الحديقة على عمرو حين انتصف النهار فى ساعة شديدة الحرّ فإذا الشجر يتكافأ من غير ريح، فلمّا رآها عمرو استحيى منها وأمر الجارية بالتنحّى
ثم قال لها: ما أتى بك يا طريفة؟ فكهنت وقالت: والنور والظلماء، والأرض والسماء، إنّ الشجر لهالك، وليعودنّ الماء كما كان فى الزمن السالك. قال لها عمرو:
ومن خبّرك بهذا؟ قالت: أخبرنى المناجيد بسنين شدائد، يقطع فيها الولد الوالد.
قال: فما تقولين؟ قالت: أقول قول النّدمان لهفا، لقد رأيت سلحفاة تجرف التراب جرفا، وتقذف بالبول قذفا، فدخلت الحديقة فإذا الشجر من غير ريح يتكافأ. قال عمرو: وما ترين فى ذلك؟ قالت: هى داهية دهياء من أمور جسيمة، ومصائب عظيمة. قال: وما هو ويلك؟ قالت: أجل، إنّ فيه الويل، ومالك فيه من نيل، وإنّ الويل فيما يجىء به السيل. فألقى عمرو نفسه على فراشه وقال:
ما هذا يا طريفة؟ قالت: هو خطب جليل، وخزى طويل، وخلف قليل، والقليل خير من تركه. قال: وما علامة ما تذكرين؟ قالت: اذهب الى السدّ فإن رأيت جرذا يكثر يديه فى السدّ الحفر، ويقلب برجليه مراجل الصّخر، فاعلم أن الغمر غمر «1» ، وإن [قد «2» ] وقع الأمر. قال: وما هذا الذى تذكرين؟ قالت: وعد من الله نزل، وباطل بطل، ونكال بنا نكل. قال: فانطلق عمرو الى السدّ فحرسه فإذا لجرذ يقلب برجليه صخرة ما يقلبها خمسون رجلا، فرجع إليها وهو يقول:
أبصرت أمرا عادنى منه ألم
…
وهاج لى من هوله برح السّقم
من جرذ كفحل خنزير الأجم
…
أو كبش صرم من أفاويق الغنم
يقلب صخرا من جلاميد العرم
…
له مخاليب وأنياب قضم
ما فاته صخر من الصخر قصم
فقالت طريفة: وإنّ من علامة ما ذكرت لك أن تجلس فتأمر بزجاجة بين يديك؛ فإنّ الريح تملأها بتراب البطحاء من سهل الوادى ورمله، وقد علمت أنّ الجنان مظلّلة ما يدخلها شمس ولا ريح. فأمر عمرو بزجاجة فوضعت بين يديه فلم تمكث إلّا قليلا حتى امتلأت من تراب البطحاء. فقال لها عمرو: متى يكون هلاك السدّ؟ فقالت: فيما بينك وبين سبع سنين. فقال: ففى أيّها يكون؟ فقالت:
لا يعلم ذلك إلّا الله، ولو علمه أحد لعلمته، ولا تأتى علىّ ليلة فيما بينى وبين السبع سنين إلّا ظنت أنّ هلاكنا فى غدها أو مسائها.
ثم رأى عمرو بعد ذلك فى منامه سيل العرم وقيل له: آية ذلك أن ترى الحصباء «1» قد ظهرت فى سعف النخل وكربه «2» ، فنظر إليها فوجد الحصباء قد ظهرت فيها فعلم أنّ ذلك واقع، وأنّ بلادهم ستخرب لا محالة؛ فكتم ذلك وأخفاه وأجمع على بيع كلّ شىء له بأرض مأرب ويخرج منها هو وولده، ثم خشى أن ينكر الناس حاله فصنع وليمة جمع الناس لها وقرّر مع أحد أولاده أنه يأمره بأمر فى ملأ القوم فيخالفه فإذا لطمه عمرو فيلطمه الآخر، ففعل ذلك. فلمّا لطمه ابنه- وكان اسمه مالكا- صاح عمرو: واذلّاه! يوم فخر عمرو يهينه صبىّ ويضرب وجهه! وحلف ليقتلّنه، فسأله القوم ألّا يفعل، فحلف ألّا يقيم بموضع صنع به فيه هذا، وليبيعنّ أمواله حتى لا يورث بعده. فقال الناس بعضهم لبعض: اغتنموا غضبة عمرو واشتروا منه قبل أن يرضى، فابتاع الناس منه جميع ما هو له بأرض مأرب، وفشا بعض حديثه فباع أناس من الأزد، فلما كثر البيع استنكر الناس ذلك فأمسكوا عن الشراء، فلمّا اجتمعت لعمرو أمواله أخبر الناس بشأن سيل العرم وخرج من اليمن، وخرج
لخروجه منها خلق كثير فنزلوا أرض عكّ حتى مات عمرو بن عامر وتفرّقوا بعده فى البلاد؛ فمنهم من صار الى الشام، وهم أولاد جفنة بن عمرو بن عامر، ومنهم من صار الى يثرب، وهم أبناء قبيلة الأوس والخزرج، وأبوهما حارثة بن ثعلبة بن عمرو ابن عامر، وصارت أزد الشّراة الى أرض الشّراة، وأزد عمان الى عمان، ومالك بن فهم الى العراق.
ثم خرجت بعد عمرو بيسير من أرض اليمن طيّىء فنزلت بجبلى طيّىء: أجا وسلمى، ونزل ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر تهامة، وسمّوا خزاعة لانخزاعهم [من أخواتهم «1» ]، وتمزّقوا فى البلاد كما أخبر الله تعالى عنهم فقال:(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)
ثم أرسل الله عز وجل السيل على السدّ فهدمه.
واختلف فى العرم ما هو؟ فقيل: السدّ واحدته عرمة، وقيل: هو الجرذ.
وكان السدّ فيما يذكر قد بناه لقمان الأكبر بن عاد، وكان صفّه لحجارة السدّ بالرّصاص فرسخا فى فرسخ. ويقال: إنّ الذى بناه كان من ملوك حمير. وقد ذكر ذلك ميمون.
ابن قيس الأعشى فقال:
وفى ذلك للمؤتسى أسوة
…
ومأرب عفّى عليها العرم
رخام بنته لهم حمير
…
إذا جاء موّاره لم يرم
فصاروا أيادى ما يقدرون
…
منه على شرب طفل فطم
فأروى الزروع وأعنابها
…
على سعة ماؤها إذ قسم