الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر» أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام
قال: ولمّا قسم قبطيم الأرض بين بنيه الأربعة كما تقدّم وانتقل كل واحد منهم إلى حيّزه، خرج صا بأهله وولده وحشمه إلى حيّزه، وهو بلد البحيرة وما يليها إلى برقة، ونزل مدينة صا، وذلك قبل أن تبنى الإسكندرية. وكان صا أصغر ولد أبيه وأحبّهم إليه، فلمّا ملك حيّزه أمر بالنظر فى العمارة، وبنى المدائن والبلدان والهياكل، وعمل فى إظهار العجائب كما صنع إخوته، وطلب الزيادة فى ذلك. وكان مرهون «2» الهندى «3» صاحب بنائه «4» ، فبنى له من حدّ صا إلى حدّ لوبية ومراقية على عبر البحر أعلاما، وجعل على رءوس تلك الأعلام مرايا من أخلاط شتّى: فكان منها ما يمنع من دوابّ البحر وأذاهم، ومنها ما إذا قصدهم عدوّ من الجزائر الداخلة وأصابها الشمس ألقت شعاعها على مراكبهم فأحرقتها، ومنها ما يرى المدائن التى تجاورهم من عدوة البحر وما يعمله أهلها، ومنها ما ينظر منها إلى إقليم مصر فيعلم ما يخصب وما يجدب منه فى كل سنة. وجعل فيها حمامات توقد من نفسها ومستشرفات. وكان كل يوم فى موضع منها بمن يخصّه من حشمه وخدمه، وجعل حولها بساتين وسرّح فيها الطيور المغرّدة والوحش المستوحش والمستأنس والأنهار المطردة والرياض المونقة،
وجعل شرف القصر من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس فتنشر شعاعها على ما حولها؛ ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله. فكانت العمارة ممتدّة إلى برقة فى رمال من رشيد إلى الإسكندرية إلى برقة. وكان الرجل يسافر فى أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات، ولا يسير إلا فى ظلال تستره من الشمس. وعمل فى تلك الصحارى قصورا وغرس فيها غروسا، وساق إليها من النيل أنهارا. وكان يسلك من الجانب الغربىّ إلى حدّ الغرب فى عمارة متصلة.
قال: فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم فى تلك الصحارى وخربت تلك المنازل وباد أهلها. قال: ولا يزال من دخل تلك الصحارى يحكى ما رأى فيها من الآثار والعجائب.
قال: ومن ملوكهم مرقونس؛ وكان [فاضلا «1» ] حكيما، محبّا للنجوم والحكمة، فعمل فى أيامه درهم إذا ابتاع به صاحبه شيئا اشترط أن يزن له ما يبتاعه منه بوزن الدرهم ولا يطلب عليه زيادة، فيغترّ البائع بذلك ويقبل الشرط، فإذا تمّ ذلك بينهما وقع فى وزن الدرهم أرطال كثيرة تساوى عشرة أضعافه، وإن أحبّ أن يدخل فى وزنه أضعاف تلك الأرطال دخل. قال: وقد وجد هذا الدرهم فى كنوزهم فى أيام بنى أميّة، فكان الناس يتعجّبون منه. وقد كانوا وجدوا درهما آخر قيل إنه عمل فى وقته أيضا يكون فى ميزان الرجل، فإذا أراد أن يبتاع حاجة أخذ الدرهم من ميزانه وقلبه «2» وقال: اذكر العهد، ومضى فابتاع به ما أراد، فإذا أخذ السّلعة ومضى إلى بيته
وجد الدرهم قد سبقه إلى منزله، ووجد البائع حيث وضعه ورقة آس أو قرطاس أو مثل ذلك بدور «1» الدرهم.
وقيل: إن فى وقته عملت الآنية الزجاج التى توزن، فإذا ملئت [ثم «2» ] وزنت لم تزد على وزنها الأوّل شيئا، وهى تحمل من الماء بوزنها. وعمل أيضا فى وقته الآنية التى إذا جعل الماء فيها صار خمرا فى لونه ورائحته وسكره.
قال: وقد وجد من هذه الآنية بإطفيح «3» فى إمارة هارون بن خمارويه بن أحمد ابن طولون شربة جزع «4» بعروة زرقاء ببياض. وكان الذى وجدها أبو الحسن [الصائغ «5» ] الخراسانىّ هو ونفر معه، فجلسوا ليأكلوا على عبر النيل وشربوا الماء بها فوجدوه خمرا فسكروا منه ورقصوا، فوقعت الشربة فانكسرت على عدّة قطع، فاغتمّ الرجل وجاء بها إلى هارون مكسورة، فأسف عليها وقال: لو كانت صحيحة لاشتريتها ببعض ملكى.
وفى أيامه عملت الصورة الحنتمية من الضفادع والخنافس والذباب والعقارب وسائر الحشرات «6» ، فكانت إذا جعلت فى موضع من المواضع اجتمع إليها ذلك الجنس بعينه ولا يقدر أن يفارقها حتى يقتل. وعمل فى صحراء الغرب ملعبا من زجاج ملوّن، وجعل فى وسطه قبّة من الزجاج خضراء صافية اللون؛ وكانت إذا طلعت عليها الشمس ألقت شعاعها على المواضع البعيدة. وعمل من أربع جهاته أربعة مواضع عالية من الزجاج، كلّ مجلس منها بلون، ونقش كلّ مجلس منها بما
يخالف لونه من الطلّسمات العجيبة والنقوش الغريبة والصور البديعة؛ كل ذلك من زجاج مطابق يشفّ. وكان يقصد هذا الملعب ويقيم فيه الأيام الكثيرة.
وعمل له ثلاثة أعياد فى كل سنة، فكانوا يحجّون إليه ويذبحون له ويقيمون فيه سبعة أيام؛ فلم يزل ذلك الملعب بحاله تقصده الأمم لتنظر إليه لأنه لم يكن له نظير ولا شكل، ولا عمل [فى العالم «1» ] مثله إلى أن هدمه بعض الملوك لأنه تعاطى مثله فلم يقدر على ذلك.
وكانت أمّ مرقونس ابنة ملك النوبة، وكان أبوها يعبد نجما يقال له السّها، ويسمّيه إلها، فسألت ابنها أن يعمل لها هيكلا ويفردها «2» به، فعمله لها وصفّحه بالذهب والفضّة [وأقام فيه صنما «3» ] وأرخت عليه ستور الحرير، فكانت تدخل إليه مع جواريها وحشمها وتسجد له كل يوم ثلاث مرّات. وعملت فى كل شهر عيدا تقرّب له فيه القرابين وتبخّره ليله ونهاره، ونصبت له كاهنا من النوبة فكان يقوم به ويبخّر [هـ «4» ] ويقرّب [له «5» ] ، ولم تزل بابنها حتى سجد له ودعا الناس إلى عبادته.
قال: ولمّا رأى الكاهن أنّ الأمر قد أحكم له من جهة الملك فى عبادة الكواكب، أحبّ أن يكون له مثالا فى الأرض على صورة شىء من الحيوان يتعبّد له ليكون حذاء عينيه؛ فأقام يعمل الحيلة فى ذلك إلى أن اتفق بمصر كثرة العقبان حتى أضرّت بالناس، فأحضره الملك وسأله عن كثرتها فقال: إنّ إلهك أرسلها لتعمل له نظيرا يسجد له. فقال الملك: إن كان ذلك يرضيه فأفعله، فعمل تمثال عقاب طوله ذراعان فى عرض ذراع من ذهب مسبوك، وعمل عينيه من ياقوتتين،
وعمل له وشاحين من لؤلؤ منظوم على أنابيب جوهر [أخضر «1» ] ، وجعل فى منقاره كرة «2» معلّقة وسروله بأدرك أحمر، وأقامه على قاعدة [من «3» ] فضّة منقوشة، وركّبها على قائمة زجاج أزرق، وجعله فى أزج عن يمين الهيكل، وألقى عليه ستور الحرير، وجعل [له] دخنة معمولة من جميع الأفاويه والصمغ، وقرّب له بعجل أسود وبكارة الفراريج وبواكير الفواكه والرياحين. فلما تمّت له سبعة أيام دعاهم إلى السجود له فأجابوه. ولم يزل [الكاهن «4» ] يجهد نفسه فى عبادته، وعمل له عيدا دعاهم فيه إلى أن يبخّر له فى أنصاف الشهور بالمندل وترشّ الهياكل بالخمر العتيقة [التى تؤخذ «5» ] من رءوس الجوابى «6» ، ونطق لهم العقاب وعرّفهم أنه أزال عنهم العقبان وضررها؛ وكذلك يفعل فى غيرها ممّا يخافون؛ فسرّ الكاهن بذلك ووجّه إلى أمّ الملك فعرّفها ذلك فصارت الى الهيكل، فلمّا سمعت كلام العقاب سرّها ذلك وأعظمته، وبلغ الملك خبره فركب إلى الهيكل حتى خاطبه وأمره ونهاه، فسجد له وأقام له سدنة وأمر أن يزيّن بأصناف الزينة، وكان الملك يقوم بذلك الهيكل ويسجد لتلك الصورة ويسألها عمّا يريد «7» فتخبره.
وعمل من الكيمياء والذهب ما لم يعمله أحد من الملوك. فيقال: إنه دفن فى صحراء الغرب خمسمائة دفين. ويقال: إنه عمل على باب صاعمودا وجعل عليه صنما فى صورة امرأة جالسة وفى يدها مرآة ينظر فيها العليل [أو ينظر له أحد فيها «8» ] فإن كان يموت رآه ميّتا، وإن كان يعيش رآه حيّا؛ والمسافر، فإن كان مقبلا بوجهه علموا أنه راجع، وإن رآه مولّيا علموا أنه متماد، وإن كان مريضا أو ميّتا رأوه كذلك. وعمل بالإسكندرية صورة راهب جالس على قاعدة وعلى
رأسه كالبرنس «1» وفى يده كالعكّاز إذا مرّ به رجل تاجر جعل بين يديه شيئا من الذهب على قدر بضاعته، وإن حاذاه «2» عن بعد ولم يفعل ذلك لم يقدر على الجواز ويبيت قائما مكانه، فكان يجتمع من ذلك مال عظيم يفرّق فى الزمنى والفقراء.
وعمل فى وقته كل أعجوبة طريفة، وأمر أن يزبر اسمه عليها وعلى كل علم وكل طلّسم وصنم. وعمل لنفسه ناووسا فى داخل أرض الغرب عند جبل يقال له سدام، وعمل تحته رحى طوله مائة ذراع فى ارتفاع ثلاثين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، وصفّحه بالمرمر والزجاج الملوّن المسبوك وسقفه بالحجارة الصافية، وعمل فيما دار به مصاطب لطافا مبلّطة بالزجاج، وعمل على كل مصطبة فيها أعجوبة وتمثالا مما عمل فى وقته، وعمل فى وسط الأزج دكّة من زجاج ملوّن، على كل ركن من أركانها صورة تمنع من الدنوّ إليها، وبين كل صورتين كالمنارة عليها حجر مضىء، وجعل فى وسط الدكّة حوضا من ذهب يكون جسده فيه بعد تضميده بالأدوية الممسكة، ونقل إليه ذخائره من الجوهر والذهب وغير ذلك، وأمر أن يسدّ باب الأزج بالصخور والرّصاص وتهال عليه الرمال. وكان ملكه ثلاثا وسبعين سنة، وعمره مائتين وأربعين سنة، وكان جميلا ذا وفرة حسنة فنسكت عامّة نسائه بعده ولزمن الهيكل.
وعهد بالملك إلى ابنه أنساد بن مرقونس؛ فملك بعد أبيه وهو غلام ابن خمس وأربعين سنة، وكان معجبا جبّارا طمّاح العين، فنكح امرأة من نساء أبيه وانكشف أمره معها، وكان أكبر همّه اللهو واللعب، فجمع كل مله كان فى مملكته وقصده كل من هذه سبيله، وجعل تدبير الملك إلى وزير له يقال له
مسرور، ورفض العلوم والهياكل والكهنة والنظر فى أمور الناس. وعمل قصورا من خشب عليها قباب من خشب منقوشة ممّوهة وجعلها على أطواف فى النيل، فكان يشرب عليها مع من يحبّه من نسائه وخدمه ومن يلهيه.
وعمل عجلا فى البرّ وحمل عليها الأروقة المذهبة وفرشها بفاخر الفرش، فكان يتنزّه عليها ويجرّها البقر ويقيم فى نزهته شهورا لا يمرّ بموضع نزه إلّا أقام فيه أياما. وولّد من الشجر توليدا كثيرا. واستتفد أكثر ما فى خزائن أبيه لجوائز الملهين والنفقات فى غير وجه. فلمّا أسرف فى ذلك اجتمع الناس إلى وزيره فأنكروا عليه حاله وسألوه مسألته والمشورة عليه أن يقع عمّا هو عليه فضمن لهم ذلك، وفاوضه فيه فلم ينته عنه، وسلّط أصحابه على الناس فأساءوا إليهم وأضروا بهم. وخرج فى بعض الأيام إلى متنزّه كان له قد صفّح مجالسه بصفائح الذهب والفضة، وغريب الزجاج الملوّن، والجواهر المخروطة، والصهاريج المرّخمة الملوّنة، وأمال إليه المياه، وغرس فيه الرياحين والثمار، وفرش مجالسه بأصناف الفرش؛ وكان إذا أحبّ أن يخلو بامرأة من نسائه خلابها هناك؛ فإنه فى ذلك المكان، وقد أقام به أياما، إذ خرج غلام لبعض حرمه فأتى بعض التجّار فى حاجة أراد أخذها بغير ثمن، فمنعه التجّار منها، فوثب بهم فضربوه حتى أسالوا دمه وحمل، واتصل الخبر بالوزير وصاحب الجيش فركبا إلى الموضع وأنكرا على الناس فأغلظوا لهما، فانصرفا وعرّفا الملك الخبر، فأراهما أنه لم يحفل بذلك، وأمر بالنداء فى الناس من تعرّض لكم من خدم الملك وأصحابه بأذى فاقتلوه، فشكره الناس وحمدوا فعله على ذلك، وتواصوا بالوثوب على أصحابه، حتى إذا مضى لذلك أسبوع وجه الملك إلى الوزير وصاحب الجيش فعرّفهما أنه قد عزم على الركوب إلى صحراء الغرب يتصيّد هناك، وامر أن يركب معه الجيش ويتزوّدوا لثلاثة أيام ففعلوا، وخرج إلى البرّية فسار حتى إذا اختلط
الظلام رجع الجيش حتى وافى باب المدينة، وأمر أصحابه أن يضعوا السيف فى الناس فقتلوا خلقا كثيرا، ثم أمر أن ينادى: هذا جزاء من أقدم على الملوك من رعاياهم وأصحاب منهم، وأخرب الموضع الذى ضرب فيه الغلام، فاستغاث به الناس، فتقدّم إلى وزيره أن يطرح نفسه بين يديه ويسأله فيهم، ففعل وأمّنهم وقال: من عاد إلى مثل ما كان فقد حلّ لنا دمه، فدعوا له وانصرفوا. ثم احتجب عن الناس واستخف بالكهنة والهياكل فأبغضته العامّة والخاصّة وبغوا الغوائل فاحتال عليه خاصّته بطبّاخه وساقيه فسمّاه وهو ابن مائة وعشرين سنة فمات.
وصار الملك من بعده إلى ابنه صابن أنساد بن مرقونس؛ قال: وأكثر القبط تزعم أن صابن مرقونس أخو أنساد. فملك وهنأه الناس، فوعدهم بالعدل فيهم، والإحسان إليهم، وحسن النظر لهم، وسكن منف وحكم الأحياز كلها، وعمل بها عجائب وطلّسمات، وردّ الكهنة إلى مراتبهم، ونفى الملهين وأهل الشرّ ممن كان يصحب أخاه، ونصب العقاب الذى كان أبوه عمله، وشرف هيكله ودعا إليه. وعمل فى منف مرآة كان يرى منها ما يخصب من بلده وما يجدب.
وبنى بداخل الواحات مدينة غرس حولها نخلا كثيرا. ونصب قرب البحر أعلاما كثيرة. وعمل خلف المقطّم صنما يقال له صنم الحيلة، فكان كل من تعذّر عليه أمر يأتيه فيبخّره فيتيسّر عليه ذلك الأمر «1» . وجعل على أطراف مصر أصحاب أخبار يرفعون إليه ما يجرى فى حدودهم. وعمل على غربى النيل منائر يوقد عليها إذا قصدهم قاصد أو نابهم أمر. ويقال: إنه بنى أكثر منف وكل بنيان عظيم بالإسكندرية.
قال: وكان لمّا ملك البلد بأسره جمع الحكماء إليه ونظر فى النجوم- وكان بها حاذقا- فرأى أن بلده لا بدّ أن تغرق بالطوفان من نيلها، ورأى أنها تخرب على
يدرجل [يأتى «1» ] من ناحية الشأم، فجمع كل فاعل بمصر وبنى فى الواح الأقصى مدينة جعل طول حصنها فى الأرتفاع خمسين ذراعا وأودعها جميع الحكم والأموال.
وبنى المدينة «2» التى وقع عليها موسى بن نصير فى زمن بنى أميّة، وكان قد أخذ على الواح الأقصى، وكان عنده علم منها، وأقام سبعة أيام يسير فى رمال وصحارى سمت الغرب والجنوب إلى أن ظهرت له مدينة عليها حصن وأبواب حديد، فأصعد إليها الرجال ليقفوا على ما فيها لمّا لم يمكنه فتح أبوابها، ولغلبة الرمال على ما حولها؛ فكانوا إذا علوا الحصن وأشرفوا عليها وثبوا إليها؛ وعرض حصنها عشرون ذراعا؛ فلمّا أعياه أمرها تركها ومضى، فهلك فى تلك الطريق جماعة من أصحابه. فلم يسمع بأحد بعد موسى بن نصير ولا قبله وقع عليها.
قال: وفى تلك الصحارى أكثر متنزّهاتهم ومدائنهم العجيبة؛ إلا أنّ الرمال غلبت عليها. ولم يبق بمصر ملك إلا وقد عمل للرمال دفعا ثم تفسد طلّسماتهم على تقادم الأيام.
وقال: وحكى قوم من «1» التّنّاء فى ضياع الغرب: أنّ عاملا من عمّالهم عنف بهم فهربوا ودخلوا فى صحراء الغرب وحملوا معهم زادا إلى أن يصلح أمرهم ويرجعوا إلى بلادهم، وكانوا على يوم وبعض آخر قد لحجوا»
فى سفح الجبل، فوجدوا عيرا أهليّا قد خرج من بعض شعابه، فتبعه نفر منهم، فأخرجهم إلى مساكن وأشجار ونخل ومياه تطّرد «3» وقوم يسكنون هناك ويزرعون، فخاطبوهم وعجبوا منهم وسألوهم عن حالهم فعرّفوهم أنهم منذ كانوا يسكنون تلك الناحية ويتناسلون ويزرعون ولا يطالبهم أحد بخراج ولا يؤذيهم، وأنهم لم يدخلوا إلى ضياع الغرب قطّ، وقالوا لهم انتقلوا إلينا؛ فخرج القوم بعد أن صلحت أمورهم واجتمعوا على الرجوع إلى ذلك الموضع والسكنى فيه بأهليهم ومواشيهم، فخرجوا يطلبون الطريق مدّة فما عرفوا الطريق ولا تأتّى لهم الوصول إليه بعد ذلك فأسفوا على مافاتهم منه.
وحكى أيضا عن آخرين ضلّوا الطريق فى الغرب، فوقفوا على مدينة عامرة، كثيرة الناس والمواشى والنخيل والشجر، فأضافوهم وأكلوا عندهم وشربوا، وباتوا فى طاحونة يعمل فيها الخبز «4» ، فسكروا من الشراب وناموا، فلم ينتبهوا إلّا عند طلوع الشمس، فوجدوا أنفسهم فى مدينة كبيرة خراب ليس فيها أحد، فارتاعوا لذلك وخرجوا على وجوههم كالهاربين، وساروا يومهم على غير سمت حتى قرب المساء، فظهرت لهم مدينة أخرى عظيمة أكبر من الأولى وأعمر، وأكثر أهلا ودوابّ ومواشى وشجرا ونخلا، فأنسوا بهم وأخبروهم بخبر المدينة، فجعلوا يعجبون منهم ويضحكون؛ وإذا لبعض أهل المدينة وليمة فانطلقوا بهم معهم، فأكلوا وشربوا
وغنّوهم بأصناف الملاهى، وسألوهم عن حالهم فحدّثوهم أنهم ضلّوا عن الطريق فى هذه الصحارى، فقالوا لهم: الطريق بين أيديكم واضح مستقيم لا يمكن أن تغلطوا فيه، فإن أحببتم المسير وجّهنا معكم من يوقفكم على سنن الطريق الكبير الذى يوصلكم إلى منازلكم، وإن أحببتم أن تقيموا عندنا رفدناكم وكنتم إخواننا وأحبابنا.
قالوا: فسررنا بذلك من قولهم، وأجمع بعضنا على المقام معهم، وأجمع من كان له منا أهل وولد على أن يسير إلى منزله ويحمل أهله وولده ويعود إليهم. قال: وبتنا عندهم فى خير مبيت، فرحين بما ساق الله إلينا. فلمّا كان من الغد انتبهنا فوجدنا أنفسنا فى مدينة عظيمة ليس فيها أحد من الناس وقد تشعّب بعض حصنها، إلّا أن حولها نخلا قد تساقط ثمره وتكدّس حوله، فلحقنا من الخوف لذلك والارتياع ما استوحشنا له، وخرجنا على وجوهنا هاربين مفكّرين فيما عاينّاه من أهلها، وإنّا لنجد روائح الشراب منّا ومعانى الخمار ظاهرة، فلم نزل نسير يومنا أجمع وليس بنا جوع ولا عطش، حتى إذا كان المساء رأينا راعيا يرعى غنما فسألناه عن العمارة وعن الطريق فدلّنا على الطريق وقال: إنّ العمارة حذاؤكم؛ وإذا بنقار «1» من ماء المطر فشربنا منه وبتنا عليها، ثم أصبحنا فإذا نحن فى خلاف موضعنا الذى كنّا فيه، وإذا آثار العمارة والناس فما سرنا إلّا بعض يوم حتى دخلنا مدينة الأشمونين بالصعيد، فكنّا نحدّث الناس ولا يقبلون منا.
قال: وهذه مدائن القوم القديمة قد غلب عليها الجانّ، ومنها ما قد سترته عن العيون فلا ينظر إليها أحد.
قال: وذكر بعض القبط أن رجلا من بنى الكهنة الذين قتلهم أنساد سار إلى ملك الإفرنجة فذكر له كنوز مصر وعجائبها وخيرها، وضمن له أن يوصّله إلى ملكها
وأموالها، ويدفع عنه أذى طلّسماتها حتى يبلغ جميع ما يريده ويعرّفه مواضع الكنوز.
فلمّا اتصل بصا الملك أنّ صاحب الإفرنجة يتجهّز إليه، عمد إلى جبل بين البحر المالح وشرقى النيل فأصعد إليه أكثر كنوزه وما فى خزائنه، وبنى عليها قبابا وصفّحها بالرّصاص، وأمر ففتحوا جوانب الجبل إلى منتهى خمسين ذراعا، وجعلوا فى انتهاء المنحوت منه شبه الطرر البارزة خارجة من النحت بقدر مائة ذراع وهو بين جبال وعرة، فحصّن أمواله هناك. وتجهّز إليه صاحب الإفرنجة فى ألف مركب، فكان لا يمرّ بشىء من أعلام مصر ومناراتها وأصنامها إلّا هدمه وكسره بمعونة الكاهن له.
حتى أتى الإسكندرية الأولى فعاث فيها وهدم كثيرا من معالمها إلى أن دخل النيل من ناحية رشيد وصعد إلى منف فحاربه أهل النواحى، وجعل ينهب ما مرّ به ويقتل من قدر عليه إلى أن طلب المدائن الداخلة ليأخذ كنوزها فوجدها ممتنعة بالطلّسمات الشداد والمياه العميقة والخنادق الشدّاخات، فأقام عليها أياما كثيرة يعالج أن يصل إليها، فلمّا لم يمكنه ذلك قتل الكاهن، وهلك جماعة من أصحابه، واجتمع أهل النواحى على مراكبه وأصحابه فقتلوا منهم خلقا وأحرقوا بعض المراكب. ولما تيقّن أهل مصر تلف الكاهن الذى كان معه أرسلوا إليه سحرهم وتهاويلهم، وأتت مع ذلك رياح غرقت كثيرا من مراكبه، وكانّ جل مرامه أن ينجو بنفسه فما عاد إلى الإفرنجة إلا وقيذا «1» بجراحات أصابته، ورجع الناس إلى منازلهم وقراهم، ورجع صا إلى منف فأقام بها وترك ما كنزه على حاله.
قال: ولم يزل بعد ذلك يغزو بلاد الروم وأهل الجزائر ويخرّبها فهابته الملوك، وتتّبع الكهنة فقتل منهم خلقا، وأقام سبعا وستين سنة، وكانت سنة مائة وسبعين سنة وهلك، فدفن بمنف فى ناووس عمله وسط المدينة من تحت الأرض، وجعل
المدخل إليه من خارج المدينة من الجهة الغربية، وحمل إليه أموالا عظيمة وجواهر كثيرة، وتماثيل وطلّسمات وغير ذلك كما فعل أجداده. وكان فيه أربعة آلاف تمثال ذهب على صور شتّى برّية وبحرية، وتمثال عقاب من جوهر أخضر جعل عند رأسه، وتمثال تنّين من ذهب مشبّك عند رجليه وزبر عليه اسمه وسيرته وغلبته للملوك.
وعهد إلى ابنه تدارس بن صا؛ فملك الأحياز كلها بعد أبيه وصفا له ملك مصر. وكان محنّكا مجرّبا ذا أيد وقوّة ومعرفة بالأمور؛ فأظهر العدل، وأقام الهياكل وأهّلها قياما حسنا. وبنى غربى منف بيتا عظيما للزّهرة وزبر جميع الأخبار- وكان صنم الزهرة من لا زورد مذهّب متوّجا بذهب- وسوّره بسوارين من الزّبرجد الأخضر؛ وكان فى صورة امرأة لها ضفيرتان من ذهب أسود مدبّر، وفى رجليها خلخالان من حجر أحمر شفاف ونعلان من ذهب، وفى يدها قضيب مرجان وهى تشير بسبّابتها كالمسلّمة على من فى الهيكل، وجعل حذاءها من الجانب الآخر تمثال بقرة ذات قرنين وضرعين من نحاس أحمر مموّه بذهب موشحة بحجر اللازورد، ووجه البقرة محاذ «1» يا لوجه الزهرة، وجعل بينهما مطهرة من أخلاط للأجساد على عمود رخام مجزّع فيها ماء مدبّر يستشفى به من كل داء، وفرش الهيكل بحشيشة الزهرة يبدلونها فى كل سبعة أيام، وجعل فيه كراسىّ للكهنة مصفّحة بذهب وفضّة، وقرّب له ألف رأس من الضأن والمعز والوحش والطير، وكان يحضر يوم الزهرة ويطوف به. وكانت فرش الهيكل وستوره عن يمين تمثال الزهرة ويساره. وكان فى قبّته صورة رجل راكب على فرس له جناحان وله حربة فى سنانها رأس إنسان معلق، وبقى هذا إلى زمان بخت نصر
وهو الذى هدمه. ويقال: إن تدارس الملك هذا هو الذى حفر خليج سخا، وارتفع مال البلد فى أيامه مائة ألف ألف [دينار «1» ] وخمسين ألف [ألف «2» ] دينار. وقصده بعض عمالقة الشأم فخرج إليه واستباحه ودخل إلى فلسطين فقتل منها خلقا كثيرا وسبى بعض حكمائها وأسكنهم مصر وهابته الملوك.
قال: وعلى رأس ثلاثين سنة من ملكه طمع السودان من الزّنج والنّوبة فى أرضه فعاثوا وأفسدوا، فأمر بجمع الجيوش وأعدّ المراكب ووجّه قائدا من قوّاده يقال له: بلوطس فى ثلاثمائة ألف، وقائدا آخر فى مثلها، ووجّه فى البحر «3» ثلاثمائة سفينة فى كل سفينة كاهن يعمل أعجوبة من العجائب [ثم خرج فى جيوش كثيرة، فلقى جموع السودان «4» ] وكانوا فى زهاء ألف ألف فهزموهم، وقتلوا أكثرهم أبرح قتل، وأسر منهم خلقا كثيرا، وتبعهم حتى وصل إلى أرض الفيلة من بلاد الزّنج «5» فأخذ منها عدّة من النمور والوحش وذللها وساقها معه إلى مصر. وعمل على حدود بلده منارات وزبر عليها مسيره وظفره والوقت الذى سار فيه. ولمّا وصل إلى مصر اعتلّ ورأى رؤيا تدلّ على موته، فعمل لنفسه ناووسا ونقل إليه شيئا كثيرا من أصنام الكواكب والذهب والجوهر والصنعة والتماثيل وهلك؛ فحمل إليه وزبر عليه اسمه وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وجعل عليه طلّسما تمنع منه.
وعهد إلى ابنه ماليق بن تدارس؛ فملك بعد أبيه. وكان غلاما كريما حسن الوجه، مجرّبا، مخالفا لأبيه وأهل بلده فى عبادة الكواكب والبقر.
ويقال: إنه كان موحّدا على دين أجداده قبطيم ومصريم، وكانت القبط تذمّه لذلك. وكان سبب إيمانه فيما حكى أنه رأى فى منامه أن رجلين لهما أجنحة أتياه فآختطفاه وحملاه إلى الفلك، فأوقفاه بين يدى شيخ أسود أبيض الرأس واللحية، فقال: هل عرفتنى؟ فدخلته فزعة الحداثة، وكانت سنه نيّفا وثلاثين سنة، فقال له: ما أعرفك! فقال: أنا قرويس، يعنى زحل، فقال:
قد عرفتك، أنت إلهى، فقال: إنك وإن كنت تدعونى إلها فإنى مربوب مثلك، وإلهى الذى خلق السموات والأرض وخلقنى وخلقك، فقال: وأين هو؟
فقال: هو فى العلوّ لا تراه العيون، ولا تلحقه الأوهام، وهو الذى جعلنا سببا لتدبير العالم الأسفل. قال له ماليق الملك: فكيف أعمل؟ قال: تضمر فى نفسك ربوبيّته علينا. وتخلص فى وحدانيّته وتعرف بأزليّته. ثم إنه أمر الرجلين فأنزلاه؛ فانتبه وهو مذعور، فدعا رأس الكهنة فقصّ عليه رؤياه فقال: قد نهاك عن عبادة الأوثان فإنها لا تضرّ ولا تنفع، فقال له: من أعبد؟ قال: الله الذى خلق السموات والكواكب التى فيها والأرض ومن عليها. فكان الملك يحضر الهيكل فإذا سجد انحرف عن الصنم وأضمر السجود لخالق السموات والأرض دون غيره، ثم أخذ فى الغزو والغيبة عن أهل مصر وجال فى البلدان.
قال: وقال بعض أهل مصر: إنّ الله تعالى أيّده بملك من الملائكة يعضّده ويرشده، وربما أتاه فى نومه، فأمره أن يأمر الناس باتخاذ كل فاره من الخيل، واتخاذ السلاح وما يصلح للأسفار، وإعداد الزاد، واتخذ فى بحر الغرب مائتى سفينة، وخرج فى جيش عظيم فى البرّ والبحر، فلقيه جموع البربر فى جموع لا تحصى فهزمهم واستأصل أكثرهم، وبلغ إلى إفريقية وسار منها، وكان لا يمرّ بأمة إلّا أبادها إلى أن عدّى من ناحية الأندلس يريد الإفرنجة، وكان بها ملك عظيم يقال له: أرقيوس، فأقام يحاربه شهرا ثم طلب صلحه وأهدى له هدايا كثيرة فسار عنه، ودوّخ الأمم المتّصلة
بالبحر الأخضر «1» وأطاعه أكثرها. ومرّ بأمّة عراة لهم حوافر فى أرجلهم، وقرون صغار، وشعور كشعور الدوابّ، ولهم أنياب بارزة من أفواههم، فقاتلهم قتالا شديدا حتى أثخنهم، فنفروا منه إلى غيران «2» لهم مظلمة عظام.
والقبط تذكر أنه رأى سبعين أعجوبة، وعمل أعلاما على البحر وزبر عليها اسمه ومسيره، وخرب مدن البربر حيث كانت، وألجأهم إلى قرون الجبال ورجع؛ فتلقّاه أهل مصر بأصناف اللهو والطيب والرياحين، وفرشت له الطرقات ولقوه بابنه بلهقانس وكان ولد بعد مسيره فسرّبه. واتصل خبره بالملوك فهابوه وحملوا إليه الهدايا من كل وجه ومكان.
قال: وبلغه أن قوما من البربر سحرة لهم تخاييل عجيبة وبخورات يدلّون بها، وأنهم فى مدينة لهم يقال لها: قرميدة، فى الغرب من مصر، قد ملّكو عليهم امرأة ساحرة يقال لها: اسطافا، فاتصل به كثرة أذاهم للناس فغزاهم، فلما قرب منهم ستروا عنه مدينتهم بسحرهم فلم يرها، وطمّوا مياههم فلم يعرفها، فهلك أكثر أصحابه عطشا. فلما ستروا عنه البلد صعد إلى ناحية الجنوب، ثم رجع على غير الطريق التى سار إليهم فيها، فمرّ بهيكل كان لهم يحضرونه فى أعيادهم، فهدم بعضه وسقط منه موضع على جماعة ممن تولّى هدمه فأهلكهم، فلما رأى ذلك تركهم وانصرف، وخرجوا إلى هيكلهم فبنوا ما سقط منه وحرسوه بطلّسمات محكمة، ونصبوا فوق قبّته طلّسما من نحاس مذهب، وكان إذا قصده أحد صاح صياحا منكرا يرعد منه من سمعه ويبهت فيخرجون إليه ويصطلمون «3» . وكانت ملكتهم أحذق منهم بالسحر فقالت:
إنى أعمل الحيلة فى إفساد مصر وأضرّ وآذى أهلها، فعملت أشياء وأرسلتها مع من ألقاها فى النيل، ففاض النيل على مزارعهم وغلّاتهم، وكثرت فيه التماسيح والضفادع، وكثرت العلل فى الناس، وانبثّت فيهم الثعابين والعقارب، فأحضر ماليق الكهنة والحكماء وقال: أخبرونى عن هذه الحوادث التى حدثت فى بلادنا ما هى؟ ولم لم تشرحوها فى طالع السنة؟ فاجتمعوا فى دار حكمتهم ونظروا حتى علموا أنه من ناحية الغرب، وأنّ امرأة عملته وألقته فى النيل، فعلم أنه من فعل تلك الساحرة، فقال لهم: اجهدوا أنفسكم فى هلاكها فقد بلغت فيكم مرادها، فاجتمعوا للهيكل الذى فيه صور الكواكب وأصنامها، وسألوا الملك الحضور معهم فلم يمكنه الخلاف عليهم. فلما أمسى لبس مسحا وافترش رمادا واستقبل مصلاه وأقبل على الابتهال إلى الله والتضرّع وقال: يا ربّ يا الله، أنت إله الآلهة، وخالق الخلق، ولا يكون شىء إلا بقضائك، أسألك أن تكفينى أمر هؤلاء القوم، وغلبه السهر فأغفى فى مصلاه، فرأى آتيا يقول له: قد رحم الله تضرّعك، وأجاب دعاءك، وهو مهلك هؤلاء القوم ومدمّر عليهم، وصارف عنك الماء المفسد والدوابّ المضرّة. فلمّا أصبح الكهنة غدوا عليه وسألوه حضور هيكلهم، فقال لهم:
قد كفيتكم أمر عدوّكم وأهلكتهم، وأزلت الماء الفاسد والدوابّ المضرّة عنكم، ولن تروا بعدها شيئا تكرهونه، فنظر بعضهم إلى بعض كالمنكرين لقوله وقالوا:
قد سررنا بما ذكره الملك، وهم يضمرون الاستهزاء به والتكذيب له، ومضوا إلى دار الحكمة فقال بعضهم: الرأى ألا تقولوا فى هذا شيئا، فإن كان حقّا وقفتم عليه، وإن كان باطلا اتسع لكم اللفظ فى لومه، وسيتبين لكم أمره.
فلما كان بعد يومين انكشف ذلك الماء الفاسد، وهلكت تلك الدوابّ المضرّة، فعلموا أن الذى أخبرهم به حقّ؛ وأمر قائدا من قوّاده ورجالا من الكهنة أن يمضوا
حتى يعلموا علم هؤلاء القوم، فأتوا المدينة فوجدوا حصنها قد سقط وقد هلكوا بأجمعهم واحترقوا واسودّت وجوههم؛ ووجدوا الأصنام منكّسة على وجوهها، وأموالهم ظاهرة بين أيديهم، فطرقوا المدينة فلم يجدوا فيها غير رجل واحد كان مخالفا لهم بسبب رؤيا رآها؛ ووجدوا من الأموال والجواهر وأصنام الذهب والتماثيل ما لا يحصى ولا تعرف له قيمة، ووجدوا صورة كاهن لهم من زبرجد أخضر على قائمة من حجر الأسباد شم؛ ووجدوا صورة روحانىّ من ذهب، ورأسه من جوهر أحمر، وله جناحان من درّ، وفى يده مصحف فيه كثير من علومهم فى دفّتين مرصّعتين بجوهر ملوّن؛ ووجدوا مطهرة من ياقوت أزرق على قاعدة من زجاج أخضر مسبوك، وفيها فضلة من الماء الدافع لأسقامهم، وفرسا من فضّة من عزم عليه بعزائمه ودخنه بدخنة وركبه طار به فيما يزعمون، وغير ذلك من العجائب والأصنام؛ فحملوا من ذلك ما قدروا عليه من الأموال والجواهر، وسأل الملك ذلك الرجل: ما أعجب ما رأيت من أعمالهم؟ فقال: نعم أخبرك أيها الملك؛ إنه قصدهم بعض ملوك البربر، وكان جبّارا من أهل بيت سحر، فجاء بالجموع الكثيرة وتخاييل هائلة، فأغلق أهل مدينتنا حصنهم ولجأوا إلى أصنامهم يخضعون لها ويتضرّعون إليها، وكان لهم كاهن عظيم الشأن، فسار إليه رؤساؤهم وشكوا اليه مادهمهم من عدوّهم، فأتى إلى بركة عظيمة بعيدة القعر كانوا يشربون منها، فجلس على حافّتها وأحاط رؤساء الكهنة بها وزمزم على ماء البركة، فلم يزل كذلك حتى فار الماء وفاض، وخرجت من وسطه نار تتأجج، وظهر من وسطها وجه كدارة الشمس وعلى صورتها وضوئها، فخرّ الجماعة وسجدوا لذلك الوجه، وتجلّلهم نور؛ وجعل يعظم حتى ملأ البركة، وصعد حتى خرق سقف القبّة، ثم ارتفع إلى رأسها وسمعته يقول: قد كفيتكم شرّ عدوّكم، وأمرهم أن يأخذوا دوابّهم ففعلوا
ذلك، وهلك الملك الذى قصدهم وجميع من كان معه، وانصرفوا؛ فأقبلوا يأكلون ويشربون، فقلت لبعض الكهنة: لقد رأيت عجبا من ذلك الوجه فما هو؟ فقال:
تلك الشمس تبدّت لنا فى صورتها وأهلكت عدوّنا، صاحت بهم صيحة أحرقتهم فأصبحوا خامدين.
قال: وكان هذا الرجل عاقلا فاتخذه ماليق وزيرا. ولم يزل ماليق على التوحيد، وهو مع ذلك يساير أهل البلد خوفا من اضطراب ملكه، وأمر أن يعمل له ناووس، فكان يقصده ويتعبّد فيه، وأمر ألا يدفن معه ذهب ولا جوهر، فلم يدفن معه شىء سوى الطّيب وصحيفة مكتوبة بخطه فيها:
هذا ناووس ملك مصر ماليق، مات مؤمنا بالله العظيم لا يعبد معه غيره، بريئا من الأصنام وعبادتها، مؤمنا بالبعث والحساب والمجازاة على الأعمال، عاش كذا وكذا سنة، ملك فيها كذا وكذا، فمن أحبّ النجاة من عذاب الآخرة فليدن بما دان به. وأوصى ألا يدفن معه فى ناووسه أحد من أهله، وكان قد كنز كنوزا عظيمة وزبر عليها أن تخرجها أمة النبىّ المبعوث فى آخر الزمان.
واستخلف ابنه حرمان «1» بن ماليق. قال: وكان ليّنا سهل الخلق، لم يمت أبوه حتى شرح له التوحيد، وأمره أن يدين به، ونهاه عن عبادة الأصنام؛ وكان معه على ذلك فى حياته، ثم رجع عنه بعد وفاته الى دينهم. وكان سبب رجوعه الى عبادة الأصنام أنّ أمّه كانت من بنات كبار الكهّان، فنقلته بعد موت أبيه الى دينها وغلبته على رأيه، وأمرت بتجديد الهياكل وتشدّدت فى عبادة الأصنام. وتزوّج حرما امرأة من بنى عمّه فأحبّها حبّا شديدا وهام بها، فأفسدته على جميع نسائه،
فاشتدّ ذلك على أمه، وكانت له قهرمانة من أهل سيوط ساحرة لا تطاق، وكانت تميل الى هذه المرأة لأنها كانت تعشق أخاها؛ فزادت فى سحرها لتلك المرأة فأوحشت ما بين الملك وأمّه حتى رفضها واستخفّ بأمرها، وزاد الأمر حتى حلف ألّا يجاورها، وأنه يغزو وينصرف فلا يرجع الى مصر أو يتّصل به موتها، ففعل ذلك وغزا بلد الهند وأرض السودان.
وكان سبب خروجه الى الهند أن ملكا من ملوكها يقال له مسور خرج فى عدد كثير وسايرته مراكبه فى البحر ففتح بلدانا وجزائر، وأكثر القتل والسبى؛ وذكرت له مصر فقصدها واعتلّ فرجع من طريقه، فأمر حرما الملك بعمل مائة سفينة على شكل سفن الهند، وتجهّز وركب وحمل معه المرأة ووجوه أصحابه وقوّاده، واستخلف ابنه كلكن على مصر وكان صبيّا، وجعل معه وزيرا يقال له لاون، وكاهنا يقال له ويسموس، وخرج فمرّ على ساحل اليمن وعاث فى مدائنه. وكان لا يمرّ بمدينة إلا أقام صنما وزبر عليه اسمه ومسيره ووقته، وبلغ سرنديب «1» فأوقع بأهلها، وغنم منها مالا وجوهرا كثيرا، وحمل معه حكيما لهم، وبلغ جزيرة بين الهند والصين بها قوم سمر طوال يجرّون شعورهم، ورأى لهم الدوابّ والطيور وشجر الطيب والنارجيل والفواكه التى لا تكون إلا عندهم، فأذعنوا له بالطاعة وحملوا اليه أموالا وهدايا فقبلها وسار عنهم. وأقبل يتنقّل فى تلك الجزائر عدّة سنين؛ فقيل: إنه أقام فى سفره سبع عشرة سنة، ورجع إلى مصر بالظّفر والغنيمة، ووجد أمه قد هلكت، ووجد ابنه على الملك كما استخلفه؛ فسرّ بذلك وهابه من حوله من الملوك. وبنى عدّة هياكل وأقام فيها أصنام الكواكب؛ لأنها- فيما زعم- هى التى أيّدته فى سفره حتى ظفر بما ظفر به وغنم ما غنمه. وقد كان حمل
معه من الهند حكيما وطبيبا، وكان معهما من كتبهم وحكمهم ما أظهرا به فى مصر عجائب مشهورة، وحمل معه صنما من أصنام الهند من الذهب مقرّطا بالجوهر، فنصبه على بعض الهياكل التى عملها. وكان حكيم الهند يقوم به ويخدمه ويقرّب له. وكان يخبرهم بما يريدون منه.
قال: وأقام حرما بعد منصرفه من الهند مدّة ثم غزا نواحى الشام فأطاعه أهلها وهادوه ورجع إلى مصر. ثم غزا نواحى النوبة والسودان فصالحوه على خراج يحملونه له، ورفع أقدار الكهنة وزاد فى تعظيم دينهم؛ فصوّروه فى هياكلهم ومضاجعهم، وملكهم خمسا وسبعين سنة. وعمل لنفسه فى صحراء الغرب ناووسا، وعمل برقودة «1» مصانع وعجائب، وأقام بها إلى أن مات وابنه كلكن بمنف، فضمد جسده بالمومميا والكافور والمرّ، وجعل فى تابوت من ذهب، وجعل معه مال كثير، وجوهر نفيس، وسلاح عجيب، وتماثيل وصنعة وعقاقير، ومصحف الحكمة.
وصوّر فى جانب الناووس صورا وزبر عليها ذكر السفن التى سار فيها، والبلدان التى فتحها، وسدّ باب الناووس وزبر عليه اسمه ومدّته وتاريخ الوقت الذى هلك فيه، وقتل جماعة من نسائه أنفسهنّ عليه. وكان جميلا سمح الأخلاق، واغتمّ عليه الكهنة لإكرامه لهم، وأهل المملكة لاتباعه لهم.
وملك بعده ابنه كلكن بن حرما، وعقد التاج على رأسه بالإسكندرية بعد موت أبيه وأقام بها شهرا ورجع إلى منف. وكان أصناميّا على دين أبيه واستبشر به أهل مصر. وكان يحبّ الحكمة وإظهار العجائب ويقرّب أهلها ويكثر جوائزهم. ولم يزل يعمل الكيمياء فى مدّة ملكه؛ فحزن أموالا عظيمة بصحارى الغرب. وهو أوّل من أظهر علم الكيمياء بمصر وكان مكتوما. وكان الملوك قبله
أمروا بترك صنعتها لئلا تجتمع ملوك الأمم على غزوهم، فعملها كلكن وملا دور الحكمة منها حتى لم يكن الذهب بمصر أكثر منه فى وقته ولا الخراج؛ لأنه كان فى وقته- فيما حكاه القبط- مائة ألف ألف وبضعة عشر ألف ألف مثقال. قال: وكان المثقال الواحد من الصّنعة يطرح على القناطير الكثيرة فيصبغها، فاستغنوا عن إثارة المعادن لقلّة حاجتهم إليها. وعمل من الحجارة المسبوكة الملوّنة الصمّ التى تشفّ شيئا كثيرا لم يعمل مثله أحد ممن تقدّمه. وعمل من الأدرك «1» الملوّن والفيروزج أشياء تخرج عن العقول، حتى كان يسمّى حكيم الملوك. وغلب جميع الكهنة فى علومهم، وكان يخبرهم بما يغيب عنهم، فهابوه واحتاجوا إلى علمه.
وكان نمروذ بن كنعان الذى أهلكه الله تعالى على يد إبراهيم الخليل عليه السلام فى وقته، فيقال: إنه لما اتصل بنمروذ خبر حكمته استزاره فوجّه إليه أن يلقاه منفردا من أهله وحشمه بموضع كذا، ففعل النمروذ ذلك وسار إلى الموضع الذى ذكره، وأقبل كلكن على أربعة أفراس تحمله ذوات أجنحة، وقد أحاط به نور كالنار، وحوله صور هائلة قد خيّل بها، وهو متوشّح بثعبان محتزما ببعضه، والثعبان فاغر فاه، ومعه قضيب آس أخضر كلما حرّك الثعبان رأسه ضربه بالقضيب. فلما رآه النمروذ هاله أمره وخاطبه؛ فاعترف له بجليل الملك والحكمة، وسأله أن يكون ظهيرا له.
وتقول القبط: إن كلكن الملك كان يرتفع ويجلس على الهرم الغربىّ فى قبّة تلوح على رأسه. وكان أهل البلد إذا دهمهم أمر اجتمعوا حول الهرم. ويقولون:
إنه ربما أقام على رأس الهرم أياما لا يأكل ولا يشرب، ثم استتر عنهم مدّة حتى توهّموا أنه هلك. وكان يجول فى الأرض وحده حتى طمعت الملوك التى حوله
فى ملكه؛ فقصده ملك من ملوك الغرب يقال له «سادوم» فى جيش عظيم، وأقبل من ناحية المغرب من نحو وادى هبيب «1» ليكبس البلد، فأقبل حتى وافاهم، ثم جلّلهم بشىء من سحره كالغمام شديد الحرارة، فأقاموا تحته أياما لا يدرون أين يتوجّهون، فطار إلى مصر فآستأنس الناس لمقدمه، فعرّفهم ما جرى وأمرهم بالخروج إليهم ليعرفوا خبرهم، فوجدوهم ودوابّهم أمواتا فعجبوا لذلك، وهابه الكهنة هيبة لم يهابوها أحدا قبله، وصوّروه فى جميع الهياكل، وملكهم زمانا.
وبنى فى آخر عمره هيكلا لزحل من صوّان أسود فى ناحية الغرب، وجعل له عيدا، وجعل فى وسطه ناووسا، وحمل إليه ما أراد من ذهب وجوهر، وحكم وعقاقير، وعرّفهم بموته، وجعل على باب الناووس طلّسمات تمنع منه، وغاب عنهم فلم يقفوا على موته.
وكان قد أوصى إلى ابنه ماليا بن كلكن فملك بعد أبيه. وكان شرها كثير الأكل والشرب، منفردا بالرفاهة، غير ناظر فى شىء من الحكمة، وجعل أمر البلد إلى وزير له. وكان معجبا بالنساء؛ وكان له ثمانون امرأة، ثم اتخذ امرأة من بنات الملوك التى بمنف وكانت عاقلة سديدة الرأى، وكان بها معجبا فحمته النساء. وكان له بنون وبنات، وكان أكبر بنيه يقال له: طوطيس، فكان يستجهل أباه فأعمل الحيلة فى قتله، وإنما حملته على ذلك أمه وجماعة نسائه وبعض وزراء أبيه؛ فهجم عليه فى وزرائه وهو سكران وتلك المرأة عنده فقتله وقتل المرأة وصلبها.
وملك بعده ابنه طوطينس بن ماليا وجلس على سرير الملك. وكان جبّارا جريئا شديد البأس مهيبا؛ فدخل عليه الأشراف وهنئوه ودعوا له، وأمرهم بالإقبال على مصالحهم وما يعنيهم، ووعدهم الإحسان.
والقبط تزعم أنه أوّل الفراعنة بمصر، وهو فرعون إبراهيم الخليل عليه السلام.
ويقولون إن الفراعنة سبعة هو أوّلهم. قال: ثم تذاكر الناس ما فعله بأبيه وأنكروه واستقبحوا صلبه المرأة فأنزلها ودفنها، واستخفّ بالكهنة والهياكل.
ولنذكر خبره مع إبراهيم الخليل عليه السلام فى أمر سارة «1» ، ونورد من ذلك ما أورده أهل الأثر وما ورد فى الحديث الصحيح النبوىّ من هذه القصة. قال إبراهيم بن القاسم الكاتب فى سياقه أخباره: لما فارق إبراهيم عليه السلام قومه والنمروذ بن كنعان ونزل الشام ثم خرج إلى مصر ومعه سارة امرأته وخلّف ابن أخيه لوطا بالشام وسار إلى مصر، وكانت سارة أحسن نساء العالمين فى وقتها، ويقال إن يوسف الصدّيق ورث جزءا من حسنها لأنها جدّة أبيه. قال: فلما سار إبراهيم إلى مصر وأتى الحرس المقيمون على أبواب المدينة فرأوا سارة وعجبوا من حسنها ورفعوا خبرها إلى طوطيس «2» . وقد روينا فى ذلك حديثا بسندنا الذى قدّمناه إلى أبى عبد الله البخارىّ رحمه الله قال: حدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب قال: حدثنا أبو الزناد عن الأعرج عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال النبىّ صلى الله عليه وسلم: «هاجر إبراهيم عليه السلام بسارة فدخل بها قرية «3» فيها ملك
من الملوك أو جبار من الجبابرة فقيل: دخل إبراهيم بامرأة هى من أحسن النساء؛ فأرسل إليه أن يا إبراهيم من هذه التى معك؟ قال: أختى. ثم رجع إليها فقال: لا تكذّبى حديثى فإنى أخبرتهم أنك أختى؛ والله إن «1» على الأرض من مؤمن غيرى وغيرك؛ فأرسل بها إليه فقام إليها فقامت توضّأ وتصلى، فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغطّ «2» حتى ركض برجله.
قال الأعرج: قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن أبا هريرة قال: قالت: اللهم إن يمت يقال «3» هى قتلته فأرسل، ثم قام اليها فقامت توضّأ وتصلى وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجى إلا على زوجى فلا تسلّط علىّ هذا الكافر، فغط حتى ركض برجله. قال عبد الرحمن: قال أبو سلمة: قال أبو هريرة: فقالت:
اللهم إن يمت فيقال هى قتلته فأرسل فى الثانية أو فى الثالثة. فقال: والله ما أرسلتم الىّ إلا شيطانا! إرجعوها الى إبراهيم وأعطوها آجر، «4» فرجعت إلى إبراهيم عليه السلام فقالت: أشعرت أن الله كبت الكافر وأخدم وليدة» . هذا ما رويناه من صحيح البخارى «5» . وقد ورد فى أخبار طوطيس زيادات نذكرها؛ وهو أن الملك لما أطلقته فى المرة الثالثة قال لها: إن لك ربّا عظيما لا يضيّعك؛ وأعظم قدرها وسألها عن إبراهيم فقالت: هو قريبى وزوجى. قال: فإنه ذكر أنك أخته. قالت: صدق أنا أخته فى الدين، وكل من كان على ديننا فهو أخ لنا. قال: نعم الدين دينكم! ووجهها الى ابنته حوريا، وكانت من العقل والكمال بمكان كبير، فألقى الله تعالى محبة سارة فى قلبها فعظّمتها حوريا وأضافتها أحسن ضيافة، ووهبت لها جوهرا ومالا، فأتت
به إبراهيم عليه السلام فقال لها: ردّيه فلا حاجة لنا به فردته؛ فذكرت حوريا ذلك لأبيها فعجب منها وقال: هؤلاء من قوم كرام ومن أهل بيت طهارة فتحيّلى فى برّها بكل حيلة، فوهبت لها جارية قبطية من أحسن الجوارى يقال لها آجر، وهى هاجر أم إسماعيل عليه السلام، وعملت لها سلالا من الحلوى وقالت: يكون معك هذا للزاد. وجعلت تحت الحلوى جوهرا نفيسا وحليّا مصبوغا مكلّلا. فقالت:
أشاور صاحبى؛ فأتت إبراهيم عليه السلام فشاورته فقال: إذا كان مأكولا فخذيه، فقبلته منها وخرج إبراهيم عليه السلام. فلما أمعنوا فى السير أخرجت سارة بعض تلك السلال فأصابت الجوهر والحلىّ، فعرّفت إبراهيم ذلك، فباع بعضه وحفر من ثمنه البئر التى جعلها للسبيل وفرّق بعضه فى وجوه البرّ، وكان يضيف كل من مرّ به.
قال: وعاش طوطيس إلى أن وجهت إليه هاجر من مكة تعرّفه أنها بمكان جدب وتستغيثه، فأمر بحفر نهر فى شرقىّ مصر يمرّ بسفح الجبل حتى ينتهى إلى مرفأ السفن فى البحر المالح، فكان يحمل إليهما الحنطة وأصناف الغلّات فتصل إلى جدّة وتحمل من هناك على المطايا، فأحيا بلد الحجاز مدّة. ويقال: إن كل ما حلّيت به الكعبة فى ذلك العصر هو مما أهداه ملك مصر. ويقال: إنه لكثرة ما كان طوطيس يحمله إلى الحجاز سمّته العرب «جرهم الصادق» وكذلك يسمّيه كثير من أهل الأثر. وقد تقدّم فى قصة «1» إبراهيم الخليل عليه السلام أن اسم الملك صادوق، ويقال: إنه سأل إبراهيم عليه السلام أن يبارك له فى بلده، فدعا بالبركة لمصر، وعرّفه إبراهيم أن ولده سميلكها ويصير أمرها إليه.
قال: وطوطيس أوّل الفراعنة بمصر؛ وذلك أنه أكثر القتل حتى قتل قراباته وأهل بيته وبنى عمه وخدمه ونسائه، وأكثر الكهنة والحكماء. وكان حريصا على الولد
فلم يرزقه الله ولدا غير ابنته حوريا، وكانت عاقلة حكيمة تأخذ على يده كثيرا وتمنعه من سفك الدماء، فأبغضته وأبغضه الخلق: الخاص والعام. فلما رأت أمره يزيد خافت على زوال ملكهم فسمّته فهلك. وكان ملكه سبعين سنة. ولما مات اختلفوا فيمن يملّكوه عليهم بعده فقالوا: لا يملّك علينا أحد من أهل بيته، وأرادوا تمليك بعض ولد أتريب؛ فقام بعض الوزراء ودعا إلى تمليك ابنته لصنيعها فيه، ولما كانت تنكر عليه، وتبعه أكثر القوّاد والوجوه فتمّ لها الأمر.
وملكت حوريا بنة طوطيس وجلست على سرير الملك، ووعدت الناس بالإحسان، وأخذت فى جمع الأموال وحفظها، فاجتمع لها من الأموال والجوهر والحلىّ والطيب ما لم يجتمع لملك، وقدّمت الكهنة وأهل الحكمة ورؤساء السّحرة ورفعت أقدارهم، وأمرت بتجديد الهياكل وتعظيمها. وسار من لم يرضها إلى مدينة أتريب وملّكوا عليهم رجلا من ولد أتريب يقال له أنداخس؛ فعقد على رأسه تاجا وانضمّ إليه جماعة من بنى عمه وأهل بيته، فأنفذت إليه جيشا فحاربه؛ فلما رأى أنه لا طاقة له بها دعاها إلى الصلح وخطبها إلى نفسه وقال لها: إن الملك لا يقوم بالنساء، وخوّفها أن يزول ملكهم بمكانها؛ فعملت صنيعا وأمرت أن يحضره الناس على منازلهم، فحضروا وأكلوا وشربوا وبذلت لهم الأموال وعرّفتهم ما جرى من خطبتها، فبعض صوّب الرأى، وبعض امتنع وقالوا: لا يتولّى علينا غيرها لمعرفتنا بعقلها وحكمتها، وهى وارثة الملك؛ ووثبوا على نفر ممن خالفها فقتلوهم، وخرجوا فى جيش كثيف فلقوا جيش الخارج بأتريب فهزموه وقتلوا كثيرا من أصحابه، فهرب إلى أرض الشام وبها الكنعانيون من ولد عمليق، فاستغاث بملكهم وضمن له أخذ مصر وفتحها، فجهزه بجيش عظيم إلى مصر، فاجتمع الناس كلهم إلى حوريا، ففتحت خزائن أبيها وفرّقت ما فيها على الناس فأحبّوها، وقوّت السحرة بالمال ووعدتهم الإحسان.
فلما تقدّم أنداخس بالجيوش أمرت السّحرة أن يعملوا له عملا، وكان على جيوشهم قائد من عظماء قوّاد ملكهم يقال له جيرون؛ فلما نزلوا أرض مصر بعثت ظئرا لها من عقلاء النساء إلى جيرون سرّا من أنداخس تعرّفه رغبتها فى تزويجه، لأنها لا تختار أحدا من أهل بيتها، وأنه إن قتل أنداخس تزوّجت به وسلمت إليه ملك مصر ومنعت منه صاحبه. فرغب فى ذلك وسمّ أنداخس بسمّ أنفذته إليه فقتله؛ فوجهت إليه أنه لا يجوز أن أتزوّجك حتى تظهر فى بلدى قوّتك وحكمتك وتبنى لى مدينة عجيبة- وكان افتخارهم حينئذ بالبنيان وإقامة الأعلام وعمل العجائب- وقالت له: انتقل من موضعك هذا إلى غربىّ بلدى فثمّ آثار لنا كثيرة فاقتف تلك الأعمال الغريبة وابن عليها. ففعل ذلك وبنى لها مدينة بصحراء الغرب يقال لها تندومة «1» ، وجرّ إليها من النيل نهرا وغرس عليها غروسا كثيرة، وأقام بها منارا عاليا، وعمل فوقه منظرا وصفّحه بالذهب والفضة والصّفر والرخام الملوّن والزجاج المسبوك وأبدع فى عمله. وكانت تمدّه بالأموال وتكاتب صاحبه عنه وتهاديه وهو لا يعلم.
فلما فرغ من بناء المدينة قالت له: إن لنا مدينة حصينة كانت لأوائلنا وقد خربت منها أمكنة [وتشعّث حصنها «2» ] فامض إليها واعمل فى إصلاحها إلى أن أنتقل إلى هذه المدينة التى بنيتها وأنقل إليها جميع ما يحتاج إليه، فإذا فرغت من إصلاح تلك المدينة فأنفذ إلىّ جيشا حتى أصير إليك وأنظر ما صنعته، وأبعد عن مدينتى وأهل بيتى فإنى أكره أن آتيك بالقرب منهم. فمضى وجدّ فى عمل الإسكندرية الثالثة.
قال: وأهل التاريخ يسوقون شيئا من أخبار أنداخس ويذكرون أنه الذى قصد الوليد بن دومع العمليقى، وهو ثانى الفراعنة. وكان سبب قصده له أنه كانت به علّة فوجّه إلى المواضع ليحمل إليه من مياهها حتى يعرف ما يلائم جسده، فوجّه
غلاما له فأتى مملكة مصر ووقف على كثرة خيراتها «1» وحمل إلى صاحبه من مائها وألطافها وعاد إليه، فعرّفه حال مصر فقصدها فى جيش كثيف حتى حطّ عليها، وكاتب الملكة وخطب إليها نفسها، فوجهت إليه من أشرف على حاله فوجد قوما عظاما لا يقوم بحربهم، فأجابته إلى التزويج وألطفته وشرطت عليه أن يبنى لها مدينة يظهر فيها أيده وقوّته ويجعلها مهرا لها، فأجابها ودخل مصر وانتهى إلى ناحية الغرب ليبنى لها المدينة ناحية الإسكندرية، فأمرت أن يتلقّى بأصناف الرياحين والفواكه وتخلّق وجوه الخيل؛ فمضى إلى الإسكندرية- وقد خربت بعد خروج العاديّة «2» منها- فنقل منها ما كان من حجارتها ومعالمها وعمدها ووضع أساس مدينة عظيمة وبعث إليها مائة ألف فاعل، فأقام فى بنائها مدّة وأنفق جميع ما كان معه من المال، وكان كلما بنى بناء خرجت من البحر دوابّ تقلعه فإذا أصبح لم يجد منه شيئا؛ فاهتمّ لذلك.
وكانت حوريا قد أنفذت إليه ألف رأس من المعز اللبون يستعمل ألبانها فى مطبخه، وكانت مع راع يثق به، وكان ذلك الراعى يطوف بها ويرعاها هناك، فكان إذا أراد أن ينصرف عند المساء خرجت إليه من البحر جارية حسناء فتتوق نفسه إليها، فإذا كلمها شرطت عليه أن تصارعه فإن صرعها كانت له وإن صرعته أخذت رأسين من المعز؛ فكانت على طول الأيام تصرعه وتأخذ من الغنم حتى أخذت أكثر من نصفها وتغير باقيها لشغله بحب تلك الصورة عن رعيها، وتغير هو أيضا فى جسمه ونحل، فمرّ به صاحبه وسأله عن حاله وحال الغنم فخبّره الخبر خوف سطوته فقال: أى وقت تخرج؟ قال: قرب المساء. فلبس ثياب الراعى وتولّى رعية «3» الغنم يومه إلى المساء، وخرجت الجارية فشرطت عليه كما شرطت على الراعى، فأجابها وصارعها فصرعها وقبض عليها وشدّها فقالت له: إن كان لا بدّ
من أخذى فسلّمنى لصاحبى الأوّل فإنه ألطف بى، وقد عذّبته مرة بعد مرة، فردّها إليه وقال له: سلها عن هذا البنيان الذى بنيته ويزول من ليلته من يفعل به ذلك؛ وهل فى بنائه من حيلة؟ فسألها الراعى عن ذلك فقالت: إن دوابّ البحر التى تنزع بنيانكم. قال: فهل فيها من حيلة؟ قالت: نعم. قال: وما هى؟
قالت: تعمل توابيت من زجاج كثيف بأغطية وتجعل فيها قوما يحسنون الصناعة فى التصوير، وتجعل معهم صحفا وأنقاشا وزادا يكفيهم أياما، وتجعل التوابيت فى المراكب بعد أن تشدّها بالحبال، فإذا توسّطوا الماء صوّر المصوّرون جميع ما مرّ بهم وترفع تلك التوابيت من الماء، فإذا وقفتم على تلك الصور فآعملوا لها أشباها من الصّفر أو من الحجارة أو من الرصاص وانصبوها أمام البنيان الذى تبنونه من جانب البحر، فإن تلك الدوابّ إذا خرجت ورأت صورها هربت ولم تعد.
فعرّفه الراعى ذلك ففعله، وتمّ بناء المدينة.
وقال قوم من أهل التاريخ: إن صاحب البناء والغنم جيرون [المؤتفكىّ «1» ] وكان قصدهم قبل الوليد، وإنما أتاهم بعد حوريا وقهرهم جيرون وملك مصر.
وذكروا أن الأموال التى كانت مع جيرون نفدت كلها فى تلك المدّة ولم يتم البناء، فأمر الراعى فسأل تلك الجارية فقالت: إن فى المدينة التى خربت ملعبا مستديرا حوله سبعة عمد على رءوسها تماثيل [من «2» ] صفر قيام، فقرّب لكل تمثال منها ثورا سمينا ولطّخ العمود الذى عليه التمثال من دم الثور، وبخّره بشعر من ذنبه وشىء من نحاتة قرونه وأظلافه، وقل له: هذا قربانك فأطلق لى ما عندك، ثم قس من كل عمود إلى الجهة التى يتوجّه إليها وجه التمثال مائة ذراع واحفر، وليكن ذلك فى وقت امتلاء القمر واستقامة زحل؛ فإنك تنتهى بعد خمسين ذراعا إلى بلاطة عظيمة فلطّخها بمرارة الثور وأقلعها فإنك تنزل منها إلى سرب طوله خمسون ذراعا فى آخره خزانة مقفلة ومفتاح
القفل تحت عتبة الباب فخذه ولطّخ الباب ببقية مرارة الثور ودمه وبخره بنحاتة قرونه وأظلافه وشعره، وادخل الباب بعد أن تخرج الرياح التى فيه، فإنه يستقبلك صنم فى عنقه لوح من صفر معلق مكتوب فيه جميع ما فى الخزانة من مال وجوهر وتمثال وأعجوبة، فخذ منه ما شئت ولا تتعرض لميت تجده ولا لما عليه؛ وكذلك فافعل بكل عمود وتمثاله؛ فإنك تجد فى تلك الخزائن نواويس سبعة من الملوك وكنوزهم. فلما سمع ذلك سرّ به وفعله فوجد ما لا يدرك وصفه، ووجد من العجائب شيئا كثيرا؛ فتم بناء المدينة. واتصل ذلك بحوريا فساءها؛ وإنما كانت أرادت إتعابه وهلاكه بالحيلة عليه. فيقال: إنه فيما وجد من العجائب درج ذهب مختوم بطين ذهب فيه مكحلة زبرجد فيها ذرور أخضر ومعها عرق جوهر أحمر، من اكتحل من ذلك الذّرور وكان أشيب عاد شابا واسودّ شعره وأضاء بصره حتى يدرك النظر إلى أصناف الروحانيين، ووجد تمثال من الذهب إذا أظهر غيمت السماء وأمطرت، وتمثال غراب من حجر إذا سئل عن شىء صوّت وأجاب عنه. ويقال:
إنه كان فى كل خزانة عشر أعجوبات.
قال: فلما فرغ جيرون من بناء المدينة وجه إليها يعلمها ذلك ويحثّها على القدوم، فحملت إليه فرشا فاخرة وقالت: ابسطها فى المجلس الذى تجلس فيه، وأقسم جيشك أثلاثا وأنفذ إلىّ ثلثه، حتى إذا بلغت ثلث الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الآخر، فإذا جزت نصف الطريق فأنفذ إلىّ الثلث الباقى، ويكونون من ورائى لئلا يرانى أحد إذا دخلت عليك، ولا يكن عندك إلا صبية تثق بهم يخدمونك فإنى أوافيك فى جوار تكفيك الخدمة ولا أحتشمهنّ؛ ففعل. وأقامت تحمل إليه الجهاز والأموال حتى علم بمسيرها ووجه إليها ثلث جيشه فعملت لهم الأطعمة والأشربة المسمومة، فلما أتوها استنزلهم جواريها وحشمها وأقبلوا عليهم بتلك الأطعمة والأشربة والطيب والكساء
واللهو فلم يصبح منهم أحد يعيش، ولقيها الثلث الثانى والثالث بعده ففعلت بهم كذلك، وهى توجّه إليه أنها أنفذت جيشه إلى قصرها ومملكتها يحفظونه، إلى أن دخلت عليه هى وظئرها وجوار كنّ معها، فنفخت ظئرها فى وجهه نفخة بهت إليها ورشّت عليه ماء كان معها فارتعدت مفاصله فقال: من ظنّ أنه يغلب النساء فقد كذبته نفسه وغلبته النساء، ثم فصدت عروقه وأسالت دمه وقالت: دماء الملوك شفاء.
وأخذت رأسه فوجّهت به إلى قصرها فنصب عليه وحملت تلك الأموال الى منف.
وبنت منارا بالاسكندرية وزبرت عليه اسمها واسمه وما فعلت به وتاريخ الوقت.
قال: ولما اتصل خبرها بالملوك الذين يتاخمون بلدها، هابوها وأذعنوا لها وهادوها. وعملت بمصر عجائب كثيرة، وأقطعت أهل بيتها وقوّادها وحشمها أقطاعا كثيرة، وأمرت أن يبنى على حدّ مصر من ناحية النوبة حصن وقنطرة يجرى ماء النيل من تحتها. واعتلت حوريا فاجتمع اليها أهل مملكتها وسألوها أن تقدّم عليهم ملكا، ولم يكن فى ذلك الوقت من ولد أبيها وأهل بيته من يصلح لذلك، فقلدت عمتها دليفة بنت ماموم «1» ، وكانت عذراء من عقلاء النساء وكبراهنّ، فعهدت اليها وأخذت لها المواثيق على أهل مصر ألا يسلموها وأن يتبعوا أمرها، وسلمت اليها مفاتيح خزائنها، وأطلعتها على مواضع كنوز آبائها وكنوزها، وأمرت أن يضمّد جسدها بالكافور وتحمل الى المدينة التى بنيت لها فى صحراء الغرب، وقد كانت عملت لها فيها ناووسا وعملت فيه عجائب ونقلت اليه أصنام الكواكب، وزينته بأحسن الزينة ونصّبت له قومة، وأسكنت تلك المدينة جماعة من الكهنة وأصحاب العلوم والمهن وبعض الجيش، وعمرت تلك المدينة فلم تزل على حالها من العمارة الى أن خرّبها بختنصّر وحمل بعض كنوزها.
وجلست دليفة بنت ماموم على سرير الملك بعد وفاة حوريا، واجتمعت الكلمة عليها وأحسنت الى الناس ووضعت عنهم خراج سنة، وقام عليها أيمين يطلب بثأر خاله انداخس، واستنصر بملك العمالقة «1» فوجّه معه قائدا من قوّاده فى جيش كثيف، فأخرجت اليه دليفة بعض قوّادها فالتقوا بالعريش، وجعل سحرة الفريقين يظهرون التخاييل الهائلة والعجائب العظيمة والأصوات التى تقرع الأسماع وتؤلمها، فأقاموا مدّة يتكافئون الحرب ويتراجعون فهلك بينهم خلق كثير، ثم انهزم أصحاب دليفة الى منف وسار أصحاب أيمين فى آثارهم، ومضت دليفة فى جمع من جيوشها الى ناحية الصعيد فنزلت الأشمونين وأنفذت من قدرت عليه من الجيوش ووقعت الحرب بينهم بناحية الفيوم وخلّى أصحاب دليفة الماء بينهم وبين عدوّهم، واستنجدت دليفة بأهل مدائن الصعيد فحاربوا أصحاب أيمين حتى أزالوهم عن منف، وكانوا قد ظفروا بها وعاثوا فيها، فهزموهم حتى ركبوا المراكب وعدوا الى ناحية الحوف، وكان معهم ساحر من أهل ناحية قفط فأظهر بسحره نارا حالت بينهم وبين أصحاب دليفة، فلما زاد الأمر وأشفق أهل مصر من خروجها عن أيديهم سفر السفراء بينهم على أن يجعلوا البلد قسمة بينهم فأجاب كل منهما الى الصلح، ثم غدرت دليفة بعد ذلك بأيمين وأخرجت الأموال والجواهر وفرقتها فى الناس، وكان بعضهم قد لامها فى الصلح، فرجعت الى الحرب فأقاموا ثلاثة أشهر ثم ظهر أيمين عليها وهزمها الى ناحية قوص وسار خلفها وتمكن من المملكة، فلما رأت ذلك سمّت نفسها فهلكت.
وملك بعدها أيمين؛ فتجبر وقتل خلقا كثيرا ممن كان حاربه. وكان الوليد بن دومع العمليقى قد خرج فى جيش كثيف يتنقل فى البلدان ويقهر ملوكها ليسكن
ما يوافقه منها؛ فلما صار بالشام انتهى اليه خبر مصر وعظم قدرها، وأن أمرها قد صار الى النساء وبادت ملوكها، فوجه غلاما له يقال له عون، فسار الى مصر وفتحها وحوى أموالا، ومولاه لا يعرف خبره ولا يشك فى هلاكه وهلاك الجيش الذى معه، لما كان يسمع عما بمصر من الطلّسمات والسحر؛ ثم اتصل به خبره فسار الى مصر فتلقاه عون وعرّفه أنه كان عزم على المسير اليه وإنما أراد تعديل البلد وإصلاحه فقبل قوله ودخل.
وملك مصر الوليد بن دومع العمليقىّ، واستباح أهلها وأخذ أموالها وقتل جماعة من كهنتها، ثم سنح له أن يخرج فيقف على مصبّ النيل ويعرف ما بناحيته من الأمم ويغزوهم، فأقام ثلاث سنين يستعدّ لخروجه، وأصلح ما يحتاج اليه، واستخلف عونا على البلد وخرج فى جيش كثيف فلم يمرّ بأمة إلا أبادها. فيقال:
إنه أقام فى سفره سنين كثيرة، وإنه مرّ على أمم من السودان وجاوزهم، ومرّ على أرض الذهب وفيها قضبان نابتة؛ ولم يزل يسير حتى بلغ البطيحة «1» التى ينصبّ ماء النيل اليها من الأنهار التى تخرج من تحت جبل القمر «2» ؛ ثم سار حتى بلغ هيكل الشمس فدخله. ويقال: إنه خوطب فيه. وسار حتى بلغ جبل القمر؛ وهو جبل عال.
وإنما سمى جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه لخروجه عن خط الاستواء. ونظر الى النيل يخرج من تحته. وقد تقدّم خير النيل «3» .