الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنت قتلته؟ قال لا، ولكن قتله أبو حنش، إنما أدفع الثواب الى قاتله، فهرب أبو حنش منه، فقال سلمة فى ذلك:
ألا أبلغ أبا حنش رسولا
…
فمالك لا تجىء الى الثّواب
تعلّم أنّ خير الناس طرّا
…
قتيل بين أحجار الكلاب
يوم الصّفقة وهو يوم الكلاب الثانى
قال أبو عبيدة: كان يوم الكلاب متّصلا بيوم الصّفقة «1» . وكان من حديث الصفقة أنّ كسرى كان قد أوقع ببنى تميم، فأخذ الأموال وسبى الذرارىّ بمدينة هجر «2» ، وذلك أنهم أغاروا على لطيمة له فيها مسك وعنبر وجوهر كثير، فسمّيت تلك الوقعة يوم الصّفقة، ثم إنّ بنى تميم أداروا أمرهم، وقال ذو الحجى منهم:
إنكم قد أغضبتم الملك، وقد أوقع بكم حتى وهنتم، وتسامعت بما لقيتم القبائل، ولا تأمنون دوران العرب.
فجمعوا سبعة من رؤسائهم وشاوروهم فى أمرهم، وهم: أكثم بن صيفىّ الأسدىّ، والأحيمر بن يزيد بن مرّة المازنىّ، وقيس بن عاصم المنقرىّ، وأبير بن عصمة التيمىّ، والنعمان بن جسّاس التيمىّ، وأبين بن عمرو السعدىّ، والزبرقان بن بدر السعدىّ فقالوا لهم: ماذا ترون؟ فقال أكثم بن صيفىّ، وكان يكنى أبا حنش:
إنّ الناس قد بلغهم ما لقينا، ونخاف أن يطمعوا فينا وإنى قد نيّفت على التسعين، وقد نحل قلبى كما نحل جسمى، وأخاف ألّا يدرك ذهنى الرأى لكم، فليعرض علىّ
كلّ رجل منكم رأيه وما يحضره فإنى متى أسمع الحزم أعرفه، فقال كلّ منهم ما عنده، وأكثم [ساكت] لا يتكلّم، حتى قام النعمان بن الجسّاس فقال: يا قوم، أنظروا ماء يجمعكم ولا يعلم الناس بأىّ ماء أنتم حتى تنفرج الحلقة عنكم، وقد صلحت أحوالكم، وانجبر كسيركم، وقوى ضعيفكم، ولا أعلم ماء يجمعكم إلّا قدّة، فقال أكثم: هذا [هو «1» ] الرأى، فارتحلوا حتى نزلوا الكلاب، وبين أدناه وأقصاه مسيرة يوم، وأعلاه مما يلى اليمن، وأسفله مما يلى العراق. فنزلت سعد والرّباب بأعلى الوادى، ونزلت حنظلة بأسفله.
قال: وكانوا لا يخافون أن يغزوا فى القيظ، لبعد تلك الصحارى وشدّة الحرّ بها وقلة المياه، فأقاموا بقيّة القيظ لا يعلم أحد بمكانهم، حتى اذا تهوّر «2» القيظ بعث الله ذا العيينتين، وهو من أهل مدينة هجر، فمرّ بقدّة وصحاريها، فرأى ما بها من النّعم، فانطلق حتى أتى أهل هجر فقال: هل لكم فى جارية عذراء، ومهرة شوهاء «3» ، وبكرة حمراء، ليس دونها نكبة؟ قالوا: ومن لنا بذلك؟ قال: تلكم تميم ألقاء «4» مطروحون بقدّة. فمشى بعضهم الى بعض وقالوا: اغتنموها من بنى تميم.
فأخرجوا معهم أربعة أملاك يقال لهم اليزيديون: يزيد بن هوبر، ويزيد بن عبد المدان، ويزيد بن المأموم، ويزيد بن المخرّم، وهم كلّهم حارثيّون ومعهم عبد يغوث الحارثىّ، وم كان كلّ واحد منهم على ألفين، فمضوا حتى إذا كانوا ببلاد باهلة قال جرير بن جزء الباهلىّ لابنه: يا بنىّ، هل لك فى أكرومة لا يصاب أبدا مثلها؟ قال: وما ذلك؟ قال: هذا الحىّ من تميم قد لجأوا هاهنا مخافة كسرى، وقد قصصت أثر الجيش يريدونهم، فاركب جملى الأرحبىّ، وسرسيرا رويدا
عقبة «1» من الليل، ثم حلّ عنه حبليه وأنخه وتوسّد ذراعه، فإذا سمعته قد أفاض بجرّته وبال فاستنقعت ثفناته فى بوله، فشدّ حبليه ثم ضع السّوط عليه، فإنك لا تسأل جملك شيئا من السير إلا أعطاكه حتى تصبّح القوم. ففعل ما أمره به.
قال الباهلّى: فحللت بالكلاب قبل الجيش فناديت: يا صباحاه! فإنهم ليثبون إلىّ ليسألونى من أنت؟ إذ أقبل رجل منهم من بنى شقيق على مهر قد كان فى النّعم فنادى: يا صباحاه، قد أتى على النّعم، ثم كرّ راجعا نحو الجيش، فلقيه عبد يغوث الحارثىّ وهو أوّل الرعيل، فطعنه فى رأس معدته فسبق اللّبن الدم، فقال عبد يغوث: أطيعونى وامضوا بالنّعم وخلّوا العجائز من تميم ساقطة أفواهها، فقالو: أما دون أن تنكح بناتهم فلا.
وقال ضمرة بن لبيد الحماسىّ ثم المذحجىّ الكاهن: أنظروا اذا سقتم النّعم فإن أتتكم الخيل عصبا [عصبا] تنتظر العصبة أن تنتظم الأخرى حتى تلتحق بها فإن أمر القوم هيّن، وإن لحق بكم القوم ولم ينتظر بعضهم بعضا حتى يردّوا وجوه النّعم فإن أمرهم شديد.
وتقدّمت سعد والرّباب فى أوائل الخيل والتقوا بالقوم فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النّعم ولم ينتظر بعضهم بعضا. ورئيس الرباب النعمان بن الجسّاس، ورئيس بنى سعد قيس بن عاصم، فالتقى القوم، فكان النعمان أوّل صريع، واقتتل الفريقان حتى حجز بينهم الليل، ثم أصبحوا على راياتهم، فنادى قيس بن عاصم:
يا آل سعد! يريد سعد بن زيد، ونادى عبد يغوث: يا آل سعد! يريد سعد العشيرة، فلما سمع قيس ذلك نادى: يا آل كعب! يريد كعب بن سعد، ونادى عبد يغوث: يا آل كعب! يريد كعب بن عمرو، فلما رأى ذلك نادى:
يا آل مقاعس! فلما سمع وعلة ابن عبد الله الجرمىّ- وكان صاحب لواء أهل اليمن- نادى: يا آل مقاعس، تفاءل به فطرح له اللواء، وكان أوّل من انهزم، فحملت عليهم سعد والرباب فهزموهم، ونادى قيس بن عاصم: يا آل تميم، لا تقتلوا إلّا فارسا فإنّ الرجّالة لكم، ثم جعل يرتجز ويقول:
لمّا تولّوا عصبا شوازبا «1»
…
أقسمت لا أطعن إلّا راكبا
إنّى وجدت الطّعن فيهم صائبا
وأمر قيس بن عاصم أن يتبعوا المنهزمة، ويعرقبوا من لحقوه، ولا يشتغلوا بالقتل عن اتباعهم، فحزّوا دوابرهم، وفى ذلك يقول وعلة:
فدى لكم أهلى وأمى ووالدى
…
غداة كلاب إذ تحزّ الدوابر
وأسر عبد يغوت، أسره مصاد بن ربيعة بن الحارث وكتّفه وأردفه خلفه، وكان مصاد قد أصابته طعنة فى مأبضه، وكان عرقه يهمى «2» ، فنزفه الدم، فمال عن فرسه مقلوبا. فلما رأى ذلك عبد يغوث قطع كتافه وأجهز عليه وانطلق على فرسه، وذلك أوّل النهار، ثم ظفر به بعد فى آخره، ونادى مناد: قتل اليزيدون، وشدّ قبيصة بن ضرار الضّبّىّ على ضمرة بن لبيد الحماسىّ الكاهن فطعنه فخرّ صريعا، فقال له قبيصة: ألا أنبأك تابعك بمصرعك اليوم، ثم أسر عبد يغوث، أسره عصمة بن أبير التيمىّ.
قال أبو عبيدة: انتهى عصمة بن أبير إلى مصاد فوجده صريعا، وكان قبل ذلك رأى عبد يغوث أسيرا فى يديه، فعلم أنه الذى أجهز عليه فآقتصّ أثره فلحقه وقال: ويحك! إنى رجل أحبّ اللين، وأنا خير لك من الفلاة والعطش. قال:
ومن أنت؟ قال: عصمة بن أبير، فآنطلق به عصمة حتى جثاه عند الأهتم على
أن جعل له من فدائه جعلا، فتركه الأهتم عند امرأته العبشميّة، فأعجبها جماله وكمال خلقته، وكان عصمة الذى أسره غلاما نحيفا، فقالت له: من أنت؟ قال:
أنا سيّد القوم، فضحكت وقالت: قبّحك الله سيّد قوم حين أسرك مثل هذا، ففى ذلك يقول عبد يغوث:
وتضحك منّى شيخة عبشمية
…
كأن لم ترى «1» قبلى أسيرا يمانيا
فآجتمعت الرّباب الى الأهتم وقالت: ثأرنا عندك، وقد قتل مصاد والنعمان فأخرجه إلينا، فأبى الأهتم أن يخرجه إليهم، فكاد أن يكون بين الحيّين: الرّباب وسعد، فتنة حتى أقبل قيس بن عاص المنقرىّ فقال: أيؤتى قطع حلف الرّباب من قبلنا؟ فضرب فاه بقوس فهتّمه، فسمّى الأهتم، فقال الأهتم: إنما دفعه إلى عصمة ابن أبير، ولا أدفعه إلّا لمن دفعه إلىّ، فليجئ فيأخذه، فأتوا عصمة فقالوا:
يا عصمة، قتل سيّدنا النعمان وفارسنا مصاد، وثأرنا أسيرك، فما كان ينبغى لك أن تستحييه! فقال: إنى ممعل وقد أصبت الغنى، ولا تطيب نفسى على أسيرى، فاشتراه بنو جسّاس بمائة بعير، فدفعه إليهم، فخشوا أن يهجوهم، فشدّوا على لسانه نسعة، فقال: إنكم قاتلى لا محالة، فدعونى أذمّ أصحابى وأنوح على نفسى! فقالوا: إنك شاعر ونخاف أن تهجونا، فعقد لهم ألّا يفعل، فأطلقوا لسانه، فقال قصيدته التى أوّلها:
ألا لا تلومانى كفى اللّوم ما بيا
…
فما لكما فى اللّوم خير ولا ليا
ومنها:
أقول وقد شدّوا لسانى بنسعة «1»
…
أمعشر تيم أطلقوا لى لسانيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسجحوا «2»
…
فإنّ أسارى لم يكن من توانيا «3»
وقد علمت عرسى مليكة أننى
…
أنا اللّيث معديّا عليه وعاديا
ومنها:
كأنّى لم أركب جوادا ولم أقل
…
لخيلى كرّى «4» قاتلى عن رجاليا
ولم أسبإ «5» الزّقّ الرّوىّ ولم أقل
…
لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا
قال: فلما ضربت عنقه قالت ابنة مصاد: بؤ «6» بمصاد! فقال بنو النعمان:
يا لكاع! نحن نشتريه بأموالنا ونبؤ بمصاد، فوقع بينهم فى ذلك الشرّ، ثم اصطلحوا.