الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: ودخل الوليد القصر الذى فيه تماثيل النحاس التى عملها هرمس الأوّل فى وقت البودسير الأوّل بن قفطريم. قال: ولما بلغ الوليد جبل القمر رأى جبلا عاليا فأعمل الحيلة وصعد عليه ليرى ما خلفه، فأشرف على البحر الأسود الزفتىّ المنتن، ونظر إلى النيل يجرى عليه كالأنهار الرقاق، وأتته من ذلك البحر روائح منتنة هلك كثير من أصحابه من ريحها فأسرع النزول بعد أن كاد يهلك.
قال: وذكر قوم أنهم لم يروا شمسا ولا قمرا وإنما رأوا نورا أحمر كنور الشمس عند مغيبها. وأقام الوليد فى غيبته أربعين سنة. وأما عون الذى استخلفه بمصر فإنه فعل فى غيبة الوليد ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر خبر عون وما فعله فى غيبة الوليد وخبر المدينة التى بناها
قال: ولما مضت من غيبة الوليد بن دومع سبع سنين تجبّر غلامه عون بمصر، وادّعى أنه الملك، وأنكر أن يكون غلاما للوليد، وأنه أخوه وقلّده الملك بعده، ووثب على الناس وغلبهم بالسحرة وأسنى جوائزهم ولم يمنعهم محابّهم؛ فمالوا إليه ووثّقوا أمره، فلم يترك امرأة من بنات ملوك مصر إلا نكحها، ولا مالا إلا أخذه وقتل صاحبه. وكان مع ذلك يلزم الهياكل ويكرم الكهنة، فكانوا يمسكون عنه إشفاقا منه وخوفا من السحرة الذين معه؛ إلى أن رأى فى منامه الوليد بن دومع وكأنه يقول له: من أمرك أن تتسمى باسم الملك، وقد علمت أنه من فعل ذلك استحق القتل، ونكحت بنات الملوك وأخذت الأموال بغير واجب، ثم أمر بقدور فملئت زيتا وأحميت على أنه يغمر فيها، فلما غلت أمر بنزع ثيابه فأتى طائر فى صورة عقاب فاختطفه من أيديهم وحلق به فى الجوّ وجعله فى هوّة على رأس جبل، وأنه سقط من رأس الجبل إلى واد فيه حية، فانتبه مرعوبا طائر العقل. وقد
كان فى فعله ذلك وتملّكه إذا خطرت بقلبه من ذكر الوليد خطرة كاد عقله يزول، خوفا منه لما يعلمه من فظاظته وبطشه وقوّته. ولم يتيقّن هلاكه وأضمر فى نفسه الهرب من مصر بما معه من الأموال.
قال: ولما رأى الرؤيا لم يشك فى حياة الوليد وأنه سيعود، فأطلع بعض السّحرة ممن يثق به على أمره وقال: إنى خائف من الوليد وقد عزمت على الخروج من مصر فما الوجه عندكم؟ قالوا: نحن ننجيك منه على أن تقبل منا.
قال: قولوا، قالوا: تعمل عقابا وتعبده؛ فإن الذى حصّنك منه أحد الروحانيين وهو يريد ذلك منك. قال عون: أشهد لقد قال لى وأنا معه: أعرف لى هذا المقام ولا تنسه. قالوا: قد بينا لك. فأجابهم إلى ذلك وعمل عقابا من ذهب وعمل عينيه جوهرتين ووشّحه بأصناف من الجوهر، وعمل له هيكلا لطيفا وجعله فى صدره وأرخى عليه ستور الحرير، وأقبل أولئك يبخّرونه ويقرّبون إليه ويسحرون إلى أن نطق لهم، فأقبل عون على عبادته ودعا الناس إليها فأجابوه.
فلما مضى لذلك مدّة أمره العقاب ببناء مدينة يحوله إليها وتكون معقلا له وحرزا من كل أحد. فأمر عون أصحابه أن يخرجوا إلى صحارى الغرب ويطلبوا كل أرض سهلة حسنة الاستواء، ويكون المدخل إليها بين هجول «1» صعبة وجبال وعرة، ويتوخّوا أن تكون قريبة من ناحية مغيض الماء التى هى اليوم الفيوم. وكانت مغيضا لماء النيل حتى أصلحها يوسف عليه السلام على ما نذكره إن شاء الله. وإنما أراد عون بذلك ليجرّ الماء منها إلى مدينته التى يبنيها؛ فخرج أصحابه وأقاموا شهرا يطوفون الصحارى حتى وجدوا له بغيته، ولم يبق فاعل ولا مهندس ولا أحد ممن
يبصر البناء ويقطع الصخور وينحتها إلا وجّه به عون إليها، وأنفذ معهم ألف رجل من جيشه وسبعمائة ساحر يعاونونهم بالروحانيين الذين فى طاعتهم، وأنفذ معهم جميع الآلات وأقام يحمل لهم الزاد إلى هناك شهورا على العجل؛ وطريق العجل على الفيوم واضحة فى صحراء الغرب وخلف الأهرام- وهى التى يقصدها أصحاب المطالب- مشهورة.
قال: فلما تكامل له ما أراد من ذلك ومن نحت الأحجار خطّوا المدينة فرسخين فى فرسخين، وحفروا فى الوسط بئرا وجعلوا فى تلك البئر تمثال خنزير من نحاس بأخلاط ونصبوه على قاعدة من نحاس وجعلوا وجهه إلى الشرق، وكان ذلك بطالع زحل واستقامته وسلامته من المتضادين له فى شرفه، وأخذوا خنزيرا فذبحوه له ولطخوا وجهه بدمه وبخروه بشعره، وأخذوا شيئا من عظامه ولحمه ومرارته فجعلوه فى جوف ذلك الخنزير النحاس، وجعلوا فى أذنيه شيئا من مرارته، وأحرقوا بقية الخنزير، وجعلوا رماده فى قلة نحاس بين يدى الخنزير النحاس، ونقشوا عليه آيات زحل، ثم شقوا فى البئر أخدودا من أربعة وجوه شرقا وغربا وجنوبا وشمالا، ومدّوا تلك الأخاديد إلى حيطان المدينة، وعملوا على أفواهها مسارب تجتلب الرياح إليها، ثم سدّوا البئر وعملوا عليها قبة على عمد مربعة، وجعلوا منها شوارع كل شارع ينتهى إلى باب من أبواب المدينة وفصلوها بالطرقات والمنازل، وجعلوا حول القبة تماثيل فرسان من نحاس بأيديها حراب ووجوهها مقابلة لتلك الأبواب، وجعلوا أساس المدينة من حجر أسود وفوقه أحمر وفوقه أصفر وفوقه أخضر، وفوق الجميع أبيض يشفّ، مثبتة كلها بالرصاص المصبوب بين الحجارة، وقلوبها أعمدة من حديد على وضع بناء الأهرام؛ وجعل طول حصنها ستين ذراعا فى عرض عشرين ذراعا، ونصب على كل رأس باب من أبوابها فى أعلا الحصن تمثال عقاب كبير من صفر وأخلاط ناشر الجناحين أجوف، وعلى كل ركن صورة فارس بيده حربة ووجهه
إلى خارج المدينة؛ وساق الماء إلى ناحية الباب الشرقى ينحدر فى صبب إلى الباب الغربى ويخرج إلى صهاريج هناك، وكذلك من الباب الجنوبى إلى الشمالى، وقرّب لتلك العقبان عقبانا ذكورا، واجتذب الرياح إلى أفواه التماثيل، فكانت الرياح إذا دخلتها سمعت لها أصوات شديدة لا يسمعها أحد إلا هالته، وصمّدها «1» بعفاريت تمنع الداخل إليها إلا أن يكون من أهلها، ونصب العقاب الذى كان يعبده تحت القبة التى فى وسط المدينة على قاعدة لها أربعة أركان فى كل ركن منها وجه شيطان، وجعلها على عمود يديرها، والعقاب يدور إلى كل الجهات الأربع، ويقيم فيها ربع السنة، يقرب إليه من جهتها.
فلما فرغ من ذلك كله حمل إليها جميع الأموال والجواهر المخزونة بمصر وما وجده فى خزائن الملوك، ومن التماثيل والحكم وتراب الصنعة والعقاقير والسلاح وغير ذلك، وحوّل إليها كبار السحرة والكهنة وأصحاب الصنائع والتجار، وقسم المساكن بينهم لا يختلط أهل صنعة بغيرها، وعمل لها ربضا «2» يحيط بها، وبنى فيه منازل لأصحاب المهن والزراعة، وعقد على تلك الأنهار قناطر يمرّ عليها الداخل إلى المدينة، وجعل الماء يدور حول الرّبض؛ ونصب عليها أعلاما وحرسا؛ ثم غرس وراء ذلك بالبرية النخل والكروم وأصناف الأشجار، ومن وراء ذلك مزارع الغلات من كل جهة، وكان يرتفع له بها فى كل سنة ما يكفيه لعشر سنين، كل ذلك خوفا من الوليد.
قال: وبين هذه المدينة وبين منف ثلاثة أيام؛ فكان عون يخرج إليها فيقيم بها عشرة أيام ثم يعود إلى منف، وكان لها أربعة أعياد فى السنة؛ وهى الأوقات التى يتحوّل العقاب فيها. فلما تمّ ذلك كله لعون اطمأنّ قلبه، وسكنت نفسه.