الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بكمامة الزهر وصدفة «1» الدرّ، قال: واختلف فى مدّته فذكر الخوارزمىّ فى تاريخه أنه [كان «2» ] قبل الهجرة بتسعمائة سنة، وثلاث وثلاثين سنة. وذكر أبو محمد ابن قتيبة فى كتاب المعارف: أن بينه وبين الهجرة أربعمائة «3» سنة. والله أعلم بالصواب.
ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين
فأما خبره مع ملك الهند قال عبد الملك بن عبدون: إن الإسكندر لمّا دوّخ البلاد وقهر الملوك سار نحو الهند وقتل ملكها الأعظم فورا صاحب مدينة المانكير «4» .
فلما دانت له ملوك الهند بلغه أنّ بأقاصى ديارها ملكا من ملوكها ذا حكمة وسياسة وإنصاف لرعيّته، وأنه ليس فى بلاد الهند من فلاسفتهم وحكمائهم مثله يقال له
كندكان، وأنه قاهر لنفسه مانع [لها «1» ] من الشهوة الغضبية، فكتب إليه الإسكندر كتابا يقول فيه: أما بعد، فإذا أتاك كتابى هذا فإن كنت قائما فلا تقعد، وإن كنت ماشيا فلا تلتفت حتى تدخل فى طاعتى، وإلّا مزّقت ملكك وألحقتك بمن مضى من ملوك الهند من قبلك.
فلمّا ورد عليه الكتاب أجاب بأحسن جواب، وخاطبه بملك الملوك، وأعلمه أنه قد اجتمع عنده أشياء لم تجتمع عند غيره مثلها: فمن ذلك ابنة له لم تطلع الشمس على أحسن منها؛ وفيلسوف يخبرك بمرادك قبل أن تسأله لحدّة مزاجه وحسن قريحته، واعتداله فى بنيته، واتساعه فى علمه؛ وطبيب لا يخشى عليه معه داء ولا شىء من العوارض إلا ما يطرأ من الفناء والدثور الواقع بهذه البنية، وحلّ العقدة التى عقدها المبدع لها المخترع لهذا الجسم الحسّىّ، وإذا كانت بنية الإنسان وهيكله قد نصبا فى هذا العالم غرضا للآفات والحتوف والبلايا؛ وقدح اذا ملاته شرب منه عسكرك بجمعه ولا ينقص منه شىء، وإنّى منفذ جميع ذلك الى الملك وصائر اليه.
فلمّا قرأ الإسكندر كتابه قال: كون هذه الأشياء عندى ونجاة هذا الحكيم من صولتى أحبّ الىّ من ألا تكون عندى ويهلك. فأنفذ اليه الإسكندر جماعة من الحكماء اليونانيين والروم فى عدّة من الرجال وتقدّم اليهم أنه إن كان قد صدق فيما كتب به إلىّ فاحملوا ذلك الى عندى واتركوه فى موضعه، وإن تبيّنتم الأمر على خلاف ذلك، وأنه أخبر عن الشىء على خلاف ما هو به فقد خرج عن حدّ الحكمة فأشخصوه الىّ. فلمّا انتهوا الى مملكة الملك خرج اليهم وتلقّاهم بأحسن لفاء، وأنزلهم بأحسن منزل. فلما كان فى اليوم الثالث جلس لهم مجلسا خاصّا للحكماء دون من كان معهم من المقاتلة. فقال بعضهم لبعض: إن صدقنا فى الأوّل صدقنا فيما بعد ذلك مما ذكر.
فلمّا أخذت الحكماء مراتبها واستقرّت بها مجالسها أقبل عليهم مباحثا فى أصول العلوم الفلسفية وفروعها، وعلى كم فنّ يحتوى العلم الفلسفىّ فى أصوله، والى كم يتفرّع.
قال عبد الملك بن عبد الله بن عبدون- رحمه الله: وقد ذكر أن العلم الفلسفىّ ينقسم على أربعة أنواع: أحدها الرياضيّات، والثانى المنطقيّات، والثالث الطبيعيّات، والرابع الإلهيّات. قال:
فأما الرياضيّات فأربعة أنواع: الواحد علم الحساب، والثانى علم الهندسة، والأصل فيه النقطة، وهى فيه كالواحد فى علم الحساب، والثالث علم النجوم، والرابع علم الموسيقى. وهو علم تأليف الألحان.
وأما العلوم المنطقيّات فخمسة أنواع: الواحد معرفة صناعة الشعر، وأنواع البديع كالتكافؤ والتفريع والحشو والتتبيع والتسميط والترصيع والالتفاتة والإشارة والمقابلة والاستعارة والتبليغ والتلويح والتصدير والتوشيح والتجنيس والتضادّ والترديد والاستطراد والتقسيم والتسهيم والإحالة والتتميم. والثانى معرفة صناعة الخطابة. والثالث صناعة الجدل. والرابع صناعة البرهان. والخامس صناعة المغالطين فى المناظرة ولجدل.
وأما العلوم الطبيعيّات فسبعة أنواع: الواحد علم المبادى الجسمانيّة، وهى خمسة أشياء: الهيولى والصورة والزمان والمكان والحركة. والثانى علم السماء والأرض، وهو معرفة ماهية جواهر الأفلاك والكواكب وكيفيتها وكيفية تركيبها وعلّة دورانها، وهل تقبل الكون والفساد كما تقبل الأركان الأربعة التى دون فلك القمر أولا، وما علّة حركات الكواكب واختلافها فى السرعة والإبطاء، وما علّة سكون الأرض فى وسط الفلك فى المركز، وهل خارج العالم جسم آخر أم لا. وهل
فى الكون والفساد موضع فارغ لا شىء فيه، وما شاكل هذه المباحث. والثالث علم الكون والفساد وهو علم معرفة جواهر الأركان [الأربعة «1» ] التى هى النار والهواء والماء والأرض. والرابع علم حدوث الجواهر بتغيّرات الهواء وتأثيرات الكواكب بحركاتها ومطارح شعاعاتها على الأركان الأربعة وانفعالاتها بعضها ببعض بقدرة الله تعالى. والخامس علم المعادن التى تنعقد من البخارات المختنقة فى بطن الأرض والعصارات المتحلّلة من الهواء. والسادس علم النبات على اختلاف أنواعه فى هيآته وأشكاله واختلاف صموغه وطعومه وخواصّه وروائحه ومنافعه ومضارّه. السابع علم الحيوان، وهو معرفة كلّ جسم يغتذى ويحسّ ويعيش ويتحرّك على اختلاف أنواعه، وما شاكل ذلك مما ينسب الى علم الطبيعيّات كعلم الطبّ والبيطرة وسياسة الدوابّ والسباع والطيور والحرث والنسل وعلم الصنائع أجمع داخل فى علم الطبيعيات.
وأما العلوم الإلهيّات فخمسة أنواع؛ أوّلها: معرفة البارى سبحانه وتعالى بجميع صفاته، وأنه أوّل كلّ شىء وآخر كلّ شىء، والخالق لكلّ شىء، والعالم بكلّ شىء، وأنه ليس كمثله شىء. والثانى علم الروحانيّات من الجواهر البسيطة العقليّة، وهى الصورة المجرّدة من الهيولى المستعملة للأجسام المطهّرة، ومعرفة ارتباط أبعضها ببعض، وقبض بعضها عن بعض، وهى أفلاك روحانيّة تحيط بأفلاك جسمانيّة. والثالث علم النفوس والأرواح السارية فى الأجسام الفلكيّة والطبيعيّة من لدن الفلك المحيط الى منتهى مركز الأرض. والرابع علم السياسة وهى خمسة انواع؛ أولها: السياسة النبويّة، والسياسة الملوكيّة، والسياسة العامّيّة والسياسة الخاصّيّة والسياسة الذاتيّة. فأما السياسة النبويّة فالله تبارك وتعالى يختصّ بها من يشاء من
عباده ويهدى لاتباعهم من يشاء لا معقّب لحكمه، لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون.
وأما السياسة الملوكية فهى حفظ الشريعة على الأمة وإحياء السنّة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. وأما السياسة العامّيّة فهى الرياسات على الجماعات كرياسة الأمراء على البلدان وقادة الجيوش وترتيب أحوالهم على ما يجب وينبغى من الأمور وإتقان التدبير. وأما السياسة الخاصّيّة فهى معرفة كلّ إنسان بنفسه، وتدبيره أمر غلمانه وأولاده، ومن يليهم من أتباعه وقضاء حقوق الإخوان. وأما السياسة الذاتية فهى أن يتفقّد الإنسان أفعاله وأحواله وأخلاقه وشهوته فيزمّها بزمام عقله، وغضبه فيردعه وما شاكل ذلك. والخامس من العلوم الإلهيات علم المعاد وكيفية انبعاث الأرواح وقيام الأجساد وحشرها للحساب يوم الدين، ومعرفة حقيقة جزاء المحسنين وعقاب المسيئين.
*** نرجع إلى خبر الملك الهندىّ مع أصحاب الإسكندر، قال: ولمّا تكلّم مع الحكماء اليونانيين فى العلوم الفلسفية وطال الخطب فى مناظرتهم أخرج الجارية اليهم، فلمّا ظهرت لأبصارهم لم يقع طرف كلّ واحد منهم على عضو من أعضائها فتعدّى ببصره إلى غير ذلك العضو اشتغالا بحسنه عمّا سواه حتى خاف القوم على عقولهم، ثم رجعوا إلى أنفسهم وقهروا سلطان هواهم، ثم أراهم بعد ذلك ما تقدّم الوعد به وصرفهم، وبعث بالفيلسوف والطبيب والجارية والقدح [معهم «1» ] .
فلمّا وردوا على الإسكندر أمر بإنزال الفيلسوف والطبيب، ونظر إلى الجارية فحار عند مشاهدتها، فأمر قيّمة الجوارى بالقيام عليها، ثم صرف همّته إلى الفيلسوف والطبيب وإلى علم ما عندهما، وقصّ عليه الحكماء ما جرى لهم مع الملك الهندىّ من
المباحث فى العلوم الفلسفيّة، فأعجبه ذلك وتأمّل أغراض القوم ومقاصدهم، وأقبل ينظر فى مطاردة الهند يعلّلها فى معلولاتها، وما يصفه اليونانيون أيضا من عللها فى معلولاتها على حسب ما قدّمت من أوضاعها، ثم أراد محنة الفيلسوف على حسب ما خبّر عنه، فأجال فكره فيما يختبره به، فدعا بقدح فملاه سمنا ولم يجعل للزيادة عليه موضعا، ودفعه لرسول وقال: احمل هذا إلى الفيلسوف ولا تكلّمه بشىء، فلمّا دفعه اليه دعا الفيلسوف بألف إبرة فغرزها فى السمن وصرفه اليه، فأمر الإسكندر بضرب تلك الإبر كرة متساوية الأجزاء وردّها اليه، فأمر الفيلسوف ببسطها وجلائها حتى صارت جسما تردّ صورة مقابليها لصفائها وردّها إلى الإسكندر، فدعا بطست وجعل تلك المرآة فيه وصبّ عليها الماء حتى غمرها وردّها اليه، فأخذها الفيلسوف وعمل منها طرجهارة «1» طافية على الماء وصرفها اليه، فملأها الإسكندر ترابا وردّها اليه، فلمّا نظر الفيلسوف إلى التراب تغيّر لونه وبكى ثم ردّها إلى الإسكندر ولم يضع فيها شيئا.
فلمّا كان فى اليوم الثانى جلس الإسكندر جلوسا خاصّا ودعا بالفيلسوف، ولم يكن رآه قبل ذلك اليوم، فلمّا أقبل نظر الإسكندر [من الفيلسوف «2» ] إلى رجل طويل الجسم رحب الجبين معتدل البنية فقال فى نفسه: هذه بنية تضادّ الحكمة، فإذا اجتمع له حسن الصورة والفهم كان أوحد زمانه، فأدار الفيلسوف إصبعه حول وجهه ثم وضعه على أرنبة أنفه وأسرع نحو الإسكندر وحيّاه بتحية الملك، فأشار اليه بالجلوس وقال: لم أدرت إصبعك حول وجهك ووضعتها على أرنبة
أنفك؟ قال: علمت أنك تقول فى نفسك، إذا نظرت إلى حسن صورتى وإتقان بنيتى قلّما تجتمع هذه الخلقة مع الحكمة، وإذا كان على هذا كان صاحبها أوحد زمانه، فأريتك مصداقا لما سنح لك أنه كما ليس لك فى الوجه إلا أنف واحد فكذلك ليس فى ديار الهند على هذه الصفة أحد غيرى.
فقال الإسكندر: حسن ما أتيت به! فما بالك حين بعثت اليك بالقدح السمن غرزت فيه الإبر وردّدته؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إنّ قلبى قد امتلأ علما فليس لأحد فيه مستزاد، فأعلمتك أنّ علمى سيزيد فيه كما زادت هذه الإبر فى هذا السمن. قال: فما بالك حين عملت لك الإبر كرة صنعت منها مرآة صقيلة وصرفتها إلىّ؟ قال الفيلسوف: علمت أنك تقول إن قلبى قد قسا من سفك الدماء واشتغل بهذا العالم فلا يقبل العلم ولا يرغب فيه، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فى ذلك، كما جعلت من الكرة مرآة مورية للأجسام. قال: فما بالك حين جعلتها لك فى الطست وصببت عليها الماء جعلتها طرجهارة طافية على الماء؟ قال الفيلسوف:
علمت أنك تقول إنّ الأيام قد قصرت والأجل قريب، ولا يدرك العلم الكثير فى المهل القليل، فأخبرتك أنى سأعمل الحيلة فيه فى غير مدّة طويلة، كما جعلت هذه المرآة الراسبة طافية فى أسرع وقت. قال: فما بالك حين ملأت ذلك الإناء ترابا ردّدته إلىّ ولم تحدث فيه شيئا؟. قال: علمت أنك تقول: ثم الموت، وأنه لا بدّ منه، فأخبرتك أن لا حيلة فى ذلك. قال الإسكندر: قد أجبتنى على مرادى فى جميع ذلك ولأحسننّ إلى الهند من أجلك، وأمر له بجوائز كثيرة. فقال له الفيلسوف: لو أحببت المال لما كنت عالما، ولست أدخل على علمى ما يضادّه، فإن القنية توجب الخدمة، وقد ملكت أيها الملك الرحيم بسيفك أجسام رعيّتك فأملك قلوبهم بإحسانك فهو خزانة سلطانك، واحذر العامّة فإنها إذا قدرت
أن تقول قدرت أن تفعل فاحترز من أن تقول تأمن أن تفعل، فالملك السعيد من ملك الرعيّة بالرغبة والرهبة، وأشبه الأشياء من أفعال الناس بأفعال بارئهم الإحسان، فخيّره الإسكندر فى المقام معه، أو الانصراف إلى بلاده، فاختار الرجوع إلى موضعه.
وأمّا القدح فملأه ماء ثم أورد عليه الناس فلم ينقص شربهم منه شيئا، فيقال إنه كان معمولا من خواصّ الهند الروحانيّة مما تدّعيه الهند، ويقال إنه كان لآدم أبى البشر عليه السلام، مبارك له فيه حين كان بأرض سرنديب، فورث عنه إلى أن انتهى إلى هذا الملك الهندىّ.
وأما الطبيب فإنه كان له معه منظرات دلّت على ثبوت قدمه فى علمه، وأنه كما وصف صاحبه أوكاد. هذا خبره مع ملك الهند.
وأما خبره مع ملك الصين؛ قال ابو على أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم: وفى الرواية الصحيحة أن الإسكندر لمّا انتهى إلى بلاد الصين أتاه حاجبه وقد مضى من الليل شطره فقال: هذا رسول ملك الصين بالباب يستأذن فى الدخول عليك، قال: أدخله، فأدخله فوقف بين يدى الإسكندر وسلّم ثم قال: إن رأى الملك أن يستخلينى فعل، فأمر الإسكندر من بحضرته أن ينصرفوا، فانصرفوا كلّهم عنه وبقى حاجبه فقال: إنّ الذى جئت له لا يحتمل أن يسمعه غيرك، فأمر الإسكندر أن يفتّش ففتّش، فلم يجد معه سلاحا، فوضع بين يديه سيفا مسلولا وقال له: قف مكانك وقل ما شئت، وأخرج الحاجب ومن كان قد بقى عنده، فلمّا خلا المجلس قال له: أنا ملك الصين لا رسوله، جئت لأسألك عما تريد، فإن كان ممّا يمكن عمله ولو على أصعب الوجوه عملته
وأغنيتك عن الحرب، فقال له الإسكندر: وما الذى آمنك منّى؟ قال: علمى بأنك عاقل حكيم، ولم تك بيننا عداوة ولا مطالبة بذحل «1» ، وأنك تعلم أنك إن قتلتنى لم يكن ذلك سببا لتسليم أهل الصين إليك ملكهم، ولم يمنعهم قتلى من أن ينصبوا لأنفسهم ملكا غيرى ثم تنسب [أنت «2» ] إلى غير الجميل وضدّ الحزم. فأطرق الإسكندر وعلم أنه رجل عاقل، ثم قال له: إن الذى أريد منك ارتفاع «3» مملكتك لثلاث سنين عاجلا ونصف ارتفاع مملكتك لكلّ سنة. قال: هل غير هذا؟
قال لا، قال: قد أجبتك، ولكن سلنى كيف تكون حالك، قال: كيف تكون؟
قال: أكون أوّل قتيل محارب، وأوّل أكيلة مفترس. قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين. قال: أكون أصلح قليلا وأفسح مدّة، قال: فإن قنعت بارتفاع سنة. قال: يكون فى ذلك بقاء ملكى، وذهاب لجميع لذّتى. قال: فإن قنعت منك بثلث الارتفاع كيف تكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء ومصالح العباد، ويكون الباقى لجيشى «4» ولسائر أسباب الملك. قال الإسكندر: قد اقتصرت منك على هذا، فشكره وانصرف.
فلمّا طلعت الشمس أقبل جيش الصين وقد طبّق الأرض وأحاط بجيش الإسكندر حتى خافوا الهلاك، وتواثب أصحابه فركبوا الخيل واستعدّوا للحرب بعد