الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
منه، فكتب شهرياز الى هرقل ملك الروم: إنّ لى إليك حاجة لا تحملها البرد، ولا تبلّغها الصّحف، فألقنى ولا تأتينى إلّا فى خمسين روميّا، فإنّى أيضا ألقاك فى خمسين فارسيّا، فأقبل هرقل فى خمسمائة [ألف «1» ] رومىّ، وجعل يضع العيون بين يديه فى الطريق، وخاف أن يكون قد مكر به، فأتته عيونه أنه ليس مع شهرياز إلا خمسين رجلا.
قال: ثم التقيا وقد بسط لهما فى قبّة من الدّيباج ضربت لهما، فاجتمعا ومع كلّ واحد منهما سكّين، ودعوا ترجمانا يترجم لكلّ منهما عن قول الآخر؛ فقال شهرياز لهرقل: إنّ الذين خرّبوا مدينتك وبلغوا منك ومن جندك ما بلغوا أنا وأخى بشجاعتنا وكيدنا، وإنّ كسرى حسدنا وأراد قتل أخى وكتب إلىّ بقتله فأبيت، ثم أمر أخى أن يقتلنى وقد خلعناه جميعا ونحن نقاتله معك. قال: قد أصبتما ووفّقتما، ثم أشار أحدهما الى صاحبه: إنّ السرّ إنما يكون بين اثنين فإذا جاوز اثنين فشا، قال الآخر:
نعم، فقاما جميعا الى الترجمان بسكّينيهما فقتلاه، واتفقا على قتال كسرى أبرويز.
ومما اتفق فى أيامه من الحوادث يوم ذى قار، وسنذكره- إن شاء الله تعالى- فى أيام العرب ووقائعها، ولم نذكر فى هذا الموضع يوم ذى قار على سبيل الإيراد له بل على سبيل التنبيه عليه.
ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم
قال: كان أبرويز وجّه رجلا من جلّة «2» أصحابه فى جيش جرّار الى بلاد الروم، فنكأ «3» فيهم، وبلغ منهم، وفتح الشام، وبلغ الدرب فى آثار الروم، فعظم أمره حتى خافه
أبرويز، فكاتبه بكتابين، يأمره فى أحدهما أن يستخلف على جيشه من يثق به، ويقبل إليه، ويأمره فى الكتاب الآخر أن يقيم بمكانه، وأنه لمّا تدبّر أمره، وأجال الرأى لم ير من يسدّ مسدّه، ولم يأمن الخلل إن غاب عن موضعه، وأرسل بالكتابين رسولا من ثقاته وقال له: أعطه الكتاب الأوّل بالأمر بالقدوم، فإن أجاب الى ذلك فهو ما أردت، وإن كره وتثاقل عن الطاعة فاسكت عليه أياما وأعلمه أن الكتاب الثانى ورد عليك وأوصله اليه ليقيم بموضعه. فخرج رسول كسرى حتى أتى صاحب الجيش ببلاد الشام فأوصل اليه الكتاب، فلمّا قرأه قال: إمّا أن يكون كسرى قد تغيّر لى وكره موضعى، أو يكون قد اختلط عقله بصرف مثلى وأنا فى نحر العدوّ؛ فدعا أصحابه وقرأ عليهم الكتاب فأنكروه. فلما كان بعد ثلاثة أيام أوصل اليه الكتاب الثانى بالمقام وأوهمه أنّ رسولا ورد به. فلمّا قرأه قال: هذا تخليط ولم يقع منه موقعا، ودسّ الى ملك الروم من باطنه فى إيقاع الصلح بينهما على أن يخلى الطريق لملك الروم حتى يدخل الى بلاد العراق على غرّة من كسرى، وعلى أنّ لملك الروم ما يغلب عليه من دون العراق، وللفارسىّ ماوراء ذلك من بلاد فارس، فأجابه ملك الروم الى ذلك وتنحّى الفارسىّ عنه فى ناحية من الجزيرة، وأخذ أفواه الطريق، فلم يعلم كسرى حتى ورد خبر ملك الروم من ناحية قرقيسيا، «1» وكسرى على غير استعداد، وجنده متفرّقون فى أعماله. فلما أتاه الخبر وثب عن سريره وقال: هذا وقت حيلة ومكيدة، لا وقت شدّة، وجعل ينكث الأرض مليّا، ثم دعا برقّ فكتب فيه كتابا صغيرا بخطّ دقيق الى صاحبه بالجزيرة يقول فيه: قد علمت ما كنت أمرتك به من مواصلة صاحب الروم وأطماعهم فى نفسك، وتخلية الطريق حتى اذا تولج بلادنا أخذته من أمامه، وأخذته ومن ندبناه معك من خلفه فيكون فى ذلك
بواره، وقد تمّ فى هذا الوقت ما دبّرناه، وميعادك فى الإيقاع به يوم كذا وكذا، ثم دعا راهبا فى دير بجوار مدينته وقال له: أىّ جار كنت لك، قال: أفضل جار، فقال: قد بدت لنا اليك حاجة، فقال الراهب: الملك أجلّ من أن يكون له إلىّ حاجة، ولكن عندى بذل نفسى، فما الذى يأمر به الملك؟ قال كسرى: تحمل لى كتابا الى فلان صاحبى، قال نعم، قال كسرى: ستمرّ بأصحابك النصارى فأخفه، فلما ولّى عنه الراهب قال له كسرى: أعلمت ما فى الكتاب؟ قال لا، قال:
فلا تحمله حتى تعلم ما فيه. فلما قرأه أدخله فى جيبه ثم مضى. فلما صار فى عسكر الروم ونظر إلى الصّلبان والقسّيسين وضجيجهم بالتقديس والصلوات احترق قلب الراهب وأشفق عليهم وقال فى نفسه: أنا شرّ الناس إن حملت بيدى حتف النصرانية، وهلاك هؤلاء الخلق؛ فصاح الراهب: أنا لم يحملنى الملك كسرى رسالة ولا معى كتاب، فأخذوه فوجدوا الكتاب معه، وقد كان كسرى أيضا وجّه رسولا قبل ذلك وأمره أن يمرّ بعسكر الروم كأنه رسول الى كسرى من صاحبه الذى وافق ملك الروم ومعه كتاب فيه: إنّ الملك كان قد أمرنى بمقاربة ملك الروم، وأن أخدعه وأخلى له الطريق، فيأخذه الملك من أمامه وآخذه أنا من خلفه، وقد فعلت ذلك، فرأى الملك فى إعلامى وقت خروجه اليه. فأخذ ملك الروم الرسول وقرأ الكتاب وقال: قد عجبت من أن يكون هذا الفارسىّ معى على كسرى، ووافاه كسرى أبرويز فيمن أمكنه من جنده، فوجد ملك الروم قد ولّى هاربا فاتبعه يقتل ويأسر من أدرك، وبلغ صاحب كسرى هزيمة الروم فأحبّ أن يخلى نفسه ويستر ذنبه. فلمّا فاته ما دبّر خرج خلف ملك الروم يقتل فيهم ويأسر، فلم يسلم منهم إلّا القليل.