المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر خبر أصحاب الكهف - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ١٥

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس عشر

- ‌[تتمة الفن الخامس في التاريخ]

- ‌[تتمة القسم الرابع من الفن الخامس في أخبار الملوك]

- ‌[تتمة الباب الثاني من القسم الرابع من الفن الخامس]

- ‌ذكر أخبار مصر

- ‌ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها

- ‌ولنرجع الى أخبار الملوك

- ‌ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك

- ‌ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك

- ‌ذكر خبر هاروت وماروت

- ‌ولنرجع إلى أخبار عديم بن البودسير الملك

- ‌ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه

- ‌ذكر أخبار أتريب الملك

- ‌ذكر» أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام

- ‌ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها

- ‌ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته

- ‌ذكر نبذة من أخبار من الملك مصر بعد غرق فرعون

- ‌الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم

- ‌ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول

- ‌ذكر أخبار بختنصّر

- ‌ذكر أخبار ملوك الطوائف

- ‌ذكر أخبار الملوك الساسانية

- ‌ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته

- ‌ذكر خطبة أنوشروان

- ‌ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم

- ‌ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله

- ‌ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم

- ‌ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه

- ‌ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين

- ‌كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر

- ‌ذكر أخبار ملوك السّريان

- ‌ذكر أخبار الملوك الكلوانيّين وهم ملوك النّبط ملوك بابل

- ‌ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم

- ‌ذكر خبر أصحاب الكهف

- ‌ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية

- ‌ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام

- ‌ذكر أخبار ملوك الصّقالبة والنّوكبرد

- ‌ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقه

- ‌ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم

- ‌الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتّصل بهذا الباب خبر سيل العرم

- ‌ذكر أخبار ملوك قحطان

- ‌ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك إلى حمير

- ‌ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان

- ‌ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان

- ‌الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس

- ‌ذكر وقعة طسم وجديس

- ‌ذكر حروب قيس فى الجاهلية يوم منعج لغنىّ على عبس

- ‌يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر

- ‌يوم رحرحان لعامر على تميم

- ‌يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم

- ‌يوم الخريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم

- ‌ذكر حرب داحس والغبراء وهى من حروب قيس

- ‌يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان

- ‌يوم ذى حسى لذبيان على عبس

- ‌يوم اليعمريّة لعبس على ذبيان

- ‌يوم الهباءة لعبس على ذبيان

- ‌يوم الفروق لبنى عبس

- ‌يوم قطن

- ‌يوم غدير قلبى

- ‌يوم الرقم لغطفان على بنى عامر

- ‌يوم حوزة الثانى

- ‌يوم ذات الأثل

- ‌يوم الظعينة بين دريد بن الصّمّة وربيعة بن مكدّم

- ‌يوم الصّلعاء لهوازن على غطفان

- ‌يوم فزارة لكنانة على سليم

- ‌يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم

- ‌يوم دارة مأسل لتميم على قيس

- ‌أيام تميم على بكر يوم الوقيط

- ‌يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر

- ‌يوم القحقح وهو يوم مالة لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم مخطّط لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم جدود

- ‌يوم سفوان

- ‌أيام بكر على تميم يوم الزّويرين

- ‌يوم الشّيّطين لبكر على تميم

- ‌يوم صعفوق لبكر على تميم

- ‌يوم مبايض لبكر على تميم

- ‌يوم فيحان لبكر على تميم

- ‌يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم

- ‌يوم الحاجز لبكر على تميم

- ‌يوم الشقيق لبكر على تميم

- ‌ذكر حرب البسوس وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل

- ‌ذكر مقتل كليب وائل

- ‌يوم النّهى

- ‌يوم الذنائب

- ‌يوم واردات

- ‌ يوم عنيزة

- ‌يوم قضة

- ‌يوم تحلاق اللّمم

- ‌الكلاب الأوّل

- ‌يوم الصّفقة وهو يوم الكلاب الثانى

- ‌يوم طخفة

- ‌يوم فيف الريح

- ‌يوم زرود الأوّل

- ‌يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل

- ‌يوم الجبابات

- ‌يوم الشّعب

- ‌يوم غول الثانى فيه قتل طريف شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمىّ

- ‌يوم الخندمة

- ‌يوم اللهيماء

- ‌يوم خزاز

- ‌يوم النّسار

- ‌يوم ذات الشقّوق

- ‌يوم خوّ

- ‌أيام الفجار

- ‌الفجار الأوّل

- ‌الفجار الثانى

- ‌الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن

- ‌الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن

- ‌يوم العبلاء

- ‌يوم شرب

- ‌يوم الحريرة

- ‌يوم عين أباغ

- ‌يوم ذى قار

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر فى أحد الأصلين الفتوغرافيين المرموز له بنسخة (ا)

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر أيضا فى الأصل الثانى الفتوغرافى المرموز له بنسخة (ب)

الفصل: ‌ذكر خبر أصحاب الكهف

‌ذكر خبر أصحاب الكهف

قال الشيخ عبد الوهّاب بن المبارك بن أحمد بن الحسين الأنماطىّ فى كتاب المبتدإ يرفعه الى وهب بن منبّه: إنّ أصحاب الكهف كانوا فتية من الروم، وهم الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال:(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً)

الآيات التى فى سورة الكهف «1» . قال:

وكان فى إيمانهم عبرة وتفكّر منهم فى عظم الله وجلاله وملكه وسلطانه وأصناف خلقه، لم يأتهم بذلك وحى ولم يقرءوا كتابا، ولم يدركوا زمان نبوّة، وكانوا فى زمن فترة قبل أن يبعث الله عز وجل عيسى بن مريم عليه السلام، وهذا القول مخالف لما ذكرناه آنفا، فإنّ المساق الذى قدّمناه من أخبار ملوك الروم يقتضى أن بين رفع عيسى عليه السلام وبين ملك دقيوس ما يزيد على مائتى سنة. والله عز وجل أعلم.

قال: وكانوا شبّانا متقاربين فى السنّ قلّما يتفاوتون، وكانوا من فصيلة واحدة يجمعهم النسب، وكانوا فى حسب عظيم من أحساب الروم، من ولد عظمائهم وملوكهم وأشرافهم، وكان للروم فيهم هوى وصبابة شديدة، وكان ملك الروم الأوّل فى آباء أولئك الفتية وينقل فى فصيلتهم التى كانوا منها أكثر من أربعمائة عام حتى انقرضت تلك الفصيلة وزال الملك عنهم. فكان أولئك الفتية عقب أولئك الملوك وبقيّتهم، وكان الروم يتمنّون ملكهم ويمدّون اليهم أعناقهم لما قد بلغهم ما كان الناس فيه فى زمن أسلافهم من الخفض والدعة والعافية والبسط والأمن والسّعة، فكانوا يؤمّلونهم ويرجونهم، وكانت ملوك الروم قد جفوهم وحرموهم وأقصوهم وأضرّوا بهم مخافة منهم على ملكهم لما يعلمون من رأى الروم فيهم، وكانوا مع

ص: 266

ذلك يكفّون عنهم أذاهم، ويعرفون أنهم مفزع الروم إن اختلفوا ومعوّلهم عليهم، فلم تزل تلك حالهم فيما بينهم وبين ملوكهم وقومهم حتى أراد الله تعالى بهم ما أراد من هداهم والإيمان الذى نوّره الله فى قلوبهم.

قال قائل منهم: إنى قد رأيت رأيا وقع فى قلبى وأمرا ثبت فيه، فلست أبصر غيره، وليس يخرجه من قلبى شىء، اسمعوا أعرض عليكم، إنّى فكّرت فى خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والشمس والقمر، والنجوم والسحاب والمطر، والأحياء والأموات، والنبات، والصّغار والكبار، والبقاء والفناء، والشدّة والرخاء، وتقلّب الدنيا بأهلها، والأطباق التى تنصرف عليها الخلق طبقا بعد طبق، وقوما عن قوم: من موت وحياة، ونقص وزيادة، وخفض ورفع، وغنى وفقر، وطول عمر ونقص آخر، وموت صغير وهرم كبير، وأشباه لذلك كثيرة، وهى أكثر من أن تعدّ وتوصف أو تحصى؛ فلمّا نظرت فيها وأعملت الرأى والنظر أجمع رأيى على أنّ لها خالقا بديعا ابتدعها؛ وربّا يملكها ويدبّرها، ويخلقها ويرزقها، ويغنيها ويفقرها، ويرفعها ويخفضها، ويحييها ويميتها ويفنيها، تتقلّب فى قبضته وتعيش برزقه؛ فلمّا تمّ لى الرأى نظرت فى عظمة هذا الربّ الذى ابتدع هذا الخلق وضبطه، ودبّره وأحكم أمره، فإذا قدرته تأتى من وراء ذلك كلّه، ليس من هذا الخلق شىء يفوتها ولا يخرج منها، وإذا هى محيطة بكلّ شىء ومن وراء كلّ شىء، ثم نظرت فى عظمة الربّ هل أصفها كما وصفتها القدرة، وهل أعلم كنهها؟ فتحيّرت فيها، وعجز عنها الحلم والعلم، وحسر عنها العقل والنظر، وما بقى مما لم أذكره لكم معرفة القلب ولا نصفه إلّا أنه قد ألهم بمعرفته وأسرّ بها أكثر وأعظم وأعجب مما وصفت وشرحت لكم، فماذا تقولون، وماذا تعرفون، وماذا تفعلون؟

ص: 267

قالوا: قد قلت قولا عظيما ووصفت أمرا عجيبا، وما نحسبك إلّا قد أصبت فيه الرأى والنظر، وقد صدّقناك وتابعناك ورأينا رأيك وواقع قلوبنا منه ومن معرفته مثل الذى عرفت وواقع قلبك، وإن كنّا لنرى مثل الذى رأيت من أعاجيب هذا الخلق وعظمة هذا الخالق، وإن كان ليكثر أن يخطر على قلوبنا منه مثل ما خطر على قلبك، ولكنّا لم نشرح منه ما شرحت ولم نصف منه ما وصفت، ولم نعمل الرأى والنظر فى معرفته مثل ما أعملت وعرفت، ولكنّ الله أراد هداك وتفضيلك وإكرامك بما سبقت إليه من هذا القول وهذا العلم وهذه المعرفة، ولكن حدّثنا عمّا نسألك عنه، وإنما نظرنا فيه بعد ما سمعنا قولك؛ هل ينبغى لهذا الربّ الذى وصفته بما وصفته من العظمة أن يكون له شريك فى ملكه، أو حاجة إلى شىء من خلقه، أو هل يغلبه شىء يستعين عليه بغيره؟

قال لهم: لو كان له شريك فى شىء من أمره لضبط ما ضبط، ولو كانت به حاجة إلى أحد من خلقه لكان مثلهم، ولو كان يستعين على شىء يغلبه بغيره إذا ما بلغت قدرته ما بلغت، ولا أحاطت بما أحاطت به، ولا وسع ما اتّسع له من أمر خلقه، وتدبير ما خلق ورزق وأمات وأحيا.

قالوا له: صدقت وعرفنا ما تقول وثبت فى قلوبنا، ولكن حدّثنا ما بال خلقه يشركون به وهم يعرفونه حقّ معرفته. قال: لأنه خلق فيهم الأهواء وطبع فيهم الشهوات، وجبلهم على الضعف، وثبّت معهم الشيطان، فمن قبل هذا عدلوا به وهم يعرفون أنّ الذين يدعون من دونه لا يحيونهم ولا يميتونهم، ولا يخلقونهم ولا يرزقونهم، ولا يضروّنهم ولا ينفعونهم، إذا مسّهم الضّرّ فإيّاه يدعون وإليه يجأرون؛ فعند ذلك اجتمع رأيهم على أن يأووا إلى الكهف، وأن يعتزلوا قومهم

ص: 268

وما يعبدون من دون الله، فعندها قالوا:(رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً)

إلى قوله: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً) *

قال: فلمّا اعتزلوهم وما يعبدون من دون الله آووا إلى الكهف رجاء أن ينشر لهم ربهم من رحمته ويهيّىء لهم من أمرهم مرفقا. قال: وأرادوا أن يكونوا فى عزلة من قومهم وشركهم حتى يفرق لهم رأيهم، فألقى الله عليهم السّبات.

قال: وهم من مدينة من مدائن الروم يقال لها أفسوس «1» ، وملك الروم يومئذ دقيوس، ويقال- والله أعلم- إنّ عدّتهم سبعة، كان عبد الله بن عباس يسمّيهم بأسمائهم ويقول: ما يعلمهم إلا قليل وأنا من أولئك القليل، منهم مرطالوس، ونونوس، ودانيوس، وسراقيون، واسطاطالوس، ومكسلميس، وتمليخا، وهو الذى بعثوه بورقهم إلى المدينة ليرتاد لهم. هذا قول ابن عباس، قال: وكانوا قوما يطلبون الصّيد لما مسّهم من الضّرّ والحاجة ليس لهم كبير معيشة غيره، فقالوا قولهم هذا ونظروا ما نظروا، وهم يومئذ فى الجبل الذى فيه كهفهم يطلبون الصيد ومعهم كلابهم وبزاتهم وقسيّهم ونبلهم. فلمّا أجمع رأيهم أن يأووا إلى الكهف ليأتمروا فيه، هل يقيمون مع قومهم على شركهم، أم يفارقونهم فينتجعون ناحية من الأرض يحلّون فيها ويوحّدون فيها ربّهم. فبينا هم على ذلك ألقى الله عليهم السّبات وأخفى على جميع خلقه مكانهم، وصرف عنهم الأبصار والعقول، فليس يبصرهم أحد ولا يفطن بمكانهم، فلبثوا فى كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا، حتى انقرضت الأمّة التى كانوا فيها والملك الذى كان عليهم، وظهر المسيح عيسى بن مريم عليه السلام وآمن به الناس واتّبعوا ملّته ورفعه الله اليه وذهب زمانه وزمان أهل ملّته وهم فى كهفهم.

ص: 269

قال: وقد كان عيسى بن مريم عليه السلام قبل أن يرفعه الله يحدّث عنهم وعن إيمانهم وبصيرتهم، وكيف تفكّروا فى عظمة إلهم، وكيف ألقى الله عليهم السّبات فى كهفهم، وكيف أخفى مكانهم عن الناس، ولا ينبغى لأحد أن يهتدى إليهم ولا يعرف مكانهم، وكان يخبر أنّ الله سيردّ إليهم أرواحهم ويدلّ على كهفهم ليكونوا عبرة لمن خلفهم إن أراد أن يعتبر بهم.

قال: فردّ الله اليهم أرواحهم بعد أن لبثوا فى كهفهم العدّة التى ذكرها الله عز وجل فى القرآن ولزمهم كلبهم، فلبث سنيهم كلّها، كما أخبر الله تعالى:(وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ)

. والوصيد: فناء الكهف الذى فيه موضع الباب، وكان الكلب من كلاب صيدهم ولم يطعم ولم يشرب ليجعله الله آية من آياتهم.

قال: فلمّا ردّ الله عليهم أرواحهم (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ)

إلى قوله: (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)

وهم حينئذ يظنّون أنّ قومهم أحياء، وأنهم على ما يعهدون من حالهم وشركهم وعتوّ ملكهم، فانطلق رجل منهم يقال له تمليخا، وكان أشدّهم وأنجدهم، فتوجّه حتى إذا خالط ربض المدينة أنكره وأنكر ما وجد به من الناس والدوابّ والبنيان وغير ذلك، ووجد الناس على حال لم يكن يعهدها وسنّة لم يكن يعرفها، ووجدهم يبتاعون بورق لا يشبه الورق الذى معه، فتحيّر وأنكر وأقبل وأدبر، وأبطأ على أصحابه حتى خافوا عليه، وظنّوا أنه فطن به وقدر عليه. فلمّا طال عليه ذلك دخل المدينة من ناحية أخرى من نواحيها خفية فوجد حال أهل المدينة على حال أهل الرّبض فى كلّ شىء، فلمّا شكّ وارتاب والتبس عليه رأيه عمد إلى مشيخة من أهل المدينة توسّم فيه الخير ليتجسّس ويسمع قولهم، فوجد معهم الإنجيل يقرءونه، فسمع ما فيه من توحيد الله وعظمته وعذابه وسنّته وشرائعه وحلاله وحرامه، فعرف ذلك وأذعن اليه وأنصت يسمع حتى إذا

ص: 270

فرغوا من قراءتهم سألهم عن كتابهم فقالوا: هذا كتاب الله الإنجيل الذى أنزل على عيسى بن مريم عليه السلام نبيّه. قال: وأين عيسى؟ قالوا: قد رفعه الله تعالى اليه. قال: وكم لبث فيكم؟ قالوا: ثلاثا وثلاثين سنة. قال: وهل رأيتموه وأتيتموه وأدركتم زمانه؟ قالوا: لا، كان قبل أن نولد، ووجدنا كتابه فى أيدى آبائنا. قال: أفكلّ هذه المدينة تؤمن بهذا النبىّ وبهذا الكتاب وتعمل بما فيه مما أسمع من حلاله وحرامه؟ قالوا: نعم، إلّا مستحقّا بذنب أو ظالما لنفسه.

قال: فهل سمعتم بالملك الذى يقال له دقيوس؟ قالوا: نعم. قال: فكم له منذ هلك؟ قالوا: أكثر من ثلاثمائة عام. قال: فهل بقى له عقب، أو لأحد من أهل مملكته يعمل بعمله؟ قالوا: لا. قال: فلو أراد أحد أن يعمل بمثل عمله ما كنتم تفعلون به؟ قالوا: نقتله أو نخرجه من بين أظهرنا.

فلمّا آمنهم واطمأنّ إليهم ورأى سمت الإسلام وهديه عليهم وفّقه الله وهداه لمسألة سألهم عنها. قال: أخبرونى، هل كان نبيّكم عيسى عليه السلام يخبركم عن سبعة رهط خرجوا من هذه المدينة فى زمن دقيوس وقومه، وهربوا إلى الله بأنفسهم ودينهم فرارا من دقيوس وقومه، وما كانوا يعبدون من دون الله حتى آووا الى الكهف فى هذه الجبال فاستخفوا فيها. فلمّا قال لهم هذا أوجسوا فى أنفسهم أنه منهم، قالوا: نعم، قد كان يخبرنا عنهم فلعلك منهم فإنّا ننكر حالك كلّه.

قال: فهل كان عيسى عليه السلام فيما بلّغكم سمّى أصحاب الكهف؟ قالوا: نعم؛ قال: فسمّوهم لى بأسمائهم، فسمّوهم حتى إذا ذكروا اسمه تمليخا قال: فأنا تمليخا وأنا أحدهم، فخرّوا له سجّدا كما صنع إخوة يوسف بيوسف يوم دخلوا عليه؛ وكانت تحيّتهم فيما بينهم السجود يومئذ، ثم أدخلوه مسجدهم وعظّموه ووقّروه وأكرموه ورفعوه وجمعوا له أهل مدينتهم وقرّاءهم وفقهاءهم، فتبرّكوا به، وجعلوا له عيدا

ص: 271

عظيما، وأقام أياما بين أظهرهم ثم قال لهم: إنّ أصحابى الذين يحدّثكم عنهم عيسى عليه السلام لا أراهم إلّا وقد خافوا علىّ وساء ظنّهم وهم يظنّون أنّ دقيوس حىّ؛ وأنّ الزمان زمانه، وأنّ الدين دينه، فانطلقوا بنا نعلمهم كيف أهلكه الله وقومه وطهّر الأرض منهم، وكيف استبدل الله به وبأهل ملّته أمّة يوحّدونه ويعرفونه ويهدون بالحقّ وبه يعدلون. فانطلقوا معه حتى انتهوا الى الكهف فوجدوا كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد فقالوا حين رأوه: وهذا الكلب أيضا من علاماتكم التى كان يحدّثنا عنها عيسى عليه السلام، وقد كان يحدّث أنّ أصحاب الكهف لا ينظر إليهم أحد من خلق الله من يوم يدخلون الكهف إلى أن ينزل عيسى بن مريم عليه السلام إلا رجل واحد منهم، وهو الذى يدلّ عليهم وعلى مكانهم، وأنت هو؛ فدخل على أصحابه فأخبرهم بما رأى وما لقى، ثم كان آخر العهد بهم. قال الله عز وجل:(وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)

. قال: فبنوه حول الكهف وجعلوا الكهف فى وسطه وكتبوا القصّة على حيطانه.

قال وهب: فبلغنى- والله أعلم- أنّ النبىّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ نزول أخى عيسى بن مريم عليه السلام علم للساعة، وإنّ الله يبشرهم عند نزول عيسى بن مريم عليه السلام، وإنه يحجّ فى سبعين ألفا فيهم أصحاب الكهف لأنهم لم يموتوا، ثم تقبل ريح صفراء يمانيّة، ألين من الحرير، وريحها ريح المسك فتقبض روح عيسى عليه السلام وأرواح من معه. انتهى خبر أصحاب الكهف، فلنرجع إلى ما كنّا فيه من أخبار ملوك الروم.

قال: ثم ملك بعد دقيوس جالش. فكانت مدّة ملكه ثلاث سنين. ثم ملك بعده قليطانس. فكانت مدّة ملكه عشر سنين، ثم كانت بعده ملوك الروم المتنصّرة.

ص: 272