المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ذكر أخبار ملوك قحطان - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ١٥

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الخامس عشر

- ‌[تتمة الفن الخامس في التاريخ]

- ‌[تتمة القسم الرابع من الفن الخامس في أخبار الملوك]

- ‌[تتمة الباب الثاني من القسم الرابع من الفن الخامس]

- ‌ذكر أخبار مصر

- ‌ذكر خبر بناء الأهرام وسبب بنائها وشىء من عجائبها

- ‌ولنرجع الى أخبار الملوك

- ‌ذكر خبر كهّان مصر وحالهم مع الملوك

- ‌ذكر من ملك مصر بعد الطوفان من الملوك

- ‌ذكر خبر هاروت وماروت

- ‌ولنرجع إلى أخبار عديم بن البودسير الملك

- ‌ذكر أخبار أشمون ومن ملك من بنيه

- ‌ذكر أخبار أتريب الملك

- ‌ذكر» أخبار صابن قبطيم بن مصريم بن بيصر بن حام ابن نوح عليه السلام

- ‌ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها

- ‌ذكر عود الوليد إلى مصر وهرب عون إلى مدينته

- ‌ذكر نبذة من أخبار من الملك مصر بعد غرق فرعون

- ‌الباب الثالث من القسم الرابع من الفن الخامس فى أخبار ملوك الأمم من الأعاجم

- ‌ذكر أخبار ملوك الفرس وهم الفرس الأول

- ‌ذكر أخبار بختنصّر

- ‌ذكر أخبار ملوك الطوائف

- ‌ذكر أخبار الملوك الساسانية

- ‌ذكر قطعة من سير كسرى أنو شروان وسياسته

- ‌ذكر خطبة أنوشروان

- ‌ذكر حيلة لأبرويز على ملك الروم

- ‌ذكر سبب هلاك أبرويز وقتله

- ‌ذكر أخبار ملوك اليونان وأنسابهم

- ‌ذكر شىء من مكايد الإسكندر وحيله فى حروبه

- ‌ذكر شىء من أخبار الإسكندر وما اتفق له مع ملكى الهند والصين

- ‌كلام الحكماء عند وفاة الإسكندر

- ‌ذكر أخبار ملوك السّريان

- ‌ذكر أخبار الملوك الكلوانيّين وهم ملوك النّبط ملوك بابل

- ‌ذكر أخبار ملوك الروم وأنسابهم

- ‌ذكر خبر أصحاب الكهف

- ‌ذكر أخبار ملوك الروم المتنصّرة وهم ملوك القسطنطينية

- ‌ذكر ملوك الروم بعد ظهور الإسلام

- ‌ذكر أخبار ملوك الصّقالبة والنّوكبرد

- ‌ذكر خبر ملوك الإفرنجة والجلالقه

- ‌ذكر طوائف السودان وشىء من أخبارهم ونسبهم

- ‌الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتّصل بهذا الباب خبر سيل العرم

- ‌ذكر أخبار ملوك قحطان

- ‌ذكر خبر سيف بن ذى يزن وعود الملك إلى حمير

- ‌ذكر أخبار ملوك الشام من ملوك قحطان

- ‌ذكر أخبار ملوك الحيرة وهم من آل قحطان

- ‌الباب الخامس من القسم الرابع من الفنّ الخامس

- ‌ذكر وقعة طسم وجديس

- ‌ذكر حروب قيس فى الجاهلية يوم منعج لغنىّ على عبس

- ‌يوم بطن عاقل لذبيان على بنى عامر

- ‌يوم رحرحان لعامر على تميم

- ‌يوم شعب جبلة لعامر وعبس على ذبيان وتميم

- ‌يوم الخريبة وفيه قتل الحارث بن ظالم

- ‌ذكر حرب داحس والغبراء وهى من حروب قيس

- ‌يوم المريقب لبنى عبس على بنى ذبيان

- ‌يوم ذى حسى لذبيان على عبس

- ‌يوم اليعمريّة لعبس على ذبيان

- ‌يوم الهباءة لعبس على ذبيان

- ‌يوم الفروق لبنى عبس

- ‌يوم قطن

- ‌يوم غدير قلبى

- ‌يوم الرقم لغطفان على بنى عامر

- ‌يوم حوزة الثانى

- ‌يوم ذات الأثل

- ‌يوم الظعينة بين دريد بن الصّمّة وربيعة بن مكدّم

- ‌يوم الصّلعاء لهوازن على غطفان

- ‌يوم فزارة لكنانة على سليم

- ‌يوم أقرن لبنى عبس على بنى دارم

- ‌يوم دارة مأسل لتميم على قيس

- ‌أيام تميم على بكر يوم الوقيط

- ‌يوم الحائر وهو يوم ملهم لبنى يربوع على بنى بكر

- ‌يوم القحقح وهو يوم مالة لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم رأس العين لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم الغبيط لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم مخطّط لبنى يربوع على بكر

- ‌يوم جدود

- ‌يوم سفوان

- ‌أيام بكر على تميم يوم الزّويرين

- ‌يوم الشّيّطين لبكر على تميم

- ‌يوم صعفوق لبكر على تميم

- ‌يوم مبايض لبكر على تميم

- ‌يوم فيحان لبكر على تميم

- ‌يوم ذى قار الأوّل لبكر على تميم

- ‌يوم الحاجز لبكر على تميم

- ‌يوم الشقيق لبكر على تميم

- ‌ذكر حرب البسوس وهى حرب بكر وتغلب ابنى وائل

- ‌ذكر مقتل كليب وائل

- ‌يوم النّهى

- ‌يوم الذنائب

- ‌يوم واردات

- ‌ يوم عنيزة

- ‌يوم قضة

- ‌يوم تحلاق اللّمم

- ‌الكلاب الأوّل

- ‌يوم الصّفقة وهو يوم الكلاب الثانى

- ‌يوم طخفة

- ‌يوم فيف الريح

- ‌يوم زرود الأوّل

- ‌يوم غول الأوّل وهو يوم كنهل

- ‌يوم الجبابات

- ‌يوم الشّعب

- ‌يوم غول الثانى فيه قتل طريف شراحيل وعمرو بن مرثد المحلّمىّ

- ‌يوم الخندمة

- ‌يوم اللهيماء

- ‌يوم خزاز

- ‌يوم النّسار

- ‌يوم ذات الشقّوق

- ‌يوم خوّ

- ‌أيام الفجار

- ‌الفجار الأوّل

- ‌الفجار الثانى

- ‌الفجار الثالث وهو بين كنانة وهوازن

- ‌الفجار الآخر وهو بين قريش وكنانة كلها وبين هوازن

- ‌يوم العبلاء

- ‌يوم شرب

- ‌يوم الحريرة

- ‌يوم عين أباغ

- ‌يوم ذى قار

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر فى أحد الأصلين الفتوغرافيين المرموز له بنسخة (ا)

- ‌صورة ما ورد بآخر الجزء الثالث عشر أيضا فى الأصل الثانى الفتوغرافى المرموز له بنسخة (ب)

الفصل: ‌ذكر أخبار ملوك قحطان

‌الباب الرابع من القسم الرابع من الفنّ الخامس فى أخبار ملوك العرب ويتّصل بهذا الباب خبر سيل العرم

‌ذكر أخبار ملوك قحطان

قال المؤرّخون: لم يكن للعرب ملك حقيقىّ، وإنما كان من ملك حمير فى بلاد اليمن سمّى ملكا، وقد كانوا فى بعض الأوقات يخرجون من بلادهم ويسيحون فى الأرض حتّى بلغوا أقصى المغرب، وبلغوا من حدود المشرق سمرقند، وبلغوا باب الأبواب، ودخلوا بلاد الهند ولم يستقرّوا فى غير بلادهم، فلا يعدّ ذلك ملكا، وإنما هو غارة.

فأوّل ملوك قحطان عبد شمس، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وإنما سمّى سبأ لأنه أوّل من أدخل بلاد اليمن السّبى. قال عبد الملك بن عبدون فى كتابه المترجم بكمامة «1» الزهر وصدفة الدرّ: إنّ عبد شمس هذا ملك أربعمائة سنة وأربعا وثمانين سنة. قال: وقد اختلف فى أوّل من ملك منهم، فقيل يعرب بن قحطان. قال: وهو أوّل من نطق بالعربية، وأوّل من حيّاه ولده بتحية الملك: أبيت اللّعن، وأنعم صباحا.

والأشهر أنّ عبد شمس سبأ هو أوّل ملوكهم. والله أعلم.

ثم ملك بعده ابنه حمير بن سبأ، قال: وكان أشجع الناس فى وقته، وأفرسهم وأجملهم. وقيل: إنه إنما سمّى حمير لكثرة لباسه الأحمر من الثياب، وكان يلقّب

ص: 291

بالعرنجج، وهو أوّل من وضع تاج الذهب على رأسه من ملوك اليمن. وكان ملكه خمسين سنة، وذلك فى عصر قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام.

ثم ملك بعده أخوه كهلان بن سبأ. فكان ملكه إلى أن هلك ثلاثمائة سنة.

واختلف فيمن ملك بعده، فقيل: ملك بعده أبو مالك بن عسكر بن سبأ. فكان ملكه ثلاثمائة سنة. وقيل ملك بعد كهلان الرائش وهو الحارث بن شدّاد «1» ، وكان الحارث أوّل من غزا منهم، وأصاب الغنائم، وأدخلها اليمن، وبينه وبين حمير خمسة عشر أبا، وسمّى الرائش لأنه لمّا أدخل الغنائم والأموال والسّبى بلاد اليمن فراش الناس [فى أيامه «2» ] . وفى عصره مات لقمان النسور. قال: وذكر الرائش هذا نبيّنا صلى الله عليه وسلم فى شعره، فقال من قصيدته:

ويملك بعدهم رجل عظيم

نبىّ لا يرخّص فى الحرام

يسمّى أحمدا يا ليت أنّى

أعمّر بعد مخرجه بعام

قال: وكان ملكه مائة وخمسا وعشرين سنة. هكذا نقل عبد الملك بن عبدون وذكر الخلاف فى أبى مالك والرائش على ما ذكرناه. وأمّا غيره فإنه لم يذكر كهلان ابن سبأ ولا أبا مالك، بل قال: إنّ حمير عهد إلى ابن ابنه الملطاط بن عمرو بن حمير. قال: وفى أيامه انقرض ملك صحار وجاسم ابنى دارم وبادوا.

قالوا: ثم ملك بعده ابنه أبرهة ويقال له ذو المنار. قالوا: سمّى بذلك لأنه أوّل من أقام المنار فى مغازيه على الطريق، وذلك أنه أوغل فى بلاد المغرب والسودان، واتّخذها ليهتدى بذلك فى قفوله. وكان ملكه مائة وثلاثين سنة،

ص: 292

وقيل مائة وثلاثا وثمانين سنة. هكذا ذكر ابن قتيبة فى كتاب المعارف أن الذى ملك أبرهة. وقال المسعودىّ: إنّ الذى ملك بعد الرائش جبّار بن غالب بن زيد ابن كهلان وقال: إنّ ملكه كان مائة وعشرين سنة. والله أعلم.

ثم ملك بعد أبرهة على ما ذكر ابن حمدون فى تذكرته ابنه إفريقش، وهو ذوا الأذعار. قال: سمّى بذلك لأنه خرج نحو بلاد المغرب وأوقع بقوم لهم خلق منكرة فذعر الناس منهم وفرّقوا. قال ابن عبدون: وغزا إفريقش بلاد المغرب حتى أتى طنجة ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم ببلاد المغرب. وكان البربر بقيّة من قتل يوشع بن نون. قال: وإفريقش هو الذى بنى إفريقية وبه سمّيت.

ثم ملك بعده ابنه العبد ويلقّب ذا الشناتر، وهى الأصابع فى لغة حمير.

قال: وخرج نحو العراق فاحتضر فى طريقه. هكذا ذكر ابن حمدون. وقال عبد الملك: إنّ الذى ملك بعد إفريقش أخوه العبد بن أبرهة. قال: وهو ذو الأذعار، سمّى بذلك لأنه كان فيما ذكر أهل الأخبار غزا بلاد النسناس فقتل منهم مقتلة عظيمة، ورجع إلى اليمن من سبيهم بقوم وجوههم فى صدورهم فذعر الناس منهم فسمّى بذى الأذعار. وكان ملكه خمسا وعشرين سنة. وقد قدّمنا أنّ ذا الأذعار هو إفريقش. والله أعلم.

ثم ملك بعده الهدهاد بن عمرو بن شرحبيل. هكذا قال ابن حمدون والمسعودىّ، إلّا أنّ المسعودىّ لم يذكر عمرا وقال الهدهاد بن شرحبيل. وسمّاه ابن قتيبة هدّاد بن شرحبيل بن عمرو بن الرائش، وهو أبو بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام. وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وقيل سبعة، وقيل ستة. وقد قدّمنا

ص: 293

خبر بلقيس وأنها ابنة ذى أشرح، وأنّ والدها لم يكن ملكا وإنما كان وزيرا لملك حمير وهو شراحى الحميرىّ. والله تعالى أعلم.

واختلف فيمن ملك بعد الهدهاد، قال المسعودىّ: تبّع الأوّل. وكان ملكه أربعمائة سنة. وقال ابن قتيبة أقلّ من ذلك، وقال: ملك بعد الهدهاد ابنته بلقيس وهى صاحبة سليمان بن داود عليهما السلام. وكان ملكها مائة وعشرين سنة.

وقد أتينا على أخبارها فيما سلف من هذا الكتاب «1» فى قصّة سليمان عليه السلام.

ثم ملك بعدها ياسر بن عمرو بن شرحبيل وهو ناشر النّعم، قالوا: سمّى بذلك لإنعامه على العرب، وكان شديد السلطان، وسار غازيا وأوغل فى بلاد المغرب حتى بلغ وادى الرمل ولم يبلغه أحد قبله، وهو رمل جار، ولم يجد وراء ذلك مجازا لكثرة الرمل وجريانه، فبينما هو مقيم إذ انكشف الرمل فأمر بعض أهل بيته أن يعبر هو وأصحابه فعبروا فلم يعودوا إليه وهلكوا عن آخرهم، فأمر بصنم من نحاس فنصب على صخرة عظيمة على شفير الوادى وكتب على صدره بقلم المسند «2» : هذا الصنم لناشر النّعم الحميرىّ ليس وراءه مذهب ولا يتكلّفن أحد ذلك فيعطب، ورجع من هناك. وكان ملكه خمسا وثمانين سنة على رواية ابن قتيبة.

وقال المسعودىّ: خمسا وثلاثين.

ثم ملك بعده أبو كرب شمر بن إفريقش، ويسمّى يرعش لارتعاش كان به. قال: وخرج نحو العراق فى زمن بستاسف أحد ملوك الفرس فأعطاه بستاسف الطاعة، وسار نحو الصين حتى نزل فى طريقه ببلاد الصغد، فاجتمع أهل تلك

ص: 294

الأرض بمدينة سمرقند فأحاط بهم شمرو افتتحها عنوة وأسرف فى القتل وخرّب المدينة وهدمها فسمّيت شمركند، وعرّبت بعد ذلك فقالوا: سمرقند. ومعنى شمركند، أى خرّبها شمر. وفيه يقول دعبل بن علىّ يفتخر باليمن من قصيدة:

هموا كتبوا الكتاب بباب مرو

وباب الشاش «1» كانوا كاتبينا

وهم سمّوا بشمر سمرقندا

وهم غرسوا هناك التّبّتينا

قال: ولما فرغ من بلاد الصّغد سار نحو الصين فأيقن ملكها بالبوار، فآحتال وزير له بأن جدع أنفه وأتى الى شمر، وهو بمفازة بينها وبين الصين عشر مراحل، ومتّ إليه بأن ملك الصين فعل به ذلك لأنه نصحه ألّا يحارب شمر وخالف رأيه، فسأله شمر عن الطريق والماء، فقال له: بينك وبين الماء ثلاث مراحل، فتزوّد لثلاثة أيام، فلمّا قطعها أعوزه الماء وكشف له الرجل أمره فمات هو وأصحابه عطشا.

قال ابن قتيبة: وكانت مدّة ملكه مائة وسبعا وثلاثين سنة. وقال المسعودىّ:

ثلاثا وخمسين سنة.

ثم ملك بعده ابنه أبو مالك بن شمر، قال: وتأهّب للأخذ بثأر أبيه فبلغه أنّ بالمغرب واديا من الزبرجد، فحمله الشّره على طلبه وترك ما عزم عليه فمات فى طريقه.

ثم ملك بعده ابنه تبّع الأقرن بن أبى مالك بن شمر. قال: وطلب ثأر جدّه وأتى سمرقند فعمّرها وجدّد بناءها، ثم أتى الصين وأخرب مدينتها وابتنى هناك

ص: 295

مدينة أسكن فيها ثلاثين ألف رجل. قال الحمدونىّ فى كتابه المترجم بالتذكرة:

هم إلى اليوم هناك فى زىّ العرب، ولهم بأس وشدّة- يعنى يوم صنّف كتابه وهو فى سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة أو نحو ذلك- قال: وفى أوانه كان بوار طسم وجديس على ما نذكره فى وقائع العرب.

قال: وفى أوانه أيضا كان سيل العرم وتفرّق سبأ. وسيأتى ذكر ذلك فى موضعه إن شاء الله تعالى.

قال ابن قتيبة: وكان ملك تبّع الأقرن ثلاثا وخمسين سنة. قال المسعودىّ: إنّ ملكه كان مائة وثلاثا وستّين سنة. ولم يذكرا الملك الذى كان قبله، ونسبا هذا الملك أنه ابن شمر.

ثم ملك بعده على ما رواه ابن حمدون- وهو إن شاء الله أشبه بالصواب- أسعد ابن عمرو. قال: وملك والملك متشتّت فاستفزّ قومه فنهضوا معه فى ملوك اليمن حتى قتلهم ملكا ملكا، وانتظم له ملك اليمن، فوجّه بابن عمّ له يقال له القيطون إلى الحجاز فبغى وظلم فقتله اليهود. ولمّا بلغ أسعد ذلك غضب وحلف ليقتلنّ كلّ يهودىّ فى الأرض، وتجهّز فى مائة ألف حتّى ورد يثرب، فاجتمع الأوس والخزرج وأخبروه بقصّة ابن عمّه وفجره وظلمه فعفا عن اليهود وقال: لست أرضى بالظلم ولو علمت ذلك منه لقتلته، وأتاه بنو هذيل بن مدركة فرغّبوه فى الكعبة وما فيها من الذهب والجوهر، فقدم مكّة لذلك، فاجتمع إليه أحبار اليهود وقالوا: إنّ هذا البيت العتيق الذى ليس لله عز وجل بيت فى الأرض غيره وقد رام إفساده كثير من الملوك فأبادهم الله. وفى هذه البلدة يكون مولد نبىّ آخر الزمان اسمه محمد وأحمد من ولد إبراهيم الخليل عليه السلام، وهو خاتم الرسل، وإنّما أراد من دلّك على

ص: 296

ذلك هلاكك، فضرب أعناق الهذليّين وأقام بمكة ستّة شهور ينحر فى كلّ يوم ألف ناقة، وكسا البيت وعلّق عليه بابا من الذهب.

ولمّا هلك ملك بعده ابن عمّه مرثد بن عبد كلال بن تبّع الأقرن المعروف بذى الأعواد. قال: وكان ملكه أربعين سنة. ولمّا هلك ملك بعده أولاده وكانوا أربعة مشتركين فى الملك على كلّ واحد منهم تاج. قال: وخرجوا إلى مكة ليقلعوا الحجر الأسود ويبتنوا بيتا بصنعاء يكون حجّ الناس إليه؛ فاجتمعت كنانة وقلّدوا أمرهم فهر بن مالك والتقوا فقتل ثلاثة من الملوك وأسر الرابع.

ولمّا أسر هؤلاء ملكت بعدهم أختهم أبضعة ابنة ذى الأعواد. قال: وكانت فاجرة فقتلها قومها.

ثم ملك بعد أولاد ذى الأعواد ملكيكرب بن عمرو بن سعد بن عمرو، وكانت مدّة ملكه عشرين سنة، وتحرّج عن سفك الدماء فلم يغز ولم يخرج من اليمن.

ثم ملك بعده تبّع أسعد بن ملكيكرب. قال: ولمّا ملك غزا بنى معدّ بتهامة فى ثلاثمائة ألف طالبا لدماء الملوك الأربعة، واجتمع بنو معدّ وعقدوا الرّياسة لأميّة ابن عوف الكنانىّ المعروف بالعنسىّ، ثم نفست ربيعة أن تكون الرّياسة فى مضر فقعدت عنهم، فضعفت مضر عن تبّع وسألوه الصلح على أن يؤدّوا إليه عقل الملوك الأربعة، عن كلّ ملك ألف ناقة. وكذلك كانت دية الملوك فى الجاهليّة. وديات من قتل معهم من الجنود لكلّ رجل مائة ناقة، فقبل تبّع ما بذلوه وانصرف إلى أرضه ووقع الشرّ بين الحيّين: ربيعة ومضر، فأرسلت ربيعة إلى تبّع رسلا فعقد بينهم حلفا وعقدا، وهو الحلف الباقى بين ربيعة واليمن إلى أن جاء الإسلام. وأقام تبّع هذا بأرض الشام ما شاء الله، ثم سار إلى الهند فى البحر وباشر الحرب بنفسه فبرز

ص: 297

اليه ملك الهند، وهو ابن فوز الذى قتل الإسكندر أباه فقتله تبّع بيده، وتحصّنت اليهود بمدينتهم وحاصرهم تبّع شهرا حتى سألوه الأمان فآمنهم وقفل إلى بلاده.

ثم ملك بعده ابنه حسّان بن تبّع. قال: فغزا العراق فى ثلاثمائة ألف وأتى فى طريقه مكة، وقد عادت إليها خزاعة عند وفاة فهر بن مالك، فأعطاه بنو نزار الطاعة. وروى عنه شعر يخبر فيه ببعثة نبيّنا صلى الله عليه وسلم:

شهدت على أحمد أنّه

رسول من الله بارى النّسم

فلو مدّ عمرى إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عمّ

قال: ولمّا ورد العراق وجد الفرس وسلطانهم واه وقد مات هرمز وولدت امرأته غلاما، وهو سابور ذو الأكتاف، ومربّيه أحد عظماء الفرس، فلم يقم بضبط الملك؛ فاستقبلوه بالطاعة وأقرّوا له بالخراج، فأقام بالعراق حولا وعزم على غزو الصين فساء ذلك حمير وقالوا: نغيب عن أولادنا وعيالنا ولا ندرى ما يحدث بهم، فمشوا إلى عمرو أخى حسّان الملك وبعثوه على قتل أخيه على أن يملّكوه عليهم ويعود بهم الى بلادهم، وأعطوه العهود والمواثيق إلّا رجل يقال له ذو رعين، فقال لهم: إنكم إن قتلتم ملككم ظلما خرج الأمر منكم فلم يحفلوا به، فأقبل بصحيفة مختومة وقال لعمرو بن تبّع: لتكن هذه الصحيفة وديعة لى عندك الى وقت حاجتى إليها، وأقبل عمرو ليلا الى أخيه حسّان وهو نائم فى فراشه فقتله وانصرفت حمير الى بلادها.

هكذا نقل ابن حمدون فى تذكرته.

وقال أبو علىّ أحمد بن محمد بن مسكويه فى كتابه المترجم بتجارب الأمم فى أخبار الفرس: إنّ ملك الفرس يوم ذاك هو قباذ بن فيروز وهو أبو كسرى أنو شروان، وإنّ الملك الذى غزاه من ملوك حمير هو تبّع والد حسّان، وكان معه لما غزا

ص: 298

الفرس ابنه حسّان وابن أخيه شمر. قال: فسار تبّع حتى نزل الحيرة ووجّه ابن أخيه شمرا ذا الجناح الى قباذ فقاتله فهزمه شمر حتى لحق بالرىّ، ثم أدركه بها فقتله.

قال: ثم إنّ تبّعا أمضى شمرا ذا الجناح وابنه حسّان إلى الصّغد وقال: أيّكما سبق إلى الصين فهو عليها. وكان كلّ واحد منهما فى جيش عظيم يقال إنهما ستمائة ألف وأربعون ألفا، وبعث ابن أخيه- واسمه يعفر- إلى الروم.

قال: فأمّا يعفر فإنه سار حتى أتى القسطنطينية، فأعطوه الطاعة والأتاوة ومضى إلى رومية فحاصرها، ثم أصابهم جوع ووقع فيهم الطاعون فتفرّقوا، وعلم الروم بذلك فوثبوا عليهم فلم يفلت منهم أحد.

وأمّا شمر ذو الجناح فإنه سار حتى انتهى إلى سمرقند فحاصرها فلم يظفر منها بشئ، فلمّا رأى ذلك طاف بالحرس حتى أخذ رجلا من أهلها فاستمال قلبه ثم سأله عن المدينة وملكها فقال: أمّا ملكها فأحمق الناس ليس له همّ إلّا الأكل والشرب والجماع، ولكن له بنت هى التى تقضى أمر الناس، فمنّاه ووعده حتى طابت نفسه، ثم بعث معه هديّة إليها وقال: أخبرها أنى إنما جئت من أرض العرب للذى بلغنى من عقلها لتنكحنى نفسها، فأصيب منها غلاما يملك العرب والعجم، وإنّى لم أجئ ألتمس مالا، وإنّ معى من المال أربعة آلاف تابوت ذهبا وفضّة هاهنا، وأنا أدفعها إليها وأمضى إلى الصين، فإن كانت لى الأرض كانت امرأتى، وإن هلكت كان المال لها. فلمّا انتهت رسالته إليها قالت: قد أجبته فليبعث بالمال، فأرسل إليها بأربعة آلاف تابوت، فى كلّ تابوت رجلان، وكان بسمرقند أربعة أبواب على كلّ باب منها أربعة آلاف رجل. قال: وجعل شمر العلامة بينه وبينهم أن يضرب لهم بالجلجل، وتقدّم بذلك الى رسله الذين وجّههم، فلمّا صاروا

ص: 299

بالمدينة ضرب لهم بالجلجل فخرجوا وأخذوا بالأبواب، ونهد «1» شمر فى الناس فدخل المدينة وقتل أهلها، واحتوى على ما فيها. ثم سار إلى الصين فلقى الترك فهزمهم، وانتهى إلى حسّان بن تبّع بالصين فوجده قد سبقه إليها بثلاث سنين.

قال: وفى بعض الروايات وهى المجتمع عليها: إنّ حسّان وشمرا انصرفا فى الطريق الذى كانا أخذا فيه حتى قدما على تبّغ بما حازا من الأموال بالصين وصنوف الجوهر والطّيب والسّبى، ثم انصرفوا جميعا إلى بلادهم، فكانت وفاة تبّع باليمن. وكان ملكه مائة سنة وإحدى وعشرين سنة.

قال: وأمّا فى الرواية الأخرى فإنّ تبّعا أقام وواطأ ابنه حسّان وابن أخيه شمر أن يملكا الصين ويحملا إليه الغنائم، ونصب بينه وبينهم المنار، فكان إذا حدث حدث أوقدوا النار، فأتى الخبر فى ليلة.

قال: وقد ذكر بعض الرّواة أنّ الذى سار فى المشرق من التبابعة تبّع الأخير؛ وهو تبّع تبّان أسعد أبو كرب بن مليك بن زيد بن عمرو بن ذى الأذعار، وهو أبو حسّان. انتهى ما أورده ابن مسكويه من أخبارهم، فلنرجع إلى مساق ما قدّمناه مما نقله ابن حمدون.

قال: ثم ملك بعده حسّان بن تبّع أخوه، فقتله عمرو بن تبّع. قال: وانصرف بالقوم إلى بلادهم فسلّط الله عليه السّهر فكان لا ينام، فجمع الكهنة والقياف والعرّافين فسألهم عن ذلك فلم يعرفوه، فقال له رجل منهم: إنه يقال من قتل أخاه ظلما سلّط الله عليه السهر وحرم النوم، فأحال بالذنب على حمير وجعل يقتل من أشار عليه بقتل أخيه واحدا بعد واحد، ثم أرسل إلى ذى رعين ليلحقه بمن قتل من

ص: 300

أصحابه، فقال: أيّها الملك إنّى خالفت القوم فيما زيّنوا لك من قتل أخيك. قال:

ومن يعلم ذلك؟ قال: الصحيفة التى أودعتها عندك، فأخرجها فقرأها فإذا فيها:

ألا من يشترى سهرا بنوم

خلىّ من يبيت قرير عين

فإن تك حمير غدرت وخانت

فمعذرة الإله لذى رعين

قال: فخلّى عمرو سبيله.

قال: ولمّا قتل عمرو أشراف قومه وصناديدهم تضعضع أمر حمير ووهى ملكها، فطمع فيه بنو كهلان بن سبأبن يشجب بن يعرب بن قحطان، فوثب ربيعة ابن نصر بن الحارث بن عمرو بن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان فى قومه وجمعهم من أقطار الأرض، وجمع له عمرو بن تبّع والتقوا فقتل عمرو بن تبّع.

وملك بعده ربيعة بن نصر المقدّم ذكره قال: وكان قد رأى رؤيا أزعجته وعبّرت له أنّ الحبشة تملك بلاده؛ فوجّه ابن أخيه جذيمة بن عمرو بن نصر ومعه ابنه عدىّ بن ربيعة وهو صبىّ، ووجّه معهما حرمه وخزائنه، وكتب لهم الى سابور ذى الأكتاف، فأسكنهم سابور الحيرة وملّكهم ما حولها.

قال: ولمّا بلغ عدىّ بن ربيعة الحلم زوّجه جذيمة أخته رقاش فولدت له عمرو بن عدىّ. وهؤلاء ملوك الحيرة على ما نذكره فى أخبارهم.

قال: ولمّا مات ربيعة بن نصر تجّمعت حمير فآذنت كهلان بحرب أو إعادة الملك فيهم، ودخل بينهم السفراء فسلّموا الملك الى حمير فملّكت حمير عليها أبرهة ابن الصّبّاح بن لهيعة «1» بن شيبة الحمد بن مرثد بن الحير بن سيف بن مصلح

ص: 301

ابن عمرو بن مالك بن زيد بن سعد بن عوف بن عدىّ بن مالك بن زيد بن سعد ابن زرعة بن ذى المنار.

قال: فملك عليهم ومكث طول أيّام سابور ذى الأكتاف ثم مات.

فملك بعده ابن عمه صهبان بن محرّث. قال: فبعث عمّاله على أرض العرب، واستعمل على ولد سعد بن عدنان ابن خاله الحارث بن عمرو بن معاوية بن كندة ابن عدىّ بن مرّة بن زيد بن مذحج بن كهلان، وكان الحارث يلقّب بآكل المرار، وهو جدّ امرئ القيس الشاعر بن حجر بن الحارث، وهو جدّ الأشعث بن قيس ابن معد يكرب بن جبلة بن عدىّ بن الحارث المذكور؛ فقسّم الحارث مملكته بين ولده، وكانوا ثلاثة: فملّك ابنه حجرا على أسد وكنانة، وملّك شرحبيل على قيس وتميم، وملّك [سلمة «1» ] على ربيعة، فمكثوا كذلك حينا حتى مات أبوهم الحارث فوثبت بنو أسد على حجر فقتلوه، ووثبت قيس وتميم على شرحبيل فطردوه، فغضب صهبان وتجهّز للمسير الى مضر، فاستغاثت مضر بربيعة وجاءت وفودهم إليهم واستنصروهم، ورئيسهم كليب بن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، واجتمعت ربيعة ومضر والرياسة على الحّيين لكليب؛ فقاتلوا صهبان وعظماء قومه، وهو اليوم المشهور فى العرب، فقتل صهبان. وفى هذا اليوم يقول عمرو بن كلثوم:

ونحن غداة أوقد فى خزاز «2»

رفدنا فوق رفد الرافدينا

فكنّا الأيمنين إذا التقينا

وكان الأيسرين بنوا أبينا

ص: 302

فآبوا بالنّهاب وبالسّبايا

وأبنا بالملوك مصفّدينا

قال: ولمّا قتل صهبان بن محرّث ملك بعده الصّبّاح بن أبرهة بن الصّبّاح.

قال: وكان نجدا جلدا، فسار الى معدّ فى مئتى ألف يطلب ثأر صهبان. قال:

وتجّمعت معدّ ورئيسهم كليب أيضا، وكانت الحرب بينهم بموضع يسمّى الكلاب، فآنهزمت اليمن. وهذان اليومان من مفاخر نزار على اليمن، وامتنعت معدّ بعد ذلك على اليمن حتى قتل كليب بن ربيعة.

قال: ولما مات الصّبّاح ملك بعده ابن عمّ له فاسق، وقيل: إن الذى ملك لخنيعة ذو شناتر، قال: ولم يكن من أهل بيت الملك، فأغرى بحبّ الأحداث من أبناء الملوك، فكان يطالبهم بما يطالب به النسوان، وكان لا يسمع بأحد من فتيان العرب وأولاد الملوك حسن الصورة إلّا استدعاه وطالبه بهذا الفعل القبيح، ولم يزل على هذه الطريقة المذمومة حتّى نشأ غلام من أبناء ملوك حمير اسمه زرعة ابن كعب ويدعى ذانواس؛ سمّى بذلك لأنه كان له ذؤابتان تنوسان على عاتقه، وكان وضيئا، فاستدعاه لمثل ما كان يدعو اليه غيره، فجعل تحت إخمصه سكّينا، فلمّا خلا به الملك واثبه ذونواس فقتله ثم حزّ رأسه، وكان له كوّة يشرف منها على عبيده إذا قضى حاجته من الغلام الذى يكون عنده ويضع مسواكا فى فيه، فلمّا قتله ذو نواس جعل السواك فى فيه، وجعل رأسه فى تلك الكوّة التى كان يشرف منها على عبيده، ثم خرج على العبيد فقالوا [له «1» ] : ذو نواس، أرطب أم يباس؟.

فقال لهم: سل نخماس، استرطبان ذو نواس. استرطبان لا باس «2» . وتفسير ذلك:

ص: 303

سلوا الرأس التى فى الكوّة تخبركم واتركوا ذا نواس، قال: فأجمعت حمير عليه أمرها وقالوا: ينبغى أن نملّكه لأنه أراحنا من هذا الفاسق.

فملك عليهم ذو نواس زرعة هذا. قال: ولمّا ملك واستتبّ له الأمر فارق عبادة الأوثان ودخل فى دين اليهوديّة وقتل من كان فى بلاد اليمن على دين عيسى ابن مريم عليه السلام ممن امتنع من موافقته، ثم قصد نجران وبها عبد الله بن الثامر وأصحابه وهم على دين عيسى عليه السلام، فسألهم الدخول فى اليهوديّة فامتنعوا، فقتل عبد الله بن الثامر بالسيف وأضرم للباقين نارا عظيمة فألقاهم فيها، وهم أصحاب الأخدود الذين ذكرهم الله تعالى فى كتابه العزيز فقال: (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ. إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ. وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ.

وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ «1» )

. قال: ولم ينج منهم إلا نفر قليل.

وكان سبب تهوّده أنّ حمير كان لها بيت نار فيه أصنامهم، وكان يخرج من تلك النار عنق يمدّ مقدار فرسخين، فحضر عنده قوم من اليهود وقالوا: أيها الملك إنّ هذا العنق من النار شيطان، فطلب منهم تبيان ذلك، فنشروا التوراة وقرءوها فتراجع ذلك العنق وطفئت تلك النار، فأعظم ذو نواس ذلك ودخل فى دين اليهوديّة.

قالوا: ثم إنّ أحد الناجين من نجران- ويعرف بدوس بن «2» ذى ثعلبان- قصد قيصر ملك الروم مستنجدا به، ومعظّما عنده ما جرى على قومه وهم على دينه، فاعتذر اليه ببعد دياره وقال: سأكتب لك الى ملك على دينك قريب من ديارك، فكتب الى النجاشىّ ملك الحبشة، فلمّا عرض عليه الكتاب وحدّثه بما جرى على أهل ملّته غضب وحمى لأهل دينه، وندب من جنوده سبعين ألف رجل مع

ص: 304

ابن عمّه أرياط «1» ، وتقدّم إليه بأن يقتل كلّ من باليمن على دين اليهوديّة، فركب أرياط فى البحر حتى انتهى الى عدن فأحرق السفن وقال: يا معشر الحبشة، العدوّ أمامكم، والبحر وراءكم، ولا منجى لكم إلّا الصبر حتى تظفروا أو تموتوا كراما.

قال: والتقوا واقتتلوا فانهزمت حمير بعد حرب عظيمة وقتل منهم خلقا كثيرا.

قال: واقتحم ذو نواس البحر بفرسه وقال: والله الغرق أفضل من أسر السّودان، فغرق. وكان ملكه مائتى سنة وستين سنة، وهو آخر من ملك اليمن من قحطان. فجميع ما ملكوا من السنين ثلاثة آلاف سنة واثنتان وثمانون سنة.

واستولت الحبشة على ملك اليمن ففرّق أرياط الأموال على أشراف الحبشة وحرم الضعفاء، فجمع أبرهة أحد قوّاد الحبشة جمعا منهم وخرج على أرياط وحاربه فقتله أبرهة بيده واستولى أبرهة على ملك اليمن.

ولمّا بلغ خبرهما النجاشىّ غضب لقتل أرياط وحلف لأطأنّ أرض أبرهة سهلها وجبلها برجلى، ولأجزّنّ «2» ناصيته بيدى، ولأهرقنّ دمه بكفّى، وتجهّز للمسير الى أرض اليمن، فبلغ ذلك أبرهة فملأ جرابين من تراب السّهل والجبل، وعمد الى ناصيته فجزّها ووضعها فى حقّ، واحتجم وجعل دمه فى قارورة وختم عليه وعلى الحقّ الذى فيه ناصيته بالمسك، وبعث بذلك الى النجاشىّ وكتب إليه يعتذر مما فعله أرياط وأنه خالف سيرتك فى العدل، وقد بلغنى ما حلفت، وقد بعثت إليك بجرابين من تراب السهل والجبل، فطأها هنالك برجلك، وجزّ ناصيتى بيدك، وأهرق دمى بكفّك، وبرّ فى يمينك، ولطّف غضبك عنّى فإنما أنا عبد من عبيدك، وعامل من

ص: 305

عمّالك. فأعجب النجاشىّ عقل أبرهة وأقرّه على مكانه ورضى عنه؛ فبقى الى زمان كسرى أنو شروان وهو صاحب الفيل.

وكانت قصّته أنه نظر الى أهل اليمن يتأهّبون للحجّ، فسأل عن أمرهم، فأخبر أنهم يخرجون حجّاجا الى مكة فقال: أنا أكفيهم تجشّم هذا السفر البعيد ببيعة أبنيها بصنعاء فيكون حجّ اليمن إليها، وأمر ببنائها فبنيت. وقد تقدّم وصفها فى الفنّ الأوّل «1» فى المبانى، ونصب عند المذبح درّة عظيمة تضىء فى الليلة الظلماء كما يضىء السّراج، ثم نادى فى أهل مملكته بالحجّ إليها، فغضب العرب لذلك، فانطلق رجلان من خثعم فأحدثا فى البيت الذى بناه ولطّخاه بالعذرة.

وقيل: إنّ الذى فعل ذلك رجل من كنانة، فاتّهم أبرهة قريشا بذلك، وكان حينئذ بصنعاء تجّار من قريش فيهم هشام بن المغيرة، فأحضرهم وسألهم عمّن أحدث فى بيعته، فأنكروا أن يكونوا علموا بشىء من ذلك، فقال أبرهة: ظننت أنكم فعلتم ذلك غضبا لبيتكم الذى يحجّ إليه العرب، فقال هشام بن المغيرة: إنّ بيتنا حرز تجتمع فيه السّباع مع الوحوش، وجوارح الطير مع البغاث، ولا يعرض منها شىء لصاحبه، وإنما ينبغى أن يحجّ الى بيعتك هذه من كان على دينك، فأمّا من كان على دين العرب فلا يؤثر على ذلك شيئا. فأقسم أبرهة ليسيرنّ الى البيت فيهدمه حجرا حجرا. فقال له هشام بن المغيرة: إنه قد رام ذلك غير واحد من الملوك فما وصلوا إليه لأنّ له ربّا يمنعه. فخرج أبرهة فى أربعين ألفا وسار بالفيل، فغضبت لفعله همدان وجمعت إليها قبائل من اليمن- وكان ملكهم رجلا من أشراف اليمن يقال له ذو نفر- فاستقبلوه فحاربوه فهزمهم وظفر بذى نفر ملك همدان ونفيل بن

ص: 306

حبيب سيّد خثعم أسيرين فأمر بضرب عنقهما. فقالا: أيها الملك، استبقنا لندلّك على الطريق فإنّا من أدلّ العرب، ففعل ذلك. فلمّا صاروا فى مفرق الطريقين:

مكة والطائف، قال ذو نفر لابن حبيب: كفى بنا عارا أن ننطلق بهذا الأسود الى بيت الله تعالى فيهدمه! قال ابن حبيب: هلّم بنا لنأخذ به طريق الطائف فيشتغل بثقيف ولعلّه يرى ما يسوءه، فلم يشعر أهل الطائف صباحا إلّا والجيوش قد وردت عليهم، فخرج أبو مسعود الثقفىّ فى نفر منهم، فأعلم أبرهة أنها ليست طريقه، وسار أبرهة حتى أتى مكة واستاق السوائم ونزل على حدّ الحرم؛ فكان فيما ساق مائتا ناقة لعبد المطّلب بن هاشم، فركب عبد المطّلب فرسه وقصد العسكر ودخل على أبرهة فأعجبه جماله وأكرمه ونزل عن سرير كان عليه وجلس دونه حتى لا يرفع عبد المطلب إليه، ثم قال له: ما حاجتك؟ قال: حاجتى أن يردّ علىّ الملك مائتى بعير أصابها لى. فلمّا قال له ذلك، قال له أبرهة: قد كان بلغنى شرفك فى العرب وفضلك فأحببتك، ثم دخلت علىّ فرأيت من جمالك ووسامتك ما زادنى حبّا، فنقصت عندى فى سؤالك إياى مائتى ناقة وتركت أن تسألنى فى الرجوع عمّا هممت به من هدم هذا البيت الذى هو شرفك وعزّك! قال عبد المطلب: أيها الملك، إنّ لهذا البيت ربّا سمينعه منك وأنا ربّ إبلى، وقد رام هدمه من لا يحصى من الملوك فرجعوا بين أسير وقتيل، فردّ إبله؛ واجتمع الى عبد المطّلب أشراف قومه فقالوا: اجعل له مالا نجمعه له ليرجع عما همّ به من هدم هذا البيت. قال لهم عبد المطلب: وما عيسى أن نجعل له من المال مع عظم ما هو فيه من الملك والسلطان! اطمئنّوا، الله أمددكم «1» ، فو الله لا يصل إليه أبدا. ثم أنشد عبد المطلب يقول:

يا ربّ إنّ المرء يمنع

جاره فامنع حلالك

ص: 307

لا يغلبنّ صليبهم

بغيا وما جمعوا محالك

إن كنت تاركهم وقب

لمتنا فأمر ما بدالك «1»

ثم علا جبل أبى قبيس هو وحكيم بن حزام ونفر من سادات قريش، وهرب الناس فلحقوا برءوس الجبال، وأمّ أبرهة البيت وقدّم أمامه الفيل، وكان أكبر فيل رآه الناس كالجبل العظيم، واسمه بلسان الحبشة محمود؛ فلمّا انتهى الفيل إلى طرف الحرم برك، فكانوا ينخسونه، فإذا أخذوا به يمينا وشمالا هرول، وإذا أقحموه برك. فلم يزل كذلك بقيّة يومهم. فلمّا قارب المساء نظروا إلى طير قد أقبلت من نحو البحر لا تحصى كثرة أصغر من الحمام، فعجبوا من كثرتها ولم يعرفوها ولا رأوا على خلقتها طيورا، وكان مع كلّ طير ثلاثة أحجار: حجران فى رجليه، وحجر فى منقاره، على مقدار الحمص، فرفرفت على رءوسهم وأظّلت عسكرهم، ثم قذفت بالحجارة عليهم، وهبّت ريح شديدة فزادت الحجارة صعوبة وقوّة، فكان الحجر منها إذا وقع على رأس الرجل منهم نفذ حتى يخرج من دبره، فإذا سقط على بطنه خرج من ناحية ظهره؛ فكان ما أخبر الله عز وجل عنهم فى سورة الفيل:(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «2» )

. وخرج عبد المطّلب وأصحابه فملأوا أيديهم من المال، وأرسل

ص: 308